رجل

يستقبل يومه بزيارة الشارع الطويل، شارع الحرية، وهو صالح تمامًا لرياضته الصباحية بطواره السليم وأشجاره العتيقة الباسقة. يتمشى بقدر ما يستطيع ثم يرجع إلى شقته؛ فيجد خادمته العجوز قد أعدت له مجلسه في حجرة المعيشة؛ ليخلو إلى الصحف والإذاعة والتأمل الطويل. وقرأ ذات يوم العمود اليومي للأستاذ م. أ. فشد انتباهه بقوة غير عادية. قرأ: «لي جار من رجال الجيل الماضي المعروفين، يمشي كل صباح رغم شيخوخته في جولة رياضية يُغبط عليها، ولكنه يقضي شيخوخته في وحدة مطلقة، فقد شريكة العمر منذ أعوام، وهاجر أبناؤه الثلاثة إلى الولايات المتحدة، لم يجنِ من عمره الطويل إلا الذكريات بعد سطوع نجمه في الهندسة والسياسة، تُرى فيم يفكر في وحدته؟ وكيف يعالج كآبته؟ كيف نصنع من طول العمر نعمة لا نقمة؟!» وأكمل الأستاذ عموده عن العناية بالمسنين، وما يعد لأمثالهم في البلاد المتحضرة. وقال الرجل وهو يبتسم: «إنه يعنيني أنا دون سواي». فهو جاره على نحوٍ ما، وكثيرًا ما يراه وهو راجع من جولته الصباحية، لكنه تخيل فأخطأ، وما أكثر أوهام هؤلاء الكتاب. وعزم في نفسه على أمر غير أنه أجل تنفيذه إلى صباح اليوم التالي، وكما قدر تمامًا رأي — لدى عودته من جولة الصباح — الأستاذ وهو يتجه نحو سيارته الصغيرة؛ فتألقت عيناهما في ابتسام لأول مرة.

وقال العجوز: قرأت عمودك أمس، إنه عني فيما أعتقد؟

فقال الأستاذ: أرجو أن تكون راضيًا!

– شكرًا، ولكن ليس الواقع كما تتخيل!

– حقًّا؟!

– شرفني وقتما تشاء إذا كان يهمك أن تعرف الحقيقة.

فقال الأستاذ متحمسًا: أعدك بذلك.

وقد كان. وجالسه في شرفة مغلقة بالزجاج؛ اتقاء لجو الخريف حول مائدة شاي. عن قُرب تجلَّت شيخوخة الرجل في انتفاخ جفنيه وتجعدات فمه وذبول نظرته، رغم صحته الجيدة ونشاطه الموفور. وراح يقول وهو يشجعه على تناول الشاي والبسكوت: أشكر لك رقتك، وجميل رثائك لي، ولكنني لا أستحق الرثاء؛ لأنني فوق الرثاء، وصدقني فأنا راضٍ عن نفسي كل الرضا!

– ما أجمل أن تقول ذلك!

– إني قوي دائمًا ومنتصر دائمًا.

فرمقه الأستاذ بإعجاب، وبنظرة تطالب بالمزيد، ربما التماسًا لليقين في الوقت نفسه.

شعر العجوز برغبة ملحة في الإفصاح عن مكنون ذاته.

– من أين جاءتني القوة؟ إنه أبي رحمه الله، كان مربيًا عظيمًا يعشق القوة ويجلها، شحذني بالرعاية والعناية والشدة الحميدة العاقلة، علمني كيف أهتم باللعب كما أهتم بالعمل؛ لأتطلع إلى الكمال في جميع الأحوال، ولن أحدثك عن تفوقي الدراسي، ولكني أحرزت في لعبة الكرة نفس الدرجة من التفوق، كنت قلب الهجوم بالمدرسة الخديوية، ولعل كنت اللاعب الوحيد الذي يحافظ على حماسه كله حتى اللحظة الأخيرة من المباراة، وبصرف النظر عن النتائج، وكان مدربنا يقول لفريقنا: إن اللعب أهم من النتيجة، وإن عليهم أن يحافظوا على روحهم العالية حتى الختام، وقال محددًا: ليكن لكم أسوة في زميلكم صفوت راجي.

فقال الأستاذ منشرحًا: ولكنك طويل القامة بصورة ملحوظة، فهل أعتبر ذلك ميزة؟

– إنه ميزة لمن يحسن استغلاله، وقد برعت في اللعب حتى واتتني الفرصة للالتحاق بأحد النوادي المعروفة.

– وهل صرت نجمًا شعبيًّا؟

– كلَّا، هجم عليَّ خصم هجمة غير قانونية، فأحدث بي عاهة في مفصل ساقي اليمني؛ فاضطررت إلى الانقطاع عن رياضتي المحبوبة.

– يا للخسارة! وإذن لم تخلُ حياتك من منغصات!

– الحياة لا تخلو أبدًا من منغصات، من حيث تتوقع أو لا تتوقع، المهم كيف تواجهها؟ كيف تستوعبها؟ كيف تطويها تحت جناحك ثم تمضي في سبيلك؟ أجل خيمت عليَّ الكآبة فترة طويلة حتى رمقني أبي بازدراء، وعاتبني بدلًا من أن يعزيني، وسرعان ما كرست طاقتي كلها للدراسة حتى تخرجت في الهندسة على رأس الناجحين.

فقال الأستاذ بصدق: إنك مهندس غني عن التعريف.

– وكنت من الرعيل الأول الذي زهد في الوظيفة الحكومية؛ فقدمت في امتحان عام لوظيفة خالية في شركة الكهرباء ونجحت .. وأثبت وجودي بين الخواجات.

– برافو!

– وثمة سوء حظ من نوع آخر أشد ضراوة مما أدركني في الكرة، كان ميدانه القلب، أحببت جارة لي حبًّا امتد من المراهقة إلى الشباب. في ذلك الزمان كانت وسائل الاتصال عسيرة جدًّا ومحدودة، لم تزد عن تفاهم بالأعين وتبادل للابتسام، وكان ذلك يعني حبًّا متبادلًا. وعرفت أن مدرستها الثانوية ستقوم برحلة إلى القناطر فسبقتها إليها. واختلسنا لقاءً سريعًا عابرًا بعيدًا عن أعين الرقباء، دقائق سريعة تحت خميلة، ماذا قلت لها؟ لعلي استعرت جملة عذبة من جمل المنفلوطي، ولكنها خرجت محملة بالصدق، وأفهمتها أن أبي لا يسمح بالكلام في العواطف قبل أن أستكمل دراستي، وسألتها أن تعتمد على شرفي ورجولتي، وأنني سأتقدم لطلب يدها في الوقت المناسب؛ فوافقت بابتسامة صامتة، وثملت بحلم السعادة فترة غير قصيرة، وإذا بها تختفي من النافذة متجنبة مجال الرؤية فكدت أفقد صوابي. وتلقيت منها رسالة تخبرني فيها بأن ابن عمها خطبها، وأنها لم تستطع أن تقنع أحدًا بالرفض، وأعربت عن أسفها سائلة إياي المعذرة. هل خبرت مثل ذلك الموقف؟ .. أو بالحري تلك المحنة؟! والظاهر أن الحب الحقيقي كان تجربة نادرة في تلك الأيام، وما كان يظن أنه الحب لم يكن إلا استعدادًا عامًّا للزواج، وكان سحر الزواج أقوى من سحر الحب وبخاصة إن بُشر بتوفيق وسعادة. لم أصدق أنها أحبتني حقًّا كما أحببتها، ولكنني كنت المرشح المفضل طالما لم يتقدم من هو أجدر بها مني.

تمتم الأستاذ: كانت محنة كما قلت!

– انغرز سن الألم المسموم في أعماقي حتى نهايته، وخيل إليَّ أني انتهيت تمامًا وأن الحديقة جفت وتساقطت ورودها، وتلاشت رغبتي في العمل.

– ألم تقدم على أي محاولة جادة لاستردادها؟

– كلا، تعذر عليَّ ذلك، لم أستطع رؤيتها قط، وأقنعني سلوكها بأنها فتحت صفحة جديدة، لم يبقَ لي إلا ألم مجنون، وأوهام غريبة بأنني فقدت المرأة الوحيدة في دنياي، إنه ألم جهنمي لا يبدو غير معقول؛ إلا إذا فصل الزمان بيننا وبينه بالمدة الكافية للشفاء.

– ولكنه قد يقتل قبل ذلك.

– بلا شك.

– وفشلت في الامتحان لأول مرة في حياتك؟

فابتسم العجوز قائلًا: كلا، تلقيت لكمة قاضية ولكنني نهضت مترنحًا قبل أن يبلغ الحكم في عده رقم عشرة، وبإرادة من صلب استخلصت الرغبة في النجاح والتفوق من حومة المأساة. كان نضالًا هائلًا. بين الألم والعمل، وعلى ضوئه تكشَّف لي جوهر عزيمتي لا يهزم ولا يستسلم.

– مرة أخرى، برافو!

ولم أكد أستقر في وظيفتي حتى صممت على الزواج، مؤثرًا هذه المرة السبيل التقليدي المعروف، أو الذي كان معروفًا على أيامنا، وتم كل شيء بحمد الله وفضله.

– ونسيت الحب وأيامه؟!

– ليس تمامًا، ربما بقيت منه رواسب معاندة كرائحة الوردة الذابلة، ولكني عايشت تجربة الزواج بكل أبعادها، وبنجاح أيضًا. أأنت متزوج؟ عظيم! حقًّا يوجد فارق كبير في السن ولكن الزواج هو الزواج، بمودته ونقاره، وأنغامه المنسجمة والنشاز، والرضا والغضب، والذرية ومسراتها ومتاعبها، وعند الحساب الختامي تجد أنه لا غنى لطرف عن الآخر، ماذا تريد أكثر من ذلك تعريفًا للزواج الموفق؟! بل من يضمن لي أنني كنت سأوفق مع الأولى كما وُفقت مع الأخرى؟!

فضحك الأستاذ قائلًا: خفيف الروح بقدر ما أنت حكيم!

وصمت العجوز قليلًا ثم واصل: لعلي لم أبرأ تمامًا حتى اليوم من فقد ابنين، ولكني أثبت صمودي أمام الموت نفسه! أنجبت خمسة أولاد مات منهم اثنان، الأول في وباء الكوليرا والثاني في حمام السباحة. تهدم بنيان زوجتي، وحنقت على صمودي. الصابر المتصبر متهم في هذا البلد. قيل عنى إني غليظ القلب وإني منهمك في عملي للدرجة التي تنسيني ما عداه. هذا خطأ. إني أعرف الحزن والألم، ولكني لا أعاند المَقادر. وأرى أن أكبر عار في هذه الدنيا هو عار الهزيمة.

– هذا ما نتمناه ونعجز عنه.

وتهلل وجهه الضامر دالًّا على أنه ما زال محبًّا للثناء وقال: وكما طُعنت أبوتي طُعن طموحي. إني رجل مخضرم، لم أكن مهندسًا ناجحًا فحسب، ولكنني كنت أيضًا ذا انتماء سياسي معروف، وآمال وطنية مترامية. وظفرت في انتخابات ١٩٥٠ بعضوية مجلس النواب، وتنبأ لي كثيرون بالوزارة. وإذا بثورة يوليو تقوم على غير توقع مني، وطُويت الأرض التي كنت أقف فوقها مثل المسلة، وقذفت بأحب الرجال إلى قلبي إلى مجاهل النسيان وأعماق السجون. أصابني من الأذى شيء قليل ولكني وجدت نفسي لأول مرة متهمًّا معزولًا. وقبَعت في كهف الضياع زمنًا ولكني لم أستسلم، كما أني لم أنطح الصخر. وتذكرت انتصاراتي السابقة؛ لأستمد منها الشجاعة، وقررت أن أكرس حياتي للعلم والعمل، ففتحت مكتبي الهندسي، وكان من أمري ما تعلم مما أشرت إليه في عمودك اليومي.

– بعض رجال الثورة أنفسهم لم يكتموا إعجابهم بك.

– ولم تخلُ حياتي الجديدة من هزائم وانتصارات كالعادة. زوجتي اضمحلت وماتت، وعقب هزيمة ٥ يونيو، اجتاح الزلزال أبنائي الثلاثة، ففقدوا انتماءهم وثقتهم في كل شيء، وهاجروا واحدًا في إثر واحد إلى الولايات المتحدة، ووجدت نفسي غريبًا كما كنت في البداية!

– الهجرة تيار جامح لا ذنب عليك فيه.

– ولكن توجد حقيقة مرة لا يجوز أن نغفلها، وهي أننا لم نكن على المستوى المنشود حيال الهزيمة كما كنا حيال النصر، وحاولت أن أغريهم بالرجوع بعد أن تغير المناخ العام كثيرًا ولكنهم أبوا ذلك بشدة.

– من المحزن أن أفضلنا هم مَن يهاجرون.

– واعتزلت العمل بحكم الشيخوخة؛ لأعاشر وحدتي حتى النهاية.

فقال الأستاذ باسمًا: إذن فكلمتي لم تخلُ من حقيقة.

فقال باسمًا بدوره: ولكنني لم أستسلم للوحدة.

فرفع الأستاذ حاجبيه فوق حافتي نظارته لائذًا بالصمت، فواصل الآخر: عقدت العزم على الانتصار حتى النهاية، أن أنتصر على الكآبة كما انتصرت على الموت والثورة، ما زلت قادرًا على تذوق الأشياء الجميلة!

– مثل ماذا؟

– المشي، الموسيقى، الكرواسان بالحليب، التأمل تأهبًا للمغامرة الأخيرة!

فقال الأستاذ مقهقهًا: إنك صلب عنيد.

– أتراني الآن مستحقًّا للرثاء كما كتبت؟!

فقال الأستاذ بهدوء: اقرأ عمود الغد؛ لتعرف رأيي النهائي فيك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤