الفصل التاسع عشر

قمرية تأخذ مكان ذو اليزن

ظهرت شجاعة الأميرة «قمرية» في تلك الحملة الانتقامية الضارية التي قادتها فجأة ودون سابق إعداد أو حتى مجرد التفكير في عواقبها، وذلك حين شاهدت بعينها مدى الخسة أو العدوان الأسود الذي استحال إليه ملك الأحباش «سيف أرعد»، حين سنحت فرصته بالانتقام مستغلًّا ما حط على الملك التَّبْع ذو اليزن من مرض ألزمه فراشه.

فما كان من ذلك «الأرعد»، إلا المبادرة بالشر والعدوان، إلى رفع راياته وبيارقه وإشهار سهامه في محاولة لإطباق الحصار على عاصمة التَّبَاعِنَة «أحمرا».

هنا لم يكن أمام قمرية سوى ارتداء عدة حرب ذو اليزن ووضع تاجه ودروعه وشاراته، وحمل حسامه، بعدما اتخذت كامل هيئته متنكرة وخروجها بالجيش لرد العدوان — الحبشي — وما يمثله من خطر محدق.

وحالف الحظ في مكيدتها الانتقامية تلك، ذلك أن عيون وبصاصي سيف أرعد، ما إن وقعت أبصارهم عليها على ذلك النحو، حتى تراجعوا من فورهم مندحرين، فارين بجلدهم مشيعين عبر كل مدينة ووطن وكيان، كيف أن التَّبْع اليمني: لم يمت، وهو يتقدم فيالق جيشه محاربًا وعلى رأسه تاج التَّبَاعِنَة.

وسرعان ما سرى الخبر متواترًا من كل مدينة إلى ما يتاخمها بأسرع من سريان النار في الهشيم.

– الملك التَّبْع معافًى يعتلي صهوة جواده، الشهباء، ويتقدم جيشه فاتحًا محاربًا.

وساد الذعر والفزع أول ما ساد فيالق وكتائب جيش الأحباش، فركضت فلولهم تسابق الرياح عائدة باتجاه إثيوبيا.

إلا أن «قمرية» واصلت زحفها موقعة الرعب والموت والدمار بهم، حتى إذا ما تراجعت جيوش الأحباش عابرة النيل، واصلت تعقبها لها على طول غاباته وجباله المشرفة، مستخدمة فرق النشابة التي كان يوليها الملك ذو اليزن رعايته الخاصة، بل وكثيرًا ما أوصاها هي ذاتها بهم.

– النشابة هم درعي الحامي.

فمضوا يمطرون جيش الأحباش الفارين المذعورين من أعلى قمم سفوح الجبال المحيطة دون رحمة، فلم يفلت منهم سوى القلة التي عادت بالخبر والهزيمة المروعة إلى عاصمة سيف أرعد «إثيوبيا» معلنة خداع الملك — أرعد — وافتراءه بادعائه موت التَّبْع، وها هو الملك التَّبْع يواصل بجيشه الباسل تقدمه إلى هنا.

– التَّبْع اليمني لم يمت، ها هو على ظهر الشهباء بعدما قتل وأسر معظم جيش الحبشة.

كانت الأميرة «قمرية» تحارب بضراوة فائقة مواصلة تقدمها مسرعة إلى أقصى حد، ذلك أنها كانت نهبًا للعديد من التوجسات العنيفة والمخاوف، سواء منها ما يتصل بصحة الملك ذي اليزن الطريح الفراش، أو ما يتصل بحملها وما في أحشائها منه، أو ما يتصل باتخاذها لقرار مصيري مثل قرار الحرب دون استشارته، ثم مدى ما سيحدثه مثل هذا القرار، حين يسمع به — ذو اليزن — فجأة ويعلم باختفائها عنه بضعة أيام قد تصل إلى أسابيع، دون مراعاة لآلام حملها وما يمكن أن يشكله هذا فعلًا من أخطار تتصل بوحيده الذي ينتظره ببالغ الصبر ونفاده.

– هيكل، سيف.

لذا، ما إن قاربت الانتهاء من مهمتها، إلى حد إجهادها، ثم انتصارها واقتحامها بجيشها حدود الحبشة وتوابعها ذاتها، حتى تملكها الإعياء الشديد.

– لنضع حدًّا للعدوان المبيت علينا من سيف أرعد الجبان.

إلا أن الوزير «يثرب» آثر الاكتفاء هذه المرة بما تحقق من انتصار، تخوفًا مما هي عليه من حمل، وقبل أن تودي الحرب وعنفوانها بما في بطنها، وتخوفًا بالطبع على حياة التَّبْع المريض المتردية.

– ففي هذا الكفاية للأحباش وملكهم.

وكان حقًّا ما نطق به الوزير «يثرب»، ذلك أن سيف أرعد ما إن وصلته الأخبار بعدم صحة موت التَّبْع ذو اليزن، وخروجه لإفناء جيشه وضراوة المعارك التي قاربت حدود بلاده ذاتها، حتى تولاه الجنون، فمضى يصرخ من أعماقه، لوزيره سقرديون وبقية وزرائه ومستشاريه وحلفائه على طول غرب وجنوب أفريقيا، غير مصدقٍ ما يحدث ويجري ويقع من هزائم واندحارات.

وكالعادة صب سيف أرعد، حمم غضبه وسبابه على رأس وزيره — الشرير — سقرديون ومشورته.

– الحقوا، مات التَّبْع اليمني، يا للأكاذيب!

أعاد صراخه وثورته في وجه سقرديون: ها هو التَّبْع اليمني يدق الأبواب أبوابنا ذاتها، مخادعنا، إثيوبيا يا سقرديون!

واجهه محتدًّا: على هذا النحو يصل خداعك حتى لي أنا، كأنك إنما تود إفناء جيشي وتودي بعرش آبائي وأجدادي ذاتهم المنحدرين من صلب يهوذا.

واصل تحديه على مرأًى من الجميع.

– اخرج إليه، اخرج لمواجهته يا سقرديون العجوز، اخرج إذن لملاقاة ذو اليزن، اخرج!

ومن جانبه حاول الوزير العاقل — الحجازي المولد — المدعو «أبو الريف»، التدخل لتهدئة ثائرة الملك «سيف أرعد» قائلًا: من المفيد في مثل هذه المواقف العسيرة ضبط النفس، والأكثر إفادة هو الاستفادة من أخطائنا؛ فالكذب لا قوام له.

وناشد وزير الميمنة «أبو الريف» الملك وجميع حلفائه التروي وضبط النفس، بدلًا من الافتراء والكذب والعدوان.

ثم مضى فطمأن الجميع بعودة الجيش العربي إلى العاصمة — أحمرا — بحسب ما تلقاه من تقارير رجاله الأخيرة.

ولم يكن الوزير أبو الريف كاذبًا فيما ادعاه ودفع به إلى «سيف أرعد» في محاولة لإعادة الاطمئنان إلى الجميع.

ذلك أن قمرية آثرت العودة مسرعة ما أمكنها إلى أحمرا، بهدف إنقاذ ما يمكن إنقاذه سواء بالنسبة إلى ملازمتها لزوجها ذو اليزن المريض، أو حفاظًا على ما في أحشائها منه.

لذا جدت السير ما أمكنها بصحبة الوزير يثرب وكوكبة من أخلص الحراس مسرعين متلهفين عبر طريق العودة للاطمئنان على صحة التَّبْع وما حدث له في غيبتهم خلال الأسابيع الأخيرة، التي استغرقتها هذه الحملة التأديبية، التي لم يكن هناك من مهرب من القيام بها.

ولكم ودت «قمرية» من أعماق قلبها مواصلة التقدم وملاحقة انتصارها لاقتحام بلاد الأحباش ذاتها وعاصمتها والتخلص من ذلك الطور الشرير — سيف أرعد — الذي لم تكن تحمل له يومًا سوى الكره، ولكم ودت أيضًا من قلبها أن تذيقه هو ذاته سمها الزعاف، بدلًا من الملك ذو اليزن الذي أسرها أسرًا لا فلات منه منذ لحظة لقائهما به.

كانت وهي لا تزال تقطع الطريق عائدة إلى أحمرا نهبًا للعديد من الأحاسيس والهواجس العاصفة التي تعتمل دون هوادة في مخيلتها.

وكانت كلما بالغت أكثر في الإسراع، تضاعفت مخاوف الوزير «يثرب» على جنينها، فما من شيء سيضاعف من مرض وآلام التَّبْع ذو اليزن، سوى سماعه بفقدانها وليدها وهو يعاني على فراشه أقرب إلى المحتضر منه إلى المريض.

أما قمرية، فلم تكن على أقل وعي ودراية بذلك الانتصار الساحق الذي أحدثته على جيش الأحباش، لتأمين حدود عاصمة التَّبَاعِنَة، ودرء كل الأخطار عن الملك المسجى الذي صرعه ذلك الداء العضال الذي ألم به وهو لم يتخط بعد مرحلة شبابه ونضوج عطائه.

– ذلك الطحلب المتسلق الشرير، أرعد.

تساءلت وهي مشرفة على تخوم «أحمرا»: الغريب أن ذو اليزن لم يتحرك حتى لمجرد الانتقام منها عقب اكتشافه لمؤامرة اغتياله، حين اتخذ منها — سيف أرعد — مجرد أداة ومخلب نمر لتنفيذ أطماعه وأحقاده السوداء.

بصقت معاينه وهي تطلق العنان لحصانها الشهباء.

– لا مكان يقف فيه ذلك الأرعد الخسيس، سوى العتمة والتآمر.

مضت تتوعده: لكن سيجيء يومه القريب، إن لم يكن من ذو اليزن، فمني أنا، أجل يا أرعد سيجيء يومك.

مضت رغم معاناتها الثقيلة، تقطع الروابي والسهول والجبال، عابرة الأنهار، مقتحمة أعتى الغابات التي لم تطرقها قبل قدم، لاختصار طريق العودة إلى حيث الملك المريض مطلقة من جانب آخر العنان لأفكارها وأمانيها في كسر شوكة سيف أرعد المشهرة على الدوام ضد العرب والعجم على السواء.

فلكم تمنت أن تمكنها الأيام منه لتشرب من دمه.

– هل سيجيء هذا اليوم يا أرعد؟

وكانت خطتها تتركز في قطع الطريق على جيوشه وأذرعه الطويلة التي توصلت اليوم إلى صعيد مصر العدية والسودان والمغرب الكبير والقرن الأفريقي وكل أواسط أفريقية، في غيبة عن ذي اليزن بسبب كارثة مرضه الأخيرة التي استغلها أرعد حتى العظم.

ووصل بقمرية الفرح مداه، حين توقفت لتتجرع رشفة لبن وبضع ثمرات، فأحست بمولودها يتحرك في أحشائها.

– سيف، ولدي!

وتصورت من فورها فرح التَّبْع حين يصغي لها وهي تسرد عليه تفاصيل ما حدث، حتى إذا ما سألها عن وحيده، أجابت: ها هو قوي معافًى مثلك، ويمكن لك أن تسمعه بأذنيك، اسمع، اسمع.

وما إن قاربها يثرب، حتى حادثته من فورها بهذا الخاطر، وكيف أن جنينها الذي أكمل شهره السادس اليوم، لا يزال حيًّا معافًى في بطنها، غمغم الوزير هاتفًا في فرح: هيكل.

ضحكت من أعماقها: سيف.

وما إن أشرفا على مدينة — أحمرا — مع الغروب حتى فتحت المدينة عن آخرها أبوابها النحاسية، ووصلهما هتاف وتكبير الآلاف المؤلفة، عاليًا يصم الآذان تمجيدًا لاستقبال «الملك» الفاتح المنتصر وعودته مظفرًا.

وما إن جاست خيولهما عابرة أبواب النصر المزدانة بالورود والرياحين، والجماهير على الجانبين تجثو إلى حيث يخطو «الملك» المنتصر، حتى تحسست «قمرية» لحيتها معتدلة على ظهر الشهباء، متخذة هيئة ذو اليزن تحت دروعه وخوذته، تحيط بها أعلامه وبيارقه المسدلة، بينما العيون المبتهجة المهللة بالنصر والظفر لا تصدق ما تشهده وهي تدعو للملك التَّبْع ذي اليزن، بطول العمر والنصر أبد الدهر.

واندفعت هي — متنكرة — محيية الجميع من كل جانب وصوب باتجاه القصر الحصين، وقد أدار النصر رأسها.

حتى إذا ما شارفت ساحات القصر ذاته، تعمدت أن تكمل دورها في اتخاذها هيئة الملك ذي اليزن، عابرة الساحات الجانبية والمداخل الخلفية للقصر، مدعية للجميع إرهاقها وحاجتها إلى الراحة، مستعينة بإشارات اليد بدلًا من النطق والكلام، إلى أن انفلتت مسرعة داخلة من سراديب القصر الخفية، متجهة من فورها بكامل هيئتها وتنكرها صوب جناح مخدعها، وما إن انفتح باب المخدع، حتى توقفت في إعياء، مستندة على أحد الأعمدة المرمرية، ثم جثت على ركبتيها وهي تخفي ما بها، مرجعة ما تناولته من طعام، ولحقت بها جواريها في محاولة لمساعدتها.

– ذو اليزن، حبي.

نهضت في تراخٍ طويل، لا تدري ما بها إلى أن تتمالك نفسها فخطت مسرعة إلى حيث جناح الملك، وقبل أن تجرؤ على فتح باب المخدع الغربي، تصفحت الوجوه المحيطة من حولها مستطلعة.

– ما الخبر؟

وتقدمت قمرية في صمت ثقيل من الفراش في محاولة لعدم إيقاظ ذو اليزن من سباته وغفوته.

وما إن امتدت يدها في حرص كاشفة الغطاء عن وجه الملك التَّبْع ذو اليزن، ومالت عليه لاثمة متحسسة أنفاسه حتى استدارت باحثة عن الوزير يثرب، الذي سرعان ما قاربها بدوره مذهولًا ممتقع الوجه: نائم؟

وما إن كشفا من جديد الغطاء معًا عن وجه الملك المستكين الهادئ الصافي الملامح، حتى صرخت قمرية: مات! مات … ذو اليزن!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤