الفصل الثاني عشر

الليبرالية

  • التبادل يعمل بنجاح، وهو يعزز الرخاء فقط لأن الناس يملكون قيمًا متباينة. يؤمن النمساويون بأن أكثر ما يمهد الطريق للتقدم الاقتصادي — والاجتماعي — هو التسويات السلمية بين الأفراد المختلفين، وليس فرض الأغلبية لإرادتها على الجميع.

  • لا يحتاج المجتمع إلى التخطيط المركزي كي يعمل على نحو طيب. والطبيعة مليئة بالنظم الاجتماعية «التلقائية» التي تعمل بكفاءة. السوق أحد هذه النظم، وهو ينسق أنشطة ملايين الأشخاص دون الحاجة إلى تحكم مركزي.

أغلب النمساويين ليبراليون، بالمعنى الأوروبي لا الأمريكي. فهم يؤمنون بأنه إذا كان الناس أحرارًا في التصرف كما يختارون، ومقيدين بحرية الآخرين في التصرف على النحو عينه، فسيكون المجتمع إجمالًا ذاتي التنظيم. وفي مثل هذا المجتمع يقل القسر لحده الأدنى، لأن المنازعات يجب حلها بالتراضي، بينما يصل التعاون النافع إلى حده الأقصى من خلال التبادل الحر للملكيات الخاصة والعمل.

ومع هذا لم يبدأ الكثير من النمساويين حياتهم كليبراليين، بل اعتنقوا هذا الفكر حين بدءوا في بلورة أفكارهم الاقتصادية. فميزس، مثلًا، كتب أنه كأغلب الطلاب آمن في البداية بالحاجة للتدخل الحكومي في الاقتصاد، لكن اكتشافه لكتاب منجر «مبادئ علم الاقتصاد» أرشده إلى أهمية الأسواق الحرة والاختيار الفردي. هايك، بالمثل، قال إنه تمعن في واحدة من محاضرات ميزس، لكنه وجدها معارضة لآرائه الاشتراكية المعتدلة، ولم يعد لها قط، لكنه اقتنع بعد مناقشة لاحقة مع ميزس بأفكاره.

التبعات السياسية للمنهج النمساوي

ليست «الفردانية المنهجية» التي تتبناها المدرسة النمساوية مماثلة للفردانية السياسية، مع أنها تمد الأخيرة بالقوة. فالنظرة النمساوية تقضي بأن الأحداث البشرية مدفوعة بأفعال الأفراد، وأن الأفراد وحدهم من يقدرون على الاختيار، وأن المجتمع والمؤسسات الاجتماعية لا تملك عقلًا في حد ذاتها يكون مستقلًّا بشكل ما عن عقول الأفراد الذين تتألف هي منهم. ومن ثم لا وجود لما يطلق عليه «الإرادة الجمعية»، وأي سياسات مبنية على هذه الفكرة هي معيبة في جوهرها. يجب أن تحترم السياسات حقيقة أن القرارات تُتخذ بواسطة الأفراد، وليس على نحو جمعي.

تؤكد النظرة النمساوية أيضًا على أهمية الاختلافات والتنوع في التقدم البشري. على سبيل المثال: «اختلاف» البشر في تقديرهم لقيمة الأشياء هو ما يسبب تحديدًا دخولهم في عمليات التبادل؛ من أجل منفعة كلا الطرفين. إن سلوكهم الاجتماعي النفعي المتبادل ليس إرادة جمعية لبشر اتفقوا على كل شيء، بل هو اتفاق متبادل بين أشخاص «غير متفقين». إذا تبنى الجميع وجهات النظر نفسها في المجتمع، قد تكون وقتها فكرة الإرادة الجمعية قابلة للتطبيق، لكن هذا لا يحدث. ومن ثم يشعر النمساويون بأنه من الأفضل أن تنبع الحلول السياسية من التسويات السلمية بين الأفراد، لا من خلال فرض الأغلبية إرادتها على الجميع.

يواجهنا عالمنا دائم التغير بالمشكلات السياسية والاجتماعية المتواصلة التي تحتاج إلى الحل. يؤمن النمساويون بأننا سنحصل على حلول أكثر — وأفضل وأكثر إبداعًا — إذا تم الاستعانة بالخيال واليقظة والمعرفة المتخصصة للأفراد العديدين المرتبطين بالمهمة. في علم الاقتصاد يتحقق هذا من خلال عملية المنافسة، التي تمنح رواد الأعمال المختلفين حافز السعي وراء طرق جديدة أفضل لتعزيز القيمة المقدمة للمستهلكين. وبالمنطق نفسه، يمكن أن تُحل مشكلاتنا السياسية والاجتماعية على أفضل نحو إذا منحنا الأفراد أكبر قدر من الحرية الممكنة للخروج بعدد متنوع من الاستجابات الخلاقة، بدلًا من أن نأمل في أن يفي نهج جمعي وحيد بهذه المهمة.

قد تكون الاختلافات في الطريقة بين اقتصاديي المدرسة النمساوية وجمهور الاقتصاديين عاملًا آخر يدفع النمساويين نحو الفردانية السياسية. إن مستوى التحليل الاقتصادي الكلي الذي يتبناه جمهور الاقتصاديين قد يدفعهم إلى البحث عن حلول على المستوى الكلي. على النقيض من ذلك، تقترح الطريقة الفردانية أن القضايا الجوهرية معنية بالأفراد والمحفزات والمعلومات الموجودة حولهم، وأن تلك السياسة ينبغي من ثم أن تركز على هذا المستوى. وبالمثل، تجعل اقتصاديات الرفاه التقليدية جمهور الاقتصاديين يتخيلون أن منفعة الأشخاص المختلفين يمكن إضافتها، بحيث يمكن لسياسة سليمة أن تعظم المنفعة الاجتماعية. لكن الاقتصاديين النمساويين يعتبرون المنفعة شيئًا شخصيًّا وذاتيًّا، كالحب أو الحزن، ومن ثم هي شيء لا يمكن للسياسة الاجتماعية أن تتعامل معه.

السلام والتخطيط

ثمة سبب مهم وراء تفضيل ميزس لليبرالية كنظام اجتماعي، وهو أنه شعر أنها تقلل احتمالية نشوب الحرب وتعزز فرص إحلال السلام. حين تخطط الحكومات الاقتصاد أو تتدخل فيه، يتعين عليها أيضًا أن تحميه من الأحداث الاقتصادية الخارجية. على سبيل المثال: الإعانات المدفوعة للحفاظ على الأجور والأرباح مرتفعة ستقل إذا تدفقت العمالة والسلع الرخيصة القادمة من الخارج. لهذا يتحتم إنشاء الحواجز الهادفة لحماية المنتج الوطني ضد الدول الأخرى، وهو ما سيحض على عداوة الأجانب ويزيد من التوتر. على العكس، تولي الرأسمالية الليبرالية دورًا أصغر بكثير للحكومة، ويعتمد نجاحها على التجارة الحرة، وليس على حماية المنتج الوطني. وحين تعبر السلع والعمالة الحدود، تصير الدول معتمدة على بعضها من الناحية الاقتصادية، وتصير الحرب شيئًا مستبعدًا.

يرفض ميزس أيضًا الاشتراكية؛ إذ يحاج بأنها جعلت التخطيط الاقتصادي القومي شيئًا مستحيلًا. فبسبب الملكية العامة لوسائل الإنتاج، لا تُباع هذه الوسائل أو تشترى، ومن ثم لا يتحدد لها أي سعر. لهذا لم يكن هناك مقياس يمكن وفقه حساب ما إذا كانت الموارد الرأسمالية المختلفة تُستخدم على نحو فعال. بمعنى آخر، من دون الملكية الخاصة وحرية تبادلها، يصير التخطيط الاقتصادي المنطقي مستحيلًا.

بعد أن نبذ النمساويون أمثال ميزس الاشتراكية وسياسات التدخل، لم يبق أمامهم سوى الليبرالية، أو شيء شبيه بها، بوصفها الشكل الوحيد الراسخ للنظام الاجتماعي. فعلى نحو أكثر إيجابية، تضم الليبرالية منافع التبادل الطوعي بين الأفراد، وتشجع على يقظة رواد الأعمال، وتمكن المعرفة الموزعة الشخصية الجزئية من أن تُستخدم بفاعلية في اتخاذ قرارات الإنتاج.

المجتمع التلقائي

يجد الكثيرون أنه من الصعب التصديق بأن أي مجتمع أو اقتصاد يمكنه البقاء — ناهيك عن خلق الثروة وتوزيعها بأي طريقة منظمة منطقية — دون تخطيط مركزي وسلطة. إلا أن هايك قدم تفسيرًا لذلك بقوله إن المجتمع البشري الليبرالي والاقتصاد الليبرالي هما مثال على «النظام التلقائي». وقد أشار إلى أن عدم تخطيط الشيء من المركز لا يعني أنه هوجائي مهلهل عشوائي غير منظم. فمجتمعات النحل والنمل منظمة على نحو كبير، لكنها غير «مخططة» تقريبًا. وعلى نحو مشابه، المجتمعات البشرية لم «تُخترع»، بل تطورت، ونمت وظلت حية لأنها نافعة. القانون العام، بالمثل، لم يوضع تفصيليًّا من المركز، بل ظهر ببساطة حين تم الفصل في حالة واحدة، ثم أخرى، بحيث نما كيان من السوابق القضائية. وعلى نحو مشابه، لم يتم التخطيط قط للسوق ولنظام الأسعار، بل تطورا مع تبادل الناس للسلع المختلفة. كما أنها لا تحتاج لأي هيكل سيطرة مركزي للحفاظ عليها؛ فقد ظلت باقية واتسعت بفضل المنافع الكبيرة التي تقدمها لنا.

بعض الأنظمة التلقائية معقدة للغاية حتى إنه من الصعب، بل من المستحيل، على أي مخطط أن يخترعها أو يديرها. في الواقع، من الصعب دومًا على الناس أن يفسروا حتى كيفية عملها. فالقواعد اللغوية التي تمنح البنية للغة، كمثال، معقدة لدرجة بالغة حتى إن أغلب الناس يجدون صعوبة بالغة في تحديدها. ومع هذا فالناس تتبع قواعد اللغة على نحو طبيعي في كل مرة يتحدثون فيها. وبالمثل، بنية القانون العام ضخمة للغاية، وقد نمت وتراكمت على مر قرون، ومع هذا فأغلب الناس يملكون وحسب إحساسًا بما يكون «عادلًا» أو «غير عادل» بموجبه.

بعبارة أخرى، هناك قدر كبير من الحكمة في هذه المؤسسات، على الرغم من حقيقة أنها لم تُصمم وتُخطط على نحوٍ واعٍ قط. فنظام الأسعار، على سبيل المثال، يوجه الموارد في سرعة وفاعلية نحو أعلى استخداماتها قيمة، دون أن يخترعه أحد على نحو مقصود. إن عدم وجود تخطيط مركزي لا يعني أنه «غير مخطط» وغير منطقي. فجميعنا مُخططون، كما يقول هايك، بمعنى أننا نعمل على نحو واع من أجل إشباع طموحاتنا باستخدام الخامات والمعلومات المتاحة لنا. وفي نظام السوق هناك في الواقع قدر أكبر من التخطيط يدور، وكميات أكبر من المعلومات تُستخدم ويُعمل وفقها، مما يمكن أن يحققه عقل وحيد لأي سلطة مركزية.

يؤمن هايك بأن النظم النافعة تظهر على نحو طبيعي حين يتبع الناس طرقًا منتظمة للفعل، تمامًا كما ينتج إحساس الترفيه المسلي أو المثير عن اتباع الناس لقواعد لعبة ما. القواعد في حالة نظام السوق الليبرالي الحر هي مبادئ على غرار احترام الملكية الخاصة وحق الاحتفاظ بها أو التخلي عنها، ورفض العنف والقسر، وحرية دخول الناس في تعاقدات طوعية، وإجلال مثل هذه الوعود التعاقدية. والمثير للدهشة أن قليلًا من القواعد الليبرالية البسيطة كهذه تكفي لخلق ما سماه روثبارد بالتناغم والتنسيق «المثير للرهبة» بين الأفراد، وتنظيم دقيق رشيق يوجه الموارد نحو أعظم إشباع ممكن لرغبات المستهلكين.

لا نتيجة محددة

يؤمن الليبراليون بأن الالتزام بمبادئ السلوك الحر هذه ينتج نظامًا اجتماعيًّا ذاتي التنظيم يتعامل مع التحديات الاقتصادية والاجتماعية بقدر كبير من الإبداع والفاعلية — أكثر كثيرًا عن النظام المخطط مركزيًّا — وينبغي تبنيه لهذا السبب. ومع ذلك يستحيل معرفة النتيجة الدقيقة للنظام الاجتماعي الناتج مقدمًا، تمامًا كما يستحيل معرفة نتيجة إحدى المباريات مقدمًا إذا التزم الجميع بالقواعد. فلا يمكننا مثلًا أن نعرف أي توزيع للثروة سينتج، أو من سيحتل أي موضع بهذا التوزيع في أي لحظة بعينها.

يرى البعض — ممن يؤمنون بالمساواة في الدخل مثلًا — في هذا موطن ضعف. لكن أتباع المدرسة النمساوية الليبراليين لا يعتبرونه كذلك. فهم يؤكدون أن الأسواق الحرة تقدم ما «يريده» الناس و«يختارونه» بالفعل، لا ما يريد بعض المثاليين أن يفرضوه عليهم. إن فرض نتيجة اجتماعية محددة أشبه بتحديد من سيفوز بالمباراة مقدمًا؛ فهو يجعل النشاط بأكمله عديم المعنى ولا يستحق العناء. لكن إذا منحت الناس حريتهم، فسيركزون طاقتهم وإمكاناتهم الإبداعية على تحسين حياة الجميع.

يعد التحسين المتواصل الذي تتسبب فيه الأسواق سببًا آخر وراء اعتناق اقتصاديي المدرسة النمساوية لهذه الأسواق. فلأن المنافسة ليست «مثالية»، بل هي عملية اكتشاف، تحفز الأسواق الحرة الناس على زيادة الإشباع البشري من خلال إنتاج الأشياء على نحو أفضل وأرخص. وفي مجتمعات السوق تكون الفجوة بين الغني والفقير — أي القدرة على الاستمتاع بالكافيار بدلًا من تناول بطارخ سمك القد، كما يعبر ميزس عن الأمر — لا تذكر مقارنة بالزيادة المهولة في مستويات المعيشة التي أطلقها انتشار ثقافة السوق. وحتى أفقر البشر في الولايات المتحدة الأمريكية اليوم، كمثال، يعيشون في مستويات معيشية لم يكن نبلاء القرون الوسطى ليحلموا بها، مع تمتعهم بالماء الجاري والنظام الصحي والانتقالات والضوء والدفء ومخزون الطعام الثابت القادم من كل أنحاء العالم، والماكينات الموفرة للجهد وغير ذلك الكثير من الكماليات الحديثة.

في الواقع، يحاج الكثير من النمساويين بأنه من الناحية العملية، تنتج المجتمعات الليبرالية مساواة أكبر من تلك التي تنتجها المجتمعات الاشتراكية أو الشمولية. وكما يقول هايك، فإن الأغنياء قد يقدرون على تحمل تكلفة شراء أحدث الموضات أو التقنيات، لكن سريعًا ما ستنتشر هذه الكماليات للجميع. وفي المجتمع الليبرالي سيحظى الناس بفرصة أكبر لتحسين حياتهم عما هو الحال في المجتمع الاشتراكي، الذي تحدد فيه قوة مركزية ما موضعهم في الحياة. وفي كثير من هذه المجتمعات توجد فجوة كبيرة بين الصفوة الحاكمة وغيرها من أفراد المجتمع؛ خاصة إذا كانوا منتمين لعرق أو ديانة أو جماعة غير ذات حظوة. لكن في المجتمع الليبرالي الحر يمكن لكل شخص أن يطمح في كسب المال، بصرف النظر عن خلفيته، وإذا حسن من إشباع الآخرين فسيتمكن من عمل هذا.

حدود الليبرالية

أغلب النمساويين وصولًا إلى ميزس وهايك يعدون أنفسهم من الليبراليين «الكلاسيكيين». آمن هؤلاء بضرورة تعظيم الحرية لحدها الأعلى، وتقليل القسر لحده الأدنى، وأن هذا من شأنه أن يخلق مجتمعًا نشطًا متناغمًا ذاتي التنظيم. لكن كي تعمل الأسواق، هناك حاجة إلى وجود قواعد (على غرار احترام الملكيات والعقود)، تمامًا كما تحتاج النار إلى شعلة حاملة كي تحترق على نحو سليم. ومن ثم كان هناك دور للدولة في فرض هذه القواعد.

بعض النمساويين الأحدث متشككون أكثر بشأن الحاجة لسلطات الدولة. فاستنادًا إلى حجة ميزس القائلة إن التدخل الحكومي دائمًا ما يخل بتوازن الأسواق ومن ثم يجذب الموارد نحو المواضع الخطأ يذهبون إلى القول إن «أي» تدخل حكومي له نتائج مدمرة. يصر روثبارد، على سبيل المثال، على أنه من الأفضل ترك أمور مثل المعروض من النقود، بل حتى فرض الأمن والدفاع، في يد السوق، بدلًا من أي سلطة مركزية. ويقول روثبارد إنه بما أن الرأسمالية تعمل على نحو فعال وتلقائي دون الحاجة إلى تخطيط أو ضبط أو توجيه مركزي، ينبغي السماح لها بمواصلة العمل على هذا النحو: وهو النهج الذي يطلق عليه «اللاسلطوية الرأسمالية».

يتبنى روثبارد أيضًا المنظور الليبرتاري للحياة الاجتماعية، نظرًا لأن ما ينطبق على الحياة الاقتصادية ينطبق بالضرورة على الحياة الاجتماعية أيضًا. فالمصلحة العامة تتحقق على أفضل نحو حين يتعاون أشخاص أحرار من خلال الاتفاق الطوعي، وليس حين تُفرض عليهم طرق معينة للحياة من جانب سلطات حكومية بعيدة؛ سلطات لها قيمها الخاصة بها، وتملك معلومات منقوصة عن قيم الآخرين والكيفية التي تخدمهم بها على النحو الأمثل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤