ذقن الباشا

متى فتح هذا المقهى؟ علم ذلك عند الله. لم يخطر لي أن أطرح هذا السؤال في الزمن القديم. في صباي كنت أعبر الطريق أمامه كثيرًا في الذهاب والجيئة كأكثر أبناء العباسية. وكانت تشع منه إلى صدورنا هيبة وإجلال، فنمضي إذا مضينا ناحيته بسرعة وأدب متحاشين النظر إليه حيث يجلس الآباء ونخبة من مدرسي مدرستنا، بكل ما يحملون بين جوانحهم من وقار ورهبة. وهو صغير إذا قيس إلى مقاهي وسط البلد أو حتى مقاهي السكاكيني. مستطيل الشكل، أنيق المنظر، تقوم في عمقه المنصة الرخامية والموقد، ويعلوها رف أول تصطفُّ فوقه برطمانات البن والشاي والسكر والقرفة والزنجبيل والكراوية والأنيسون، ورف ثانٍ تتجاور فوقه النراجيل البيضاء الشفافة والكحلي الزاهية. أرضه مدكوكة بالبلاط المعصراني، وجدرانه وسقفه زرقاء صافية، وفي منتصف الجدارين المتقابلين تلتصق بالغراء والمسامير المذهبة مرآتان مستديرتان مصقولتان مؤطرتان بالأبنوس. وثمة طابوران من الموائد الرخامية المتواجهة على الجانبين ولوازمها من الكراسي الخيرزان. أما الطوار أمام المقهى فمزروع ببلاط صغير ملون، ويمتد فوقه صفان متوازيان من الموائد في مركز الوسط منها تنطلق شجرة لبخ فارغة تتهدل فوقها أغصانها حانية، وبها شُهر المقهى باسم «ذقن الباشا»، على حين أن لافتته تحمل اسم صاحبه «سيد کنج»، ولا أحد يعرف أصل لقبه، ولكن الجميع يسلمون بسطوته على الأحياء الشعبية المجاورة. وبالرغم من عبيره البلدي، ومن أن النُّدُل العاملين به يسعون في الجلابيب حفاة الأقدام إلا أنه امتاز بالنظافة المطلقة في أرضه وجدرانه وأدواته كما عُرف بجودة مشروباته. إنه مجمع أهل الوقار من الآباء والمدرسين، وفي مواسم الانتخابات يُهرع إليه المرشحون من الباشوات يخطبون ود صاحبه المهيمن على الناخبين في الحواري والأزقة. ودائمًا يسبح في هدوء فالحديث يتجاذب في تؤدة، والضحكة تند بحساب، والحوار السياسي يمضي في وفاق وانسجام، وصورة سعد زغلول تطل على الجميع من موضعها فوق النراجيل، وهو منتصب القامة في بدلة التشريفة المحلاة بالقصب.

•••

وتغير سكان المقهى، بصورة غير ملموسة أول الأمر، ثم وضحت المعالم قبيل الحرب العالمية الثانية، وفيما تلا ذلك من أيام. رحل الآباء والمدرسون أو لم يبقَ منهم إلا نفر من المعمرين. واكتسبنا مع تقدم العمر والتوظف الحق في اقتحام أجمل مقهًى في حيِّنا. جلسنا مكان الآباء وشربنا القهوة والشاي ودخنا النارجيلة، وخضنا في أحاديث السياسة والحب والجنس بأصوات مرتفعة تترامى أحيانًا إلى الطريق. ولم نعد نجفل من المعمرين من أساتذتنا، فأقبلنا عليهم نتصافح ونتوادد ونتبادل الذكريات، وربما مازج حوارنا المزاح، بل منهم مَنْ شاركنا لعب النرد، ولكن حظي كل واحد منهم بحقه الكامل في الاحترام. وهلت علينا مشكلات جديدة؛ فتنوعت أحاديثنا بين الدستور والغلاء واليمين واليسار والملك والوفد والإنجليز والجلاء وفلسطين واليهود. ولم يوقف ذلك مسيرة الحياة الطبيعية؛ فعشق منا من عشق، وتزوج من تزوج، وأنجب من أنجب، واستفحل التشكي وانفجر النقد.

ولم يسلم من ألسنتنا رجل أو امرأة أو حزب وحتى النُّدُل الحفاة شاركوا في الكلام بعد أن خفت رقابة سيد كنج؛ لطعنه في السن وتوغله في الضعف وزهده في الانشغال بالحياة اليومية. وجاء وقت فبدا أن كلًّا منا قد أصبح حزبًا قائمًا بذاته له أهدافه ووسائله. وتسلل الشيب إلى الرءوس، ورحل آخر المدرسين المعمرين، وتوترت أعصابنا يوم تُوفي سید کنج واحتل مكانه في الإدارة ابنه الأكبر الشافعي. من جيلنا كان، فأسدينا إليه النصيحة أن يحافظ على سمعة المقهى، وأن يُعنى عناية خاصة بالنظافة وجودة الأصناف، وألا يتهاون في سمعته طمعًا في مضاعفة أرباحه كما يفعل قِصار النظر. ووعد الرجل، وأنجز ما وعد بصفة عامة فلم يطرأ على المقهى إلا تغير طفيف يمكن التسامح معه، كما اعتدنا أن نتسامح مع كل مكروه يجِدُّ.

•••

وزحف الجيش بثورته، فانطوت صفحة وانبثقت صفحة جديدة. وتفجرت ينابيع الأمل وتضاربت الخواطر. وباتت جماعتنا ركن المقهى الركين وقاعدته الثابتة. وكالمنتظر تسلل إلى الأركان شباب صاعد، واشتبكت حباله بحبالنا بحكم الجوار والعشرة. ومع تتابع الأمجاد اعترضت أزمات كما عودنا التاريخ، وحملقت أعين الأمن تطارد الخوارج، ونادى أهل الحكمة بيننا: حذارِ من السياسة وحديثها يا محبي السلام والسلامة. وعقدنا العزم على ذلك، ولكن اجتاحنا الإغراء وألح علينا كحكة الجرب. وقبض على نفر منا لتهور التعبير ونزقه، فتعلمنا التفاهم بالهمس والإشارة والرمز ونحن نستعيذ بالله من المهالك. وكلما بدا وجه غريب رمقناه بحذَر، وإذا طرح شاب سؤالًا محرجًا تساءلنا: ترى ماذا وراءه؟ وحدثونا عن أجهزة التسجيل التي تلتقط الخواطر من بعيد، حتى اقترح البعض أن نقبع في دورنا آمنين. وعجزنا عن تنفيذ ذلك، وقلنا: إنه لا غنى لنا عن سلوى اللقاء، وأن الأمان متاح لمن يصون لسانه. وكدر صفونا الشباب الصاعد بتعاليه علينا، وتجاهله لماضينا، وازدرائه لأمجادنا. نحن لا ننكر المعجزات التي تقع، ولا الانتصارات التي تتحقق، ولا انطلاق الأيدي القوية لتحرير الشرق والغرب. ولكن ما الداعي إلى إنكار أمجاد سلفت وانتصارات سبقت؟! وتجنبنا مع ذلك الخصام، وتراجعنا عن العناد، واستبشرنا خيرًا بالغد وما بعده. وكنا إذا تحدانا سؤال مستفز مثل: «من يكون سعد زغلول؟» أجبنا بكل تواضع: «كان محاميًا ناجحًا»، أو «من يكون مصطفى النحاس»؟ قلنا بمنتهى اللطف: «كان تاجر مَني فاتورة بالغورية». قلنا: لا داعي لتكدير الصفو بالجدل العقيم، ولنترك للتاريخ ما ينفرد بتصحيحه عندما يشاء، ولنشارك في الفرحة الشاملة بكل بناء يقوم أو عدالة ترسخ.

•••

ودهمنا ونحن في غفلة يوم ٥ يونيو الأسود. تطايرت آمالنا أشلاء وشظايا ثم سقطت في أعماق بئر من رماد عفن، تحول سكان المقهى إلى أشباح تهيم في وادي الظلام مهمهمة في هذيان متواصل. الحزن شامل، الحزن باكٍ، الحزن ساخر. لم يخل حزننا من تمرد أما حزن الأصدقاء الجدد فتلقفته دوامة الضياع. قالوا لنا بنبرة جديدة: «حدثونا عن دنياكم كيف كانت؟» ليكن، فالحديث هو السلوى المتاحة، ولكن ما جدواه؟ وسألونا أيضًا: «ما حكمة خلق الإنسان في هذا الوجود؟» وتراكمت الإجابات مثل تل من الهواء. واستمر الحديث واستمر الزمن. تراجعنا إلى ركن الشيوخ وانبسطوا في كل مكان، وحدثت أمور، وواصلت الحياة العطاء والموت الإفناء. وارتفع شعار الانفتاح، فريق هاجر بلا أسف، وفريق ارتفع تحوطه الريب، وفريق عوى عواء الذئاب. لم نكن نفرح بالنصر إلا يومًا أو بعض يوم، ولا بالسلام إلا ساعة أو بعض ساعة. وانصبت الأحاديث على الخيار والطماطم والرغيف، وزاغ البصر بين الغيم الداكن والبرق الخاطف اللامع.

•••

وذات مساء قال لنا الشافعي صاحب المقهى: آسف يا حضرات، تم الاتفاق على بيع المقهى!

لم نصدق أول الأمر، حتى تأكد لدينا أنه سيقوم مقامه سوبر ماركت. يا ألطاف الله! إنه خبر كطعنة خنجر. مقهى العمر والذكريات والآباء، المقهى الذي داعب صبانا وآوى شبابنا وكهولتنا، وشهد حبنا وزواجنا وإنجابنا وهزيمتنا ونصرنا. وتساءلنا: أين نتلاقى كل مساء؟ قال أحدنا: أقرب مقهًى إلى حيِّنا مقهى الانشراح في أول الظاهر.

قال آخر: لكنه مقهى الحرفيين، غاية في الفقر والقذارة.

فقال الأول: اصحَ، حقًّا ما زال مقهى الحرفيين، ولكنهم يذهبون إليه اليوم في سياراتهم الخصوصية الملاكي، وقد تجدد المقهى بتجددهم، فأصبح انشراحًا بالمعنى الصحيح.

ثم وهو يضحك: سنمثل فيه الطبقة الكادحة الجديدة!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤