الفصل الخامس

الأسعار والتكاليف والربح

  • الاختيار يتضمن التخلي عن شيء سعيًا للحصول على شيء آخر توليه قيمة أعلى.

  • التكاليف (ما تتخلى عنه حين تختار) والمنافع (ما تكسبه) هي من ثم أمور شخصية في الأساس؛ شأنها شأن الربح، الذي هو الفارق بين الاثنين.

  • يتبادل البشر الأشياء لأنهم يولونها قيمًا متباينة. والأسعار ما هي إلا المعدل الذي يكون البشر مستعدين للتبادل وفقه.

  • فكرة «المنافسة المثالية» التقليدية مضللة في جوهرها؛ فالتنوع والاختلاف هما ما يجعلان الأسواق تعمل، لا التماثل.

حين يفكر الناس في علم الاقتصاد، فإنهم يفكرون في أشخاص يشترون الأشياء ويبيعونها في المتاجر والأسواق. لكن علم الاقتصاد في الواقع معني بالاختيارات والأفعال البشرية بمعناها الأوسع، وليس فقط بالاختيارات والأفعال المتعلقة بالمال.

هل أرقد في فراشي أم أقص العشب؟ إنه اختيار بين الراحة ومتعة الحصول على حديقة أنيقة. هل أخرج برفقة أصدقائي أم أنهي كتابي في المنزل؟ إنه اختيار بشأن كيفية تقسيم وقتي بين أمرين أحبهما. هل أستفيد من فترة راحتي في تناول وجبة غداء طيبة أم أذهب للتبرع بالدم؟ إنه اختيار بين الخلطة الاجتماعية اللطيفة وإحساس الدفء الذي سينتابني من معرفتي أنني أساعد الغير. هل أمشي أم أستقل الحافلة؟ آخذ معطفي أم لا؟ أذهب إلى الطبيب أم أتحمل ألم الحلق؟ كل هذه الأمور تتضمن الاختيار بين الأشياء.

أغلب خياراتنا اليومية على هذه الشاكلة. ولا يتعلق أيها بالمال. بيد أنها اختيارات «اقتصادية» بمعنى أننا كي نحقق شيئًا، علينا التخلي عن شيء آخر في المقابل. وهذا يجعلها أشبه بالمعاملات السوقية، التي فيها نتخلى عن المال من أجل شراء شيء نريده. إن علم الاقتصاد ينطبق بالتساوي على الأمرين.

الاختيار والإشباع

يقول النمساويون إن ما نفعله حين نختار هو أننا نسعى وراء الموقف «المفضل» على حساب موقف آخر أقل تفضيلًا. فحين نقرر قص الحشائش أو الخروج برفقة أصدقاء أو التبرع بالدم، فهذا راجع إلى أننا نؤمن بأن هذه الأفعال ستمنحنا إشباعًا أكثر من البدائل الأخرى. قد نكون مخطئين بشأن هذا — فربما ينتهي الحال بالجدال مع أصدقائنا، مثلًا، ونتمنى لو أننا مكثنا بالمنزل — لكننا مع هذا نتصرف سعيًا للحصول على النتائج، أو «الغايات»، المفضلة التي نتوقعها.

يترتب على هذا أننا سنعطي الأولوية للسعي وراء الغايات التي ستجلب لنا القدر الأكبر من الإشباع. وببساطة، نحن «نفضل» الشيء الذي سيجلب لنا المزيد من الإشباع على الشيء الذي سيجلب لنا قدرًا أقل منه. لهذا نختار أكثر الأفعال إشباعًا ونفضلها على غيرها. بعبارة أخرى، نحن نقدم على الأفعال التي تعظم من إحساسنا بالإشباع. وعلى المنوال نفسه، نسعى أولًا لتجنب النتائج التي نتوقع أنها ستعود علينا بأكبر قدر من عدم الإشباع، ومن ثم نتصرف من أجل تقليل عدم الإشباع إلى حده الأدنى. لا يحتاج الاقتصاديون إلى معرفة ما يشبع الناس أو لا يشبعهم تحديدًا. فالأمر استنتاج منطقي لا أكثر. وبمجرد أن نتقبل فكرة أن الناس يقدمون على الأفعال من أجل تحقيق غاياتهم المفضلة، يترتب على هذا أنهم يقدمون على الأفعال التي تعظم من إحساس الإشباع لديهم إلى أكبر حد، وتقلل إحساس عدم الإشباع إلى أقل حد.

الطبيعة الشخصية للتكلفة

لكن سعينا لتحقيق الإشباع ليس مباشرًا. عادة ما نتخلى عن شيء ما لتحقيق الإشباع. فهناك «تكلفة». وليس من الضروري أن تكون التكلفة مالية، وفي أغلب الأحيان هي ليست كذلك. إن تكلفة جز العشب هي قدر من الجهد البدني. وتكلفة انتهائنا من قراءة كتاب هي خسارة ليلة سعيدة برفقة الأصدقاء. وتكلفة التبرع بالدم هي الوقت وربما قدر من عدم الراحة. وحين نتدبر هل سنسعى في سبيل تحقيق غاية مشبعة ما، علينا أيضًا التفكر في تكلفة تحقيقها؛ الوقت المثير لعدم الرضا أو الجهد أو فقدان المتعة.

الأمر المثير للاهتمام هو أن هذه الأمور كلها في عقل الفرد. فالعشب المنمق لا يحوي قدرًا موضوعيًّا قابلًا للقياس من الإشباع، ينتظر أن يقتطفه أي شخص يمسك بجزازة العشب. فالإشباع الناتج عن العشب المنمق يوجد فقط في عقل من يراه، وقد يوليه البعض قيمة كبيرة، بينما قد لا يوليه آخرون أي قيمة تقريبًا. وبالمثل، الوقت والجهد المبذولان في عملية الجز لا يمكن قياسهما بوحدات من عدم الرضا. بعض الأشخاص قد يولون وقتهم قيمة أكبر من غيرهم، وقد يستاء الضعفاء من الجهد البدني أكثر مما يفعل الأقوياء. الأمر يعتمد على الشخص وقيمه الخاصة. لذا، كما أوضح فايزر، يوجد «النفع» في عقول الأفراد فقط، وكذلك الحال بالنسبة للتكلفة. فالتكاليف والمنافع غير قابلة للقياس على نحو موضوعي، بل هي أمور «ذاتية».

إن خياراتنا، في الحقيقة، أقل مباشرة من ذلك؛ لأننا حين نختار السعي وراء غاية مفضلة، فإننا في الواقع نتخلى عن نطاق كامل من الاحتمالات الأخرى. أجل، يمكننا الاستلقاء في الفراش بدلًا من جز العشب. لكن يمكننا أيضًا ترتيب المنزل أو خبز كعكة أو كتابة بعض رسائل البريد الإلكتروني أو تمشية الكلب أو حل الكلمات المتقاطعة أو أشياء أخرى عديدة، كل واحد منها سيجلب علينا قدرًا من الإشباع. وحين نختار عدم القيام بها وجز العشب بدلًا من ذلك، يكون علينا التخلي عن تلك الخيارات وفرص الإشباع التي ستجلبها لنا. بعبارة أخرى، سنواجه ما يسميه الاقتصاديون «تكلفة الفرص البديلة». فحين نقرر المضي في فعل ما، ليس علينا فقط التفكر في الوقت والجهد المبذولين في تحقيقه، بل علينا التفكير أيضًا في قيمة الفرص الأخرى التي نتخلى عنها.

الربح أمر شخصي أيضًا

من النتائج الأخرى المثيرة للاهتمام طبيعة الربح. حين يفكر الناس في «الربح» فإنهم يفكرون عادة في الفارق بين مقدار المال الذي يتكلفه رجل أعمال لجلب منتج ما إلى السوق، والسعر النقدي الذي يتحصل عليه من عملية البيع. لكن مجددًا، الربح ليس مرتبطًا بالمال. فهو يوجد فقط في عقول الأشخاص المعنيين.

حين نحقق غاية مفضلة — عشب أنيق منمق مثلًا — فإننا نستقي الإشباع أو النفع منه. بالطبع يكون هذا الإشباع أمرًا شخصيًّا، أو ذاتيًّا. بالمثل، فإن قيمة ما نستخدمه لتحقيق غاية ما، وقيمة الفرص الأخرى التي نتخلى عنها، كل هذه القيم هي ذاتية بالكامل أيضًا. وحين تكون التكاليف والمنافع ذاتية، فهذا يعني أن الفارق بينهما؛ أي الربح (أو لو كنت سيئ الحظ، الخسارة) أمر ذاتي أيضًا. الربح، مجددًا، هو أمر موجود في عقول الأفراد.

لماذا نتبادل الأشياء؟

سبب إقدامنا على تبادل الأشياء هو أن القيم والتفضيلات والمنافع والإشباع والتكلفة والربح والخسارة، كلها أمور خاضعة للحكم الشخصي. فإذا كان كل شيء له قيمة موضوعية معينة مقاسة كالحجم أو الوزن، فلن يبادل أحدهم أشياء «قيمة» مقابل أشياء أخرى «أقل قيمة». لكننا بالفعل نتبادل الأشياء. فالأطفال يبادلون اللعب التي يملون منها مقابل أخرى يريدونها. والكبار يسدي بعضهم إلى بعض الأفضال. ونحن نشتري المجلات مقابل النقود، وفي المقابل يبادل بائع الجرائد المال بالبقالة. لا يتم إنتاج أي ألعاب أو جرائد أو بقالة في خضم عملية التبادل هذه، لكن كل شخص ذا صلة يعتبر نفسه في حال أفضل؛ لأنه بادل شيئًا يوليه قيمة أعلى، سواء أكان هذا لعبة أطفال أم جرائد أم بقالة أم نقود، بآخر يملكه.

لا يوجد شيء آلي أو حسابي في مثل هذه التبادلات. فالناس لا يتبادلون أشياء ذات «قيمة متساوية»، مثلما افترض بعض اقتصاديي ما قبل المدرسة النمساوية. فما الداعي؟ لا يوجد داعٍ في الواقع، فما يحفز الناس على التبادل تحديدًا هو أنهم يولون الأشياء قيمة «مختلفة». فكل طفل يفضل لعبة الطفل الآخر على لعبته. والزبون يفضل المجلة على مقدار المال القليل الذي تتكلفه. وبائع الجرائد يفضل البقالة على المال. إن الأسواق تعمل فقط لأن الناس لا يولون الأشياء القيمة ذاتها. في الواقع، كلما اختلف الناس حول القيمة، وكلما تفاوت تقديرهم لها على نحو أكبر، زاد النفع الذي يستقيه كل منهم من عملية التبادل. وكل منهم سيحصل على شيء يريده مقابل شيء لا يوليه قيمة كبيرة بالمرة.

أصل الأسعار

لن نعرف أبدًا مقدار «الربح» الذي يحصل عليه كل طرف من عملية التبادل؛ لأننا نعجز عن الدخول إلى عقولهم وقياس قيمهم. لكن في الاقتصاد الحديث، يمكننا على الأقل أن نرى ونقيس مقدار شيء واحد هم مستعدون للتخلي عنه للحصول على شيء آخر، وتحديدًا مقدار المال الذي يطلبه، مثلًا، بائع الجرائد مقابل المجلة، أو الذي يطلبه البقال مقابل بعض المؤن. بوسعنا أن نرى «المعدل» الحالي الذي هم مستعدون وفقه للتبادل بعضهم مع بعض. و«معدل التبادل» هذا بين المال والأشياء الأخرى هو ما نطلق عليه «السعر». في اقتصاد المقايضة، يكون سعر الشيء هو معدل التبادل الذي يتطلبه من حيث الماشية أو الأصداف أو الجلود غير المدبوغة. وفي الاقتصاد الحديث، يعبر عن السعر من واقع المعدل الذي يُبادل به هذا الشيء بالجنيهات أو الدولارات أو أيًّا ما كانت العملة المحلية.

ومع هذا علينا أن نتذكر أن الأسعار، مع أنها ملحوظة على نحو بيِّن، ليست مقياسًا ﻟ «قيمة» الأشياء. فالقيم أمر شخصي وعاطفي ومتنوعة. أما السعر فهو مجرد معدل تبادل ينشأ نتيجة لقيام العديد من الأفراد بالمتاجرة في الأشياء في السوق؛ المتاجرة التي تحدث فقط لأن قيم هذه الأشياء «مختلفة». وكل معاملة تجارية تحدث بسعر واحد، لكنها تعكس تقييمين اثنين متصارعين.

الأسواق المثالية التقليدية

كل هذا يجعل نظرة النمساويين للأسواق مختلفة إلى حدٍّ بعيد عن التفسيرات التقليدية. بطبيعة الحال، نموذج «المنافسة المثالية» التقليدي هو مجرد نموذج؛ أي تبسيط للعالم الواقعي. لكن النموذج الذي يفترض فيه بالبائع والمشتري أن يكونا متطابقين ليس بتبسيط للعالم الواقعي، بل هو على النقيض منه تمامًا. فالأسواق تعمل فقط لأن البشر مختلفون، ولديهم آراء متباينة عن قيمة الأشياء.

تفترض النماذج التقليدية أيضًا أن الأسعار «معطى مسلم به». لكنها ليست كذلك، بل هي تنشأ نتيجة للمعاملات التي لا حصر لها بين الأشخاص المتباينين، وكل واحد منهم يراجع أولوياته مع تغير الوقت والظروف. وهي تتفاوت تبعًا لذلك. أيضًا يستحيل وجود ما يسمى ﺑ «سعر التوازن»، الذي تتوازن عليه الأسواق على نحو مثالي؛ لأن هذه المثالية تعني ضمنًا عدم وجود أي سبب للتغير. هذه النماذج مضللة إلى حدٍّ بعيد لأنها تتغافل عن كل ما يجعل الأسواق تعمل في العالم الفعلي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤