الفصل التاسع

اغتيال الصحصاح ابن التَّبْع حسان

على ذلك النحو المأساوي، جاء ذلك العرس الدامي الذي أقامه التَّبْع حسان اليماني لزواجه من الجليلة بنت مرة، والذي فيه قطع كُلَيْب الفلسطيني رأس التَّبْع، بعد أن أمهله لإنشاد مرثيته الشهيرة التي اعترف فيها، بكُلَيْب وطراده:

أمير كُلَيْب يا فارس ربيعة
يا حامي النسا يوم الطراد.

وهي المرثية التي حملت عبر العصور بإضافات الرواة لما يعرف «بالتراكم الملحمي».

ففيها يتضح أن التَّبْع القتيل كان على دراية بمصيره الدامي:

وعندي قد تبين بالملاحم
بأنك قاتلي دون العباد
وبعدي شاعرة تنزل عليكم
وعبدي يذبحك بين الجماد.

ويبدو أن التَّبْع يعني بالشاعرة، عمته الشاعرة المنتقمة «البسوس» حينما يصلها خبر اغتياله بيد كُلَيْب في ربوع الشام، كما أن هذه المرثية، كشفت أبعاد المستقبل السياسي لبلدان الشرق الأردني القديم، مبشرة بالدور الفاتح الكبير الذي سيضطلع به ذلك الطفل الرضيع — ذو اليزن — ابن أخيه عمرو الذي سبق للتبع حسان قتله التزامًا بالوصية، كما ذكر في مرثيته التراجيدية الكبرى على مرأًى من الجليلة المتآمرة:

وسيف ذو يزن بعدك يظهر
تصحبه السعادة في العباد
ويبقى ملكه سبعين عامًا
وبعد ذلك يُطوي في الوهاد
ويظهر له ولد يدعوه «دمر»
شديد البأس مرفوع العماد
فيملك في بلاد الشام بعده
يجلب الماء من أقصى البلاد.

وهو ما حدث في أعقاب مقتل التَّبْع حسان، وتشتيت فصائل بني ربيعة التغلبيين لجيش الملك حسان من اليمنيين، إلى أن اتخذ كُلَيْب مكانه، معلنًا نفسه على رءوس الأشهاد أنه «التَّبْع الجديد» مشهرًا رأس التَّبْع الغازي حسان، وعقد قرانه على حبيبته «الجليلة بنت مرة» التي قاسمته مخاطرة ما أقدم عليه، متسميًا بكُلَيْب «ملك العرب والعجم».

لكن ما إن تواتر خبر مقتل الملك التَّبْع حسان اليماني وشاع، من موطن إلى آخر ووصل أسماع عمته «الشاعرة البسوس»، حتى شقت ثيابها من هول النبأ الفادح وجسامته، وهي التي لم تبرأ بعد مما حدث وألم بوالدهما — التَّبْع أسعد — وانتهى بموته كمدًا وغمًّا واندحارًا.

هنا تخلت البسوس عن كل شيء حتى ذلك الغلام الصغير الذي كانت انتزعته من أمه الحجازية زوجة «عمرو» عقب قتل أخيه حسان له، والملقب بذو اليزن.

وقررت من فورها المناداة في أقوامها اليمنيين بالانتقام وأخذ الثأر، من التغلبيين والفلسطينيين وآل مرة — اللبنانيين — في آن واحد، بل ومن كل الذين دبروا تلك المؤامرة الغادرة على ذلك النحو الغادر الأليم.

– يا للدناءة، يا لثارات حسان!

وعلى الفور قرعت طبول الحرب والانتقام العملاقة — الرجروج — على طول أقوام اليمن والخليج العربي، معلنة الخبر الفادح، والاستعداد للخروج والقتال انتقامًا لدم التَّبْع المسفوح على ربى دمشق وبيروت والبقاع.

وحين حاول «ذو اليزن» الصبي، الإلمام بما جرى، وأخبرته عمة أبيه البسوس نادبة الحدث، أبدى الصغير استعداده لمصاحبتها في حربها.

إلا أن البسوس نكبت أكثر حين جاءتها الأخبار بما حدث لجيش التَّبْع وفيالقه التي نجح التغلبيون في إفناء بعضه، وتشتيت الجزء الأكبر منه، في أكبر كارثة انتقامية تعرض لها عرش التَّبَاعِنَة، منذ التَّبْع حميد بن عبد شمس الملقب بسبأ.

وهكذا لم يعد يجدي الإسراع بإعداد ما يلزم من عتاد وسفن إبحار، قادرة على الردع، قبل أن يبرد ويجف دم التَّبْع القتيل بين قبائله وأقوامه.

فحتى ابنه «الصحصاح» الذي كان قد أخذ مكان أبيه في حكم اليمن، بدا عاجزًا إزاء فداحة الكارثة التي حلت بالتَّبْع وجنوده في ربوع الشام وفلسطين والبقاع.

ورغم ذلك ظلت البسوس لا هدف لها سوى الانتقام الأسود على ما حل بابن أخيها مهما طال الأمد.

– أبدًا، لن تخبو نيران قلبي، إلا وكُلَيْب ممدد مقطوع الرأس بيد عبدي هذا.

بل هي مضت تصب لعنتها على كل من تقاعس أو تكاسل في الحرب وأخذ الثأر للحِمْيَريين المنكوبين، نتيجة الغدر والخيانة.

– الدس في المضاجع.

وكانت كلما تدافعت إلى قصرها وفود المعزين، التهبت نيران أحقادها أكثر وأكثر، مهددة: ألم يعد هناك رجال في حِمْيَر؟ أين الرجال؟ أين؟

الآن جاء دور النساء، ولا غيرهن.

إلا أن المصائب وتوقيتها لم تمهل البسوس؛ إذ سرعان ما تواترت الأخبار بمقتل «الصحصاح» ابن أخيها حسان ذاته، ليلحق بأبيه في قصره المنعزل على أيدي حلفاء التغلبيين الفلسطينيين والدمشقيين وعيونهم الذين أصبحوا يتطلعون إلى ربوع اليمن ذاته.

– النكبة ذاتها.

وهكذا انفرط لوهلة، عقد حِمْيَر، وأصبح يدعو إلى كل مخاطر وتخوف ورثاء، مما دفع بالبسوس وشيوخ القبائل إلى التعجيل برأب الصدع، والبحث المضني، قبل أي شيء، عن مخرج من أهوال تلك الكارثة التي حلت دفعة واحدة بعرش التَّبَاعِنَة.

هنا تطلعت الأنظار لتحط على رأس «ذو اليزن» الصبي الذي لم يكن ساعتها قد بلغ الحادية عشرة من عمره، إلا أنه كان منذ صغره متماسكًا يحوي حكمة الكبار، وتنبئ ملامحه عن البأس الذي عرف عن التَّبَاعِنَة، منذ عبد شمس أو «سبأ».

وعلى الفور أجمعت الآراء على المنقذ الجديد وهو «ذو اليزن» ابن عمرو — المغدور — الذي اشتهر ﺑ «مزيقيا» أو الممزق، ليعتلي عرش التَّبَاعِنَة في تلك السن المبكرة، إنقاذًا لليمن والجنوب العربي، بل وجزيرة العرب بأكملها وهي على تلك الحال من التفكك والاضطراب.

فجرت مراسيم تنصيب الملك الجديد ذو اليزن خافتة مبسطة من دون احتفالات وصخب وقرع طبول الرجروج، وذلك بسبب الحزن الذي أَلَمَّ بالجميع عندما علموا بمصرع التَّبْع حسان وولده الصحصاح، ولما ألم بعرش التَّبَاعِنَة.

وهكذا قُدِّرَ لذو اليزن الذي وُلِدَ وتربى يتيمًا في كنف البسوس التي كانت قد اقتنصته اقتناصًا من بين أحضان أمه، التي فرت بجلدها عائدة إلى قومها بالحجاز، عقب قتل التَّبْع حسان لزوجها والد الطفل.

بعدها استماتت البسوس في اغتصاب الطفل الرضيع — ذو اليزن — من بين أحضان أمه ودفعت به إلى كبار المربين والحكماء ومعلمي الفروسية لينمو ويشب، متمرسًا عن جدارة لحكم «حِمْيَر» وما يدور في فلكها من أقوام.

وها هي قد حانت فرصتها سانحة، حين وضعت بيديها الاثنتين تاج التَّبَاعِنَة على رأس «ذي اليزن»، عبر طقوس الأحزان الجنائزية التي صاحبت مراسم حفل تتويج التَّبْع الجديد.

– ذو اليزن.

حتى إذا ما انتهت عمة أبيه البسوس من ذلك تفرغت من فورها مبيتة وعاقدة النية على الانتقام لمقتل التَّبْع حسان، حتى ولو استدعى الأمر اللجوء إلى المكائد والفتن واستخدام كل أساليب المناورة والخداع المؤدية إلى تحقيق أغراضها وغاياتها في الانتقام الأسود لدم التَّبْع المهدور.

فهو ذاته الأسلوب — الدنيء — الذي لجأ إليه التغلبيون وحلفاؤهم «آل مرة» لقتل الملك التَّبْع ليلة عرسه بدمشق.

فكانت كلما استمعت إلى تفاصيل المكيدة التي أودت بحياة التَّبْع حسان، من عيونها وبصاصيها — شهود العيان — داخل قصر التَّبْع، اشتعلت أكثر نيران حقدها وتأججت إلى حد أنها أصبحت لا تنام الليل.

– يا لها من خيانة بشعة!

بل إن نسج الأقاويل والشائعات حول تفاصيل ما حدث تلك الليلة المشئومة داخل قصور الشام ولبنان، وصل بكامله إلى سمعها، ممهدًا لها طريق خطتها الجديدة في الانتقام على ذات النمط «والوتيرة» التي أنهت حياة ابن أخيها وفي عقبه ابنه الصحصاح، وكاد أن يصل الأمر بعرش التَّبَاعِنَة إلى نقطة التأزم واللاعودة.

– الخراب.

ومن هنا كان لجوء «الأميرة البسوس» إلى الحرب على ذات الوتر، أي وتر الخداع والتآمر وإيقاع الفتن والتحريض، وكل ما من شأنه تقويض أركان بيت بني مرة وبني ربيعة.

وفي مثل هذه الحالة، فمن هو أجدر من البسوس وأكثر باعًا وعمقًا وأغوارًا في اختلاق مختلف صنوف فن الإيقاع، وفي زرع البغضاء والأحقاد وشراء الذمم.

– من هو الأجدر في حِمْيَر لها؟!

فلا حد ولا نهاية لقدرتها هذه بالإضافة إلى ثرائها وسطوتها التي غدت مضرب الأمثال، بما يتيح لها استئجار أو استخدام البصاصين والملفقين من بلاد الشام وفلسطين طولًا وعرضًا.

يضاف إلى كل ذلك قدرتها على الحديث والإقناع وهي الشاعرة العريقة صاحبة المعلقات والمحرضات والموثبات والمراثي والمدائح.

فمن غير البسوس يمكن له أن يتفرد متفوقًا في أسلوب حرب المخادعة والإيقاع المفضي إلى كل دمار، تعجز عنه أعتى الأسلحة والرجال؟

ومن هنا فكبوة حِمْيَر ودم التَّبْع القتيل لن يأخذ بثأره غيرها، خاصة وبعد محصلة المعلومات والشواهد التي جمعتها جاهدة من مدن الشام وبواديه قبل حضره ومدنه، وبخاصة أخبار ووقائع ذلك التحالف الجديد بين آل مرة في لبنان، وبين التغلبيين الفلسطينيين، عقب زواج التَّبْع الجديد، كُلَيْب، بالجليلة بنت مرة، ووراثة عرش حِمْيَر نهارًا جهارًا.

ثم ذلك الاستحواذ الجائر من جانب «كُلَيْب» الذي أصبح يتسمى متعاليًا ﺑ: «ملك العرب والعجم»، ممسكًا بمقاليد السلطة والتسلط على حلفائه اللبنانيين؛ مما أوغر قلوب الأخيرين عليه، باعتباره لم يرع الاتفاق الضمني السابق لدى اغتيال التَّبْع.

بل إن الأخبار والأقاويل وصلت إلى أذني البسوس مبالغًا فيها إلى حد معرفتها الدقيقة بتفاصيل الصراع الوليد الخفي المتفاقم بين كُلَيْب وأخي زوجته الجليلة المدعو «جساس بن مرة».

وكيف أن الجليلة أصبحت نهبًا لذلك الصراع بين زوجها وشقيقها، محاولة بكل ما أوتيت من رجاحة عقل، رأب ذلك الصدع الجديد المهدد بين قبائل زوجها، وقبيلتها هي — آل مرة — وحتى لا ينتهي الأمر بها إلى ضياع كل شيء.

وهي التي حلمت طويلًا وصبرت إلى أن أوصلها طموحها إلى التربع على ذروة السلطة في دمشق وفلسطين وتوابعهما.

ووسط خضم تلك المسالك والمتعرجات والقسمات الواضحة السمات واصلت البسوس — أو سعاد — تحركاتها ورسم أبعاد خطتها الدامية، للانتقال بثروتها من خيول وجمال ورءوس أغنام وأموال، بالإضافة إلى كوكبة حرسها وأهل بيتها إلى ربوع الشام ولبنان.

إلا أنها تمهلت وأخرت تنفيذ خطتها ورحيلها، حين وصلتها أخبار جديدة، تلقتها من رسلها مستبشرة غير مصدقة، حتى إنها خلعت على الرسل، الذي حملوا إليها هذه الأخبار، الكثير من الأموال والهدايا.

ذلك أن والي التَّبْع القتيل حسان على عدن وحضرموت والمدعو بالأمير «عمران القصير»، وصل به الغضب والضيق من مكيدة مصرع التَّبْع حسان بالشام وفلسطين على ذلك النحو الغادر، إلى أقصى مداه، فجهز من فوره جيشه وفيالقه استعدادًا للإبحار إلى تلك البلاد ومحاربة التغلبيين من بني ربيعة وحلفائهم، انتقامًا لما حدث وألم بالتَّبْع الذبيح.

حتى إذا ما وصلت الأخبار إلى التَّبْع الجديد — كُلَيْب بن ربيعة — عن تلك الاستعدادات التي يجريها «عمران القصير» بعدن وحضرموت، استنفر من فوره قومه، لأهمية وضرورة التنبه لما يحدث، وقبل أن «تقع الفأس في الرأس»، وتسقط البلاد في أيدي تباعنة اليمن مرة ثانية.

وهكذا خرج كُلَيْب في كامل عدته وعتاده للقاء جيش عمران القصير الذي جاءهم بجيشه منتقمًا هذه المرة.

والتقى الجيشان واشتعلت لهيب الحرب، «حتى عظمت الأهوال، وظل كُلَيْب يفتك بهم وبأفيالهم وبفرسانهم كمثل ليث ضار، إلى أن تمكن من منازلة قائد اليمانية ذاته — عمران القصير — أيامًا طوالًا، فظلا في حرب وقتال، إلى أن أرداه كُلَيْب صريعًا.»

وعاد كُلَيْب راجعًا إلى الشام، فدخلها «كالبازك»، أو كمثل صقر محاط بالعز والنصر.

وهنا لم تجد «البسوس» لها منفذًا، سوى مواصلة استعداداتها للانتقام الأسود المبيت سرًّا!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤