الفصل الرابع

أهمية القيم

  • القيمة ليست سمة للأشياء، كالحجم أو الوزن. يقيم الأشخاص المختلفون السلع المختلفة على نحو متباين باختلاف الأوقات والأماكن. فالقيمة توجد فقط في عقول الأفراد المعنيين.

  • ليس بوسعنا أن نعرف ما يدور بعقول البشر، لكن بوسعنا الحصول على بعض التلميحات عن مدرج القيم الخاص بهم بالنظر إلى ما يختارونه بالفعل.

  • الاختيارات والقيم ليست أمورًا رياضية؛ فالشخص المصاب بصداع لا يولي مائة قرص أسبرين من القيمة أكثر مما يولي القرصين منه بخمسين ضعفًا.

يختلف نهج المدرسة النمساوية في الاقتصاد إلى حدٍّ بعيد عن نهج العلوم الطبيعية، مع أن النمساويين مؤمنون بأن نهجهم علمي تمامًا. يمكن استخدام هذا النهج لإصدار تنبؤات، لكنها تنبؤات من نوع مختلف للغاية عن تلك التي يصدرها علماء العلوم الطبيعية، أو يزعمون أنهم يصدرونها.

يقول النمساويون إن علم الاقتصاد مختلف بالضرورة؛ لأنه يتعامل مع الأفراد من البشر، وأن البشر، خلافًا للجمادات التي يتعامل معها علماء العلوم الطبيعية، لهم «دوافعهم» و«أغراضهم» التي تحركهم. سيكون من الصعب على الفيزيائي أن يتنبأ بتمدد أحد الغازات لو أن جزيئات هذا الغاز كان لها حياة خاصة بها وبدأ بعضها في التذمر من التجربة في الوقت الذي رحبت فيه أخرى بها. بالمثل، من الصعب التنبؤ بإحصائيات اقتصادية حين تكون دوافع الأفراد وأفعالهم مختلفة ومتغيرة ومتصارعة بقدر اختلافهم.

إن «حقائق» علم الاقتصاد إذن ليست حاصلات إحصائية إجمالية كالسعر أو الاستثمار أو الادخار. ولا هي خطط فردية خاصة بالأسعار أو الاستثمارات أو المدخرات. فهذه الأشياء ليس لها أهمية إلا بما «تعنيه» للأفراد، وبالاختيارات التي يقدم عليها الأفراد نتيجة لها. إن «حقائق» علم الاقتصاد ليست أشياء، بل هي ما يعتقده الناس عن العالم، وما يتوقعون حدوثه، والأشياء الأهم من منظورهم التي تحضهم على الفعل. هذا النهج يسمى «الذاتية»؛ لأنه يؤكد على أهمية الخيارات الشخصية الذاتية أكثر من الأشياء «الموضوعية» القابلة للقياس. ووفق هذه النظرة، فإن علم الاقتصاد معنيٌّ بما يوليه البشر «القيمة»، وما يفعلونه نتيجة لذلك.

القيمة في العقول، لا في الأشياء

يسبب مفهوم القيمة بلبلة كبيرة لدى البشر، وقد استمر هذا آلاف السنين. فهناك افتراض شائع بأن القيمة هي شيء تملك السلع المختلفة مقادير مختلفة منه؛ أي إنها سمة قابلة للقياس كالحجم أو الوزن. لكن القيمة ليست سمة موضوعية كامنة في الأشياء. بل هي كامنة في عقل المشتري. فالشيء نفسه تتباين قيمته في نظر مختلف الأشخاص؛ فالناس هنا مثل المتاجرين بالأسهم، فيعتقد أحدهم أن هذا هو الوقت المناسب للشراء، بينما يرى الآخر أن هذا هو الوقت المناسب للبيع. إن القيمة التي نسبغها على شيء ما هي مسألة تقدير شخصي؛ أمر عاطفي. وهي تعكس النفع الذي نؤمن بأن شيئًا ما سيجلبه إلينا. وهذا يعتمد على حالتنا البدنية والنفسية؛ فقد نولي قيمة كبيرة للمعطف الدافئ خلال العاصفة الثلجية، لكننا لن نفعل هذا لو كنا في الصحراء. إلى جانب أن الأمر يعتمد على مدى استنارة معتقداتنا؛ فكثيرًا ما نولي شيئًا ما قيمة كبيرة، ثم نشعر بالإحباط فور اقتنائه.

أيضًا تتغير قيمنا بسبب المنتجات والعمليات التي تظهر للنور، والتغيرات التكنولوجية، التي تحول رغباتنا نحو الأشياء الأفضل أو الأرخص. ليست النتائج قابلة للتنبؤ بها على الدوام؛ فكما يقول ميزس فإن الإنتاج بالجملة لمنتَج حديث شائع قد يجعله جذابًا من الناحية المادية للمستهلكين الفقراء، غير أنه سيجعل الأغنياء الحريصين على أناقتهم يهجرونه ويسعون وراء شيء آخر أكثر خصوصية.

على الرغم من أن علم الاقتصاد يضرب بجذوره في القيم البشرية، فإنه ليس فرعًا من فروع علم النفس. فهو لا يهتم ﺑ «سبب» تقدير الناس للأشياء — لماذا يشربون الكحوليات مثلًا — بل هو يهتم فقط بالنتائج التي تحدثها هذه القيم على ما يختارونه في السوق؛ مقدار المشروبات الكحولية التي يرغبون فيها بمختلف الأسعار مثلًا. لقد أخذ علم الاقتصاد قيم الأفراد وأغراضهم كأمور «مسلم بها»؛ لأنه يستحيل الدخول إلى عقولهم. بدلًا من ذلك هو يركز على أفعالهم؛ أي ما يفعلونه نتيجة لقيمهم وأغراضهم. وحسب وصف ميزس فإن علم الاقتصاد هو جزء من علم آخر أكثر عمومية للفعل الإنساني (يسميه بعلم السلوك، أو براكسيولوجي).

ومع ذلك، هو لا يشبه العلوم الطبيعية، التي تبدأ بملاحظة الأشياء، ثم الخروج بنظريات تنبئية، ثم اختبارها؛ أولًا: ليس بوسعنا ملاحظة قيم الناس على نحو دقيق؛ لأننا نعجز عن الدخول إلى عقولهم. ثانيًا: ليس بوسعنا اختبار النظريات بشأن ما يفعلون؛ لأن الظروف نفسها قد لا تتكرر مطلقًا. فالعالم دائم التغير، وقيم البشر ودوافعهم تتغير هي الأخرى.

يطلق ميزس على الناتج الفعلي لكل عمليات الفعل ورد الفعل الصاخبة هذه اسم «المبادلة» وذلك خوفًا من أن يوحي مصطلح «الاقتصاد» بعملية ميكانيكية متعمدة ومخطط لها. وأطلق على الدراسة الاقتصادية لهذه النتائج اسم «نظرية المبادلة».

طبيعة علم الاقتصاد

ومع هذا فعلم الاقتصاد «علم» يكتشف الأشياء، بل حتى يصدر تنبؤات، هذا ما يقوله النمساويون، لكنه لا يفعل هذا على أساس الملاحظة والتنظير والاختبار، بل من خلال الاستدلال المنطقي. فمثلما تُشتق الهندسة أو الرياضيات من عدد قليل من البديهيات الخاصة بالخطوط أو الأرقام، بالإمكان استنتاج علم الاقتصاد من عدد قليل من البديهيات المتعلقة بالفعل البشري. فنحن نعرف شيئًا عن الكيفية التي يختار الناس بها أن يفعلوا الأشياء، وهذا لأننا بشر بالمثل. ومن هذا يمكننا بالفعل استنتاج قدر كبير من الفهم الاقتصادي. فبمقدورنا تحليل مبادئ الطلب أو كيفية تحديد الأسعار، مثلًا، حتى إذا كنا لن نعرف مطلقًا «لماذا» يطلب الأشخاص المختلفون أشياء مختلفة.

وبالمثل، مع أننا لا نعرف قيم الشخص على نحو مباشر، فبإمكاننا تكوين صورة لها من واقع اختياراته التي يقدم عليها. فحين يختار البشر فعلًا بعينه أو آخر، يمكننا أن نفترض على نحو منطقي أن هذا هو الفعل الذي يفضلونه؛ الفعل الذي يولونه قيمة أكبر. وهو أهم لديهم من الشيء الذي قرروا عدم فعله. وحين نراقب البشر على مر سلسلة من الخيارات، نستطيع تكوين صورة عن «مدرج القيم» الخاص بهم من خلال التفضيلات التي تكشف عنها أفعالهم؛ ما أسماه ميزس «التفضيلات الموضَّحة». ليس بوسعنا الوصول لقيم البشر، لكن يمكننا «استنتاجها» من واقع خياراتهم الفعلية. وهذه هي الكيفية التي نتوصل بها إلى مبادئ الاقتصاد؛ مبادئ الاختيار.

هذا النوع من التفكير مكن كارل منجر من ابتكار علم جديد للقيم والأفعال بلغ من ثوريته ونفعه أنه لا يزال يُستخدم (أو يُساء استخدامه) في كتب الاقتصاد التقليدية السائدة اليوم؛ ألا وهو «تحليل المنفعة الحدية».

حساب الاختيار

أحد الأشياء التي طالما حيرت الاقتصاديين هي لماذا الماء — الضروري لهذه الدرجة للحياة — رخيص بهذه الدرجة، بينما الماس — غير الضروري — ثمين لهذه الدرجة. أجاب منجر عن هذا السؤال. لن يتاح للأفراد مطلقًا خيار امتلاك كل مياه العالم، أو كل ما به من ماس. وهم يواجهون فقط بخيارات امتلاك كمية قليلة من كل منهما؛ لنقل كوب من الماء أو قطعة من الماس. أغلب الناس لديهم بالفعل من الماء ما يروي عطشهم، لذا هم لا يولون كوب الماء الإضافي قيمة كبيرة. لكن يندر أن يوجد من الناس مَن يعتقد أنه يملك من الماس ما يكفي، لذا هم مستعدون لدفع مبالغ باهظة لامتلاك قطعة أخرى منه. هم لا يظنون أنهم سيحصلون على فائدة كبيرة من كوب الماء الإضافي، لكنهم يتخيلون النفع العظيم الذي سيعود عليهم من تملك قطعة ماس إضافية. الأمر متعلق بما يسمى ﺑ «المنفعة الحدية»؛ بمعنى مقدار النفع الذي يتوقع الناس الحصول عليه من أي «إضافة بسيطة» لما لديهم من أشياء.

بطبيعة الحال ستعتمد اختيارات البشر على ظروفهم المحددة. فالشخص الذي يموت من العطش في الصحراء سيولي كوب الماء قيمة كبيرة للغاية، وسيكون مستعدًّا لمبادلته بكمية هائلة من الماس. بينما الشخص الذي يعيش في بلد مطير لن يفكر في مثل هذا الأمر. «المنفعة» إذن هي النفع الذي يتوقع الشخص الحصول عليه من سلعة ما، وهي من ثم مسألة حكم شخصي خاص بذلك المكان والزمان المحددين. فالشخص المصاب بالصداع قد يرحب بقرصين من الأسبرين، لكنه لن ينتفع بمائة قرص إضافي. والشخص الذي يحتاج عشرة ألواح خشبية لإكمال بناء مأوى له قد يبادل (حسب مثال ميزس) معطف المطر مقابل عشرة ألواح أو أكثر، لكنه لن يفعل هذا مقابل تسعة ألواح؛ لأنها لن تقيه الطقس السيئ. المنفعة إذن ليست سمة يمكن مراكمتها ومقارنتها بأكوام الطوب، كما تقترح كتب الاقتصاد التقليدية السائدة كثيرًا.

لهذا السبب تعد «منحنيات الحياد» التقليدية مضللة. يُزعم أن هذه المنحنيات تبين مقدار الفائدة التي يكون البشر مستعدين للتضحية بها للحصول على فائدة أخرى. لكن كل التبادلات تعتمد على مشاعر الأطراف المعنية وليست بمعادلات رياضية صريحة تنتج رسومًا بيانية منتظمة، كما يوضحه مثال معطف المطر وألواح الخشب.

لرؤية كيف يتخذ البشر قراراتهم على أرض الواقع، تدبر مثال الأسرة المزارعة التي تملك خمسة أجولة من الحبوب؛ واحد لإطعام نفسها، وثانٍ لإطعام حيواناتها، وثالث لزراعة المحصول، ورابع لبيعه للحصول على احتياجاتها، وخامس يستخدمونه في إطعام ببغائهم الأليف. لسوء الحظ، يتعين عليهم التخلي عن أحد أجولة الحبوب لدفع دين قديم. هل يقللون استهلاكهم للحبوب بمقدار الخمس، كما تقترح الحسابات الرياضية؟ كلا، سيأكلون الحبوب ويطعمون بها حيواناتهم ويزرعونها ويبيعونها كالمعتاد، لكنهم سيتركون الببغاء ليموت جوعًا؛ لأن هذا هو أكثر الاستخدامات «هامشية/حدِّية» في نظرهم.

على أساس «المنفعة الحدية» هذا يختار البشر بين الأفعال المتباينة. فحين يواجه البشر بخيار اقتصادي؛ أي التخلي عن شيء لاكتساب شيء آخر يقدرونه، ما الذي سيفضلون التخلي عنه؟ من البديهي أنهم سيبدءون بأقل الأشياء أهمية في نظرهم؛ الشيء الذي يمنحهم النفع الأقل، الشيء الذي يمنحهم أقل قدر من «المنفعة الحدية». وسيقدمون على التبادل فقط لو كانت المنفعة الحدية للشيء الذي سيقتنونه أعلى من المنفعة الحدية للشيء الذي سيتخلون عنه. وإدراك هذا هو مفتاح فهم طبيعة عمل الأسواق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤