الفصل الرابع

الأبطال المقدَّسون: التقليد الملحمي

ماذا كان يفعل ثمانون مليون هنديًّا في الساعة التاسعة والنصف من صبيحة كل يوم أحد في عام ١٩٨٧؟

لقد كانوا يجلسون في منازلهم أو مقاهيهم — أو أي مكان يوجد به تليفزيون — لمشاهدة الدراما المليئة بالأحداث الخاصة بالإله راما وزوجته سيتا وأخيه لاكشمانا في الملحمة التليفزيونية «رامايان». لم يسأم أحدٌ منها، على الرغم من معرفتهم المسبقة للقصة. وفي الواقع، عندما انتهت حلقات المسلسل في البداية بعد ٥٢ أسبوعًا، وصل الأمر ببعض المتفرجين إلى الإضراب عن العمل مطالبين بإنتاج المزيد من الحلقات لاستكمال القصة (وأُنتِجت بالفعل ٢٦ حلقة أخرى). وفي مناسبة أخرى قبل نهاية المسلسل بفترة قصيرة، وعندما كان الشرير رافانا على وشك أن يُقتَل، قطع المُعجَبون بالمسلسل رحلات طويلة وصولًا إلى الاستوديو التليفزيوني الذي يصوَّر فيه المسلسل للمناشدة بالعفو عنه. لم يكن المسلسل عرضًا عاديًّا يتناول مشاكل الحياة اليومية، وإنما كان ظاهرة مقدسة مثلما وصفه مخرجه الذي صار شهيرًا الآن، راماناند ساجار؛ فقد بثَّ إلهامًا بالتعبُّد واسعَ الانتشار، بل وشعورًا مؤقتًا أيضًا بالوحدة الوطنية؛ إذ ضمَّ طاقم التمثيل والمتفرجين؛ سيخًا ومسلمين وهندوسًا. كان أشبه بالعرض الطقسي منه بالسرد التليفزيوني؛ فاخْتِير الممثلون وصُمِّمت الملابس والحوار والديكور والمؤثرات الخاصة للإيحاء بعالَم سماويٍّ، لا بشري. وصار الممثلون يُعرَّفون بالآلهة والشياطين الذين مثَّلوا شخصياتهم، وصار الناس يلمسون أقدامهم ويطلبون البركة منهم.

fig6
شكل ٤-١: راما وسيتا في معالجة قناة دوردارشان التليفزيونية لملحمة «رامايانا».

هذه القصة الهندية الشهيرة عن راما، التي رويت وتُذكِّرت وأُعيدت روايتها على مدار ما يزيد عن ألفين وخمسمائة من السنين، معروفةً لكل الهندوس ولعدد هائل من الناس الآخرين حول العالم؛ يسمعها الأطفال الهندوس الصغار من آبائهم أو أقاربهم، ويتعلَّمها الأطفال في المدارس عندما يحين عيد ديفالي، ويسمعها القرويُّون من الرواة أو يَرَوْنها تُعرَض على المسرح الشعبي (رامليلا) وفي عروض العرائس، واليوم صار بإمكان مَن لديه منهم أجهزة تليفزيون وفيديو تشغيل المسلسلات المفضلة لديهم حول هذه الملحمة وإعادة تشغيلها أكثر من مرة.

على الرغم من الاندهاش الذي أصاب المتابعين بسبب النجاح الاستثنائيِّ الذي حقَّقه مسلسل «رامايان» التليفزيوني، بل ومَدْحهم له أيضًا لتمكُّنه من تقديم موضوع ديني ومسائل أخلاقية لهذا العدد الهائل من الجماهير عبر وسط تجاري؛ فقد تعرض لبعض الانتقادات. وكان النقد موجَّهًا للإفراط العاطفي في المسلسل، والتعصُّب الجنسيِّ، والافتقار إلى الدقة، والأخلاقيات المُبالَغ فيها. واحتقر البعض روح الإذعان القومي التي بدا أن المسلسل كان يسعى لخلقها. ولعل أهم الانتقادات من جانب مَن أكدوا على الأهمية الدينية للمسلسل هو أنه قد تبنَّى رواية معينة للقصة وما يرتبط بها من قِيَم وأفكار.

ربما توجد الآلاف من الروايات لملحمة «رامايانا» أو قصة راما. وأكثرها شهرة هي الرواية المنسوبة لفالميكي التي نقلها إليه الحكيم نارادا، لكن هناك العديد من الروايات الأخرى المكتوبة، بالإضافة إلى عدد لا يُحصَى من الروايات الشفهية. وتركِّز هذه الروايات على شخصيات مختلفة؛ فالكثير منها يركِّز على راما نفسه بينما تركِّز أخرى على سيتا. ويركِّز بعض الروايات على الشيطان رافانا، ولا تصوِّره كشخصية شريرة، وإنما كشخصية قوية وشجاعة، وربما تعرَّضت أيضًا للتضليل، بل وتصوِّره أيضًا كبطل شرير أو ثائر ملتزم. ولقد تُرجمت هذه الملحمة لعشرات اللغات، وتمَّ تمثيلها في دول جنوب شرق آسيا وشبه القارة الهندية. فهل الروايات والأنواع الفنية المختلفة والمتعددة التي نُقِلت من خلالها قصة راما تشير إلى تنوُّع أكثر عمقًا؛ تنوُّع في التقاليد والمجتمعات والممارسات الهندوسية، تنوُّع في أشكال «الهندوسية» ذاتها، التي يرتبط بعضها ببعض ارتباطًا ضعيفًا من خلال خطٍّ سرديٍّ ما؟ عليك الانتظار حتى الفصل الأخير من هذا الكتاب لمعرفة الإجابة عن هذا السؤال.

في جزء لاحق من هذا الفصل، ثم في الفصل السابع، سنطَّلِع على أهمية التقليد الملحمي الهندي من خلال التعرُّف على الكيفية التي فَهمت واستَخدمت بها الجماعاتُ المختلفةُ شخصياتِ ملحمةِ «رامايانا» وأفعالهم. لكننا في البداية سنطرح مقدمة للقصة ذاتها، وفيما يلي ملخص للأحداث الرئيسية للرواية الشهيرة المنسوبة لفالميكي.

(١) نبذة سريعة عن ملحمة «رامايانا»

بفضل التضحية، رُزِق داشاراثا مَلِك أيوديا بعدَّة أبناء من زوجاته الثلاث، وكان راما، أكبر هؤلاء الأبناء وأكثرهم شعبية بين مواطني أيوديا، هو الذي سيخلف أباه على العرش. لكن زوجة أبيه كايكي، خوفًا منها على نفسها وعلى ابنها بهاراتا، حصلتْ على وعْد من داشاراثا بنفي راما إلى الغابة وتنصيب بهاراتا حاكمًا. ووافق راما على الذهاب إلى الغابة؛ طاعةً منه لطلب والده المُكرَه. وطلبتْ سيتا، زوجةُ راما المخلِصة التي فاز بها في مسابقة للقوة، وكذلك أخوه الأصغر المخلِص لاكشمانا، السماحَ لهما بمصاحبة راما. تركوا المدينة، وتبعهما بهاراتا بعد فترة قصيرة راجيًا من راما العودة، لكن راما ما كان لينقض وعدَه. فعاد بهاراتا إلى أيوديا، ووضع خُفَّي راما على العرش، وحكم بصفته وصيًّا على العرش في غياب راما.

استقر راما وسيتا ولاكشمانا في صومعة بعد تجوُّلهم في الغابة الجميلة والتقائهم بسكَّانها الزهَّاد. واكتشفتْ وجودَهم هناك أختُ الشيطان رافانا، التي حاولتْ إغواء راما وتدمير سيتا. وبعد أن جُرِحت على يد لاكشمانا، أسرعت إلى أخيها القوي، حاكم لانكا، وأخبرتْه بما حدث. وقرر رافانا اختطاف سيتا بعد أن أثار مشاعرَه الحديثُ عن جمالها. وبمساعدة شيطان آخَر، تمكَّن من إلْهاء الأخوَيْن عن طريق التجسد في صورة غزال، اختطف رافانا سيتا بعد أن تنكَّر في صورة رجل تقيٍّ. وأخذها إلى مدينته في لانكا.

استعان راما ولاكشمانا بالقِرَدة للعثور على سيتا وتحريرها. في البداية، ساعد راما القردَ الأمير، سوجريفا، الذي كان يمرُّ بموقف مشابِه لموقفه، فأرسل سوجريفا قِرَدته بحثًا عن سيتا، وعثر عليها القرد المقدس، هانومان، في لانكا وطمْأَنَها بأنها ستتحرَّر قريبًا. وأُسِر هانومان، لكنه هرب وعاد إلى راما ليُخبِره، وأخبره بالمعلومات التي لديه عن مكان سيتا. وعبَر راما وجيشه من المعاونين إلى لانكا على جسر من القرود، ودمَّروا رافانا، وعادوا منتصرين مع سيتا. لكن راما نَفَر من سيتا بسبب الوقت الذي قضتْه لدى رافانا. وخاضتِ اختبار النار لتُقنِعَه بفضيلتها.

أصبح راما مَلِكًا عند عودتهم إلى أيوديا، لكن الإشاعات ظلَّتْ تتردد بشأن عِفَّة سيتا، فنَفَاها راما مُكرَهًا، ولجأتْ هي إلى فالميكي (الذي يروي هذه القصة). وأنجبتِ ابنَيْ راما التوءم، وغادرتِ العالم بعدَ ذلك لتختفيَ في الأرض التي نشأتْ فيها أول مرة، ثم ارتَقَى راما الحزين إلى السماء مع أتباعه.

(٢) الدارما وملحمة «رامايانا»

مع الروايات المختلفة لقصة راما، تعددت التفسيرات لها أيضًا، لكنَّ ثمة موضوعًا واحدًا مشتركًا في العديد من هذه التفسيرات؛ ألَا وهو الدارما. ومثلما أوضحنا من قبلُ، الدارما مفهوم مُهِمٌّ في الهندوسية يعبِّر عن النظام والقانون والواجب والحقيقة. وكان من المتوقَّع من الناس الالتزام بالدارما الخاصة بهم (سفا-دارما) حسب الطبقة الاجتماعية (فارنا) والمرحلة الحياتية (أشراما)، ومن هنا جاء مصطلح «فارنا-أشراما-دارما». وكان الحفاظ على النظام الاجتماعي في العالم والعلاقة بين البشرية والآلهة مسئولية مشتركة يتحمَّلها الجميع، وإنِ اختلف سلوك كل فرد في خدمة الدارما. وقد كان «مانوسمريتي» النص الرئيسي الذي ذُكِرت فيه هذه الواجبات (وواجبات النساء كذلك)، لكن في ملحمة «رامايانا» برواية فالميكي، نرى الدارما تُنفَّذ عن طريق القرارات والأفعال الصحيحة لراما ووالده وزوجته وإخوته ونصيره المخلص هانومان؛ فكان لكلٍّ منهم طريقه الخاص الذي يجب عليه اتِّباعه لخدمة النظام المجتمعي الصحيح الذي ينتمي إليه.

إن «رامايانا» — شأنها شأن الملحمة العظيمة الأخرى «مهابهارتا» — قصة عن مجتمع المحاربين. ويلعب كَهَنة البرهمية والزهَّاد أدوارهم فيها، لكنها أدوار ثانوية مقارنةً بأدوار أسرة أيوديا المالِكة والمحاربين من القرود والشياطين. إن ملحمة «رامايانا» دراسة لحكم الملوك، لكنها أيضًا دراسة للأدوار والعلاقات البشرية.

لماذا فعل داشاراثا ما طلبتْه منه كايكي ونفى راما رغم ما بدا عليه ذلك من مخالفة لمصالح أيوديا المستقبلية؟ ولماذا وافق راما بالفعل على ذلك على الرغم من علمه الكامل بأن مواطني أيوديا يريدونه مَلِكًا عليهم؟ إن النظام السليم يقوم على الصدق والطاعة. وداشاراثا، بصفته زوجًا وحاكمًا، يجب ألَّا يحنث بوعده؛ وراما، بصفته ابنًا، يجب أن يقبل قرارات والده في طاعة. أدرك راما أن النفي مصيره، وجادل لاكشمانا — الذي امتلأ قلبه بالسخط — بالتأكيد على الطبيعة المُلزِمة لكلمات والده. ويُقدَّم تصرف راما، الذي بدا مخالفًا لعدم استعداد أخيه لقبول الموقف، كنموذج يُحتذَى به.

من ناحية أخرى، أتاح سلوك سيتا وعلاقتها براما فُرَصًا أخرى لتنفيذ الدارما. فليس من المتوقَّع من الزوجة الوفاء بالفارنا-أشراما-دارما؛ إذ ينبغي عليها أداء واجبها بوصفها ابنة، ثم زوجة (ستري-دارما). وقرار سيتا بالذهاب مع راما إلى الغابة بالرغم من اعتراضه، والتزامها بعفِّتها لزوجها في أثناء الوقت الذي قضتْه في بلاط رافانا؛ كانا تصرفين ملائمين لزوجة مخلصة وملتزمة بواجباتها (دارما-باتني).

لماذا، إذن، نفاها راما بعد عودتهما إلى أيوديا، على الرغم من رؤيته دليل عفَّتها في اختبار النار؟ قد يبدو ذلك تصرفًا عديم الرحمة في نظر القرَّاء الغربيين المعاصرين الذين اعتادوا على النهايات السعيدة. لكنْ في العالم الهندوسي، النظام السليم للمجتمع أهم من رغبة الفرد. مرة أخرى، يجب على راما التفكير والتصرف وفقًا للدارما الخاصة به بصفته ملكًا؛ فيَجِب أن يعطي الأولوية لدوره على ميله أو اعتقاده الشخصي بعفَّة سيتا؛ فقد أسفر فشله في حماية زوجته من رافانا والاضطراب الناتج عن ذلك إلى تسلل الشك إلى عقول رعيته، وصار القضاءُ على مخاوفهم والاضطراب الاجتماعي الذي قد يتبع ذلك واجبَه الأساسي، بالرغم من علمه ببراءتها. وفي رواية فالميكي للملحمة، راما ملك مثالي — وإن لم يكن سعيدًا — حتى النهاية، أو بالأحرى قرب النهاية؛ فقبل انتهاء القصة، يُشار إلى راما على أنه تجسيد (أفاتارا) للإله فيشنو العظيم. وشأنه شأن كريشنا في ملحمة «مهابهارتا»، يأتي راما — بوصفه إلهًا في هيئة بشرية — إلى العالم للإطاحة بالقوى التي تهدم الدارما، وليضربَ مثلًا في السلوك القويم (لمزيد من التفاصيل، انظر الفصل الخامس).

(٣) سيتا وديفي والإلهات

القريب الأول : ما رأيُكم في تمثيل المعركة بين الملك الطيب رام والملك الشرير رافان؟
أنا : هل يمكنني لعبُ دور رام؟
القريب الثاني : كلَّا، فأنتِ فتاة.
أنا : إنه مجرد تمثيل.
القريب الثالث : ما رأيكِ في أن تلعبي دور زوجة رام، الملكة الطيبة، سيتا؟
أنا : لكن سيتا لا تفعل أي شيء. إنها ليست سوى شخصية طيبة.

في هذه المحادثة بين مادهور جافري الشابة — الكاتبة ومقدمة البرامج التليفزيونية المشهورة الآن — وأقاربها الذكور، نلاحظ أحد ردود الأفعال تجاه سيتا. «مطيعة»، «وفية»، «طيبة»، «جميلة»، تلك هي الخِصال التي قد تطرأ على الذهن على الفور عند وصف سيتا. لكن حتى في قصة فالميكي، تَظهَر قوة شخصية سيتا وصمودها. إنها مطيعة، بلا شك، لكن لزم عليها الدفاع عن قضيتها لتفعل ما تراه صوابًا. وقد أَظهَرَتْ ضبطًا للنفس، ولم تستسلم لرغبة رافانا. وعند تحريرها، دافعَتْ عن نفسها من أعماق قلبها ضد اتهامات راما. إنها أبعد ما يكون عن السلبية.

وهذه القوة في الشخصية لم تغفل عنها النساء الهنديات اللاتي وجدْنَ الكثير الذي يمكن الإشادة به في شخصية سيتا. وعلى الرغم من النظرة الشائعة لها بوصفها نموذجًا للخضوع والطاعة والولاء، وهي السمات التي يودُّ الكثير من الرجال رؤيتها في زوجاتهنَّ، فكثيرًا ما تستقي النساء دروسًا مستفادة أخرى من سلوك سيتا؛ فطرحت الشاعرة الهندوسية البريطانية، ديبجاني تشاترجي، السؤال التالي: «كيف كان الأمر من وجهة نظركِ؟» داعيةً سيتا لرواية القصة من جانبها. وترى تشاترجي في اختبار النار، الذي خضعت له سيتا، كلَّ حالات الوفاة المتكررة بين النساء الهنديات المعاصرات بسبب المهر، وترى أيضًا في نفي سيتا المِحن التي تتعرض لها الأم العزباء في الحياة المعاصرة. (لمزيد من المناقشة حول المهر والمشكلات المرتبطة به، انظر الفصل السابع.) وتستنتج تشاترجي أن قصة سيتا ليست قصة خرافية.

في بعض الروايات الأخرى لملحمة «رامايانا»، تأخذ سيتا صورة مختلفة بعض الشيء؛ ففي الرواية الهندوسية الشهيرة لتولسيداس، تُصوَّر سيتا على أنها تتمتع بقوة بطولية وبالقدرة على رفع قوس الإله شيفا العظيم. وفي رواية إرامافاتارام باللغة التاميلية، تُقدَّم سيتا في صورة شخصية غاضبة وتهكمية على نحو مبرَّر، يدفعها زوجها القاسي الذي يوجِّه إليها الاتهامات إلى الهجوم اللفظي عليه. وفي أغاني النساء الشعبية، لا تزال سيتا تصوَّر بنحوٍ أكثر حيوية. وتُروى الأحداث المهمة في حياتها كامرأة — بلوغها وزواجها وحملها وولادتها لِابْنَيْها — بالإضافة إلى ما حدث لها في الغابة، وعلى جزيرة لانكا، وفي أثناء الاختبار الذي خاضتْه. وتشير كلمات الأغاني إلى أن المغنيات يُدْرِكْن جيدًا خبرات سيتا ومشاعرها، وسوء فهم زوجها لها، والابتلاءات التي مرَّت بها؛ فهي مثلهن.

سيتا بطلة عظيمة أكثر من كوْنها إلهة. وعندما ترغب النساء الهندوسيات في الدعاء لإلهة أو الصيام للحصول على بركاتها، لا يختَرْن سيتا. وإنما يطلبْنَ العون من إلهات مثل بارفاتي، الإلهة البارعة التي يمكنها التشفُّع لدى شيفا، أو دورجا، المحاربة القوية، أو سانتوشي ما، جالبة السلام للمنزل، أو كالي، الأم المرعبة. إنهن نساء خارقات اشتُهِرْنَ بقُوَاهُنَّ الإلهية وقدرتهِنَّ على تحقيق رغبات من يَعبدُهُنَّ. وتزخر الأساطير الهندوسية بالإلهات، لكن يُنظَر إليهن أيضًا بوصفهن صورًا للإلهة ديفي العظيمة التي يبجِّلها الكثير من الهندوس بصفتها منقذتهم ومرشدتهم. وتُروى قصتها في «ديفي-ماهاتميا» (وهو جزء من «ماركانديا بورانا»). وتُوصَف في هذا النص بالشخصية الناجحة، والقاسية والانفعالية في الوقت نفسه، وبالأم العظيمة، والملاذ، والمدمِّرة الإلهية، والإلهة الخيِّرة، والحامية. وتتجلَّى هذه السمات في هيئاتها المحددة مثل لاكشمي ودورجا وأمبا وكالي وبارفاتي وغيرها الكثير. لكنها مُنِحت أيضًا أسماءً ذات دلالة عامة. فأُطلِق عليها اسم «ماهامايا»، أي الوهم الكبير؛ و«شاكتي»، أي القوة المُبدِعة. وترتبط ديفي بالإلهين الأرفع شأنًا، فيشنو وشيفا، لكنها ذاتها تُعتبَر الملكة أو الحاكمة. وسنستعرض فيما يلي قصتها.

(٤) نبذة سريعة عن «ديفي ماهاتميا»

عندما يتأكد ماهيشا، ذلك الشيطان الذي على شكل جاموس، أنه لا يُمكِن لبشر قتلُه، يدمِّر العالَم ويحذِّر الإله إندرا من أنه سيغزو السماء قريبًا. يتعاركان وينسحب إندرا، ويلجأ إلى الآلهة العظيمة، براهما وشيفا وفيشنو، فيملأ الغضب صدورهم، وتنبثق من أجسادهم الإلهية امرأة جميلة؛ ألا وهي ديفي؛ فيزوِّدونها بالأسلحة، وتمنحها آلهة أخرى أسدًا لتركبه ونبيذًا لتشربه، فتعلو ضحكتها المروِّعة ويصيح الآلهة «النصر!»

وعندما يسمع ماهيشا ذلك، يرسل شياطينه لمعرفة ما يحدث، فينقلون إليه الأخبار عن جمال ديفي وخصالها الرائعة، فيرسل لها عرض زواج، فترفضه وتذبح رسله. وعندما يتبعهم ماهيشا، تُعلِن عن مهمتها، والتي تتمثل في حماية الدارما. وفي المعركة التي تلي ذلك، يتخذ ماهيشا العديد من الأشكال، لكن ديفي تشرب النبيذ ومن على ظهر أسدها تقتله برمحها الثلاثيِّ وقُرصها. ويأخذ الآلهة في الثناء على إنجاز ديفي الكبير.

fig7
شكل ٤-٢: دورجا تقتل ماهيشا، الشيطان الذي على شكل جاموس.

تخالف ديفي الصورة البرهمية للمرأة بوصفها زوجة وفيَّة؛ فهي لن تتزوج، ولا يمكن لأي ذَكَر التحكمُ فيها، شيطانًا كان أم إلهًا. إنها محارِبة وعدوانية، لا تُذعِن ولا تضعف. تبدو امرأة مثالية، جميلة يملؤها الحبُّ، لكنها تشرب النبيذ وتَحظَى بالاستقلالية. وفي رواية أخرى، تُخرِج ديفي الإلهة كالي الأكثر إفزاعًا من جبينها الغاضب، وتظهر كالي برءوس وأذرع مقطوعة ودم يقطر من لسانها المتدلي. لكن قوة ديفي العظيمة يمكن كبح جماحها؛ ليس فقط من جانب الآلهة، وإنما أيضًا من جانب مَن يبجِّلونها بورع ويقدِّمون القرابين لها؛ فيراها هؤلاء العابدون (شاكتا) أمًّا حامية عظيمة، على الرغم من أنها بلا زوج أو ولد.

(٥) الأم، وراما، والأمة الهندوسية

لقد أثارت صور الأم الحامية والملك الوفيِّ مشاعر الولاء والإخلاص في الهند. واستُخدِم الولاء والإخلاص في العصر الحديث كرمزين مرتبطين بالأمة؛ فيُعَد مفهوم «بهاراتا ماتا»، أي «الهند الأم»، مفهومًا مألوفًا للهنود على اختلاف دياناتهم، وهو المفهوم الذي استخدمه في وقت سابق من هذا القرن حزبُ المؤتمر الوطني الهندي، الذي اختار قصيدة «باندي ماتارام»، أي «تحية للأم»، لتكون النشيد الوطني. ولا يزال هذا المفهوم يُثار في الأذهان مع صيحة «بهاراتا ماتا كي جاي»؛ أي «تحيا الهند الأم».

يهتف القوميون لراما أيضًا، لا سيما مَن لديهم قناعة هندوسية، بوصفه الحاكم الإلهي للدولة الهندوسية التي طالما تاقوا إليها. وفي أيوديا بشمال الهند، دُمر مسجد في عام ١٩٩٢ على أيدي بعض الهندوس الذين اعتقدوا أنه بُني على موقع معبد أقدم منه بكثير يخلِّد ذكرى ميلاد راما. والحقائق التاريخية في هذا الشأن مثار جدل كبير. لكن التصوُّر الديني الشائع لا يقوم على الأدلة الواقعية، وإنما على القصص القوية وما تثيره من مشاعر؛ فطغى على هذا التصوُّر قصتان؛ إحداهما عن راما ظَلَّ يرددها التليفزيون كل أسبوع، والثانية عن وجود مكانِ عبادة إسلاميٍّ على أرض هندوسية مقدسة.

احتدم الخلاف بسبب حملات الجماعات الهندوسية وخطاب أحد الأحزاب السياسية القومية الهندوسية، فهُدِم المسجد. وتلا ذلك اندلاع العنف الطائفي في المدن الهندية، ووقوع وفيات من المسلمين والهندوس.

لقد تعرَّفنا على العديد من الآلهة في هذا الفصل، لكن السؤال الآن هو: لماذا يوجد هذا العدد الهائل من الآلهة والإلهات في الهندوسية؟ كيف يُفهم الوجود الإلهي؟ وكيف يُعبَد؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤