نصف يوم

سرت إلى جانب أبي متعلقًا بيمناه، جريت لألحق بخطاه الواسعة. ملابسي كلها جديدة، الحذاء الأسود والمريلة الخضراء والطربوش الأحمر. غير أني لم أسعد بالملابس الجديدة سعادة صافية، فيَومي لم يكن يوم عيد، ولكنه أول يوم يلقى بي في المدرسة. وقفت أمي وراء النافذة تراقب موكبنا الصغير، فالتفت نحوها كالمستغيث بين حين وآخر. تقدمنا في شارع بين الجناين تحف به من الجانبين حقول مترامية مزروعة بالخضر والتين الشوكي وأشجار الحناء وبعض النخلات. قلت لأبي بحرارة: لماذا المدرسة؟ .. لن أفعل ما يضايقك أبدًا!

فقال ضاحكًا: أنا لا أعاقبك، المدرسة ليست عقابًا، ولكنها المصنع الذي يخلق من الأولاد رجالًا نافعين، ألا تريد أن تصير مثل أبيك وإخوتك؟!

لم أقتنع. لم أصدق أنه يوجد خير حقًّا في انتزاعي من بيتي الحميم، ورميي في هذا المبنى القائم في نهاية الطريق، مثل حصن هائل شديد الجدية والصرامة عالي الأسوار. ولما بلغنا البوابة المفتوحة تراءى لنا الفناء واسعًا ومكتظًّا بالأولاد والبنات. وقال أبي: ادخل بنفسك وانضم إليهم، ابسط وجهك وابتسم، وكن مثالًا طيبًا.

ترددت وشددت أصابعي على راحته، ولكنه دفعني برفق وهو يقول: كن رجلًا، اليوم تبدأ الحياة حقًّا، ستجدني في انتظارك وقت الانصراف.

مشيت خطوات ثم وقفت أنظر، أنظر ولا أرى. ثم أنظر، فتلوح لي وجوه الأولاد والبنات. لا أعرف أحدًا ولا أحد يعرفني. شعرت بأنني غريب ضائع. ولكن ثمة نظرات اتجهت نحوي بدافع من حب الاستطلاع، واقترب مني ولد وسألني: مَن الذي جاء بك؟

فهمست: أبي.

فقال ببساطة: أبي ميت.

لم أدرِ ماذا أقول له. وأغلقت البوابة مرسلة صريرًا مؤثرًا. أجهش البعض بالبكاء، دق الجرس، جاءت سيدة يتبعها نفر من الرجال، أخذ الرجال يرتبوننا صفوفًا، انتظمنا شكلًا دقيقًا في فناء واسع محاط بين ثلاث جهات بأبنية مرتفعة مكونة من طوابق، وبكل طابق شرفة طويلة مسقوفة بالخشب تطل علينا. وقالت المرأة: هذا بيتكم الجديد، هنا أيضا آباء وأمهات، هنا كل شيء يسرُّ أو يفيد من اللعب إلى العلم إلى الدين، جففوا الدموع واستقبلوا الحياة بالأفراح.

استسلمنا للواقع، وسلمنا الاستسلام إلى نوع من الرضا .. وانجذبت أنفس إلى أنفس. ومنذ الدقائق الأولى صادق قلبي من الأولاد مَن صادق، وعشق من البنات مَن عشق، حتى خُيِّل إليَّ أن هواجسي لم تقم على أساس. لم أتصور قط أن المدرسة تموج بهذا الثراء كله. ولعبنا شتى الألعاب من أرجوحة وحصان وكرة. وفي غرفة الموسيقى ترنمنا بأول الأناشيد. وتم أول تعارف بيننا وبين اللغة. وشاهدنا الكرة الأرضية وهي تدور عارضة القارات والبلدان. وطرقنا باب العلم بادئين بالأرقام. وتليت علينا قصة خالق الأكوان بدنياه وآخرته، ومثال من كلامه. وتناولنا طعامًا لذيذًا، وغفونا قليلًا، وصحونا لنواصل الصداقة والحب واللعب والتعلم. وأسفر الطريق عن وجهه كله، فلم نجده صافيًا كامل الصفاء والعذوبة كما توهمنا. ربما تدهمه رياح صغيرة وحوادث غير متوقعة فهو يقتضي أن نكون على تمام اليقظة والاستعداد مع التحلي بالصبر. المسألة ليست لهوًا ولعبًا. ثمة منافسة قد تورث ألمًا وكراهية، أو تحدث ملاحاة وعراكًا. والسيدة كما تبتسم أحيانًا تقطب كثيرًا وتزجر. ويعترضنا أكثر من تهديد بالأذى والتأديب. بالإضافة إلى ذلك فإن زمان التراجع قد مضى وانقضى، ولا عودة إلى جنة المأوى أبدًا. وليس أمامنا إلَّا الاجتهاد والكفاح والصبر، وليقتنص من يقتنص ما يتاح له وسط الغيوم من فرص الفوز والسرور. ودق الجرس معلنًا انقضاء النهار وانتهاء العمل. وتدفقت الجموع نحو البوابة التي فتحت من جديد. ودعت الأصدقاء والأحبة وعبرت عتبة البوابة. نظرت نظرة باحثة شاملة، فلم أجد أثرًا لأبي كما وعد. انتحیت جانبًا أنتظر. طال الانتظار بلا جدوى فقررت العودة إلى بيتي بمفردي .. وبعد خطوات مر بي كهل أدركت من أول نظرة أنني أعرفه. هو أيضًا أقبل نحوي باسمًا، فصافحني قائلًا: زمن طويل مضى منذ تقابلنا آخر مرة، كيف حالك؟

فوافقته بانحناءة من رأسي وسألته بدوري: وكيف حالك أنت؟

– كما ترى، الحال من بعضه، سبحان مالك الملك!

وصافحني مرة أخرى وذهب. تقدمت خطوات ثم توقفت ذاهلًا. رباه .. أين شارع بين الجناين؟ أين اختفى؟ .. ماذا حصل له؟ متى هجمت عليه جميع هذه المركبات؟ ومتى تلاطمت فوق أديمه هذه الجموع من البشر؟ وكيف غطت جوانبه هذه التلال من القمامة؟ وأين الحقول على الجانبين؟ قامت مكانها مدن من العمائر العالية، واكتظَّت طرقاتها بالأطفال والصبيان، وارتج جوها بالأصوات المزعجة. وفي أماكن متفرقة وقف الحواة يعرضون ألعابهم، ويبرزون من سلالهم الحيات والثعابين. وهذه فرقة موسيقية تمضي معلنة عن افتتاح سيرك يتقدمها المهرجون وحاملو الأثقال. وطابور من سيارات جنود الأمن المركزي يمر في جلال وعلى مهل، وعربة مطافئ تصرخ بسرينتها لا تدري كيف تشق طريقها لإطفاء حريق مندلع، ومعركة تدور بين سائق تاكسي وزبون، على حين راحت زوجة الزبون تستغيث ولا مغيث. رباه، ذهلت، دار رأسي، كدت أجن، كيف أمكن أن يحدث هذا كله في نصف يوم، ما بين الصباح الباكر والمغيب؟ سأجد الجواب في بيتي عند والدي. ولكن أين بيتي؟ لا أرى إلَّا عمائر وجموعًا. وحثثت خطاي حتى تقاطع شارعي بين الجناين وأبو خودة. كان عليَّ أن أعبر أبو خودة؛ لأصل إلى موقع بيتي، غير أن تيار السيارات لا يريد أن ينقطع. وظلت سارينا المطافئ تصرخ بأقصى قوتها، وهي تتحرك كالسلحفاة فقلت: لتهنأ النار بما تلتهم. وتساءلت بضيق شديد: متى يمكنني العبور؟ وطال وقوفي حتى اقترب مني صبي كوَّاء، يقوم دكانه على الناصية، فمد إليَّ ذراعه قائلًا بشهامة: يا حاج .. دعني أوصلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤