الفصل الثالث عشر

انتقادات النهج النمساوي

  • يزعم بعض المنتقدين أن المنهج الفرداني المتشدد للمدرسة النمساوية محدود للغاية، وأن الأنماط الاجتماعية يمكن استخدامها لتفسير الجماعات البشرية والتنبؤ بها.

  • يزعم المنتقدون أيضًا أن النمساويين يسخرون من نماذجهم، التي هي في نهاية المطاف ليست إلا أفكارًا مجردة. وهم يصرون أيضًا على أن النمساويين يسارعون في إلقاء اللوم على التدخل الحكومي عند كل فشل، وأن السوق الحرة ينتج عنها مشكلة الاحتكار وغيرها من المشكلات.

  • أغلب النقد يركز على المنهج الاستدلالي لميزس، الذي يعده جمهور الاقتصاديين غير علمي.

الفردانية النمساوية

يرجع النمساويون الظواهر الاقتصادية كافة إلى الأغراض والأفعال الفردية، ويرفضون الفكرة القائلة إن الجماعات البشرية لها وجود أو عقل أو أغراض تتجاوز تلك الخاصة بالأفراد الذين تتألف منهم. لكن المنتقدين يزعمون أن الأشياء يمكن أن تكون أكبر بالفعل من الأجزاء المؤلفة لها. فالجسم البشري، مثلًا، ليس «فقط» تجميعة من الخلايا، إلا بمعنى مبتذل للغاية. فالتنظيم المعقد لتلك الخلايا هو ما ينتج شكلًا مختلفًا للغاية من أشكال الحياة.

ثمة حاجة لتفسيرات مختلفة لفهم هذه الأشكال الأكبر. فحين نستشير الطبيب بشأن الزكام، نحن لا نحتاج لتفسير طويل مفصل عن كيفية عمل الخلايا الأنفية. بل نريد تفسيرًا قصيرًا كليًّا يوضح هل السبب عدوى أم حساسية، وهل المضادات الحيوية أو مضادات الهستامين ستشفيه. لا نحتاج أن «نعرف» كيف تعمل الخلايا كي نعالج الأنف المصاب بالزكام، تمامًا كما لا يحتاج العالم أن يعرف كيف تتصرف الجزيئات المنفردة من أجل التنبؤ بتمدد الغاز.

قد يكون صحيحًا من الناحية الفنية أن الأفراد «وحدهم» هم من يختارون. لكن هذا يتجاهل التفسيرات الكلية المفيدة؛ على غرار الثقافة والتاريخ والأخلاقيات والتقاليد، وجميعها يمكنها أن تمدنا بأفكار مفيدة عن الأحداث الاجتماعية والاقتصادية. يمكننا رؤية «الأنماط» في البساط دون معرفة لون كل خيط مفرد. وبالمثل، قد نستطيع الكشف عن الأنماط المنتظمة — والتنبؤ بها — في صور الاقتصاد الكلي، في الوقت الذي لا نعرف فيه شيئًا عن الأفراد المعنيين.

المنهج العلمي

سيرد أغلب النمساويين على هذا بقولهم إننا لن نصدر أبدًا مثل هذه التنبؤات على النحو الصحيح. فقد يرى واحد من المريخ القطارات المكتظة وهي تلفظ ما في جوفها من ركاب على المحطة كل يوم عمل من أيام الأسبوع، ويتنبأ في ثقة بتكرار النمط عينه مستقبلًا. لكن عاجلًا ما يحل يوم تكون فيه القطارات خاوية. لم يفهم المريخي أن كل هذا النشاط ليس آليًّا. فهو موجود لملاءمة الأغراض البشرية، وهذا اليوم تحديدًا هو يوم عطلة عامة، يختار الناس فيه المكوث في منازلهم.

لكن ردًّا على ذلك سيقول العلماء إن أي توقع ما هو إلا تخمين، وإنه مع المزيد من الملاحظات سيتعلم المريخي التنبؤ بالعطلات العامة بدقة جيدة، حتى دون معرفة الغرض من ورائها. وهذه هي الكيفية التي يتقدم بها العلم والفهم.

لكن ميزس يرى أن علم الاقتصاد تضمن استنتاج أشياء من طبيعة الفعل الواعي، التي اعتبرها حقيقة مؤكدة (نظرًا لأن إنكارها سيكون فعلًا واعيًا). تحظى هذه النظرة بشعبية بين أتباع المدرسة النمساوية من الأمريكيين تحديدًا، مع أن غيرهم من النمساويين يرون أنها مبالغ فيها. فهايك، على سبيل المثال، تقبل القول بأنه على الرغم من أن جانبًا كبيرًا من علم الاقتصاد معني بتتبع عواقب الأفعال المعروفة، فإننا لا نزال بحاجة لفهم المنهج العلمي للملاحظة والتنظير إذا ما أردنا تفسير ما هو «غير متوقع». يؤمن النمساويون المتبعون لرؤية هايك بأن قليلًا جدًّا من الأمور بديهي، أو حتى لا شيء بديهي على الإطلاق، وأن التفكير البشري عرضة للخطأ؛ فعلى أي حال، حتى أتباع ميزس يختلفون حول بعض الأشياء.

النمساويون والفكر السائد

يرى جمهور الاقتصاديين أن المدرسة النمساوية تسخر من نماذجهم وتبالغ في الاختلافات الحقيقية بينهم. إنهم يدركون «بالفعل» أن المنفعة أمر ذاتي لا يمكن قياسه، وأن الأسواق «ليست مثالية» مطلقًا، ونماذجهم ما هي إلا طرق مفيدة لتبسيط المفاهيم المعقدة وفهمها. والنمساويون أنفسهم يملكون رؤية عن الأسواق التي لا توجد بها قوة أو سرقة أو ضرائب، وهي بهذا غير واقعية مثل النماذج التي يسخرون منها.

ردًّا على ذلك يقول النمساويون إن جمهور الاقتصاديين لا يزالون يرتكبون أخطاءً سخيفة. فمع أن المنفعة أمر شخصي بطبيعتها مثل شعور الفرحة أو الخزي، فإن كتبهم تقترح أن «وحدات المنفعة» يمكن قياسها وإضافتها. وينتهي الحال بتلاميذهم فعلًا بالإيمان بأن الأسواق يمكن أن تكون مثالية — وهو ما يحض على الكثير من السياسات الحكومية السيئة — مع أن الأسواق يستحيل «مطلقًا» أن تعمل إذا كانت مثالية؛ لأنه لن يوجد وقتها ما يدفعها. وعلى النقيض، سيعمل السوق الخالي من القسر على نحو طيب، وهذا هدف يستحق السعي لتحقيقه.

طبيعة الفعل

بعض المنتقدين، خاصة من اليسار، يؤمنون بأن النمساويين مخطئون في اعتبارهم للفعل الواعي كأساس لعلم الاقتصاد. يمكن أن يملك الناس تفضيلات، دون أن يكونوا قادرين على التعبير عنها؛ لأن ما يريدونه بالفعل ليس متاحًا لهم. أو قد يكونون واقعين تحت ضغط الاختيار بطريقة معينة. أو قد تكون أفعالهم لاإرادية أو لاواعية. إن قدرًا كبيرًا من الحياة الاقتصادية يتشكل عن طريق المآسي العارضة أو الاكتشافات سعيدة الحظ. وأغلب الإنتاج يقوده مجموعات صغيرة من الرؤساء؛ فالجمهور العام لا «يفعل»، بل هو «يستجيب» لهذا الواقع.

يرد النمساويون بأن في هذا خلطًا بين علم الاقتصاد وعلم النفس والتاريخ والسياسة. فالاقتصاديون مهتمون بالكيفية التي يختار الناس بها بين الأشياء، والاختيار يعني ضمنًا الفعل «الواعي». فالفعل «اللاواعي» هو مجال علماء النفس، لا الاقتصاديين. وقد يرغب الناس بالفعل في أشياء بعيدًا عن منالهم، لكن هذا أيضًا يقع في نطاق علم النفس، وهو يصير من اختصاص علم الاقتصاد فقط عندما يتخذ الناس خيارات عملية. قد يغلق الحظ السيئ الباب أمام بعض الخيارات، وقد تفتح الاكتشافات الباب أمام اختيارات جديدة، لكن الاقتصاديين مهتمون فقط ﺑ «الكيفية» التي يختار بها الناس، أما «ما» يختارونه فهو من شأن المؤرخين ومتخصصي العلوم السياسية. من الصحيح أن رواد الأعمال يقودون عملية الإنتاج ويوجهونها، لكن قرار ترك الحقول والالتحاق بالعمل في مصنع، مثلًا، يظل قرارًا يتخذه الفرد، ويتخذه على نحو واعٍ.

الأسواق والاحتكار

يزعم المنتقدون أن النمساويين يسارعون بلوم الحكومة على كل فشل اقتصادي تقريبًا. ففشل الاشتراكية السوفييتية، مثلًا، لم يكن بالضرورة بسبب الاستحالة المزعومة للتخطيط الاشتراكي؛ فهناك أسباب أخرى من بينها الفساد وضعف المحفزات والنظام السياسي الشمولي. يرد النمساويون بالقول إن هذه المشكلات نفسها هي نتيجة للنظام الذي تُخصص الموارد فيه بواسطة الصراعات السياسية على السلطة.

وحتى لو رفضنا التخطيط المركزي، فلا يزال الكثيرون يؤمنون بأن الاقتصاد المختلط يعمل على النحو الأمثل: على سبيل المثال، التمتع بالتبادل الحر والمنافسة (اللذين يحفزان على الابتكار وخدمة العميل)، داخل إطار عمل من التنسيق المركزي (الذي يمنع الازدواجية ويضمن تغطية كل الخيارات). لكن النمساويين يقولون إن أي تدخل حكومي يقدم بالضرورة قيم الطبقة الصغيرة الحاكمة على قيم السكان كلهم، الذين يتعاونون في المتاجرة بحرية، ومن ثم يقلل من رفاهية البشر.

يتهم النمساويون الحكومات بالتسبب في الاحتكار والإبقاء عليه. يقبل المنتقدون القول إن الحكومات الكبيرة الفاسدة يمكنها التسبب في الاحتكار، لكن هذا ما تفعله أيضًا الشركات الكبيرة الفاسدة. وفي الواقع، كما يقولون، تعج الأسواق غير المنظمة بقواعد بالاحتكارات، وقد شهدت حقبة عدم التدخل في القرن التاسع عشر ظهور كيانات احتكارية ضخمة.

ردًّا على ذلك، يصر النمساويون على أنه حين تكون الأسواق مفتوحة، يستحيل وجود الاحتكار، أو استمراره لفترة طويلة. وحتى الاحتكارات «الطبيعية» تكون هشة؛ فقد تحتكر شركة تعدين كل إنتاج منجم ما، مثلًا، لكن وقتها سيبحث الناس عن بدائل تغنيهم عن دفع الأسعار الاحتكارية. وحين تكون الاحتكارات مبنية على الحجم، دائمًا ما تكون الشركات الكبيرة عرضة لهجمات الشركات الكبيرة الأخرى، بل في الواقع الشركات الأصغر التي تلتهم أجزاء معينة من سوقها. ولن تستطيع هذه الشركات المحتكرة حماية نفسها من هذه المنافسة إلا من خلال الضوابط الحكومية التي تحميها.

دورات الاقتصاد والائتمان

يؤكد النمساويون على أن مصدر دورات الانتعاش والكساد الاقتصادي هو التوسع الحكومي في الائتمان، الذي يؤدي إلى أخطاء في الاستثمار، وأن الحل الوحيد هو ترك هذه الأخطاء تحل نفسها بنفسها. لكن الكثير من الاقتصاديين يؤمنون بأنه حين يتعثر الاقتصاد، ينبغي على الحكومة أن تشجع على المزيد من الاستثمار. وهذا، كما يرون، قد يخاطر بقدر من الزيادة في الأسعار، لكن هذا أفضل من حدوث ارتفاع حاد في الأسعار.

يرى النمساويون أن المشكلة أشبه بمشكلة الإدمان على المخدرات. فالمحفزات المتمثلة في الائتمان الجديد ستنتج انتعاشًا، لكن هذا الانتعاش لن يستمر إلا مع استمرار الائتمان في النمو. ودون جرعات أكبر وأكبر سيضيع التحفيز، وستُفضح أخطاء الاستثمار المرتكبة على خلفية الائتمان الرخيص ويتضح عدم فعاليتها. إن تأخير اليوم المشئوم لن يتسبب إلا في جعل الارتفاع المحتوم أكبر وأكبر.

النقود والتضخم

أيضًا يجد جمهور الاقتصاديين مشكلة في انجذاب النمساويين إلى غطاء الذهب. فالعملات السلعية كالذهب تأخذ بالفعل مخزون المال بعيدًا عن سيطرة الحكومة، وربما تلطف من خطر التضخم. لكنها لا «تمنع» دورات الانتعاش والكساد المضرة. فالولايات المتحدة، مثلًا، عانت ثماني فترات ركود اقتصادي على الرغم من تمتعها بغطاء من الذهب للنقود السلعية. والنقود الإلزامية، إذا أحسن إدارتها، يمكن استخدامها لتخفيف الفوارق بين فترات الانتعاش والكساد، ومن ثم تحفيز النمو الاقتصادي.

يظل النمساويون خائفين من محاولة الحكومات استخدام النقود الإلزامية في خلق فترات انتعاش هدفها كسب أصوات الناخبين، مع تجاهل الأخطار التي ينطوي عليها ذلك، وأن النظام المصرفي الاحتياطي الجزئي سيضخم هذا الأثر. فمع أن النظام المصرفي الاحتياطي الجزئي عمل على نحو طيب من منظور تشغيل المدخرات وخلق النمو الاقتصادي، فإنه سمح أيضًا بتقليل قيمة العملة وارتفاع الأسعار، وهو ما يصيب القرارات الاستثمارية بالحيرة، ويسبب عدم الكفاءة الاقتصادية والهدر. والأسوأ من هذا، كما بينت لنا أحداث عامي ٢٠٠٨ و٢٠٠٩، أنه يضخم دورة الانتعاش-الكساد على نحو كارثي.

خاتمة

يتركز النقد الموجه للمدرسة النمساوية بالأساس حول المنهج الاستدلالي والفردانية الكاملة لميزس وروثبارد وأتباعهما (خاصة الأمريكان). ومع ذلك، يظل هناك نطاق واسع من الآراء داخل المنهج النمساوي. يتقبل نمساويون آخرون القول إن الفعل البشري كله ينحصر في النهاية في الأفراد، لكن التفسيرات المبنية على النزعات الثقافية أو الاقتصادية أو التاريخية الأوسع تساعدنا بالفعل على الفهم. على سبيل المثال: تبنى هايك وجهة نظر مفادها أننا نستطيع اكتشاف «الأنماط» في الحياة الاقتصادية والاجتماعية، التي منها يمكننا الخروج بتنبؤات علمية موثوق بها إلى حدٍّ معقول، حتى لو لم نفهم تحديدًا كيف حدثت هذه الأنماط.

يؤمن كثير من النمساويين أيضًا بأن المنهج الاستدلالي يحتاج للمراجعة في ضوء الأدلة الملموسة من الحياة الواقعية، وأننا لو بدأنا من فكرة الفعل غير المدنس بالسرقة والاحتيال والقسر والسيطرة، فسننتهي إلى استنتاجات غير واقعية بالمثل. فالأسواق غير المنظمة والحرة بالكامل لا تنشأ مطلقًا، بل في الواقع، كما يقول هايك، «تحتاج» الأسواق بالفعل لإطار عمل من القواعد الاجتماعية لكي تعمل — قواعد للملكية والتعاقدات مثلًا — تمامًا كما تحتاج النار لشعلة حاملة كي تحتويها.

من منظور النمساويين، أمثال هايك، يبدو من غير المعقول رفض أي منهج خلاف الاستدلال وأي انحراف عن المثال المفاهيمي الخالص. والأفضل أن نبين أن مزايا الأسواق تفوق عيوبها، بصرف النظر عن مساوئها الحتمية. قد لا يكون النظام المصرفي الاحتياطي الجزئي والنقود الإلزامية أشياء مثالية، لكن هل مزاياها تفوق تكاليفها؟ لأغلب الناس، ومن بينهم الكثير من النمساويين، ينبغي أن تأتي إجابة مثل هذه الأسئلة من واقع الأدلة والنقاش، وليس المنطق البشري القابل للخطأ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤