الفصل الخامس عشر

مؤامرة ملك الحبشة لقتل ذو اليزن

ما إن رفع الملك أرعد طرف الستار المفضي إلى مخدع الجارية الباهرة الجمال والمتوقدة الذكاء «قمرية»، حتى أدركت من فورها ما يشغل فكره، كما عرفت مرماه من زيارته هذه لها.

هبت قمرية مبتسمة ومرحبة قائلة: التَّبْع اليمني الغازي، ذو اليزن، أليس كذلك؟

وقف الملك أرعد وواجهها مندهشًا، وسألها: من أخبَركِ؟

– عيناكَ.

– أجل يا قمرية؛ إنه ذو اليزن.

قاربها مفاتحًا إياها فيما يجول بخاطره مسلطًا عينيه في عينيها السوداوين الواسعتين المتوقدتي الذكاء اللتين تنطقان بالتحدي وتتجلى فيهما الفروسية.

ثم رفع ذراعه المغطى بأكمله بالأساور الذهبية، في ذات اللحظة التي أشارت إليه قمرية بالجلوس: استرح أيها الملك، لا تشغل بالك هكذا، فما من ليل دامس إلا ويعقبه نهار.

أعادت هي هذه المرة مواجهته والغوص في عينيه المثقلتين اللتين عاداهما النوم منذ زمن.

– لا تشغل بالك كثيرًا، فمن يدري ما يخبئه الغد؟ وحسنًا فعلت بزيارتي بعد طول غياب.

– كيف؟

أشارت إلى قارورة سمها الزعاف «ابن ساعته» الخضراء اللون، التي تخبئها بين جدائل شعرها الطويل الضارب الاحمرار: وكأنك كنت معنا يا قمرية!

– أنا دائمًا معك!

غمغم الملك أرعد شاردًا في استرخاء، محاولًا تبرير ما هو مقدم عليه ولو أدى الأمر إلى التضحية بأجمل وأذكى نسائه المقربات، موضع سره وشكواه وأدق أسراره وخباياه: ماذا أفعل، إن ذلك التَّبْع لا يصطحب معه مجرد جيش، بل أمة بأكملها، وأنا لا قِبل لي بمواجهته مفردًا وحدي، بعدما استسلم الجميع على النحو الذي تعرفينه.

قاربها أكثر في تودد: أتسمعينني، قمرية؟!

هب عن كرسيه متوقدًا بالحماس الذي ألهبت به قمرية رأسه وأعصابه بمجرد لقائه بها، وكأنما هي جيش بأكمله قد هب لمساندته وشد أزره في وحدته المريرة هذه: أنا لم أعد أحتمل وحدي ذلك الغباء والتكاسل والتخلف الذي تعيشه هذه البلدان والأقوام والقبائل على طول هذه القارة المسترخية السوداء، أبدًا لن أحتمل وحدي.

استدار مقاربًا قمرية كمثل طفل يبغي هدهدة أمه الحنون الدافئة: أن أخرج بجيشي للقاء ذلك التَّبْع اليمني وجيشه الذي يسد عين الشمس ذاتها وحدي؟!

واجهها في تلصص: ولعلك الأقدر على معرفة الأخطار التي جلبها ذو اليزن بنزوله وقبائله بلادنا.

كان الملك أرعد على دراية كاملة بمدى ما تتمتع به «قمرية» من قدرات سياسية لا تقف حدودها عند الحبشة والسودان وما حولهما من أقوام وكيانات، بل إن بصيرة الجارية الأعجمية المولد واهتماماتها، أكثر تطلعًا وطموحًا على الدوام، ولعلها ومنذ أن جيء بها من الأناضول إلى إثيوبيا، تحلم ولا تزال، باليوم الذي ترى فيه نفسها في ذروة السلطة والتسلط، تحيط بها هالات الشهرة والمجد أينما حلت.

وكثيرًا ما شاركها سيف أرعد حلمها الكبير هذا في التطلع، دون كلل، إلى ما وراء البحار.

قاربها سيف أرعد: ولا منقذ سواك يا قمريتي من هذه الكارثة. وأفضى إليها الملك الحبشي بتفاصيل خطته في التسلل — بقارورتها — إلى التَّبْع ومعها غالي الهدايا وثمينها من كل نوع وصنف: جمال وخيول وقطعان ضأن، ومال وذهب وفاخر الثياب وأبدع منتجات الحبشة، وختم كلامه لها قائلًا: ولعلك ستتكفلين بالباقي، في الوقت والمكان الذي تحددينه أنت يا قمرية، ولا أحد سواك.

وقضى الملك أرعد ليلته تلك، محذرًا قمرية من كارثة انكشاف الأمر — المؤامرة — الذي سينتهي حتمًا بضياع ملكه وملك آبائه وأجداده، بل ضياع أفريقيا بأكملها.

حذرها الملك مرارًا، من ضراوة انتقام التَّبْع ذو اليزن لو انكشف أمرهما، كما حدث مع ملك بعلبك الذي مات قتيلًا، حين نازله ذو اليزن وقطع رأسه، ودفنه بمهابة تليق بملك وصديق، وظل يبكيه على مرأًى من ذويه ومقربيه شهورًا.

كما حذرها الملك مطولًا — بخاصة — من مدى سحر ومنطق واتساع علم ذلك الملك ذو اليزن، الذي تلين له الأحجار قبل البشر، فلقد كان الملك على معرفة بمدى طموح تلك السيدة القوية ذات الشكيمة التي لا تقف مطامعها عند حد.

بل إن طموحها كثيرًا ما تجاوز طموحه، وهو الملك الحاكم للحبشة والسودان وأفريقيا الوسطى.

– حذار من سحر الكلمات.

فهي — قمرية — التي تتقن عن دراية العربية ولهجاتها المختلفة بدءًا من الجعزية — لهجة حضرموت — التي سبق لليمنيين نشرها بالحبشة، مرورًا بالآرامية، والقحطانية والحِمْيَرية والمعينية والسبئية، وهي لغات أولئك الأعراب الغزاة، بالإضافة إلى معرفتها ببقية اللهجات الأفريقية، من نيجرية وأمهرية وهررية.

وفي صبيحة اليوم التالي لاجتماع الملك أرعد بقمرية، كان قد أعد كل شيء ببالغ السرية والكتمان، ما بين قوافل الهدايا والعبيد والرسائل التي ستحملها الجارية — السفيرة قمرية — إلى حيث قصر الملك ذو اليزن بمدينته «أحمرا»، من قبل ملك الحبشة «سيف أرعد».

إلا أن قمرية لم يكن يغيب عليها عقد لقاء أكثر سرية بينها وبين الوزير «أبو ريفة» لاستجلاء أمر مهمتها هذه المحفوفة بالمخاطر.

وهنا لم يقصر الوزير — الحجازي — الحكيم، كلامه معها عند التحذير والنصائح، بل دعاها إلى الثقة عن يقين حقيقي بالملك ذو اليزن، لدرجة دفعت بالجارية — المغتالة أو المحتالة في ذات الوقت — إلى التروي مفكرة منبهرة من عمق تفكير ذلك الملك وسماحته، مما دفع بها دفعًا إلى التعجيل بمهمتها.

– فقط لكي أراه عن قرب، فلقد أصبحت مبهورة بما أسمعه عنه.

حتى إذا ما حان موعد الرحيل، ظلت طيلة الطريق الوعر الذي استغرق أيامًا، غارقة بكاملها في تصور شخصية وحضور ذلك الملك الباهر، الذي — وكما يشاع عنه — لم يقهر مظلومًا، أو يقف في صف الظلم والتسلط، ولم يكن يومًا من الضاربين أو الباطشين، رغم ما عُرِفَ عن أسلافه التَّبَاعِنَة من ظلم وتجبر.

حتى إذا ما حطت قافلتها مشرفة على عاصمة التَّبْع، العالية الأسوار وذات الأبراج والحصون والقصور، ورأت أنهارها الجارية وبساتينها وقبابها، تمنت الجارية، وبعدما استراحت نفسها، أن تقضي بقية حياتها هنا في أحمرا.

– يا للروعة! يا للبهاء!

بدت المدينة العالية الأبراج والحصون، التي صيغت قبابها من النحاس الأحمر القاني الاحمرار، في نظر قمرية، كمثل مدن الأساطير القديمة الغابرة التي سمعتها تروى على الشفاه.

وظهر لعينيها الذكيتين كل شيء متناسقًا: ألوان الواجهات الناصعة البياض والرسوم الجدارية التي تفيض تعبيرًا عن مراحل حياة الملك التَّبْع ذو اليزن والنقوش العربية المدونة على أصلب الأحجار والمعادن والجلود التي تزين الساحات والميادين والبساتين ودور العلم والأعلام، والأسواق الخاصة بكل ما تشتهيه الأنفس، من فاخر الديباج مثل أرجوان صور ونفائس فارس والهند، وتلك الحلي الذهبية والفضية التي تزين جيد النساء، مع أزيائهن الموشاة النفيسة.

كانت قمرية قد وصل بها الانبهار من مشاهد الحياة اليومية ﻟ «أحمرا»، إلى حد دفع بها إلى استعادة حلمها القديم من الثراء والتملك الذي لا يعرف له حد.

– أحمرا، يا حلمي القديم!

هنا أطلعت من خباء هودجها مشيرة إلى رئيس حرسها، مطالبة بالإبطاء حتى يتاح لها أن ترى كل شيء في المدينة وأن تملأ عينيها من جمالها، مستنشقة تلك العطور الذكية التي استرخت لها ملامحها، إلى حد أنساها كل توتر صاحب مهمتها العسيرة التي قدمت من أجلها وتحملت بسببها كل تلك المشاق.

تحسست قارورة سمومها التي خبأتها بين طيات شعرها العسجدي، متنهدة مشيحة ببصرها إلى حيث قصر التَّبْع ذو اليزن: وصلنا.

إلى أن حانت لحظة لقاء الملك التَّبْع ذو اليزن بجارية ملك الحبشة «سيف أرعد» عقب سلسلة طويلة من لقاءات رجاله بها لمعرفة غرضها من تلك الزيارة، وأخصهم وزيره الحكيم «يثرب»، الذي أشار عليه بمقابلتها بعدما أعجب بجمالها الباهر ورجاحة عقلها وفصاحتها: أشهد أنني لم ألتق قبلها بأروع وأفصح من تلك السيدة المتعالية المتوقدة الذكاء.

وكان أن أشار الملك ذو اليزن بإدخالها، حتى إذا ما تصافحا، وقدمت إليه قمرية رسائل ملك الحبشة، وفضها مسرعًا، قاربها مادًّا إليها يده في ثقة، مما دفع بها إلى التراجع، وهو يواصل الخطو باتجاهها مبتسمًا قليلًا، ثم اتجه بيده مشيرًا إلى جدائل شعرها العسجدي المنسدل، مما دفع بقمرية إلى أن ترفع يدها إلى شعرها، مخرجة من فورها قارورة السم الضاربة الاخضرار من بين جدائل شعرها حيث تخبئها.

– ها هي!

ناولتها له مطرقة مستسلمة في صمت حط عليها من بالغ انبهارها بالملك التَّبْع ذي اليزن.

– مولاي.

أجلسها الملك على مقربة من فرشه.

– استريحي.

وامتد الحديث بينهما صافيًا متوقدًا، دون أي شائبة أو خداع وكأنهما على معرفة وثيقة أحدهما بالآخر منذ زمن طويل.

تحادثا فيما يحدث ويجري على طول القارة السوداء بكياناتها وأقوامها المختلفة في مصر والمغرب الكبير والقرن الأفريقي ونيجيريا وبلاد الحبشة.

وأفاضت معه قمرية في حديث عميق عن الماء والتربة والأنهار وأخصها النيل كما استحوذت على إعجاب التَّبْع حين تعرج الحديث بينهما عن تباعنة اليمن واهتماماتهم بالسدود ومجاري الماء منذ «عبد شمس بن سبأ» وسده الشهير بسد مأرب.

كما تطابق رأيهما على كراهية الحروب والعدوان التي لا تحقق سوى قتل الأبرياء من الناس الآمنين.

– فيكفي الناس ما هم فيه من آلام وتطاحن يومي.

– أجل، أجل، فالحياة ذاتها تقتلنا يومًا إثر يوم.

إلى أن غيرت قمرية مجرى الحديث وأخذت تتطلع في عيني الملك في ثبات؛ قائلة: ما قبلت هذه المهمة — القذرة — إلا لكي أراك وأتحقق بنفسي بما سمعته عنك وعن سعة رحمتك.

ابتسم التَّبْع ذو اليزن: ماذا سمعتِ؟

قالت: سمعتُ ما يبهر أعداءك قبل محبيك.

زفر الملك مستريحًا: أحقًّا؟ أتصدقين؟

اندفعت قمرية من فورها جاثية منكبة عند ركبتيه، وتتطلع في انبهار من تواضعه الجم، فمد ذو اليزن يده إليها: اجلسي في بيتك، في هذا الكفاية.

وعم صمت ثقيل بينهما، ارتفعت فيه أصوات عزف موسيقى خافت وغناء من قاعة الطعام فدعاها التَّبْع إلى العشاء مكررًا: أنت في بيتك.

كان الملك التَّبْع ذو اليزن قد زاد من معرفته بها بعدما راقت في عينيه، محرزة من فورها مكانة في قلبه لم يسبق لامرأة أن بلغتها من قبل.

وكان الملك ذو اليزن قد أصبح في الفترات الأخيرة نهبًا للوحشة والانعزال، بعدما أحس مرضًا حاول جاهدًا كتمانه عن الجميع، خاصة وهو لم يخلف له وريثًا لعرش التَّبَاعِنَة.

لذا آثر كتمان آلامه وأحزانه، تحسبًا لمدى الأخطار التي يمكن أن تتفجر على طول مناطق حكمه ونفوذه المترامي، إذا ما أشيع وتواتر خبر مرضه المفاجئ وما ألم به.

– كارثة.

ومن هنا جاء وصول تلك السيدة الحكيمة الباهرة الجمال الذي يزينه عقل راجح وبعد بصيرة، متوافقًا كل التوفيق لما هو فيه.

– قمرية، جئتني في وقتك.

كان قد عقد العزم على الاقتران بها من دون تردد وقبل فوت الأوان.

– من يدري ما يخبئه الدهر؟

حتى إذا ما سنحت الفرصة للملك بعدما انقضى وقت العشاء، أفضى أثناءها ذو اليزن لوزيره المقرب «يثرب» بإحساسه نحو قمرية ورغبته المتأججة الطاغية للاقتران بها، رحب الوزير من فوره مباركًا في أقصى حماسه وسعادة.

وهكذا أقدم الملك التَّبْع ذو اليزن على الاقتران بقمرية بسرعة وعجل ليخلف منها وريثًا لعرش التَّبَاعِنَة.

– هيكل، وندعوه: «سيف».

وهو الملك الفاتح سيف بن ذي يزن، آخر الملوك التَّبَاعِنَة، الذي سُمِّيَ بأبي الأمصار، وحروبه وفتوحاته في أفريقيا والهند وبلاد الفرس.

وهو ما ستطالعنا سيرته، بالجزء الثاني من هذا الكتاب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤