الفصل الأول

حروب التَّبْع أسعد اليماني في الصين

figure

حين استشرى السقم والمرض بالملك — التَّبْع — أسعد اليماني، الجد السالف للملك سيف بن ذي يزن، وهو يغزو بجيوشه المتحالفة الجرارة تخوم الصين آثر أمراؤه وقادة فيالقه الاجتماع والتشاور في ذلك المصاب الفادح الذي نزل بملكهم التَّبْع أسعد، ومضى يمتص منه رحيق حياته يومًا بعد يوم، حتى إنه لم يعد يقوى على القيادة والمنازلة واتخاذ القرار، ومواصلة الزحف المتلاحق لافتتاح المدن على طول غرب آسيا وأواسطها مرورًا ببلاد الهند والسند وأذربيجان والتركستان، إلى أن وصلت جيوشه العربية إلى أعلى تخوم الصين.

وكان لا يكف لحظة عن معتقده الدفين الراسخ المتوارث عن جده الأعلى قحطان.

– أيها الرجال، إنكم إن لم تحاربوا الناس حاربوكم، وإن لم تغزوهم غزوكم، لا مكان لمغلوب على ظهر هذه الأرض وما عليها من بشر ودواب.

الآن لم يعد الملك التَّبْع يقوى على مجرد الكلام، بل لقد ثقل لسانه وبردت أطرافه، ولم يعد يشير إلى نبض الحياة فيه، سوى حدقتي عينيه الجاحظتين اللتين تتحركان في ريبة واستطلاع لكل ما يحيط به، وهو راقد على فراشه، حتى لوجهي ولديه «عمرو وحسان».

وإن حدث ونطق لسانه سوءًا تعبيرًا عن غله وحقده الدفين، نطق باسم ذلك الملك الصيني الذي اتخذه دليلًا، يقوده وجنوده داخل مجاهل بلاد الصين، فكان أن غرر به الدليل الحليف إلى أن أفقده طريقه وهدفه وأضاعه داخل تلك البلاد المترامية، بوهادها وجبالها الشاهقة وأنهارها وصحاريها الجرداء.

– ذلك الدليل الآسيوي الخسيس.

ورغم أن التَّبْع حسان، أدرك بنفسه في نهاية المطاف خيانة حليفه، فأوقع به انتقامه على مرأى من قومه وقبائله وزوجاته وجواريه وأبنائه، وذلك بأن استقدمه ذات ليلة وواجهه بادعائه وخداعه، وما انتهى إليه أمر الجيش العربي.

وحين أسقط في يد ذلك الملك الدليل المتآمر، وحاول معاودة الدفاع عن نفسه، استل التَّبْع حسان من فوره خنجره من وسطه وتقدم منه على مرأًى من الجميع، واستخرج لسانه من فمه وقطعه عن آخره بخنجره المشرع.

– الآن أريحك من هذا اللسان الكاذب.

ولم يكتف بهذا، بل إن التَّبْع اليمني سجنه داخل محفة أو قفص من الفولاذ للحكم وأمر حرسه وحجابه بوضع القفص إلى جانب قاعة عرشه، وهو بداخله حي يرزق يرقب ويعي ما يحدث من اجتماعات وخطط — كما كان في السابق — دون أن ينطق بكلمة … بحرف.

ومن هنا اكتفى الملك أسعد بمراقبة تعبيرات وجهه وهو يسمع ويرى مسار الخطط الغازية لبلاده، دون أن يقوى على النطق والحركة، بعدها ساءت حالة الملك وحل به السقم هو بدوره، من صديقه الصيني، الحميم الذي أولاه كل ثقته، ولم يحصد منه سوى الخيانة والمرارة والضياع في مجاهل هذه البلاد سنوات طويلة.

– أهكذا يُصْنَع بالصديق!

فكثيرًا ما كان التَّبْع أسعد يمضي يشاركه طعامه وشرابه وحدهما داخل قاعة عرشه، كما كانا سابقًا، وقبل افتضاح أمره، طارحًا عليه كل ما يعن له من أمور حقيقية؛ سائلًا: ما رأي صديقي؟

متلقيًا إيماءاته من داخل سجنه وأصفاده متلمسًا بنفسه صحة أقواله أو إيماءاته مدركًا خسيسها من أصيلها، وله طبعًا القرار الأخير.

فحتى الخرائط ومسار المعارك ومعالم الطرق والمسالك والبلدان، كان يدفع بها إليه، طالبًا مشورته وإشارته.

– لعلني أصبحت أعرفك أكثر فأكثر عن طريق اكفهرارك قبل لسانك أيها الصديق الوفي الأخرس.

ويبدو أن كل ذلك، لم يكف غليل التَّبْع أسعد، وهو الذي أخلص له، منذ أن جاءه مخلوعًا ذليلًا ينزف كمدًا مما فعله به ملوك الصين، فكان أن احتضنه ورد إليه ملكه وكامل سلطاته وممتلكاته وبلاده، وقربه منه السنوات الطوال قبل أهله وعشيرته ومستشاريه ورءوس القبائل: بل وحتى ولديه عمرو وحسان.

إلى أن تكشف له وجهه؛ وجه الصديق الذي قاده إلى متاهات الصين، كمثل غريق، تودي به رياح السموم الهوجاء إلى الغوص في رمالها، هو وجنوده وقادة فيالقه بل وأربعة أمراء من أبنائه، فلذات كبده.

– أهكذا يُصْنَع بالصديق؟

حتى إذا ما استفاق التَّبْع المتجبر الغافل لما حل به، واستدار مستطلعًا وجه الصديق الحليف الدليل، كان قد أضاع أخلص رجاله وجيشه وأولاده الأربعة.

وهكذا حطت عليه الهموم الثقال، فكان يأمر حجابه بإحضار رءوس أبنائه الأربعة على أربعة أوعية على شكل صوان مصاغة من الذهب الإبريز ومغطاة بالرماد الذي تعتليه الرءوس باكيًا متحسرًا على مرأًى من الصديق: وا ندماه!

وهكذا تهاوى التَّبْع أسعد نهبًا لأحزانه الدفينة، حتى إنه — وعلى حد قول المقربين منه، ومنهم ما تبقى من ذريته، عمرو وحسان — لم يعد يقوى على إتيان الفعل ومعرفته.

– أين نحن؟

ومن هنا جاء اجتماع الأمراء التسعة الذين كانوا تحت إمرته، مطالبين بضرورة عمل شيء للخروج من ذلك المنزلق القاري الذي لا قبل لهم به، ولو استدعى الأمر ضرورة الانسحاب والعودة إلى ربوع اليمن، ما دام الملك — الغافل — أصبح لا يعي مجرد موقع جيشه من بحار بلاد الصين المتلاطمة، وما دامت الخسائر أصبحت تلاحقهم من كل حدب وصوب، «بل وتنشق الأرض عليهم انشقاقًا كل مطلع فجر وغروب.»

حتى إذا ما استقر رأي الأغلبية على ضرورة الانسحاب والعودة إلى جزيرة العرب وربوعها شمالًا وجنوبًا، لم يجد ولداه — عمرو وحسان — بُدًّا من تأييد قرار العودة، ودون حاجة لأوامر التَّبْع السقيم المريض.

فالأكثر حكمة في مثل هذا القرار، هو إنقاذ ما يمكن إنقاذه من مغانم تلك الحروب القارية التي طال أمدها في ربوع آسيا الوسطى والأناضول حتى مداخل الصين، والعودة بها إلى اليمن وجزيرة العرب.

كما أن الأكثر أهمية هو تقبل الأمر الواقع باحتضار «التَّبْع المتجبر» لدفن جثمانه واقفًا أو منتصبًا حسب وصيته بين رفات أجداده التَّبَاعِنَة، كما أشار في وصيته.

– لا تُضْجِعُوني فيَضْطَجِع مُلْكُكم، بل ادفنوني واقفًا ليظل مُلْكُكم شامِخًا.

ومن هنا أُعِدَّت المراكب تمهيدًا لرحلة العودة إلى ربوع جزيرة العرب وموانئها البحرية، فسيقت وحملت الغنائم والأسلاب، وحمل التَّبْع الراقد بعرشه ورءوس أبنائه القتلى وأسراه، وسجينه الملك الآسيوي مقطوع اللسان إلى ظهر السفن دون إعلامه «بقرار العودة والاندحار المفاجئ.»

وأقلعت السفن عائدة باتجاه المحيط الهندي وبحر العرب، يسبقها الرسل إلى ربوع الجزيرة العربية وكياناتها شمالًا وجنوبًا، إلى حضرموت وعدن وسبأ والحجاز وذي نسور.

فأقيمت الأفراح والزينات لاستقبال الرجال من المحاربين وعلى رأسهم التَّبْع اليمني الغازي أسعد وولداه عمرو وحسان.

وهكذا أفلح الجميع في إخفاء تحركات الجيش المنسحب العائد عن التَّبْع القائد رأس التحالف القبائلي العربي، إلى أن حطت السفن رحالها على شواطئ بحر العرب، وخرجت الجموع المنتظرة من زوجات وأمهات وأبناء وعجائز لاستقبال الرجال العائدين، حينئذٍ أدرك التَّبْع الراقد ما حدث.

فما كان منه إلا أن حل وثاق صديقه وأسيره الملك الآسيوي مقطوع اللسان وأكرم وفادته هو وأهل بيته.

– أنت الآن ضيفي، أيها الصديق.

وما إن انتهت مراسم توزيع الغنائم وأسلاب الحرب الطويلة المضنية على رءوس القبائل والعشائر والكيانات المشاركة التي أشرفت عليها الأميرة «البسوس» أخت التَّبْع المريض، حتى تفاقمت حالة الملك الصحية.

حتى إذا ما أدرك هو بدوره — أي التَّبْع — مدى اقتراب منيته، استدعى ابنه الأكبر حسان، ومضى يتطلع في وجهه طويلًا مسرًّا إليه في ضعف بوصيته الأخيرة قائلًا: اذهب إلى جبل «ضهر» بالقرب من صنعاء وأطرق باب سيدة الجبل بكهف «بنور»، وأبلغها باقتراب منيتي وموتي.

تنهد التَّبْع طويلًا في إعياء، وهو يجاهد في إطلاع ابنه الأكبر حسان اليماني على وصيته الأخيرة، وكان قد اصطفاه ليخلفه على عرش التَّبَاعِنَة — ملوك اليمن العظام — من بعده: لا تخبر أحدًا بما تسمعه أذناك مني، قبل أن تجتمع بسيدة جبل ضهر.

أشار مهددًا بطرف إصبعه: وفي كل ما تقوله لك، اسمع لقولها.

بدا وجه الملك التَّبْع الوالد أسعد، لابنه حسان واهنا متحسرًا كئيبًا تحت أنوار الشموع والقناديل.

ظهر له كمن يندب حاله وانقضاء أجله وهو يتمتم لنفسه: كل شيء احتلنا عليه، إلا الموت غلبنا.

وحين حاول حسان الاقتراب أكثر لإراحة رأس أبيه، اعترضه الأب مشيرًا عليه بلهجة التأكيد: اسمع لقولها.

وهو يعني بذلك سيدة جبل «ضهر».

أومأ حسان لوالده منسحبًا، مستديرًا باتجاه باب القاعة، لتقع عيناه على شقيقه الأصغر «عمرو» الذي بدا مأخوذًا مكفهرًّا من هول احتضار الوالد التَّبْع.

توقف حسان في مواجهته كمن يستطلع تعبيرات وجهه قائلًا لنفسه: «أتراه كان يسمع متلصصًا ما جرى بيني وبين أبينا.»

وحين حاول عمرو الإفلات من نظراته والدخول مستطلعًا حالة أبيه، اعترضه حسان مستديرًا مشيرًا إلى غطيطه الذي ارتفع شخيره قائلًا له: دعه ينام.

وهنا اندفع الأمير حسان كالتائه الغائب عن وعيه، من هول تلك اللحظة التي كأنها دهر بحاله، والتي أنصت فيها إلى وصية والده «التَّبْع المتجبر» متجولًا وحده داخل ردهات القصر الشاهقة، مبعدًا عنه كل من حاول الاقتراب منه مستفسرًا عن حالة الملك من أمراء وشيوخ قبائل ومستشارين.

كان كل ما يشغل بال حسان ويستولى على كل فكره وخلجاته، تلك المهام الجسام التي ستلقى على كتفيه والتي تتهاوى تحت ثقلها هامات أعلى الجبال قبل الرجال، وهي أن ينام الليل ويصحو، آخذًا مكان أبيه في قيادة تلك الجموع المتنافرة، من قبائل وأقوام، وأن يقتل ويغتال في وضح النهار دون أدنى رحمة.

تساءل: كيف؟

وهو الذي حاول جاهدًا طويلًا الابتعاد عن شهوة الحكم والتسلط، منشغلًا بقراءاته وأسفاره البعيدة، لكن دون طائل.

أعاد مسترجعًا كلمات أبيه، وذلك الوجه القبيح الكئيب، لسيدة جبل ضهر، كيف له أن يسلم أمره أو قياده لامرأة متوحشة قاسية الملامح، تقبع داخل كهفها أو جحرها كمثل حية رقطاء، «تتغذى بمخ البشر»، كما يقولون.

وكيف له أن يتقبل وصاياها ونصائحها.

– كارثة.

وقبل أن يفيق حسان من طلاسم أفكاره كانت الأصوات النائحة قد ارتفعت من كل جنبات القصر تندب موت والده التَّبْع أسعد.

وعلى الفور دوى قرع الطبول العملاقة من خارج القصر وأعلى سفوح الجبال المحيطة معلنة موت الملك التَّبْع أسعد، وكان صدى دوي الطبول يتردد في كل مكان كالهدير.

وسرى الخبر كالنار في الهشيم من مدينة إلى أخرى، ومن مضارب قبيلة إلى ما يجاورها، فارتفعت أصوات النساء النائحات وعقدت اللقاءات بين شيوخ القبائل وأمرائها، وارتفعت أصوات المنشدين بالأشعار الجنائزية التي تتحدث عن مآثر التَّبْع الراحل وطموحاته وفتوحاته التي لم تفت في عضدها سوى الخيانة التي تعرض لها من ذلك الدليل الآسيوي، بل لقد وصل الحماس والحنق ببعض الأمراء وشيوخ القبائل، إلى حد المطالبة بإحضار ذلك الدليل الآسيوي — مقطوع اللسان — والانتقام منه علنًا وعلى رءوس الأشهاد.

– اقتلوه، اقتلوه!

وهنا تدخل الأمير الوريث «حسان» حائلًا في حزم من وصول الجموع الثائرة التي امتلأت بها ساحات القصر إلى مطمورة ذلك الدليل الآسيوي لتصب عليه نقمتها دون رحمة؛ صارخًا بها: ارجعوا، حذار.

فما فائدة الانتقام؟ بعدما نفذ المكتوب وأصبح الملك التَّبْع جثة مسجاة ستُوارَى الثرى بعد لحظات.

بل إن الأمير حسان عاد مذكرًا الجموع المتزاحمة الغاضبة بمدى ما لحق بذلك الدليل الآسيوي سلفًا من عقاب، مشيرًا إلى إقدام والده الراحل على جز لسانه في إحدى نوبات غضبه منه، صارخًا: يكفي الآن ما هو فيه، أما الآن فهو ضيف حِمْيَر، أتسمعون!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤