الاستثناء والقاعدة

الممثلون :
سنروي لكم
حكاية رحلة.
القافلة تضم تاجرًا، واثنين من أتباعه،
افتحوا عيونكم لتروا كيف يتصرفون،
قد يبدو سلوكهم شيئًا مألوفًا،
وعليكم أن تكشفوا عن شذوذه،
وقد يبدو لكم شيئًا عاديًّا
مما يحدث كل يوم.
وعليكم أن تتبينوا وجه الغموض فيه،
وأن تميزوا المحال
من وراء القاعدة المقدسة.
لا تأمنوا لأقل إشارة
مهما بدت بسيطةً في ظاهرها،
ولا تقبلوا العادة المتوارثة على ما هي عليه،
بل فتشوا عن وجه الضرورة فيها.
نحن نناشدكم على الدوام ألا تقولوا:
«هذا أمر طبيعي»
إزاء ما يعترضكم من الأحداث كل يوم،
ففي زمنٍ يسوده الاضطراب، وتسيل فيه الدماء،
ويدين بالفوضى،
ويقوم العسف والطغيان فيه مقام القانون،
وتفقد الإنسانية إنسانيتها
لا ينبغي لكم أن تقولوا:
«هذا أمر طبيعي»؛
حتى لا يستعصيَ شيء على التغيير والتبديل،
سباق في الصحراء.

(قافلتان صغيرتان تفصلهما مسافة بسيطة تتسابقان في الصحراء.)

التاجر (إلى رفيقيه الدليل والأجير الذي يحمل أمتعته) : هيا، أسرعا أيها الكسالى. إن عليَّ أن أسبقهم بيومٍ كاملٍ، وأن أكون بعد غدٍ في محطة «هان». أنا التاجر لانجمان، أسير في طريقي إلى «أورجا»؛ لأحصل على امتياز البترول، ومنافسيَّ يتبعونني عن كثب، والفائز من يسبق صاحبه. قطعت المسافة حتى الآن بسرعة لم يسبقني إليها أحد بفضل ما أوتيتُ من مهارة ومثابرة على العمل، وما أخذت به صاحبيَّ من صرامة وحزم. ومن نكد الطالع أن منافسيَّ أوشكوا أن يبلغوا نفس سرعتنا (يلتفت وراءه ويتطلع في منظار مكبر) ها هم أولاء من جديد في أعقابنا (للدليل) ادفع الأجير قليلًا. هل عيَّنتك إلا لهذا، أم تحسب أنك جئت تتنزه على حسابي؟ أتدري كم تتكلف رحلة كهذه؟ طبعًا، فأنت لم تدفع شيئًا من جيبك، ولكن ليكن في علمك أنك إذا غدرت بي فسوف أسلمك لمكتب العمل في «أورجا».
الدليل (للأجير) : أسرع، أسرع.
التاجر : صوتك لا يبشر بخير. كان عليَّ أن أدفع أكثر مما دفعت وأستأجر دليلًا آخر يعينني على السفر. هيا، اضرب هذا الصعلوك، إنني لا أحبذ الضرب، ولكن لا بد منه في مثل هذه الظروف. إن لم أسبقهم فقد تحطمت وضاع عليَّ كل شيء. هه، قل الحق، هذا أخوك اخترته ليحمل أمتعتي. إنه قريبك، ولذلك لا تريد أن تضربه. ولكن حِيَلكم لا تخفى عليَّ؛ فأنا أدرى بكم. أسرع. هيه، أُجْرَتك يمكنك أن تطلبها من المحكمة. يا إلهي! إنهم يوشكون أن يدركونا.
الأجير (للدليل) : اضربني كما تشاء، ولكن لا تضرب بكل قوتك. إن كان لي أن أبلغ محطة «هان» فلا بد من أن أضع قدمًا مكان الأخرى.
صوت (ينادي من الخلف) : أوه، هل هذا هو الطريق إلى «أورجا»؟ ها. أيها الصديق انتظرنا.
التاجر (بغير أن يجيب أو يلتفت وراءه) : فلتتخطفكم الشياطين. إلى الأمام. ثلاثة أيام، وأنا أتعجلهما وأحثهما على السير؛ يومان بالضرب المبرح، وثالث بالوعود المعسولة. ومنافسيَّ يلاحقونني على الدوام. ولكني سأواصل السير في الليلة القادمة بلا كلل، وبهذا يفقدون أثري، وأبعد عن مرمى أبصارهم، وأبلغ محطة «هان» في اليوم الثالث، وأكون بذلك قد سبقت أول القادمين منهم بيومٍ كامل.

(ينشد):

سير بالنهار، وسُرًى بالليل،
أحرزت السبق.
بفضل عملي أحرزت السبق.
إن الضعيف يظل في المؤخرة،
أما القوي فيبلغ الهدف.

في نهاية الطريق

التاجر : الحمد لله، ها أنا ذا قد بلغت محطة «هان»، سبقتهم بيومٍ كامل، رجالي أضناهم السفر. تفوُّق في السرعة، ضَرْبُ رقم قياسي، صراخ. ولكن هذا لا يعنيهما في شيء، صعلوك يحزم الأمتعة على الأرض، وهذا هو كل شيء. وهما لا يجرآن أن ينبسا بحرف؛ فالبوليس موجود والحمد لله، ليحافظ على النظام.
الشرطيان (يقتربان) : هل كل شيء على ما يرام يا سيدي؟ هل أنت راضٍ عن رحلتك وعن رجالك؟
التاجر : نعم، نعم، كل شيء على ما يرام. استطعت أن أصل إلى هنا في ثلاثة أيام بدلًا من أربعة. إن الطريق وعرة، ولكني تعودت أن أحسن كل عمل أقوم به، كيف حال الطريق بعد محطة «هان»؟ ماذا ينتظرنا هناك؟
الشرطيان : ستدخل الآن يا سيدي في صحراء «جاهي» حيث لا تقع عيناك على مخلوق.
التاجر : ألا يمكن أن يحرسني البوليس؟
الشرطيان (يبتعدان) : لا يا سيدي، نحن آخر من تقابلهم من رجال الشرطة.

طرد الدليل في محطة هان

الدليل : لقد تغير التاجر تغيرًا ملحوظًا بعد لقائنا مع رجال الشرطة أمام محطة هان، إنه يتحدث إلينا بصوتٍ لم نألفه منه ويتلطف معنا، ومع ذلك فنحن لا نجد منه تقديرًا. إنه لم يدَّخر لنا يومًا واحدًا نستريح فيه عند محطة «هان» قبل أن نتوغل في صحراء «جاهي». إني لأسائل نفسي: ماذا بوسعي أن أفعل لكي أوصل الأجير إلى «أورجا» وهو على ما هو عليه من التعب والإجهاد؟ وكلما تفكرت فيما يبديه لنا التاجر من لطف المعاملة توجَّس قلبي خوفًا، فمن يدري ماذا يخبئ لنا؟ إنه لا ينفك يتجول وحده وهو يفكر، ومع كل فكرة جديدة يولد عنده الخوف من خيانة جديدة. وعلى كل حال فعليَّ أنا والأجير أن نحتمل كل شيء، حتى لا نُحرم من أجرنا، ونُطرد في عرض الصحراء.
التاجر (يقترب) : خد نصيبك من الدخان، ومن ورق السجائر. عجبًا! إنكم لا تألون جهدًا في سبيل اللذة التي تجدونها بتسويد حلوقكم بهذا الدخان، ولكن الحمد لله، فقد جلبنا معنا منه ما يزيد على حاجتنا. إن دخاننا سيكفينا حتى نصل إلى «أورجا».
الدليل (يخاطب نفسه) : دخاننا!
التاجر : استرح يا صديقي قليلًا. لم لا نجلس؟ في رحلةٍ كهذه يصبح الناس إخوةً متحابين. أما إن كنتَ تفضل الوقوف فأنت وشأنك. إن لكم عاداتكم، وأنتم أحرار بالطبع. ليس لي أن أجلس إلى جانبك، وليس لك أن تجلس إلى جانب الأجير. بهذا جرى العرف، على هذه الفوارق يقوم نظام العالم. ولكن لن يمنعنا شيء من أن ندخن معًا، أليس كذلك؟ (يضحك) هذا هو ما يعجبني فيك، فلكل منا منزلة. حسنًا، سنحزم المتاع كله ليسهل حمله. ولا تنسَ الماء، فالظاهر أن الآبار نادرة في هذه الصحراء. إيه، على فكرة، أريد أن أنبهك يا صاحبي إلى شيءٍ ربما غاب عنك؛ هل لاحظت النظرة التي رمقك بها الأجير عندما عنَّفته لتحثه على السير؟ كانت نظرة النهاية، لا توحي بالاطمئنان. المهم أنك ستُضطر في الأيام القادمة أن تحثه على السير، باستمرار، وربما اضطُررت أن تكون أكثر غلظةً معه فعلينا أن نسرع الخطى بأي ثمن. وهذا الأجير لا يؤمن جانبه. وسندخل الآن في طريقٍ موحش، صحراء، لا أثر فيها للحياة. وربما سوَّلت له نفسه أن يغتنم الفرصة فينزع القناع عن وجهه. إنك من جنسٍ أرقى منه؛ فأنت تكسب أكثر مما يكسب، ولا تحمل شيئًا فوق ظهرك، وفي هذا ما يكفي لكي يكرهك. صدقني، كن حذرًا منه فذلك أدنى إلى العقل، ما أعجب هؤلاء الناس! إليك بالدخان يا أخي.
الدليل : شكرًا يا سيدي.
الأجير : سمعت التاجر يقول إن استخراج الزيت من الأرض يخدم الإنسانية؛ فسوف تُمَدُّ السكك الحديدية في هذه المنطقة، ويفيض الخير، وينعَم الناس بالرخاء. إنه يقول إن السكة الحديد ستُمَدُّ هنا. فماذا يكون مصيري؟ وكيف أكسب قُوتي؟
الدليل : لا تنزعج، فلن تمد على الفور. لقد سمعت من يقول إن من يعثر على الزيت يُخفي أمرَه عن الناس، وسمعت أن من يقع على بئر يتدفق منها الزيت يرشُّوه الناس بالمال ليسدوا فمه. وهذا هو السر في لهفة التاجر، فليس البترول ما يريد، بل المال لكي يسكت.
الأجير : لست أفهم شيئًا.
الدليل : لا أحد يفهم.
الأجير : ستكون الرحلة في الصحراء أشق مما كانت، ليت ساقيَّ تحملاني إلى النهاية.
الدليل : بالطبع.
الأجير : هل يعترضنا اللصوص في الصحراء؟
الدليل : يجب أن تكون على حذر من البداية، فقطاع الطرق يتكاثرون في مشارف المحطة.
الأجير : وبعد …
الدليل : إذا ما عبرت نهر «مير» فعليك أن تلتزم سكة الآبار.
الأجير : هل تعرف الطريق؟
الدليل : نعم.
الأجير : وهل من العسير عبور نهر «مير»؟
الدليل : ليس عسيرًا في مثل هذا الموسم، أما في موسم الفيضان فيشتد التيار ويلوح خطر الموت.
التاجر (لنفسه) : ها هو يتحدث مع الأجير، بل إنه لا يأنف أن يجلس ويدخن معه.
الأجير : وما العمل إذن؟
الدليل : في أغلب الأحيان يُضطر الإنسان إلى الانتظار ثمانية أيام حتى يتسنى عبوره في أمان.
التاجر (لنفسه) : أرأيتم؟ إنه يوصيه بالتريث والحرص على حياته الغالية. إنه يتآمر مع الأجير، ولا سلطان له عليه. ومن يدري؟ ربما كان يدبر ما هو أخطر من هذا. إنهما قد أصبحا منذ اليوم اثنين ضد واحد. ولا ريب أنه سيتلطف في معاملته بمجرد أن نتوغل في الصحراء. لا بد من التخلص من الرجل بأي ثمن (يقترب منهما ويخاطب الدليل قائلًا) كلَّفتك بأن تربط الأمتعة ربطًا متينًا. افعل الآن إن كنت تنفذ أوامري (يجذب الرباط بشدة فينقطع) أتسمي هذا رباطًا؟ إن كل رباط ينقطع يضيِّع علينا يومًا بأكمله، وهذا هو ما تريده بالضبط، أن تريح نفسك.
الدليل : إنني ما أردت أن أريح نفسي، والرباط لا ينقطع ما دمت لا تجذبه بشدة.
التاجر : إيه، وترد عليَّ أيضًا! هل انقطع الحبل أم لا؟ أتجرؤ أن تقول في وجهي إنه لم ينقطع؟ من العبث أن يضع الإنسان ثقته فيك. كان في نيتي أن أعاملك معاملةً طيبةً، ولكن المعاملة الطيبة لا تجدي معكم، وماذا يرجى منك؟ إنك لا تَصلُح في شيء. وليس لك أن تكون حمَّالًا فضلًا عن أن تكون دليلًا، ثم إن لديَّ من الأدلة ما يحملني على الاعتقاد بأنك تحرض الأجير عليَّ.
الدليل : أية أدلة؟
التاجر : تريد أن تعرفها؟ إنني أُسَرِّحك الآن لتعرفها على مهلك.
الدليل : لا يمكنك أن تطردنيَ الآن في منتصف الطريق.
التاجر : من حسن حظك أنني لم أسلمك لمكتب العمل في «أورجا». خذ، هذا أجرك، حسابك إلى هنا. (ينادي عامل الفندق) يا عامل الفندق. أنت شاهد، لقد دفعت له أمامك ما يستحقه. (للدليل) أيها الدليل أنصحك ألا تريَني وجهك في «أورجا». (يُصَعِّد النظر فيه من أعلى إلى أسفل) بإذن الله لن تفلح أبدًا (يبتعد).
التاجر : سأرحل فورًا. وإذا حدث لي مكروه فأنت شاهد على أنني سافرت من هنا، مع هذا الرجل الأجير. إنه لا يفهم وهكذا لن يعرف أحد مصيري، والأدهى من هذا أن هؤلاء الخنازير يعلمون أنه ما من إنسان في هذه المنطقة يعرف عني شيئًا (يجلس ليكتب خطابًا).
الدليل (للأجير) : كانت غلطتي أنني جلست بجوارك. افتح عينيك فلا تأمن لهذا الرجل. إنني لأعجب كيف ستهتدي إلى الطريق! (يناوله زمزميته) خذ، احتفظ بهذه الزمزمية، أخفها بعيدًا عنه؛ لأنكما إن ضللتما الطريق فلن يتردد في أخذ زمزميتك. تعال معي، سأبين لك الطريق.

***

الأجير : وددت لو لم تفعل، فلو سمعك تتحدث معي لطردني، ولفقدت كل شيء. لن يُلزمه أحد بدفع أجري، فلست مثلك عضوًا في النقابة. إن عليَّ أن أصبر وأحتمل.
التاجر (لصاحب الفندق) : أعط هذا الخطاب للقافلة التي ستمر من هنا غدًا في طريقها إلى «أورجا»، وسأستأنف الرحلة أنا والأجير.
عامل الفندق (ينحني ويأخذ الخطاب) : ولكنه لا يعرف الطريق وليس دليلًا.
التاجر (لنفسه) : إذن فهو يفهم جيدًا، ولم يكن يريد أن يفهم منذ لحظة. إنه يخاف على وظيفته؛ فهو لا يريد أن يكون شاهدًا في مثل هذه الأمور. (لصاحب الفندق في جفاء) صِفْ للأجير الطريق إلى «أورجا» (عامل الفندق يخرج ويشرح للحَمَّال الطريق إلى «أورجا». الحَمَّال يهز رأسه علامة الفهم). لا ريب أن هناك معركةً تنتظرنا في الطريق. أين مسدسي؟ (يخرجه من جيبه وينظفه.)

(ينشد):

الضعيف يسقط، أما القوي فيصمد للنضال.
لمَ تُخرج الأرض زيتها؟
لمَ يحمل الأجير متاعي؟
يا أيها الزيت،
سأستخرجك برغم الأرض،
وبرغم الأجير.
وفي هذا الصراع تُكتب السيادة لهذا القانون؛
الضعيف يسقط، أما القوي فيصمد للنضال.

(يدخل الساحة وقد تهيأ للرحيل.)

(للأجير): هل تعرف الآن طريقك؟
الأجير : نعم يا سيدي.
التاجر : إلى الأمام.

(يخرجان، الدليل وعامل الفندق يشيِّعانهما بأبصارهما.)

الدليل : إني لأعجب إن كان قد فهم حقًّا، لقد فهم بأسرع مما كنت أقدر له!

حوار في طريقٍ خطر

الأجير (ينشد) :
إلى أورجا، إلى أورجا،
نحن في طريقنا إلى هناك.
وأنا أسير وأسير وقِبلتي أورجا،
حيث لا يعرف اللصوص مكاني،
ولا الصحراء تفرق بيننا.
في أورجا سأقبض أجري،
وأعرف طعم الأكل.
التاجر : باله رائق! البلد ملغَّمة باللصوص، والأشرار يحومون حول المحطات ومع هذا يغني. (للأجير) هذا الدليل، ما ارتاح إليه قلبي يومًا؛ ساعة أنفه في السماء، وساعة ينحني ويلعق الحذاء. يا له من ثعلب.
الأجير : نعم يا سيدي (ينشد):
الطريق وعرة إلى أورجا،
والعذاب رهيب إلى أورجا.
ترى هل توصلني قدماي إلى أورجا؟
ولكني سأقبض أجري في أورجا،
وسوف أستريح.
التاجر : هل تستطيع أن تقول لي ما الذي يجعلك تغني؟ ما الذي يدخل السرور على قلبك؟ آه، إنك لا تخاف من اللصوص، ولا تخشى قطَّاع الطريق. كل ما ينهبون منك لا يهمك أمره في شيء، وكل ما تفقده هو ملكي. أليس كذلك؟
الأجير (ينشد) :
وامرأتي في أورجا.
وولدي ينتظرني هناك.
التاجر : كف عن هذا الغناء، لا داعيَ إليه الآن، فسوف يدل اللصوص علينا فيقتفون آثارنا. يمكنك أن تغنيَ غدًا كما يحلو لك.
الأجير : نعم يا سيدي.
التاجر (الذي يسير في المقدمة) : وإذا هجم عليه من يريد سرقته، فهل يفكر في الدفاع عن نفسه؟ لن يخطر في باله لحظةً أن مالي من ماله. جنس ملعون. وهو لا يفتح فمه بحرف، والصامتون هم أخطر الناس. ما الذي يدور في رأسه؟ محال عليَّ أن أعرف. ها هو يضحك، وليس ما يدعو إلى الضحك. ما الذي يضحكه ولمَ يجعلني أسير أمامه؟ إنه هو الذي يعرف الطريق لا أنا. إلى أين يسير بي؟ (يلتفت وراءه فيرى الأجير يمسح آثار أقدامهما على الرمال) أيها الأجير! ماذا تفعل عندك؟
الأجير : أمسح آثار أقدامنا يا سيدي.
التاجر : ولمَ هذا؟
الأجير : خوفًا من قطاع الطريق.
التاجر : آه، قطاع الطريق. ولكن يجب أن أعرف إلى أين انتهيت بي حقًّا، إلى أين تقودني؟ امشِ أمامي (يستأنفان طريقهما في صمتٍ يخاطب نفسه) الحق أن آثار الأقدام تُرى بوضوح على هذه الرمال الناعمة، وربما كانت فكرةً نيِّرةً تلك التي جعلته يزيلها من على الرمال …

***

الأجير : نحن نسلك الطريق الصحيح يا سيدي، فها هو نهر مير. إن عبوره في الأيام العادية أمر غير عسير، أما في موسم الفيضان فإن التيار يثور ويصطخب، والموت يترصد كلَّ من يخاطر بعبوره، والنهر الآن في موسم فيضان …
التاجر : ولكن لا بد من عبوره.
الأجير : غالبًا ما يُضطر الإنسان إلى الانتظار ثمانية أيام حتى يزول الخطر، أما الآن فالخطر موجود …
التاجر : لا يمكننا أن ننتظر يومًا آخر.
الأجير : إذن فلنبحث عن بقعة ضحلة أو عن مركب ينقلنا إلى الضفة الأخرى …
التاجر : لا يمكننا أن ننتظر يومًا آخر. سيستغرق ذلك وقتًا طويلًا.
الأجير : ولكني لا أحسن السباحة …
التاجر : ليس النهر بعيد الغور.
الأجير (يُسقِط حصاةً في الماء) : بل هو بعيد الغور جدًّا.
التاجر : ستجيد السباحة بمجرد أن تجد نفسك في الماء، جرب وسوف ترى. لا مفر لك من هذا. انظر إليَّ، أنا مثلًا من طبقةٍ أعلى منك بمراحل، ولكن ما الذي يجعلنا نذهب معًا إلى «أورجا»؟ لكي نخدم الإنسانية باستنباط الزيت من الأرض. أتفهم ذلك أيها الصعلوك؟ سوف يتدفق الزيت من الأرض وتُمد السكك الحديدية ويعم الرخاء. سيتوفر الغذاء والكساء و… و… مما لا يعلمه إلا الله. ومن الذي يفعل هذا؟ لمن يرجع الفضل فيه؟ لنا نحن. التقدم. الثورة. المدنية. كل هذا ينتظرنا في نهاية رحلتنا. هل دار في خَلَدك أن البلاد كلها تنظر إليك أنت، يا أيها الأحمق البليد؟ وها أنت تتردد في القيام بواجبك.
الأجير (وقد كان يستمع إلى هذا الحديث كله وهو يهز رأسه باحترام) : إنني لا أحسن السباحة …
التاجر : وأنا أيضًا أخاطر بحياتي أيها الأجير (الأجير ينحني في خضوع). أما أنت فقد رزقت نفسًا دنيئةً وشهوانيةً، فلا يهمك إلا الربح. ما الذي يتعجلك إلى «أورجا»؟ إن مصلحتك في التريث والإبطاء ما استطعت ما دمت ستجد أجرك في الغد. إنك تسخر من الرحلة في قرارة نفسك. ما من شيءٍ يشغل بالك إلا المال.
الأجير (يقف على ضفة النهر مترددًا) : وما العمل؟

(ينشد):

ها هو النهر الخطر،
وعلى شاطئه رجلان؛
أما أحدهما فيلقي بنفسه في الماء،
وأما الآخر فيقف مترددًا.
أيكون الأول شجاعًا والثاني جبانًا؟
وفيما وراء النهر، بعد أن يجتاز الخطر، يذهب أحدهما لينجز أمرًا،
ويصعد فوق الضفة التي بلغها مزهوًّا بالنصر.
إنه يستحوذ على ممتلكاته،
ويجني ثمرةً جديدةً.
أما الآخر، وقد جاز الخطر،
فقد تقطعت أنفاسه، ولم يجد شيئًا،
وهناك من الأخطار ما يترصده
ليقضيَ على البقية الباقية منه.
أشجاعان هما؟
أحكيمان هما؟
وا أسفاه!
لقد انتصرا على النهر معًا.
ولكنه حين أدرك الضفة الأخرى
أصبح الغالب المنتصر.
يقول نحن ولا يقول أنت وأنا.
لقد انتصرنا على النهر معًا.
أما أنت فقد انتصرت عليَّ وحدي.
أبتهل إليك يا سيدي أن تتركني أستريح قليلًا، لقد هد الحمل قواي. وربما استطعت إذا استرحت قليلًا أن أعبر النهر خيرًا مما أفعل الآن.
التاجر : إنني أعرف وسيلةً أفضل؛ سأثبِّت مسدسي في ظهرك، ولنرَ إن كنت ستعبر النهر أم لا (يدفع الأجير أمامه)، (يخاطب نفسه) لم أعد أرى خطرًا من عبور النهر، لا بد من إنقاذ ثروتي.

(ينشد):

هكذا ينتصر الإنسان،
على الصحراء والنهر المصطخب.
الإنسان ينتصر على نفسه؛
لكي يحصل على البترول
الذي تحتاجه الإنسانية.
التاجر : لا داعيَ لأن تَنصُب … الخيمة الليلة. قلت لك ذلك من قبل بعد أن كُسِرَت ذراعك عند عبورك النهر، (الأجير يستمر في عمله) لو لم أنتشلك من التيار لغرقتَ في اليم (الأجير يواصل عمله) من الواضح أنني لست مسئولًا عما أصابك؛ إن جذع الشجرة كان من الممكن أن يصيبني أنا أيضًا، ولكن لا بد لي على كل حال من الاعتراف بأن هذا الحادث وقع لك في رحلة قمت أنا بإعدادها. ليس معيَ الآن شيء من المال، ولكني سأصرف أجرك من البنك حين نصل إلى «أورجا».
الأجير : نعم يا سيدي.
التاجر : نعم يا سيدي! إنه لا يجد شيئًا يرد به عليَّ غير هذا. ولكن كل نظرة من نظراته تحمل اللوم والتأنيب. ليس في الوجود من هم أشد حُمقًا من هؤلاء الأجراء. يمكنك أن تنام (الأجير يبتعد ويجلس في ركنٍ منزوٍ) الحق أن مصيبته لا تؤلمني، فماذا يضيره أن ينقص من أعضائه أو يزيد؟ إن مثل هذا الوغد لا يرى إلى أبعد من أنفه. ما الذي يدعوهم إلى الحرص على أشخاصهم؟ إنهم ناقصون بطبيعتهم. إن الخزاف الذي يفشل في صنع وعاء يصبح هو نفسه فاشلًا. وهؤلاء لا يحسون أنهم فاشلون. إنهم منبوذون. الإنسان الناجح وحده هو الذي يصمد للنضال.

(ينشد):

كُتِبَ الموت على الضعيف،
كما كُتب القتال على القوي،
تلك سنة الحياة.
ضربة يد للقوي، وضربة قدم للضعيف.
تلك سنة الحياة.
من سقط فدعه يسقط،
واضربه أيضًا بيديك وقدميك،
تلك سنة الحياة.
من ينتصر في المعركة يتبوأ مكانه من المأدبة،
وهذا هو جزاؤه.
والطاهي لم يحصِ عدد الموتى.
وحسنٌ ما فعل.
والله الذي خلق كل شيء،
قد خلق السيد والعبد.
والحكمة فيما رآه.
حين يسير كل شيء على ما يرام،
يمدحك الناس.
وعندما يفسد كل شيء،
يسخرون منك،
تلك سنة الحياة.

(الأجير يقترب، التاجر يراه فيتوجس خوفًا.)

لقد سمعني. قف، لا تبرح مكانك. ماذا تريد؟
الأجير : لقد نصبت الخيمة يا سيدي …
التاجر : ماذا تقصد بالتسكع حولي في الظلام؟ لست أحب هذا.
أريد إذا اقترب مني أحد أن أسمع خطاه تسبقه إليَّ، وإذا تحدث إليَّ أحد أن أرى عينيه، ثم ولا تشغل نفسي بي (الأجير يبتعد) قف. عد إلى الخيمة. أما أنا فسأبقى هنا. فقد تعوَّدت الجلوس في الهواء الطلق (الأجير يدخل الخيمة) ترى ماذا سمع من نشيدي؟ إني لأسأل نفسي ماذا عساه يدبر ليَ الآن؟ ماذا يدور في رأسه؟ ها هو يتحرك ثانيةً (يرى الأجيرَ وهو يرتِّب فراشه بعناية).
الأجير : المهم ألَّا يلاحظ شيئًا، فليس من المناسب أن يُقطع العشب بذراعٍ واحدة.
التاجر : الأحمق من لا يحتاط لنفسه، والثقة بالناس هي الحمق بعينه. لقد قضيت على هذا الرجل، ولعلي قد حطمته مدى الحياة. وإذا بدا له أن يعاملني بالمثل فلن يكون ذلك إلا تصرفًا عادلًا من جانبه. والقوي إذا أغمض جفنه فهو ضعيف. يجب حقًّا ألَّا نستسلم للنوم، من الخير لي أن أقضيَ الليلة في الخيمة، فالإنسان هو الإنسان نفسه. في سبيل أجرة وهمية يسير هذا الرجل إلى جانبي. أنا الذي يملك المال الوفير، ومع ذلك فكلانا يتجشم مشقة الطريق. وإذا بدا منه ما يدل على التعب كان جزاؤه الضرب، وإذا جلس الدليل إلى جواره طُرِدَ الدليل، وإذا بدا أراد أن يمسح آثار أقدامنا على الرمال، وقد يكون ذلك خوفًا من قطَّاع الطريق، يُتَّهم بالغدر وسوء النية. ولما وقف مترددًا أمام النهر رفعت مسدسي وسددته إلى ظهره. فهل أبيت في خيمةٍ واحدة مع هذا الرجل؟ كيف أصدق أنه صفح عن كل هذه الإهانات؟ ترى ماذا يُبيِّت ليَ الآن؟ ليتني أعرف ما يدور في خَلَده. من الحمق أن أبيت معه تحت سقفٍ واحد.

(فاصل.)

التاجر : لماذا تقف جامدًا في مكانك؟
الأجير : سيدي، إن الطريق لا يؤدي إلى أبعد من هذا.
التاجر : آه، وبعد.
الأجير : سيدي، اضربني كما تشاء، ولكن لا تضربني على ذراعي المكسور. لقد ضللت الطريق.
التاجر : ألم يَصِفه لك عامل الفندق في محطة «هان»؟
الأجير : نعم يا سيدي.
التاجر : وقد وعَيت ما قال.
الأجير : لا يا سيدي.
التاجر : لماذا أجبت بالإيجاب؟
الأجير : خشيت أن تطردني يا سيدي. كل ما أعرفه أن علينا أن نسلك طريق الآبار.
التاجر : حسن، إذن فاتبع الآبار.
الأجير : ولكني لا أعرف أين هي الآبار.
التاجر : تقدم ولا تحاول أن تسخر بي. لقد سلكت الطريق الصحيح حتى الآن، إني أعرف ذلك تمامًا.
الأجير : ربما كان من الخير أن ننتظر القافلة القادمة.
التاجر : كلا.

(يتابعان سيرهما.)

(فاصل.)

قسمة الماء

التاجر : هيه، إلى أين تذهب؟ إنك تتجه نحو الشمال والشرق من هنا (الأجير يواصل سيره في هذا الاتجاه) قف، ماذا دهاك؟ (الأجير يقف، ولكنه يتحاشى النظر إلى سيده) أنت لا تقوى على النظر في عيني، هيه.
الأجير : ظننت أن الشرق من هناك.
التاجر : طيب، صبرًا، سأعلمك كيف تقودني (يضربه) هل عرفت الآن؟ هل عرفت أين أنت من الشرق؟
الأجير (يصرخ) : آي … آي، لا تضربني على ذراعي.
التاجر : تكلم، أين الشرق؟
الأجير : هناك.
التاجر : وأين الآبار؟
الأجير : هناك.
التاجر (وقد جُنَّ جنونه) : هناك … هناك. لم إذن تتجه وجهة أخرى؟ (يضربه.)
الأجير : نعم يا سيدي.
التاجر : أين الآبار؟ (الأجير يسكت، التاجر يتظاهر بالهدوء) ألم تقل منذ لحظة إنك تعرف طريقها؟ ألا تعرف أين هي؟ (الأجير يسكت، التاجر يضربه) ألا تعرف؟
الأجير : نعم.
التاجر (وهو يضربه) : تعرف مكانها.
الأجير : لا.
التاجر : أعطني زمزميتك، من حقي أن أحتفظ بالماء كله لنفسي ما دمت قد ضللت الطريق، ذلك من حقي، ولكني لن ألجأ إليه، وسوف أقتسم هذا الماء معك. اشرب جرعةً منه وتابع طريقك (لنفسه) ها أنا قد نسيت. ما كان لي أن أضربه في مثل هذا الموقف الذي نحن فيه.
التاجر : لقد مررنا بهذا المكان من قبل، وهذه آثارنا على الرمال.
الأجير : إذا صح أننا مررنا به، فلا بد أننا لم نَحِدْ كثيرًا عن الطريق.
التاجر : انصُب الخيمة. إن زمزميتك فارغة وكذلك زمزميتي (مخاطبًا نفسه) فَلْأتوارَ عنه؛ إنه لو رأى عندي بقية ماء أشربه لقتلني، فليس في دماغه بصيص من نور العقل. لو اقترب مني فسأطلق عليه الرصاص (يخرج مسدسه ويضعه على ركبته) ليتنا نعود إلى آخر بئرٍ تركناها وراءنا. لقد جف حلقي، ولا يستطيع الإنسان أن يتحمل العطش.
الأجير : من واجبي أن أعطيَه الزمزمية التي سلَّمها ليَ الدليل في المحطة؛ فلو أنهم عثروا علينا ووجدوا معي زمزميةً ملأى بالماء بينما هو يكاد يموت من العطش لقدموني إلى المحاكمة.
التاجر : ارم هذا الحجر من يدك (الأجير لا يفهم ويمد يده بالزمزمية. عندئذٍ يطلق التاجر عليه الرصاص) لقد صح ما توقعت. خذ! أيها الوحش القذر.

أغنية … المحكمة

(الممثلون ينشدون وهم يغيرون المنظر إلى مشهد المحكمة):

بعد الجريمة
يأتي دور المحكمة.
وعندما يسقط البريء مضرَّجًا في دمائه؛
يلتف القضاة حول جثته ليحاكموه.
وعلى قبر البريء المقتول
ينبغي أيضًا أن يغتال حقه.
إن حكم المحكمة
يسقط كما يسقط ظل السكين القاتلة.
هذه النسور الجائعة.
إلى أين تتجه؟
إنها لم تجد شيئًا تفترسه في الصحراء،
وسوف يقدم القضاة لها الطعام.
ها هنا يلجأ الجناة.
والجلادون هنا في أمان.
ها هنا يُخفي اللصوص ما غنموه،
ويطوونه في ورقة
دُوِّنت فيها نصوص القانون.
الدليل : هل أنتِ زوجة الأجير المقتول؟ أنا الدليل الذي ألحقَ زوجك بالعمل. سمعت أنك ستطالبين المحكمة بتوقيع العقاب على التاجر وبالتعويض عن الخسارة التي لحقت بك، ولهذا سارعت بالحضور؛ لأنني أملك الدليل على أن زوجك مات شهيدًا، الدليل هنا في جيبي.
صاحب الفندق (للدليل) : سمعت أن في جيبك دليلًا، إنني أنصحك، دعه في جيبك.
الدليل : وزوجة الحَمَّال تعود إلى بيتها خالية الوفاض؟
صاحب الفندق : أتريد أن يُدرَج اسمك في القائمة السوداء؟
الدليل : سأفكر في نصيحتك.

(تجلس المحكمة، وكذا المتهم، وكذا أفراد القافلة الثانية وصاحب الفندق.)

القاضي : فُتِحَت الجلسة، الكلمة لزوجة الضحية.
الزوجة : لقد حمل زوجي أمتعة هذا السيد عبر صحراء «جاهي»، وقبل نهاية الرحلة بقليل قتله هذا السيد. أطلب معاقبة القاتل ولو أن هذا لا يصلح لإعادة الحياة إلى زوجي.
القاضي : وتعويض الأضرار؟
الزوجة : نعم، لأنني وطفلي فقدنا عائلنا الوحيد.
القاضي (للزوجة) : إن حديثي إليكِ لا يحمل أي توبيخ. إن طلباتك المادية ليس فيها إخلال بالشرف. (ثم إلى أفراد القافلة الثانية) لقد كانت إرسالية التاجر كارل لانجمان متبوعة بإرسالية أخرى التحق بها الدليل المطرود. وقد رأى أفراد هذه الإرسالية أفراد سيئة الحظ على مسافة تقل عن ميل من الهدف. ما الذي رأوه عندما اقتربوا؟
رئيس القافلة : لم يكن في زمزمية التاجر نقطة ماء، وكان الحمَّال مقتولًا وممدودًا على الرمال.
القاضي (للتاجر) : هل قتلت ذلك الرجل؟
التاجر : نعم، لقد هاجمني بغتةً.
القاضي : وكيف هاجمك؟
التاجر : حاول أن يقتلني بحجرٍ من الخلف.
القاضي : هل تستطيع أن تفسر لنا الدوافع التي حملته على هذا الاعتداء؟
التاجر : لا.
القاضي : هل أرهقت رجالك فوق طاقتهم؟
التاجر : لا.
القاضي : أين الدليل الذي رافقك في الجزء الأول من الرحلة؟
الدليل : موجود.
القاضي : ما رأيك أيها الدليل؟
الدليل : كان التاجر بقدر ما أعلم يريد أن يصل إلى أورجا بأسرع ما يمكن؛ لكي يفوز بامتياز البترول.
القاضي (لرئيس القافلة) : هل كانت القافلة التي تتقدمكم تسير بسرعة كبيرة جدًّا؟
رئيس القافلة (الثانية) : لا، لم تكن مسرعةً جدًّا. لقد سبقتنا بيومٍ واحد وظلت محتفظةً بهذا السبق.
القاضي (للتاجر) : هل يفهم من هذا أنك أرهقت رجالك في السير؟
التاجر : أنا لم أرهق أحدًا. لقد كان الأمر كله في يد الدليل.
القاضي (للدليل) : ألم يأمرك المتهم صراحةً بأن تحث الأجير على السير؟
الدليل : أنا لم أكلِّفه بالسير فوق طاقته بل ترفَّقت في معاملته.
القاضي : ولماذا أُعفِيت من عملك؟
الدليل : وجد التاجر أنني أترفق بالأجير وأنني أحسن معاملته أكثر مما ينبغي.
القاضي : ألم يكن ذلك مباحًا؟ وهذا الأجير الذي حُرِّمَ عليك — كما تقول — أن تحسن معاملته، هل كنت تشعر أنه متمرد بطبيعته؟
الدليل : الأجير؟ على العكس لقد كان يصبر على كل شيء، كان يخشى كما قال لي أن يفقد عمله. ولم يكن عضوًا في أية نقابة.
القاضي : إذن فقد تحمَّل ما لا يطيق. أجب، لا جدوى من الإغراق في التفكير قبل الكلام. ستخرج الحقيقة من بين شفتيك بدون حاجةٍ إلى التفكير.
الدليل : لقد رافقت القافلة حتى محطة هان، ثم تركتها.
صاحب الفندق (لنفسه) : أحسن الكلام.
القاضي (للتاجر) : هل حدث بعد ذلك ما يبرر اعتداء الأجير عليك؟
التاجر : لا أعلم.
القاضي : اسمع، لا تحاول أن تَظهَر بما يخالف حقيقتك، فلن تنقذ نفسك مني بهذه الطريقة. إذا كنت حقًّا قد عاملت أجيرك معاملةً طيبةً، فكيف تفسر كرهه لك؟ خير لك أن تبرر هذه العاطفة التي كان يشعر بها نحوك، بذلك تستطيع أن تقول إنك كنت في حالة دفاع مشروع عن النفس. على المرء دائمًا أن يتدبر ما يقول.
التاجر : لديَّ ما أعترف به، لقد ضربته مرةً.
القاضي : آه، وهل تعتقد أن ضربك له مرةً يمكن أن يثير كل هذا الحقد في نفسه؟
التاجر : لا، ولكنه حين رفض أن يعبر النهر سدَّدت مسدسي إلى ظهره، وفضلًا عن هذا فقد كسرت ذراعه بينما كان يجتاز النهر. هنا أيضًا أعترف بخطأي.
القاضي (يبتسم) : وهل هذا هو رأي الأجير؟
التاجر (يبتسم أيضًا) : بالطبع. الواقع أنني انتشلته من الغرق.
القاضي : إذن فقد هيأت كل الأسباب التي تجعل الأجير يحقد عليك خصوصًا بعد أن طردت الدليل من خدمتك. وقبل هذا …
(للدليل بإصرار): اعترف بالحقيقة. ألم يكن الأجير يحقد على التاجر؟ ثم إن هذا أمر مفهوم. رجل يخاطر بنفسه في المهالك نظير أجر متواضع. رجل محطم معرض للموت في أية لحظة، في سبيل من؟ ولأية غاية؟ لحساب رجل نستطيع أن نقول إنه لا يدفع له شيئًا، فكيف إذن لا يكرهه؟
الدليل : إن الكره لم يعرف طريقه إلى قلبه.
القاضي : فلنسمع الآن شهادة صاحب الفندق في محطة هان، لعله يوضح لنا العلاقة بين التاجر ورجاله. يا صاحب الفندق: كيف كان التاجر يعاملهما؟
صاحب الفندق : معاملةً طيبةً.
القاضي : هل تحب أن أُخليَ القاعة من الحاضرين؟ هل تخشى أن يصيبك أذًى لو اعترفت بالحقيقة؟
صاحب الفندق : لا لا، لا مبرِّر لذلك في مثل هذا الموقف.
القاضي : كما تشاء …
صاحب الفندق : لقد رأيته وهو يعطي الدخان بنفسه للدليل، ويدفع أجره كاملًا، وهذا أمر نادر. أما الأجير فقد كان يعامله معاملةً حسنةً.
القاضي : هل محطتك هي آخر نقطة للبوليس في هذا الطريق؟
صاحب الفندق : نعم يا سيدي. وبعدها صحراء جاهي؛ حيث لا يَرى الإنسان أثرًا للحياة.
القاضي : فهمت. إن رقة المعاملة التي بدت من التاجر في محطة هان كانت مرهونةً بظروفها، بل ربما جاز لنا أن نقول إنها كانت مغرضةً.
التاجر : لقد ظل يغني طوال الطريق، فلما هددته بمسدسي انقطع عن الغناء جملةً.
القاضي : أرأيت؟ لقد غضب عليك. مفهوم، مفهوم.
التاجر : أود أن أعترف بسرٍّ آخر؛ عندما ضللنا الطريق اقتسمت معه زمزمية ماء، ولكني قررت أن أشرب الزمزمية الثانية وحدي.
القاضي : وهل رآك وأنت تشرب؟
التاجر : ذلك ما خطر ببالي. عندما رأيته يتقدم نحوي وفي يده حجر كبير كنت أعلم أنه يكرهني؛ فمنذ أن وطئت أقدامنا أرض الصحراء وأنا لا أتوانى لحظةً من ليلٍ أو نهار عن الاحتراس لنفسي. تجمَّعت لدي كل الأسباب التي تحملني على الاعتقاد بأنه سيهجم عليَّ في أول فرصة تسمح له، ولو لم أقتله لقتلني.
الزوجة : أريد أن أقول شيئًا يا سيدي؛ محال أن يكون زوجي قد هاجمه؛ إنه لم يعتدِ على أحد طَوال حياته.
الدليل : هدئي نفسك. إن في جيبي الدليل على براءته.
القاضي : هل عثر أحد على الحجر الذي هددك به الأجير؟
رئيس القافلة الثانية (مشيرًا إلى الدليل) : لقد أخذه هذا الرجل من يد القتيل (الدليل يشير إلى الزمزمية).
القاضي : أهذا هو الحجر؟ هل يمكنك التعرف عليه؟
التاجر : نعم هو بعينه.
قاضي اليمين : إن ما تراه ليس حجرًا بل زمزمية.
قاضي اليسار : الآن اتضح الأمر. فلم يكن الأجير قد بيَّت النية على قتله.
الدليل (يحتضن زوجة الأجير) : أرأيت؟ لقد تحقق ما قلته لك. إن زوجك بريء. لقد أعطيته هذه الزمزمية في محطة هان، وصاحب الفندق يشهد على صدق ما أقول، وها هي زمزميتي.
صاحب الفندق : يا له من أحمق، لقد ضيع نفسه.
القاضي : محال أن تكون هذه هي الحقيقة! إذن فقد مد يده إليك يريد أن يسقيَك.
التاجر : لقد خطر لي أن ما يحمله لا بد أن يكون حجرًا.
القاضي : لا صحة لما تقول، فلم يكن حجرًا ما يحمله في يده بل زمزمية.
التاجر : وكيف كان لي أن أعرف أنها زمزمية؟ لم يكن لهذا الرجل أي حق في أن يسقيَني، فما كنت صديقه في يومٍ من الأيام.
الدليل : الحقيقة أنه أراد أن يسقيَك.
القاضي : ولكن لماذا يسقيه؟ لماذا؟
الدليل : ربما تصور أن التاجر عطشان (يلتفت القضاة إلى بعضهم ويبتسمون) لا شك أنه كان مدفوعًا بحسن النية (القضاة يتبادلون الابتسام من جديد)، ولعل الحمق هو الذي دفعه إلى ذلك. الذي لا شك فيه أنه لم يكن بينه وبين التاجر أي شيء.
التاجر : إن صح ما يقول الدليل، فلا بد أنه كان بالغ الحمق. فهاكم رجلًا كسرت ذراعه وسببت له عاهةً قد تلازمه مدى الحياة، فلو عاملني بالمثل لكان الحق في جانبه.
الدليل : نعم لكان الحق في جانبه.
التاجر : من أجل أجر ضئيل سار هذا الرجل إلى جانبي، أنا الذي يملك المال الوفير. ومع ذلك فقد قاسينا معًا من مشقة الطريق.
الدليل : أخيرًا يعترف.
التاجر : وكلما ناله التعب ألهبت جسده بالعصا.
الدليل : وتعلم أن هذا ظلم.
التاجر : إن القول بأن الأجير لم يكن يتحيَّن أول فرصة تسمح له ليقتلني كالقول بأنه كان معتوهًا فاقد العقل.
القاضي : إذن فأنت معترف بأن الأجير كان على حق في كرهه لك. هذا جميل منك، أليس كذلك؟ وإذن فأنت حين قتلته فقد قتلت نفسًا بريئةً. هذا حق. لكنك لم تُقدِم على ذلك إلا لأنك لم تكن تستطيع أن تعرف إن كان ما يضمره لك خيرًا أو شرًّا. نعم، نعم. مثل هذا يحدث في دوائر البوليس؛ فأنت ترى عساكر البوليس يُطلقون الرصاص على جمهور من المتظاهرين، على قوم لا شك أنهم مسالمون. فما الذي يجعلهم يطلقون عليهم الرصاص؟ لماذا يفتكون بهم؟ الجواب بسيط؛ ذلك لأنهم لا يستطيعون أن يفهموا عدم مبادرة هؤلاء المتظاهرين لاقتلاعهم من فوق ظهور خيولهم والفتك بهم لساعتهم، فإذا أطلقوا عليهم الرصاص فذلك لأنهم خائفون، هذا هو كل شيء. وشعورهم بالخوف هو الذي يؤكد سلامة إدراكهم؛ لهذا يتعذر عليكم أن تدركوا أن هذا الأجير كان بمثابة الاستثناء من القاعدة.
التاجر : ينبغي أن يلتزم الإنسان بالقاعدة لا بالاستثناء.
القاضي : وهذا ما يؤيد كلامي. فما الذي دفع هذا الأجير لكي يسقيَ جلاده؟
الدليل : لا يمكن أن يكون دافعًا معقولًا.
القاضي (ينشد) :
القاعدة أن العين بالعين،
مجنون من يتطلب الاستثناء.
إن مدَّ عدوك يده ليسقيك،
فلا تأمنه إن كنت عاقلًا.
الدليل (ينشد) :
في النظام الذي رسمتموه لنا،
تصبح الرحمة هي الشذوذ والاستثناء.
لا تكن إنسانًا.
فتدفع ثمن إنسانيتك غاليًا.
الويل لأهل السماح.
الويل لمن كان محيَّاه محبوبًا.
إن أراد أن يساعد جاره،
فقف في طريقه.
وإذا تأوه أحد بجانبك،
فضع إصبعك في أذنيك.
وإذا استغاث بك أحد،
فأمسك خطاك عنه.
الويل لمن ينساق وراء عواطفه.
يمد يده ليسقي إنسانًا،
والذئب في الحقيقة هو الذي يشرب.
القاضي : رفعت الجلسة.

(ضجة.)

رئيس القافلة الثانية (للدليل) : ألا تخشى أن تفقدَ عملك؟
الدليل : كان من واجبي أن أقول الحقيقة.
رئيس القافلة الثانية (مبتسمًا) : بالطبع ما دام ذلك واجبًا.

(تعود الجلسة إلى الانعقاد.)

القاضي (للتاجر) : بقيَ لدى المحكمة سؤال أخير توجهه إليك، هل حققت منفعة بوفاة الأجير؟
التاجر : أنا … على العكس. لقد كنت في أمسِّ الحاجة إليه لإنجاز مهمتي في أورجا. وجميع الخرائط والوثائق والسجلات التي كنت في حاجةٍ إليها كان هو الذي يحملها معه، ولولاه ما استطعت أن أحمل متاعي قط.
القاضي : هل معنى هذا أنك لم تحقق الهدف من رحلتك إلى أورجا؟
التاجر : بالطبع لا، لقد وصلت بعد فوات الأوان وفقدت كل شيء، كل شيء.
القاضي : ما دام الأمر كذلك فسأنطق بالحكم. لقد ثبت للمحكمة بما لا يقبل الشك أن الأجير حين اقترب من سيده لم يكن يحمل في يده حجرًا بل زمزمية. ولكن ما الذي كان يقصده بهذه الزمزمية؟ أكان يريد حقًّا أن يسقيَ التاجر؟ غير معقول، بل إن المرء ليميل إلى الاعتقاد بأنه كان يريد أن يصرعه بها. الحق أن الأجير ينتمي إلى طبقةٍ من الناس تحس دائمًا أنها مظلومة ومهضومة الجانب. فلم يغب عنه — وله الحق — أنه لن يحصل على نصيبه من الماء ما لم يغتصبه بالقوة. بل إني أذهب إلى أبعد من هذا فأقول إن هذا النوع من الناس ضيق الأفق محدود التفكير، ولا يرى الأمور إلا من وجهة نظر واحدة. إنهم لا يرون أبعد من أنوفهم، ولا بد أن الأجير كان يرى أن انتقامه من جلاده أمر طبيعي لا غبار عليه. فماذا عساه أن يفقد في نهاية المطاف؟ إن التاجر من طبقة غير طبقته، فمن الطبيعي ألا ينتظر خيرًا من جانب الأجير بعد أن عامله على حد قوله معاملةً وحشيةً. وهداه تفكيره إلى أن هناك خطرًا محققًا يتهدده. وخلوُّ الصحراء من أي أثر للإنسان قد ملأ قلبه ذعرًا، فلا بوليس هناك ولا محاكم، ولا يستبعد أن يلجأ الأجير إلى القوة لكي يغتصب نصيبه من الماء، بل إن هذه الظروف نفسها قد تشجعه على ذلك. من هذا يتبين أن المتهم كان في حالة دفاع مشروع عن النفس. وسواء بعد ذلك أن يقال إنه كان مهددًا حقًّا، ففي مثل الموقف الذي وجد التاجر نفسه فيه يعتقد الإنسان دائمًا أن حياته مهددة، وإذن فالمتهم بريء من التهمة الموجهة إليه، والدعوة المرفوعة من زوجة القتيل مرفوضة.
الممثلون (ينشدون) :
هكذا تنتهي، حكاية رحلة،
على نحو ما رأيتم وسمعتم.
رأيتم حادثًا مألوفًا
مما يقع كل يوم.
ومع هذا فنحن نناشدكم
أن تتكشفوا الأمر الغريب وراء المألوف،
وتتبينوا السر الغامض وراء ما يحدث كل يوم.
وليكن في كل شيء معتاد ما يشعركم بالقلق.
تبينوا الشذوذ الذي يستر خلف القاعدة.
وحيثما بدا الداء لكم،
فأوجدوا له الدواء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤