الفصل السادس والعشرون

سيف يفك حصار مدينة أفراح

اضطر سيف بن ذي يزن إلى مناوأة أمه قمرية والضرب بقرارها المستسلم ضد الأحباش والخروج عليه، كما اضطر إلى إحداث ذلك الصدع أو الانقسام في صفوف «جيش التَّبَاعِنَة».

حيث آثرت فيالق الملكة الأم البقاء في أحمرا؛ امتثالًا لقرارها بعدم إعلان الحرب، مما أجبره على الخروج وحده بجيشه القليل العدد والعدة، تجاه مملكة أفراح لتخليص أسر محاربتها التي عانت طويلًا، وهي زوجته وزميلة كفاحه وطفولته وصباه: شامة.

وهي — شامة — التي تفتحت عيناه عليها يلعبان ويلهوان ويدرسان معًا، حتى إذا ما شَبَّا عن طَوْقِهما على كراهية سيف أرعد ملك الحبشة لكل ما هو عربي وعبوديته للآخرين، توقد حبهما على وهج المعارك المستعرة التي خاضاها ضده، مما اضطر شامة، وهي الفتاة، أن تخرج على إرادة والدها ملك أفراح بالسير في طريقه، بل والانتماء بكاملها إليه إلى حد هروبها مع سيف إلى اليمن وجزيرة العرب، ليعقد قرانه عليها رسميًّا بين الأهل والعشائر، وها هي شامة ترزح وحدها في قيود وأسر أرعد، كان سيف بن ذي يزن يعتلي رأس جنده وألويته غاضبًا عاقدًا العزم منذ أن لفظته بوابات أحمرا على التوجه هو وجنوده إلى المشرق الأفريقي، وهو لا يزال يلقي باللوم على نفسه لتردده الطويل أمام رغبات أمه قمرية — التي عارضت الإسراع بالخروج لاستكمال المعارك السابقة الموءودة أو المجهضة — عشية وضع الملكة خاتم ملك التَّبَاعِنَة على اتفاقات الهند الملفقة الأخيرة مع ملك الأحباش سيف أرعد قائلة: تكفي أرض هذه البلاد ما رَشَفَتْه من دماء عربية، لم يَجِف تَقَيُّحُها بعد.

اندفع التَّبْع الشاب، ينهب الأرض بجبالها وأخاديدها وشلالاتها وبواديها وغاباتها المأهولة بقطعان الحيوانات والطيور وزواحف الأرض ما بين الأيائل البرية والضباع وأبناء آوى التي تعارف العرب على تسمية الواحد منها بأبي الحصين.

وكانت قطعان الحَمِير الوحشية والسناجب والقردة بأشكالها وفصائلها وممارستها عبر البراري، بأحجامها المختلفة المنتصبة على قوائمها، والتي تلفت النظر بأشكالها الغريبة وتصرفاتها العجيبة، وهي تقتات من غريب الشجر والثمر والزهور البرية التي لا يحدها البصر، بألوانها وتكويناتها من صفراء وحمراء وقرمزية وخضراء وسوداء وعسجدية، كشعر شامة المسترسل الأحمر.

وكان أكثر ما يثير مخيلة جنوده، فيتندرون به عبر زحفهم ورؤياهم لمجتمعات القردة العملاقة التي يسمونها «بالغيلان»، وكيف أنها كانت تشعل النار وتضرمها بالنفط في حروبها وغاراتها الوحشية، إلى درجة دفعت بسيف أرعد إلى ترويضها ومحالفتها وتدريبها، والدفع بها كتائب إثر كتائب ضد العرب كمحاربين مرتزقة بلا هوية، قد أضناها الجوع لتنهشهم وتأكلهم أكلًا.

– شامة … كيف لي أن أتخلى عنك؟

واصل سيف اليزن زحفه متشحًا أردية وبيارق التَّبَاعِنَة وتاجهم المتوارث — علنًا — وعلى طول البلدان الأفريقية، حتى تلك الموالية منها لمملكة — ويمكن القول إمبراطورية — الحبشة وملكها المتسلط الذي أعماه التعصب ضد العرب سيف أرعد.

حتى إذا ما تسلل داخلًا إلى أراضي أفراح الشاهقة واصل زحفه بجيشه باتجاه عاصمتها لفك الحصار عن شامة.

– لكم عانت طويلًا معه عبر رحلة نضالهما التي لم تترك لهما متنفسًا للعيش ولو لفترة قصيرة كزوجين، بعدما عاشا مرحلة الطفولة ووهج الشباب معًا كصديقين متلازمين.

وشق سيف بن ذي يزن طريقه بحد السيف موقعًا بقادة وأبطال الأحباش، ميمنة وميسرة إلى حيث قصر شامة الشامخ المتعالي المحاط من جهاته الأربع بغابات الأشجار العملاقة المشتعلة كجهنم ذاتها من حوله وخلفه ومشرقه ومغربه التي كان يطلقها جيش الأحباش والغيلان.

ففك حصار القصر في ذات اللحظة التي حرك فيها أنصاره حرب الأنهار التي يجيدها منذ الصغر، فخفتت الحرائق لحظة عبوره كالبرق الخاطف إلى قصر شامة، المفضي بدوره إلى السراديب والمخابئ المتناهية الصعود والهبوط والالتفاف، واستطاع بعد جهد الوصول إلى شامة التي أخذته بالأحضان وهي تصرخ بسرور: تأخرت سيف.

أشارت من فورها إلى الخارج عبر كوات السراديب المحكمة التحصين؛ قائلة بتوتر: انظر جهنم.

وهالها في التو ما يحدث، فلول الأحباش وهي تلقي أسلحتها فارة ومذعورة إثر قياداتها التي كانت تولي الأدبار بدورها عبر الأفق البعيد، لتنجو بجلدها — الأسود — وقبل أي شيء من مجرد مقدم سيف بن ذي يزن ورجاله.

وشاع خبر وصوله مع رجاله على أفواه ومسامع الجميع في تواتر جاء إيقاعه بمختلف اللغات واللهجات والنبرات.

– التَّبْع المنتظر … سيف.

– تبع حِمْيَر الجديد العائد … هيكل … سيف.

وفرحت شامة واحمرت وجنتاها في براءة، وتزاحم الجميع على الشرفات التي انتزعت «ستائرها وكل ساتر» لمشاهدة ذلك المشهد، الذي تذكر سيف أنه تكرر مرة أمام عيني أمه قمرية، ومع ذلك لم تهبه ثقتها بعد.

– الملكة لا تعرفني؛ أمي، من حبلت بي!

غمغم سيف بن ذي يزن لنفسه غائبًا عن نفسه ذاتها، وهو يشارك شامة وبقية حاميتها ما يحدث من ذعر وشتات لجيش الأحباش على طول البراري ومتعرجات السهول الممتدة على مدى النظر، وهي تنهب بأقدامها العارية الأرض نهبًا صارخة في فزع جماعي: التَّبْع المائي.

ضاحكته شامة فرحة وهي تراقبه من تحت أهدابها متنفسة أخيرًا الصعداء: نأخذ نفسنا لحظة الليلة!

– أحقًّا يا شامة؟ اعذريني يا حبيبتي، فلعل فيما سمعتِه الكفاية.

وكان يعني بهذا خلافه مع والدته، إلا أن شامة أخرجته من هواجسه جاذبة: ليس هناك أعذب من هذا.

اندفعت مشيرة بكل ذراعها المغطى بالدروع المصاغة من الذهب الإبريزي القاني الاحمرار: النصر.

– رد العدوان … الظلم.

ولعل مساء ذلك اليوم المتأخر شهد حبهما نهايته السعيدة.

– الحرية.

وفي تلك الليلة حملت شامة من سيف بن ذي يزن، بالوريث الجديد لعرش التَّبَاعِنَة الذي لُقِّبَ فيما بعد باسم أجداده السالفين.

– دمر؛ أي المدمر لأعدائه، ومؤنث الاسم هو «تدمر» وهي الملكة تدمر السابقة على بلقيس ملكة سبأ.

ولم يسترح سيف بن ذي يزن في أحضان ودفء زوجته المحبة — شامة — طويلًا، فسرعان ما استجمع طاقات محاربيه، باتجاه سد الطرق والمنافذ على جيش الأحباش وقبل أن تستطلع فلولهم إثيوبيا عائدة مندحرة.

إلا أن سيف أرعد وجدها — باستشارة وزيره سقرديون — فرصة سانحة للعودة باتجاه عاصمة التَّبَاعِنَة ذاتها «أحمرا» خاصة وسيف اليزن بعيد عنها، والملكة قمرية والدته قد أصبحت في سنواتها الأخيرة منهكة إثر الحروب وأعمال الحصار التي نفذها سيف أرعد بها.

حتى إذا ما نفذ ملك الأحباش غايته، وأوقع الحصار والخسائر بأحمرا مضرمًا نيرانه في مدنها ومضاربها وقراها جُنَّ جنونُ الملكة فخرجت لملاقاته متعثرة، بعدما شق عليها الاستنجاد بابنها — هيكل — خاصة بعدما تخلت عنه في المرة السابقة، بحجة أن الأحباش الذين «سعوا وحفوا وراء عقد الهدنة طويلًا لن يخرقوها بسهولة هذه المرة.»

لكنها ندمت بعد فوات الأوان، وبعدما استباحت جيوش الأحباش المدينة بخدعة هدفها مباغتة المملكة وتدميرها حرقًا وغرقًا وحربًا من كل صوب وفي آن واحد.

ورغم صمود قمرية بعدما أعماها الغضب وأخرجها عن كل طور إلا أنها عانت الكثير في حصارها المباغت ذاك.

ووصل بها الغضب والرغبة الدامية في الانتقام إلى حد تحمل أقسى الويلات فوق كاهلها دون أن تجرؤ على الإرسال برسلها طالبة العون والمساندة من ابنها فلذة كبدها.

– لن يحدث، لن أنحني.

إلا أن سيف بن ذي يزن لم يطق صبرًا عندما علم وتيقن بما حدث، فاستجمع قواته مقررًا التخلي عن شامة التي تحولت بهجتها إلى أسًى وحرارة لافتقاد سيف زوجها من جديد، من يدري ما تخبئه الأيام والليالي الحبلى بكل عنف وانتقام بسبب ويلات عدوان الأحباش وحلفائهم التي لا تعرف مراعاة لهدنة أو اتفاق.

لذا قررت شامة مصاحبته بجهودها رغم أنها كانت تعاني من آلام الحمل الثقيلة التي آثرت إخفاءها عن زوجها.

هنا رفض سيف بإصرار مصاحبتها وكان يترقب على أحر من الجمر ما في بطنها: دمر.

بل أصر على بقاء حاميتهم وبقايا فلول جيش أفراح، الذي كان سيف أرعد قد أتى على معظمه ولم يبقَ من قادته البواسل سوى «الميمون» وهو أمير أفريقي أثبت عبر منازلاته وحربه ضد الأحباش بطولات أصبحت توقع الرعب بين صفوفهم، وخاصة في قلب سيف أرعد ملكهم ذاته الذي كان قد اصطحب معه في حربه هذه ضد عاصمة التَّبَاعِنَة — أحمرا — قائدين كبيرين بفيالقهما المحاربة أولهما ويدعى «ميهوب» واشتهر بلقب «سياس الثلاثي»؛ ذلك لأنه كان يقطع رقاب ثلاثة من أعدائه بضربة واحدة من سيفه، والقائد الثاني ويدعى «دمنهور الوحشي».

لذا استعصى القتال طويلًا على سيف بن ذي يزن، واستمر حصار المدينة مطولًا؛ مما أفزع والدته قمرية، وأخرجها عن طورها مرارًا، مواصلة تنازلاتها لسيف أرعد والأحباش؛ مما دفع بسيف بن ذي يزن إلى المبادرة بمكاتبتها مطالبًا إياها مراعاته ومراعاة تواجده — تحت راياتها — وعدم التسرع في اتخاذ قراراتها.

– المفردة المتسرعة.

أما شامة فقد أزعجها بدورها ما انتهى إليه سير المعارك وضراوتها في أحمرا، فأرسلت إليه بقائدها «الميمون» وفيالقه.

فما كان من سيف بن ذي يزن سوى التشدد في مواجهة الأحباش وتحدي أبطالها منشدًا:

أخوض بحر المنايا وهو معتكر
وأرمي قلوب العدا بالرعب والجزع
أعشق في الشتا سوق المنايا
كذلك في الربيع وفي الصيافي
ألا فأخبروا عني الملوك لأنني
إذا ازدحموا في الحرب يوم هياجها
فاثبت اليوم يا أمير لحربي
إن تكن جاهلًا بضرب سهام.

وهكذا تحدى سيف بن ذي يزن القائد حلفاء الأحباش «سياس الثلاثي» ونازله بضعة أيام متتالية إلى أن أضعف ساعده، وبدلًا من أن يقطع رأسه حين تمكن منه، أبقى عليه وأخذه أسيرًا بفيالقه.

مما ضاعف من مخاوف الأحباش وملكهم أرعد فتشددوا عليه من كل جانب بينما هو — أي سيف — يواصل تحديه قائلًا بأعلى صوت وهو يصول ويجول من فوق رءوس الجبال: من عرفني فقد اكتفى، إلى أن سنحت له فرصة منازلة كبير قواد جيش الأحباش «دمنهور الوحشي» وفعل به كما فعل بالسابق، حين استحوذ عليه — وجنده — أسيرًا بدلًا من سفك دمه.

ثم كر سيف بن ذي يزن عائدًا منتصرًا إلى أقوامه مجللًا ومخضبًا بالنصر، كمثل أرجوان أحمر قانٍ.

بينما جن جنون سيف أرعد ووزيره الشرير سقرديون، وهما يشهدان سير المعارك من حول أحمرا، ومدى ما أصبح يحرزه ذلك التَّبْع الجديد من إضعاف لصفوفهم باستحواذه على حلفائهم — أي حلفاء الأحباش — حتى بدا الأمر أقرب إلى انفراط عقاله.

وهنا لم يجد ملك الأحباش سيف أرعد مخرجًا سوى التراجع بجنوده منسحبًا باتجاه الحبشة؛ تخوفًا من أحابيل سيف اليزن المباغتة بالالتفاف من خلفه وسبقه بجيوشه إلى إثيوبيا.

إلا أن سيف بن ذي يزن بوغت بالأخبار التي حملها إليه تابعه «عيروض» عن ذلك المرض العضال الذي حط فجأة على كاهل أمه — قمرية — وألزمها الفراش طيلة الشهور الأخيرة التي شهدت معاركه الطاحنة، والذي آثر الجميع وعلى رأسهم الملكة ذاتها إخفاءه عنه.

ومن فوره هرع سيف بن ذي يزن فزعًا متسللًا سرًّا لزيارة أمه.

حتى إذا ما قارب فراشها منحنيًا لاثمًا جبينها هاله ما وصلت إليه حالتها من تدهور شديد.

فتحت عينيها في تثاقل محتضنة رأس ابنها مغمغمة: سيف … ولدي، لم أفرح بك لحظة منذ مولدك.

كل أم … هيكل.

اندفع هو منكبًّا لاثمًا وجهها وراحة يديها في تلهف.

– أمي الحبيبة، سندخل إثيوبيا جنبًا إلى جنب قريبًا، لتعتلي أنت عرشها.

ابتسمت في وهن، وأسبلت عينيها كطفلة، وغابت في سباتها العميق لاقطة آخر أنفاسها على أصداء ذلك الحلم.

– متى … ولدي سيف هيكل؟!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤