فِي مَلَاهِي بَارِيس

نعم فقد لهوت، وكانت رغبتي في اللهو من البواعث القوية التي حببت إلىَّ الذهاب إلى باريس، ولِمَ أُخفي ذلك وأكتمه وأنا أعلم والناس جميعًا يعلمون أن المسافر إلى باريس أو غيرها من مدن أوروبا، إنما يتخذ اللهو غرضًا من الأغراض السياسية في برنامج رحلته؟! وهل كان السفر نفسه إلا ضربًا من اللهو وفنًّا من فنون العبث يعمد إليه المتعَبون ليستريحوا ويرغب فيه المستريحون؟! وكنت أرى الراحة في أن ألهو عن هذه الأشياء التي قضيت فيها العام كله فأجهدتني وبغَّضت إليَّ الحياة. وكنت وما زلت أعتقد أن من الحق للناس عليَّ وأن من الحق لي على نفسي أن أعود إلى هذه الأشياء التي سئمتها وسئمتني، وأن أستأنف هذا العمل الذي أجهدني طوال العام الماضي حتى بغَّض إليَّ الحياة. وكنت أعلم أني لن أستطيع العودة إلى هذه الأشياء واستئناف هذا العمل إلا إذا استرحت ولهوت، وأخذت من الراحة واللهو بحظٍ عظيم، وقد فعلت، وقد عدت إلى مصر، وقد استأنفت هذا العمل الشاق، فإذا هو هيِّن ليِّن لا عسْر فيه ولا مشقة، ولكني أعلم أنه سيعسر، وأنه سيشق، وأني سأسأمه، وأنه سيسأمني، وأني سأنصرف عنه، وأنه سيزهد فيَّ، وأني سأحتاج إلى الراحة واللهو، وأني سأستريح وألهو ثم أستأنف الجِدَّ والعمل، وكذلك حياتنا: نتعب لنستريح، ونستريح لنتعب، حتى يأتي هذا اليوم الذي لا تعب بعده ولا راحة.

إذن فقد لهوت في باريس لا أكتم ذلك ولا أخفيه، ولِمَ أكتمه أو أخفيه وليس فيه — والحمد لله — مأثم ولا مدعاة إلى لوم؟! وإنما هو ضحك بريء، وعبث تطمئنُّ إليه النفس الهادئة التي لا تعبث بها الأهواء ولا تعصف بها الشهوات.

لهوت في باريس، واختلفت فيها إلى أندية اللهو التي هي زينة تلك المدينة وبهجتها، ولها في رفع شأن باريس وتقديمها على غيرها من مدن الأرض أثر قد لا يكون أقل من أثر «السوربون» و«الكوليج دي فرانس» والمجامع العلمية المختلفة، ولم لا! أليست جامعة باريس ومعاهدها العلمية ملجأ للعقل الإنساني والشعور الإنساني؛ فيها تظهر ثمراتهما الحلوة والمرة، وفيها يتعلم الإنسان من الإنسان ويظهر الإنسان على الإنسان، وفيها يتعلم الإنسان كيف يكون حيوانًا اجتماعيًّا، كما يقول أرسطوطاليس، أو مدنيًّا بالطبع، كما يقول فلاسفة العرب!

لستُ أدري أيشعر المصريون المتعَبون الذين يذهبون إلى باريس بمثل ما كنت أشعر به هذا الصيف؟ فقد كنت شديد الميل إلى أندية الهزل والضحك، شديد الانصراف عن أندية الجد والعبوس. لم أكن أميل في هذا الصيف إلى بيت موليير ولا إلى ما يمثل فيه من جِدٍّ، بل لم أكن أميل بوجهٍ ما إلى التراجديا، إنما كان ميلي كله إلى الكوميديا من جهة، وإلى الموسيقى من جهة أُخرى.

ولقد حاولت أن أتبين في نفسي أسباب هذا الميل إلى ما يُضحك ويُلهي، والانصراف عما يُحزن ويعظ، فلم أوفق إلا لسبب واحد لا أدري أخطأ هو أم صواب؛ ذلك أننا «مفطومون» في مصر، كما يقول الفرنسيون، من اللهو الصريح البريء ومن الضحك الذي يريح النفس حقًّا ويجلو عن القلب أصداء الحياة العاملة! وهذه الحياة العاملة نفسها كئيبة في مصر منذ سنين، قد أثقلتها الهموم وأفعمتها الأحزان، فنحن مشفقون على منافعنا العامة، نخشى أن يعبث بها الخصوم في الخارج أو أن يُضيِّعها المواطنون في الداخل. ونحن مشفقون على منافعنا الخاصة، نخشى أن تعبث بها الخصومات الحزبية وتأتي عليها العواصف السياسية. نحن قلقون لا نطمئن إلى شيء، ولا نثق بشيء، ولا نبسم لشيء، فليس عجيبًا إذا خلَصنا من هذا الجو القلِق المضطرب أن نتهالك على هذه الأشياء الني حُرِمناها في مصر، وحال بيننا وبينها طبعنا من جهة، واضطرابنا السياسي والاجتماعي من جهة أخرى.

نعم، فطبعنا لا يخلو من ظلمة، ومزاجنا أقرب إلى المرارة والحزن منه إلى الدعابة والابتسام. نحن لا نلهو لأننا لا نعرف اللهو، ولأن في طباعنا نفورًا من اللهو، ولست أدري أمخطئٌ أنا أم مصيب في هذه الملاحظة، وهي أننا كنا بعد الثورة الوطنية الأخيرة قد أخذنا نتعلم اللهو بل نسرف فيه، فكانت الأغاني الفكاهية ذائعة عامة، وكان التمثيل الفكاهي رائجًا منتشرًا، وكنت لا تكاد تمضي في الشوارع العامة إلا سمعت الأطفال والشبان من العمال ومن إليهم يتغنون أغاني «كشكش»، وكنت لا تكاد تمر بين الدور في الأحياء الراقية إذا أقبل المساء أو جن الليل إلا سمعت البيانو يُوقِع ألحان «كشكش»، وربما وقفت لاستماع صوت رخيم عذب يتغنى مع هذا الإيقاع، وكان أصحاب الأخلاق وأهل الحرص على الآداب العامة يُنكرون هذا الفساد ويشفقون منه، وكنا نقول إنَّ هذا الانحلال الخُلقي عرض من أعراض الثورة، وكنا نستبشر به؛ لأن الثورة الفرنسية قد استتبعت مثله، فكان الفرنسيون يجاهدون أعداءهم الداخليين والخارجيين، وكانوا يحتملون آلام الجوع والفاقة ولكنهم كانوا يلهون ويسرفون في اللهو، وربما كانوا يستعينون باللهو على ما كانوا يأتون من جلائل الأعمال، ويحتملون من أثقال الحياة.

كنا كذلك، وأظن أن السلطة العامة احتاجت في بعض الأحيان إلى أن تتدخل في الأمر وتكفكف من غلواء المسرفين، فأقفلت أو حاولت أن تقفل بعض المراقص، أما الآن فأحسب أن هذا قد تغير، وأننا قد انصرفنا عن اللهو انصرافًا واضحًا.

انصرفنا عن اللهو دون أن يعظم حظنا من الجد، فليست حياتنا العامة والخاصة أكثر إنتاجًا وأشد خصبًا الآن منها حين كنا نلهو ونعبث، ولعلي لا أغلو في الخطأ إذا لاحظت أن حياتنا الدستورية هي التي صرفتنا عما كنا فيه من لهو، وأزالت عن شفاهنا هذا الابتسام للحياة؛ ذلك لأننا اعتقدنا يوم نُفِّذ الدستور وأشرف البرلمان على الحكم أن الأمر قد رُدَّ إلى أهله، وأننا مقبلون على ساعات الجد والعمل؛ فانتظرنا وما زلنا ننتظر.

ولِمَ لا نقول كلمة الحق! كانت الوزارات التي أشرفت على الحكم قبل الدستور قليلة الحظ من ثقة الجماهير، فلم يكن الناس يحفلون بها ولا ينتظرون منها خيرًا؛ بل كانوا يسيئون بها الظن ويتخذونها موضعًا للعبث والنقد، وكانت أعمالها وقراراتها تلهم الممثلين الهازلين والمغنين العابثين، وكان الناس يرتاحون إلى الضحك منها واتخاذها سخرية وهزؤا؛ أما الآن فقد أشرف على الحكم رجال كانت تحبهم الجماهير وتفتن بهم، فلم يكن من الميسور أن تتخذهم الجماهير موضوعًا للَّهو والعبث، وإذا لم تعبث الجماهير بحكامها ولم تسخر من وزرائها ونوابها فهي مضطرة إلى الحزن والكآبة.

سلني عما يميز الديمقراطية حقًّا، أُجِبْك بأن النظام الديمقراطي الصحيح هو الذي يتيح للجماهير أن تلهو على حساب حكومتها؛ بل على حساب أبطالها، فإذا أردت دليلًا ناطقًا بصدق هذا التعريف، فاذهب إلى باريس، واختلف إلى أندية اللهو فيها، واسمع إلى ما يقال عن «هريو»، و«دومرج»، وعن «بوانكاريه»، و«ملران».

وانظر إلى هذه الجماهير الفرنسية المختلفة تتهالك ضحكًا من وزرائها ورؤساء جمهوريتها — أستغفر الله — بل من علمائها وكتابها، ومهما أنْسَ فلن أنسى أغنيتين سمعتهما في باريس، ورأيت ابتهاج الجماهير لهما، في إحداهما موازنة بين أمعاء المسيو هريو رئيس الوزارة الفرنسية القائمة وأمعاء المسيو بوانكاريه رئيس الوزارة الفرنسية المستقيلة، وفي الأخرى عبث بالمسيو هريو حين يعمد إلى التليفون.

ولكني قد بعدت أشد البعد عما كنت أريد أن أتحدث إليك فيه، وهو ملاهي باريس، وقد يَحسن أن أعود إلى هذا الحديث.

لم أكن حسن الحظ هذا الصيف، وما أظن أن غيري كان أحسن حظًّا مني، فقد وصلنا إلى باريس أيام الراحة حين يتفرق عنها الممثلون النابهون ليجوبوا أقطار الأرض الفرنسية والأجنبية، وليعرضوا فنهم على المصطافين في سواحل البحر ومدن المياه، وحين يستريح الكتاب استعدادًا لفصل الشتاء؛ إذ يعرضون آثارهم الجديدة على الجمهور الباريسي، وقد عاد من مصايفه إلى باريس، وحين تجتهد الملاعب التمثيلية في أن تستغل ما لديها من قصص الفصل الماضي لتلهي بها السائحين الذين يمرون بباريس، ومع ذلك فقد طربت حقًّا، وضحكت كثيرًا.

ولقد يكون من العسير أن أذكر دون أن أضحك قصة شهدتها في ملعب «الباليه رويال» عنوانها: «قَبِّلني»، كان الممثلون يمثلونها للمرات الأخيرة، ويستعدون لتمثيل قصة أخرى ظهرت أول هذا الشهر، ومع ذلك فقد كان الملعب مكتظًّا بالنَّظَّارة، والغريب من أمر باريس أنك تستطيع أن تزورها في أي فصل من فصول السنة، وأن تختلف إلى ملاعبها وأنديتها وبيوتها التجارية، فستجدها دائمًا مكتظة بالناس، وستضطر دائمًا إلى أن تتخذ الحيطة لتبلغ منها ما تريد.

تريد أن تشهد قصة تمثيلية، فيجب أن تؤجِّر كُرسيَّك في الملعب قبل يوم التمثيل. تريد أن تشتري شيئًا في أحد البيوت التجارية الكبرى، فيجب أن تذهب في الصباح، أو أن تكون صبورًا محتمِلًا إن ذهبتَ في المساء.

ذهبتُ إلى الملعب بعد ظهر يوم من أيام الآحاد الباريسية، ولم أكن قد أحتطتُ، وكان المطر عنيفًا ثقيلًا، فلم أجد إلا كراسي فاحشة الغلاء، فاتخذتُ منها كرسيين، وأعترفُ بأني غير آسف على ما أنفقتُ؛ لأني ضحكت بأكثر من ستين فرنكًا.

•••

أسرةٌ شريفةٌ، كانت غنية ثم أصابها الفقر، تقيم في قصرها المرهون، محتمِلة ألوانًا من الضيق، ثم تصبح ذات يومٍ، وإذا القصر قد بيع من أجنبي، وإذا هي مضطرة إلى أن تترك هذا القصر الذي تتوارثه منذ خمسة قرون، ولكن لهذه الأسرة شابًّا مسرفًا في اللعب والعبث، قد أدى واجبه الوطني أثناء الحرب، وعَرف في الخندق صديقًا من الطبقات المنحطة أمُّه تبيع الفاكهة. وقد انقضت الحرب، واغتنى ابن بائعة الفاكهة حتى أصبح ضخم الثروة، فكتب إلى صديقه الشريف يقترض منه مالًا؛ لأنه خسر في اللعب، وأقبل هذا الصديق يحمل إلى صديقه ما أراد، فانظر إلى هذه الأسرة النبيلة تأبى أن تقبله في القصر، وأن تضيفه أيامًا، حتى إذا قبلت ذلك بعد مشقة أخذت تتبرم بالفتى وتزدريه؛ لأنه لا يعرف طرائق الحياة الأرستقراطية. وكانت عمة الشاب النبيل أشد الأسرة بغضًا له وتبرمًا به، لا تكاد تلحظه ولا تكاد تحسب لوجوده حسابًا، ولكن الفتى علم ببؤس هذه الأسرة واضطرارها إلى أن تترك القصر، فأسرع فاشتراه سرًّا، ثم أخذت الأسرة تَظْهر شيئًا فشيئًا على هذا السر حتى علمت به، وإذا هي ألعوبة في يد هذا الشاب الذي تزدريه ولا تضيفه إلا كارهة، ولكن هذا الشاب كريمٌ خَيِّر، فهو يعرض القصر على الأسرة لا يبغي له إلا ثمنًا ضئيلًا؛ هو أن «يُقَبِّل» هذه المرأة التي تزدريه وتغلو في بغضه؛ فإذا عرض عليهم هذه الصفقة اضطربوا لها اضطرابًا شديدًا، فأما الأسرة كلها فتقبل، وأما هذه المرأة فتأبى وتنفر، ثم تذكر أنها قد تطرد من القصر، وأن الأسرة قد تصبح مُشرَّدة، فتضطر إلى القبول مقتنعة بأنها تقدم نفسها ضحية في سبيل الاحتفاظ بالكرامة والتراث القديم، وقد استعدت لهذه التضحية كما استعدت «إيفيجيني» لتضحي على مذبح أرثميس، ثم خلت إلى الفتى، فوقفت موقف الجلال، وقالت له في ازدراء وسخرية وإذعانٍ للقضاء المحتوم: «قَبِّلني!» ولكن الفتى كريم، فهو لا يريد أن يُقَبل هذه المرأة، وإنما يكفيه أنها قد أذعنت لما يريد، وهو مستعد لأن ينزل للأسرة عن هذا القصر، ولكن المرأة قد دهشت لهذا الانصراف عن تقبيلها، وكأنها تعجب بكرم هذا الفتى، وكأنها في الوقت نفسه تسخط على هذا الكرم، وكأنها كانت تحرص على هذه القبلة دون أن تعلم بهذا الحرص، وكأنها ترى عدول الفتى عن تقبيلها إهانةً لها وإصغارًا لجمالها، تشعر بهذا كله شعورًا واضحًا غامضًا في وقتٍ واحد!

وكنتَ ترى الفتى يكره هذه المرأة ويريد أن يذلها، ولكنك تراه الآن لا يكرهها؛ بل يُكْبرها، ولا يريد أن يذلها، بل يريد أن يجلها، وإذا هو يعلن إليها حبه في هذه اللغة الشعبية الغليظة الصريحة، وإذا هي تضطرب لهذا الحب اضطرابًا عنيفًا، وإذا الحب قد أزال ما كان بينهما من مسافة مادية ومعنوية، وإذا هو يتجاوز القبلة، فإذا كان الصبح فهي آسفة نادمة تتقطع لوعةً وندمًا؛ لأنها اقترفت هذا الإثم مع رجل ليس من طبقتها، وهي تعلم أن نساء من أسرتها قد اقترفن هذه الخطيئة، ولكن إحداهن اقترفتها مع رجل من رجال القصر الملكي، والأخرى مع كردينال، أما هي فقد اقترفتها مع رجل أمه كانت تبيع الفاكهة! وهي تريد أن تأخذ نفسها بأشد أنواع العقوبة، تريد أن تزهد في الحياة، وأن تذهب إلى الدير، والفتى بين يديها يعتذر ويستغفر ويعلن إليها في ضراعة ومذلة أنه سيبرح القصر حتى لا ترى وجهه البغيض. فإذا سمعت هذه الجملة غضبت غضبًا لا حدَّ له، وعنَّفت الفتى تعنيفًا ثقيلًا قائلة: «أهكذا تريد أن تسليني عن هذه النكبة المنكرة؟!» ثم فهمنا أنها تريد نوعًا آخر من أنواع التسلية وفنًّا آخر من فنون النسيان والعزاء.

ولست أتم لك تلخيص القصة، وإنما يكفي أن تعلم أنها تنتهي بالزواج بين هذين المحبين؛ لأن شريفًا إنجليزيًّا تبنَّى الفتى ومنحه ألقاب شرفه فأصبح كفؤًا لعشيقته.

ولِمَ تبنَّى الشريف الإنكليزي هذا الفتى؛ لا تسل عن ذلك؛ فقد يكون في الجواب عن هذا السؤال ما يفضحُ أمَّ هذا الفتى، وقد ماتت ولا ينبغي أن يذكر الموتى إلا بخير.

على أني قد زرت ملاعب أخرى، وشهدت فيها قصصًا أخرى، وسأحدثك عنها في فصلٍ آخر.

أكتوبر سنة ١٩٢٤

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤