الشعر والمسرح

بقلم  محمد لطفي جمعه
figure
الأستاذ لطفي جمعه.
تفضل حضرة الدكتور العالم والشاعر الأديب النسيب أحمد زكي أبو شادي وطلب مني مقدمةً نقديةً لهذه القصة الغنائية التي نغَّم١ في وضعها شعرًا ووسمها باسم (إحسان)، ولما كنت شهدت زهور٢ نبوغ هذا الشاعر النجيب كما يشهد البستاني جمالَ الأزهار عند أول تفتُّحها — وذلك منذ أكثر من عشرين عامًا مذ كنت أشارك المرحوم والده في القيام بعبء تحرير جريدة (الظاهر) — فقد وجدت في نفسي سرورًا عظيمًا لتلبية هذا الطلب. وإني أذكر مقدم أحمد زكي من أوروبا بعد أن حاز أعلى الشهادات في فنونه وتخصص في علوم البكتريولوجيا والأبقلطوريا وألقى محاضرة في مدرسة الزراعة العليا بالجيزة منذ بضع سنين، وقد هنأته إذ ذاك بنجاحه الباهر وتمنيت له أن يكون كالنحل في حسن الأثر، فصدقت تلك الأمنية وصح تنبُّئي، وما زالت نفسه — تلك «النحلة» ذات النشاط والحركة — تخرج شهدًا بغير إبر، ذا ألوان شتى وطعمٍ حلوٍ لا يسلوه من يذوقه ويستوعبه: فمن شعرٍ مبتكر المعاني طريف الأسلوب، إلى قصةٍ في شكل قصيدة أبيقية (Epie) إلى أن شاءت مواهبه الفياضة أن تجود بهذه التحفة الفنية الجديدة وهي أعلى ما يرمي إليه متفننٌ وشاعر وأديب. وقد قرأت قصة (إحسان) مرارًا وتكرارًا، وتذوقت أبياتها المنظومة، ووقفت بقوافيها التي كانت تجيب نداء الشاعر في طاعةٍ وخفرٍ كأنها الحور العين تحيط بالمصلي الورع قبيل السحر! وأطربتني موسيقى تلك القصة، فعددتها فتحًا جديدًا في فنون الأدب العربي المصري، وجوابًا يجابه به كلَّ من ادعى أن الشعر العربي كجميع أنواع الشعر السامي قاصر عن القصة والرواية، ولو أن الشعراء المصريين — ولا سيما شوقي وحافظ — أخذوا بأهداب نظم القصص الغنائية منذ بدءِ نهضتنا الأدبية، إذن لبلغت تلك الصناعة الفنية المكانة التي تستحقها وتشرفنا في نظر الغربيين. فنعم الشاعر الذي يخرج بالشعر العربي من الدروب المطروقة إلى الجادة الرحبة الفسيحة؛ ليظهر أن الشعر واللغة غير قاصرتين عن التحليق في أفق الفنون العليا!
وإني أشبه الشاعر الذي تدركه الشجاعة والنبوغ فيقصد إلى هذه الغاية بذلك الطيار (لندبرج Lindbergh) الذي طار بمفرده عابرًا بحر الظلمات (الأقيانوس الأطلنطي) دون تردد ولا فزع، فشق طريقًا في الأفق لم يسبقه إليها سابق، وكانت قبله من الممكنات ولكنه وحده الذي جرأ عليها، وتغلب على ما كان يكتنف غيره من المصاعب، فإلى الأمام أيها الشاعر كما نقول … إلى العلا أيها الطيار! … وما أعظم الشبه بين الشاعر والطيار، فلكليهما أجنحة يحلق بها في الفضاء بعيدًا عن غوغاء العالم وجلبته!
لم تظهر الفنون في أوروبا بمظهرها الصحيح قبل ولادة الأوپرا. وقد ولدت الأوپرا الراقية في ألمانيا والنمسا، ثم في إيطاليا وفرنسا وكان تأليف الأوپرا دائمًا مقترنًا بظهور شاعر قادر وموسيقار ماهر، ولم يجمع الموهبتين سوى واحد فقط هو النابغة الفذ ريشارد فجنر (Richard Wagner) الذي أكرمه مواطنوه وشادوا له في مدينة بيروث Bayreuth (من أعمال ألمانيا) ملعبًا خاصًّا به، ووقفوه على تمثيل رواياته الغنائية، وجعلوا له في كل عام موسمًا تحج إليه الشعوب من سائر أنحاء الأرض لتشهد عجائب فنه في الشعر والموسيقى!
وكانت أوروبا كلها تسير خلف هذا المؤلف الشاعر بخطوات منتظمة حتى إن الفيلسوف الألماني الأكبر فردريك ولهلم نيتشيه (Frederich Wilhelm Nietzsche) كان من أنصاره إلى أن وقع بينهما شقاق أدى إلى فراقهما، وألف نيتشيه في ذلك كتبًا، وظهر أنه في أول عهده تأثر بموسيقى فاجنر (Wagner)، وكان لها فعل قوي في آرائه الفلسفية. أما موسيقى فاجنر فهي موسيقى علمية كأنها معادلات الجبر والرياضيات العليا، بعكس الموسيقى الفرنسية والإيطالية (التي لم يكن وحيها ألمانيًّا) فأساسها الملوديا (Mélodie) كما أن أساس الموسيقى الڨاجنرية وتد العودة أو اللازمة الموسيقية (Leite Motive).
وفي الغالب لا يكون لموضوع القصة الغنائية شأن يذكر بجانب الموسيقى، حتى إن ڨردي (Verdi) استعان بموضوع قصة غادة الكاميليا وصاغها في الأوپرا لاتراڨياتا (LaTraviata).
وكثيرة من القصص الغنائية قائمة على قصص خرافية مثل قصة (Lohengrin) — من صنع الخالد الذكر ڨاجنر — التي هي حلقة من سلسلة قصص الجرال المقدس، وهي بحسب ما قرره علماء الفولكلور (Folklore) عين القصة العربية المعروفة باسم (عويد السدب).

أما رواية (إحسان) التي نسج بردها بشعرٍ نادر المثال النابغ أحمد زكي أبو شادي فمبنية على قصةٍ حقيقيةٍ أو على الأقل معقولة وممكنة الوقوع في كلمتين (الحب والحرب)، وهكذا الإنسانية تمر حياتها وتضمحل بين هاتين الكلمتين القويتين: «الحب» الذي تحيا به المخلوقات وتنجذب بسحره نحو بعضها، و«الحرب» التي تفنيها وتقضي عليها …

غير أن موضوع قصة زكي أبو شادي أميل إلى الدرامة منه إلى الأوپرا المألوفة؛ لأن الأوپرا عادةً ليست في حاجة إلى إيراد الوقائع معقَّدةً ثم تحليلها، ولكنها في حاجة إلى وصف عناصر الطبيعة وعواطف الإنسان؛ ليكون امتزاج تينك الحالتين مع الموسيقى أقرب إلى الغاية المرغوبة، فهنا نقطة في فن تأليف الأوپرا نفسه سوف يستكملها ذلك الشاعر المبتكر في المستقبل القريب عندما تنفتح له أبواب تلك الصناعة على مصاريعها.

على أن تنقله في تلك القصة بين موضوعات شتى وتوفيقه بمهارةٍ بين روح كل موضوع وبين الشعر الواجب نظمه للأداء أمر جدير بالإعجاب، وإن كان الشعر في بعض المواقف لم يكسب المرونة المطلوبة للإنشاد الموسيقي، وهذه علة سوف تزول عندما يعاني هذا المؤلف القدير الإشراف على تلحين تلك الرواية وصبها في القالب الموسيقي، وهذا هو المجهود الأخير الذي يظهر قصته في ثوبها القشيب الجدير بها.

بيد أن الحياة المصرية بصفةٍ خاصةٍ والحياة الشرقية الإسلامية بصفة عامة لا تؤهلان الشاعر للتغلغل في تفهم العواطف البشرية على حقيقتها بسبب غياب عامل الحب الصحيح؛ ولهذا كان المؤلفون في أوروبا نفسها يختارون موضوعات تكاد تكون خالية لاتقاء الوقوف في ذلك المأزق، وليس أدل على هذا من رواية (فاوست Faust) التي ألفها أعظم شاعر في الدنيا، العظيم ذو العبقرية الكونية المطلقة Absolute Univereal Genius ولفجان جوت Johann Wolfgang Von Goethe، وهي تلك القصة الفلسفية التي نقلت إلى جميع لغات الدنيا وعجز الشعراء والكتاب في مصر عن نقلها إلى العربية، بل لا أكون مبالغًا إذا قلت: إنهم يعجزون عن قراءتها ما عدا واحدًا هو خليل مطران. فإن هذه القصة النادرة المثال — التي قضى فيلسوف ألمانيا وشاعرها الفذ وأديبها المفرد أكثر من ستين عامًا في تأليفها — على الرغم من كونها تنطوي على موضوع خيالي، فإنها قد تناولت جميع حقائق الحياة؛ ولأن أحمد زكي أبو شادي حاول أن يكون مؤلفًا في الشعر القصصي التمثيلي وسائرًا على خطوات هؤلاء العظماء فنحن نحييه ونشجعه، ونتمنى له الثبات والصبر في تلك الطريق الوعرة ونستحثه على الاستمرار حتى يبلغ الكمال، ويتسنم ذروة هذا المجد الذي يعادل المجد العلميَّ في أرقى وأسمى مراتبه.

هوامش

(١) نغم: طرب في الغناء.
(٢) زهور: تلألؤ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤