الفصل السابع والعشرون

موت قمرية

حطت الأحزان الثقيلة على سيف بن ذي يزن عقب موت أمه — قمرية — الذي جاءه نبؤُها صادمًا مفاجئًا، وهو الذي لم تمكنه الأحداث والمعارك والعمليات العدائية — الحبشية — المتوالية بلا رحمة أو توقف من النشوء والعيش في أحضانها واكتساب حنانها ومعرفتها عن قرب.

تملكته الأحزان العميقة، إلى درجة لم تسمح له بتذوق عذوبة نصره الأخير على الأحباش وملكهم سيف أرعد الذين عادوا مهزومين منسحبين لمجرد إشاعته — أي سيف اليزن — لنبأ غير صحيح، وهو أنه سيفاجئهم بين لحظة وأخرى بدخوله وجيشه إثيوبيا ذاتها.

وجرت مراسم دفن الملكة الأم قمرية في عجلة؛ نظرًا إلى ظروف الحرب إلى جانب زوجها التَّبْع الراحل ذو اليزن حسب وصيتها هي، أي قمرية.

– ادفنوني عند موضع قدميه.

إلا أن تدفق الحياة بمرها وحلوها، سرعان ما أعاد البهجة إلى قلب التَّبْع الشاب، حين وصلته مكاتبات زوجته الحبيبة شامة، وكان قد تخلى عنها — مجبرًا — وهي حامل في شهرها الثالث لكي يخوض معارك «عاصمة التَّبَاعِنَة».

– دمر … بكري.

جاءته أخبار شامة مستبشرة ذات صباح مشرق تحمل إليه وضعها لمولدهما الأول.

– دمر.

فقرر من فوره القيام بزيارة سرية خاطفة لملكة أفراح، لرؤية مولوده الجديد، وشامة التي اشتاق إليها سيف بن ذي يزن زوجته — ملكة أفراح — شامة، حين اندفع إليها منكبًا مقبلًا حاملًا من فوره ابنه مستطلع شامة — أو حسنة — التَّبَاعِنَة التي تعلو جبينه وأسر إليها قائلًا: مرحبًا بالتَّبْع المنتظر، دمر ولدي.

وضحكت شامة من شغاف قلبها وهي تنفض عنها أغطيتها، هاشة لاستقباله: حرب … حرب، أما من لحظة راحة … حب.

مضيا يتأملان الغلام الوليد في حب على ضوء الشموع العملاقة إلى أن أمسكت شامة بساعدي سيف وهي تهمس له بحنان؛ قائلة: كنت سأجيء، كنت أحلم بلحظة لقائي بوالدتنا الراحلة — قمرية — لكن.

– أعرف، أعرف يا شامة يا حبيبتي.

واستقر سيف بن ذي يزن لفترة في بلاد زوجته شامة، معطيًا بعض وقته لمولوده الجديد، الذي دفع دفئًا متدفق الحماس فيه، وهو الذي تربى في ربوع ومنافي هذه البلاد يتيمًا معوزًا.

إلا أن عين سيف اليزن لم تغفل لحظة عن عاصمة التَّبَاعِنَة «أحمرا» ولا عن ربوع اليمن والجزيرة والقرن الأفريقي وبعض بلدان المغرب الكبير وديار مصر — العليا — التي كانت موالية للعرب والبيت اليمني الحاكم آنذاك.

فكان دائم الترحال ما بين أفراح وأحمرا، بعدما تمكن من تأمين الطريق بين العاصمتين، فلم يعد بمقدور الأحباش قطع مسالكه وفرض نفوذهم كما كان في السابق.

بل ورغم ذلك لم يتوانَ سيف بن يزن عن استكمال توحيد فيالق وكتائب وأولوية جيشه الجديد خاصة بعدما وافت المنية أمه؛ تمهيدًا للوثوب المباغت على إثيوبيا ذاتها.

– وحتى يهدأ البال، باستئصال أصل الداء ومنبته، إثيوبيا.

وهو ما أصبح على يقين منه ملك الحبشة سيف أرعد ذاته، وبالتحديد عقب سماعه لموت قمرية، وتفرد ابنها سيف بالقرار، فضلًا عن عامل اللائقة والمخاوف السائدة بينهما؛ أي بين سيف أرعد وسيف اليزن، فكيف للذئب إذن أن يصفو للغنم، وهو في نظر سيف أرعد.

– الابن البكر لقمرية الأذية!

فلعل فرصة التَّبْع الجديد سيف اليزن الآن أكثر اتساعًا وبراحًا من أي وقت وظرف مضيا.

غمغم سيف أرعد لنفسه وهو يراقب مياه البحر المتلاطمة في الأفق أمام عينيه الخائبتين.

– لدخول تبع حِمْيَر إثيوبيا؛ ليقطع رأسي.

وكما لو أن ملك الأحباش يستشف مستقبلًا جليًّا واضح الرؤية بقوله ذاك.

ذلك أن الطريق أصبح مفتوحًا بالفعل أمام سيف بن ذي يزن لاقتحام عرش يهوذا، والانتقام من أرعد وريث ذلك العرش المعادي للعرب على الدوام.

ذلك أن وفدًا من أهل مصر تصدرته أميرة مصرية باهرة الجمال تدعى «منية النفوس» زار التَّبْع سيف بن ذي يزن، وهم يشتكون له من معاملة ملك الحبشة لهم وعدم الإنصات لمطلبهم في حصة ماء النيل الذي منعه عنهم سيف أرعد، تنكيلًا وانتقامًا منه لعدم مناصرته في حربه ضد التَّبَاعِنَة.

وكانوا قد لجئوا إلى سيف اليزن، لإنصافهم ومساندتهم، خاصة وقد عمت شهرته الآفاق حول معرفته الواسعة وتحكمه في مياه النيل ومجراه بدءًا بمنابعه وحتى مصبه.

فما كان من سيف اليزن، إلا أن قطع على نفسه أمامهم عهدًا بالقضاء على أصل الداء وتخليص الجميع من سيف أرعد وشروره، وإعادة المياه لهم ولجيرانهم السودانيين الذين كانوا قد جاءوه أيضًا بخصوص هذا الشأن المحزن المؤلم الذي يستهدف نشر المجاعة والعطش.

– حياة الناس.

وهكذا أعد سيف اليزن عدته وجيشه الموحد، وسار يطلب بلاد الحبشة إلى أن دخل إثيوبيا، وأسر سيف أرعد وعزله مُنَصِّبًا بدلًا منه ابنه «مقلقل» الأصغر على عرش يهوذا.

وما إن استقر حكم التَّبَاعِنَة في الحبشة حتى عاد الملك سيف إلى أحمرا التي خرجت وفودها لاستقباله وقد زينت المدينة كمثل عروس تلهج بالثناء والدعاء له.

وشارك وفد مصر باحتفالات انتصار التَّبْع سيف بن ذي يزن على سيف أرعد وأسره، كما شاركت «منية النفوس» الملك سيف حفلات نصره منبهرة إلى أقصى حد.

وكانت قد راقت في عينيه، فآثر الزواج — السياسي — منها، ليخلف منها ولده الذي سماه تيمنًا «مصر».

– فكانت أولى واجبات سيف بن ذي يزن، إعادة تدفق ماء النيل شريان أفريقيا آمنًا حتى مصبه الأخير بمصر العدية، مما أوصل شعبيته وحب الناس له والتفافهم حوله وتحت راياته إلى أقصى مداه.

وهكذا دخل الملك سيف مصر زائرًا بصحبة زوجته الأميرة المصرية «منية النفوس» وابنهما «مصر» فاسْتُقْبِلَ استقبال الفاتحين، مما حدا به إلى الاستقرار بين ربوعها وبين أهاليها طويلًا؛ فزار إخميم وأسوان — وسدها الكبير — كما زار إسنا وأسيوط ومنفلوط وملوي، وأقام طويلًا بمدن مصر الوسطى، فزار أهناسيا المدينة، وحلوان والجيزة وقلعة الجبل والروضة وبولاق، وحتى القرى الصغيرة والحواري — مثل حارة الوطاويط — التي لم تخل من ذاكرته.

وزار بلاد الشام التي رحبت به بدورها فاتحة له ذراعيها فنصب ابنه «دمر» من زوجته الأولى — شامة — على حكم الشام وفلسطين، واتخذ دمر عاصمة حكمه بسورية العليا، في مدينة بانياس المتاخمة للاذقية.

وكان سيف بن ذي يزن، كأبيه محبًّا للعزلة، والانكباب على القراءة والعلم والكتابة، خاصة في مواضيع «الماء والتربة» وما يتبعهما من مشاريع عمرانية وزراعية من سدود ومصارف وخزانات هدفها الاخضرار والنمو.

كما كان الملك سيف كثير الأسفار والتنقلات التي يجريها في سرية؛ حيث كان يتنكر بأزياء الناس العاديين من فلاحين ونوتية وطلبة وعلماء وشعراء جوالين، وساسة الخيول العربية، وأطباء القرى وشيوخ القبائل والطهاة والمغربلين والمشعوذين؛ ليتعرف أحوال الناس.

وكان يتقن تقمص شخصيات هذه المهن عن دراية، بما يحقق له الوقوف على نبض الناس وقضاياهم ومشاكلهم، والإسهام فيما بعد في حلها عبر حكمه المتناهي على امتداد ربوع الجزيرة العربية والشام ومصر والسودان وعاصمة التَّبَاعِنَة أحمرا، والعديد من البلاد الأفريقية، إن لم تكن أفريقيا بكاملها، عقب وضع يده على الحبشة، وما كان يتبعها من الأقوام والكيانات والقبائل.

إلا أن كل هذه المهام وغيرها كانت تدفع به على الدوام إلى تحسس الأخطار وأعمال العدوان المبيتة ضده، كتَبْع أو رمز عربي، يَسْتَهْدِفُ أول ما يَستهدف.

– العدل وخير الناس.

وكانت الأخطار تجيء هذه المرة من الأناضول وآسيا الصغرى ومسبوتاميا أو ما بين الرافدين، ومن بلاد الفرس.

لذا ادعى الملك سيف عقب استتبابه في حكم مصر والشام للمحيطين به أنه يعد العدة للعودة إلى اليمن وفلسطين: للبحث عن كنوز «الملك سليمان» وجدتنا «بلقيس ملكة سبأ».

حتى إذا ما انقطعت أخباره، في آسيا والهند وبلاد الفرس التي دخلها سرًّا لاستطلاع النوايا المبيتة ضد مصر والعرب، واصل غوصه في متاهات الحياة الشعبية لبسطاء الناس.

ومن فوره لم يتوانَ عن الإرسال برسله إلى ولديه «دمر» بالشام و«مصر» بديار مصر — الذي وُلِّيَ حكم مصر في غيبته — آمرًا إياهما بتجهيز حملة كبيرة طابعها الأعم «أن تكون بحرية»، وحين عاد إلى مصر التي كان قد اتخذ منها عاصمة لملكه المترامي، اصطحب جيشه ليحارب في الهند وبلاد الفرس.

– إلى أن تمكن من قتل «الكسرى» الملقب «بصارخ البهلوان» مجهضًا عدوانه المبيت ضد مصر والعرب من جانب الفرس وأكاسرتهم.

خاصة وقد سبق للفرس دخولها — أي مصر — عن طريق واحة سيوة بالخداع والمناورة وبقوا بها ردحًا طويلًا من الزمن.

وعاد سيف بن ذي يزن إلى مصر مظفرًا فاسْتُقْبِل استقبال الفاتحين من جانب فئات المصريين الذين قدموا من كل صوب للمشاركة في احتفالات النصر على العدوان المبيت ضدهم من جانب الفرس.

ففي مصر العدية ارتفعت شعبية الملك سيف بن ذي يزن، وهو الذي سبق أن أنقذهم من عدوهم المتجبر ملك الأحباش سيف أرعد، قاطع ماء النيل وها هو يتصدى للغزاة الجدد من الفرس فيرحل إليهم بجيشه الكبير لينقل المعارك الطاحنة إلى ديارهم وحصونهم ويعود مظفرًا بالنصر.

– أبو الأمصار.

حتى إذا ما انتهى سيف بن ذي يزن من تحييده للعدوان — الفارسي — المبيت، عاوده صفاؤه فانكب على كتاب النيل، مجريًا أنهاره وسدوده وخزاناته في كل أنحاء البلاد، في الدلتا والصعيد ومصر والوسطى، فعم الرخاء البلاد، بعدما تزايد ارتفاع منسوب ماء النيل.

وتم التحكم في تخزين وتصريف المياه بما يحقق الاخضرار والنمو.

ورغم ذلك لم يتوانَ سيف بن ذي يزن عن تقديم كل رعاية لجيشه الموحد، الذي انتظم المصريون تحت لوائه جنبًا إلى جنب مع عرب الجزيرة العربية، والأفارقة والمغاربة، ومن هنا فقد أطلق عليه المصريون لقب: أبو الجيوش.

فكان يجري تدريباته بجبل المقطم الذي عرف جزؤه الأعلى بجبل الجيوش نسبة إلى الملك سيف، وذلك تحسبًا لأي عدوان قد يجيء يومًا من جانب الأحباش، أو من جانب الفرس، خاصة الذين كانوا طوال حياته لا يأمن جانبهم وأطماعهم رغم انتصاره الأخير عليهم وقتله الكسرى الملقب بالبهلوان، وتعيينه واليًا عربيًّا على خراسان.

فكان الملك التَّبْع سيف بن ذي يزن، أول من فرض على المصريين نظام التجنيد الإجباري، وإعداد العدة لبناء جيش لا يقوم في معظمه على المرتزقة، بل على المصريين أنفسهم، جنبًا إلى جنب مع جيشه هو أي سيف — الذي أبقى على بعضه في عاصمة التَّبَاعِنَة أحمرا — بأفريقيا.

وكان يحضر بنفسه تدريبات جيشه محاطًا بكبار قادته ومستشاريه، وأخصهم الأمير الأفريقي الذي أصبح مقربًا منه — الميمون — والذي كان قد بعثت به زوجته — شامة — ليعضد من ساعده في حروبه ضد الأحباش، فيما بعد بالكثير من المهام الجسيمة، ومنها حربه الأخيرة في خراسان، حتى إن سيف بن ذي يزن امتدحه قائلًا: الميمون هو ساعدي الضارب.

إلا أن الميمون عاد من تلك الحملة ضد الفرس جريحًا ينزف من أثر إصابته البليغة من جراء منازلاته ومعاركه ضد «صارخ البهلوان» الفارسي، مما أوغر صدر الملك سيف ضده، إلى حد منازلته هو بنفسه في خراسان وقتله وفرض الجزية على قومه.

واستقدم الملك سيف لقائده المسجى — الميمون — أشهر حكماء وأطباء عصره من الشام والهند ومصر للإشراف على علاجه، وكان لا يكف عن زياراته له رغم مهامه الكثيرة، خاصة بالنسبة إلى تلك الأحداث المستجدة التي اندلعت في كثير من مناطق «موطن التَّبَاعِنَة» في اليمن والجنوب العربي، مطالبة بضرورة عودة تبع حِمْيَر للإقامة الدائمة باليمن، وليس في مصر أو أفريقيا.

وهي الفتنة التي لجأ إليها الفرس، وأضرموا لهيبها على طول مناطق اليمن والجنوب، في عدن وحضرموت وصنعاء وسبأ وذي رعين، وحتى يثرب شمالًا، وذلك لكي يرغموا التَّبْع على التخلي عن حكم مصر واتخاذه عاصمة جديدة للتباعنة، بما يسهل عليهم إعادة حكمها.

مما دفع بسيف بن ذي يزن، إلى إجراء أكثر من زيارة — سرية — إلى جزيرة العرب، مبصرًا بأخطار الفتنة الجديدة ذاكرًا ومشيرًا إلى أن: الخطر على العرب وبلدانهم وأقوامهم واحد، ولا مهرب منه.

وأنهى زيارته للجزيرة العربية، واعدًا بعدم التخلي عن موطن التَّبَاعِنَة.

إلا أنه ما إن عاد إلى مصر، حتى صدمته الأخبار الجديدة بانقضاء أجل قائده المقرب «الميمون» في غيبته، فبكاه طويلًا.

ومن فوره أرسل برسله ليخبر زوجته ورفيقة صباه «شامة» بالنبأ الفادح، خاصة وهو يعرف مدى تعلقها وتبجيلها لذلك القائد الأفريقي نصير العرب.

– الميمون، الطيب الذكر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤