جريدة

رحلة البكباشي سليم قبودان الذي عهد إليه صاحب السمو والي مصر رئاسة البعثة المشكَّلة لاستكشاف ينابيع البحر الأبيض

المقدمة

بعد أن حمد البكباشي سليم قبودان بارئ النسم ومجزل النعم على ما زين البلاد السودانية به من بديع المخلوقات وغريب الكائنات، وصلَّى وسلم على خير خليقته وآخر رسله أبي القاسم محمد وعلى آله وصحبه أجمعين إلى يوم الدين، قال:

إنه لمَّا تعلقت بعون العناية الربانية السرمدية إرادة مشير المجد وتوءم الشوكة وولي النعم مولانا الأعظم باستكشاف مجرى البحر أو النيل الأبيض المنساب في الأقطار الشرقية من السودان انسياب الأفعوان، واستقصاء عادات أهله واعتقاداتهم إلى غير ذلك من أحوالهم وخصائصهم على اختلاف شعوبهم وتفرق مواطنهم شرقًا وغربًا، وإتمام البيانات والخرائط التي تضمنتها الرحلات القديمة؛ وقع اختياره السامي علينا للقيام بهذه المهمة الجليلة وفاقًا لمقاصده الشريفة ومراميه النبيلة.

وإذ كنا موقنين أن تدوين كتاب لهذه الرحلة من أهم حوادث التاريخ ومن بواعث الفخر والمجد لمن عهد إليهم القيام به، وكان من أقصى آمالنا وأشرف رغائبنا الفوز برضا صاحب السمو مولانا الجليل، والحظوة باستحسانه الكريم؛ فقد آلينا على أنفسنا بذل قصارى همتنا واجتهادنا لأداء المهمة التي تفضل فعهدها إلينا، وسنقوم بها خير قيام إن شاء الله تعالى.

يوم السبت ٩ رمضان سنة ١٢٥٥ هجرية: عُهدت إلينا بناءً على أمر عالٍ قيادة أربعمائة جندي أُخذوا من الأورطتين الأولى والثانية من المشاة المعسكرة في سنار، وجُعلت تحت رياسة أحد الصاغقول أغاسية، وأُعطيت إلينا خمس ذهبيات جيء بها من مصر، كل ذهبية مسلحة بمدفعين، وثلاث ذهبيات أخرى جيء بها من سنار، وقياستان وخمسة عشر زورقًا فيها من المؤن ما يكفي ثمانية أشهر، ومن ذخائر الحرب القدر الكافي.

فبعد أن رتبت هذه القوة ونظمتها بالاشتراك مع سليمان كاشف، نزلنا في ذهبية ونزل الفرنسي إبراهيم أفندي (المسيو تيبو) في ذهبية ثانية، وهكذا نزل كلٌّ في المكان المعيَّن له.

وبناءً على الأمر الصادر من صاحب السمو في ٢٧ رجب سنة ١٢٥٥ والذي تسلمته في ٣ شعبان سنة ١٢٥٥، تقرر أن أصطحب معي من يُسمَّى عبد الكريم أفندي وكيل الحكومة الإنكليزية في حالة ما إذا أظهر رغبته في ذلك، ولكنه أخطرني قبل رحيلنا بيومين بعزمه على الرحيل برًّا متزييًا بزي التكروريين، وهذا ما ذكرته في جريدة مذكراتي اليومية. فلما كانت الساعة التاسعة من يوم السبت الموافق ٩ رمضان غادرنا مدينة الخرطوم.

وشاطئ النهر في هذا القسم يحتوي بعض الأشجار، وتسكنه قبيلتان هما قبيلتا «أم درمان» و«الفتكاب» اللتان يشتغل رجالهما بأمور الزراعة. وفي الطريق مررننا بجزيرتين صغيرتين. فلما كانت الساعة الواحدة من المساء رسونا جهة الشرق في مكان يُسمَّى «كلكيلة».

يوم الأحد ١٠ رمضان الموافق ١٧ نوفمبر ١٨٣٩: أمضيتُ ساعتين ونصفًا من الصباح في إبلاغ الأوامر الضرورية إلى الضباط وتفهيمهم الإشارات التي يُستعان بها على التفاهم بين الموجودين في القوارب، وعلى أثر ذلك زايلنا المكان الذي كنا رسونا فيه. ففي الساعة السادسة التقينا من ناحية الشرق بقبيلة الفتكاب ومن ناحية الغرب بقبيلة الجماعية. وفي الساعة الثامنة شهدنا في جهة الشرق قبيلة الجاهلية (لعلها الجعلية) وفي جهة الغرب قبيلة المك محمد جماعية، ثم قبيلة محمد ود فضل جماعية، ورأينا على مسافة خمسة أميال من هذه الناحية عينها جبل مندرة. وفي الساعة التاسعة من جهة الشرق جبل عدلي على ضفة النهر. وفي الساعة العاشرة جبل بريمة على الضفة الغربية له، وشهدنا خلف هذا الجبل جبلين صغيرين يُدعَى أحدهما بجبل برميل والآخر بجبل بديلة، وينزل بضفتي النهر في هذا المكان أفراد قبيلة موسى مقبولة، وهذه البقاع مجللة بالحشائش الكثيفة والأدغال. وقد أوردنا مشاهداتنا فيما يتعلق بعمق النهر وعرضه في الجدول الخاص بهذا اليوم الذي مررنا فيه بسبع جزر. وقد قضينا الليل في جهة الشيخ موسى مقبولة.

يوم الاثنين ١١ رمضان سنة ١٢٥٥: لما كنا في الخرطوم صدرت لنا الأوامر بالمبادرة بأخذ الأهبة للرحيل، فسارعنا إلى قلفطة ذهبياتنا وقواربنا، وإن لم يكن فيها وقتئذٍ من الخلل ما يدعو إلى نفوذ الماء فيها. وفي يوم أمس بينما كنا نسير في طريقنا دخل قليل من الماء في بعض الذهبيات والقوارب، فاضطررنا إلى الوقوف لمباشرة قلفطتها، ومن جهة أخرى فإن الدقيق الذي كان معنا برسم مئونة العساكر ظهر لنا أنه قديم وأن طعمه قد أصبح مرًّا وأنه لم يكن صالحًا لتغذية العساكر به، فسلمنا إلى شيخ جهة موسى مقبولة خمسة وسبعين إردبًّا من الذرة وخمسين أُقَّة من الدقيق، وأخذنا عليه الوصل بتسلمه إياها. وبعد أن أخطرنا عبد الله أفندي وكيل حكمدارية الخرطوم بهذا الحادث، تحركنا للرحيل في الساعة الثامنة، فرأينا على ضفتَي النهر قبيلة موسى مقبولة وبعض أشجار السنط وحشائش وأدغالًا متفرقة في أماكن متباعدة، وشهدنا السواحل في بعض مواقع من الضفة الشرقية قائمة عموديًّا على الماء. أما الجزر التي مررنا بها فمذكورة في الجدول الخاص بهذا اليوم. وقُبيل المساء بعث إلينا سليمان كاشف بأربعة أثوار فوزعناها على الجند، وقضينا الليلة في كوله ماب.

الثلاثاء ١٢ رمضان سنة ١٢٥٥: في الساعة الأولى من الصباح (على الاصطلاح التركي) تحركنا للرحيل، فلما كانت الساعة الرابعة اتجه أحد العساكر نحو مكان الدفة لقضاء حاجة فسقط في الماء وغرق. وشهدنا على الضفة الغربية بعض أشجار السنط، ورأينا أن هذا الشجر يغطي الجزر المبينة في جدول هذا اليوم ما عدا جزيرة صالية التي تحرث وتزرع في وقت التحاريق. وفي الساعة السابعة وصلنا إلى مصنع صغير لصنع القوارب واقع على الضفة اليسرى من النهر، وكنا أثناء وجودنا بالخرطوم أخذنا معنا مائة نصل من نصال الرماح لا أعواد لها، فصنعنا هذه الأعواد في المصنع السابق الذكر، وهذا ما دعانا إلى الوقوف في ذلك المكان، وكانت توجد في الاتجاه الجنوبي الغربي منه قبيلة الحسنية.

الأربعاء ١٣ رمضان سنة ١٢٥٥: في الساعة الثالثة من الصباح استأنفنا المسير، فتراءى لنا في الساعة الثامنة جبل أراشقول الواقع على مسافة تسعة أميال تقريبًا من الضفة الغربية للنهر، ومررنا بالجزائر الست المبينة في جدول اليوم. وشهدنا ضفتي النهر مجللتين بأشجار السنط، والضفة اليسرى مرتفعة في بعض الأماكن ومزروعة في غيرها، وينزل بالضفتين أفراد قبيلة الحسنية. ولقد أرسل إلينا سليمان كاشف في هذا النهار أربعة رءوس من البقر، فاتخذ العساكر منها عشاءهم. وقد قضينا الليلة في المكان المسمى بالشباشة وهو على الضفة الشرقية من النهر.

الخميس ١٤ رمضان سنة ١٢٥٥: في الساعة الثالثة من الصباح تحركت الحملة فمرت بالجزر المبينة في الجدول. وقد رأيت ضفتي النهر مغطاتين بأشجار الميموزا. وفي الساعة الرابعة وصلت إلى السواقي العشر التي أنشأها الجنرال مصطفى بك وكانت عشته إلى جانبها، فلما توجهت إلى ساقيتَي المسمى حجازي وعشَّته التقيت …

الأربعاء ٢٠ رمضان: في الساعة الثالثة من الصباح استأنفنا المسير، فكانت ضفتا النهر والجزر المذكورة في الجدول مغطاة كلها بأشجار الميموزا، واتضح لنا أن جزيرة صباح كانت أطول هذه الجزر التي تبتدئ عندها مواطن الشلك. ولم يكن من شاغلٍ لهؤلاء سوى صيد فرس البحر والتماسيح، إلا أن قبيلة البخارة (لعلها البقارة) قد اعتادت في كل صيف أن تنزل بجوار النهر، فكثيرًا ما ينشب القتال بين الشلك وبينها ويستولون على مواشيها. ويمتاز الشلك بميلهم الشديد إلى القتال والتفوق فيه على الأعداء، وهو ما يرجع سببه إلى مهارتهم في السباحة وامتلاكهم العدد العظيم من الزوارق الصغيرة. وبعد غروب الشمس ألقينا مراسينا وسط النهر تجاه جزيرة شوال.

الخميس ٢١: في الساعة الأولى من الصباح تحركنا للرحيل، فكانت ضفتا النهر والجزر المبينة في الجدول مغطاة إلى حيث وصلنا في الساعة السادسة بأشجار الميموزا. وحدث أن القارب رقم ١١ قد نفذ فيه الماء، فاضطررنا إلى الوقوف نحو ساعتين لإصلاحه وترميمه. وفي الساعة الثامنة وصلنا إلى منتهى جزيرة صباح، فرأينا أن ضفتيه والجزر المبينة في الجدول تحتوي بعض أشجار الميموزا وكثيرًا من الأدغال والحشائش. وفي الساعة العاشرة لما مررنا بجهة مخاط أبو زيد كنا في نقطة من النهر يبلغ عمق الماء فيها قامتين. وفي جهة الغرب كانت توجد قبيلة الخلفية وهي جزء من حكومة كردفان، وقد رأينا بها أسودًا كثيرة، وعلى الضفة الشرقية كانت حكومة عبود، فألقينا المراسي وسط النهر لقضاء الليلة به.

الجمعة ٢٢: في ساعة رحيلنا صباحًا دخل الماء بكثرة في إحدى ذهبياتنا فغمر قسمًا كبيرًا من مؤننا وذخائرنا، فأخرجنا عندئذٍ كل ما كانت تحتويه من الأشياء، وقضينا يومين في إصلاح الذهبيات وتجفيف الأدوات وتنظيفها.

الأحد ٢٤: استأنفنا المسير صباحًا، فشهدنا في الجزر المبينة بالجدول وعلى ضفتي النهر بعض أشجار الميموزا والتمر هندي وغابات كثيرة من مختلف الأشجار وأدغالًا متفرقة على مسافات متفاوتة.

وفي الساعة الرابعة شهدنا بالضفة الشرقية على مسافة ستة أميال من جبل النفور وفي جزيرة مصران جملة من أفراس البحر يتبع بعضها بعضًا، ولاحت لنا على الضفة الغربية قبيلة البقارة ترعى بقرها. وفي الساعة الخامسة شهدنا جزيرة الزلاف، وكان بها عدد عظيم من أفراس البحر. وفي الساعة العاشرة رأينا في نهاية جزيرة مصران عشة خالية من السكان، وبالنظر لهجوم الليل ألقينا المراسي وسط النهر وقضينا الليل.

الاثنين ٢٥: في الساعة الأولى صباحًا برحنا الطرف الجنوبي من جزيرة مصران، ومع أن موقعها إلى الجانب الشرقي من النهر فقد رأينا تجاهنا على الضفة الغربية الجزر المذكورة في الجدول.

وفي الساعة الثالثة لمحنا جهة الشرق جبل جماتي الصغير، ومررنا بالجزر الواقع بعضها نحو شرق النهر والبعض الآخر نحو غربه، وهي مذكورة بالجدول، وكان بها بعض أشجار الميموزا وأصناف متنوعة من الأدغال. وشهدنا على مسافة عظيمة من الضفة الشرقية قبيلة البقارة، أما على الضفة الغربية فكانت تبتدئ المساكن الآهلة بقبيلة الدنكا. فدنونا من الضفة الشرقية لأخذ حاجتنا من الحطب، ثم رتبت أسطولنا الصغير بحيث يتألف منه خطان متوازيان، وأمرت بإلقاء المراسي. وقد تُوفِّي في الليل ريس الذهبية رقم ٣ واسمه ابن حسونة.

الثلاثاء ٢٦: قبيل الصباح باشرنا دفن الريس المومأ إليه. وكانت الريح ساكنة، فلم نستأنف المسير إلا في الساعة الخامسة، ولم نرَ حتى الساعة العاشرة سوى بعض أشجار الميموزا والتمر هندي والغابات المؤلفة من الأشجار المختلفة، ولكن ضفتي النهر والجزر المذكورة في الجدول كانت كلها بعد ذلك مغطاة بالأدغال. ولمحنا على الضفة الشرقية عائلات متفرقة من قبيلة الدنكا وبعض الفيلة. فلما جنَّ الليل ألقينا مراسينا وسط النهر.

الأربعاء ٢٧: قُبيل الصبح كانت الريح قد سكنت تمامًا فلا يشعر بهبوبها أحد، فاستأنفنا المسير في طريقنا بواسطة المجاديف. وفي الساعة السابعة شعرنا بالحاجة إلى الحطب، فدنونا من الضفة الشرقية، حيث أخذنا منه ما يلزمنا ثم استأنفنا طريقنا، فرأينا على الضفتين بعض أشجار الميموزا وقليلًا من أشجار التمر هندي. وكانت الجزر المبينة بالجدول تحتوي بعض الحيوانات، وشهدت في إحداها عشة لبعض الشلك وكلبين، وكانت الضفة الشرقية مسكونة بقبيلة الدنكا التي كنا نرى بعض أفرادها من حينٍ إلى آخر.

وفي الساعة العاشرة دنا من الماء بالضفة الغربية للنهر ستة أشخاص من قبيلة البقارة يستحلفوننا أن نقف، فدنونا منهم وسألناهم لمن هم تبع، فأجابونا بأنهم أتباع سليم البقاري، فقلنا لهم إن الليل قد أزف وإنهم إذا كانوا في حاجة إلى إخبارنا بشيءٍ فعليهم أن يعودوا إلينا غدًا، فأجابوا بأنهم سيحضرون بلا تخلف. وضفتا النهر في هذا المكان تغطيهما الأدغال، وقد قضينا الليل به.

الخميس ٢٨: زايلنا مكاننا عندما أسفر الصبح. فبعد مسيرة ساعة رأينا بالضفة الغربية أكثر من ثلاثمائة رجل مسلح من قبيلة البقارة يصيحون كالأمس طالبين منا الوقوف، فلكي نقف على ما كانوا يرغبونه بهذا الصياح أرسلنا إليهم زورقًا صغيرًا عاد إلى ذهبيتنا بشيخ مسنٍّ من شيوخهم اسمه حيدر، فقلنا له إنه لم يكن من قصدنا إلحاق الأذى بأحد، وإطاعةً لما أمرنا به صاحب السمو مولانا أتحفناه بخلع من الثياب النفيسة وعمامة فاخرة، ثم أنزلناه في الزورق وأوصيناه بأنه إذا كان هناك شيوخ أخر فلا بأس عليه إذا هو وجَّه بهم إلينا، فانطلق من فوره، وما هي إلا ساعة حتى عاد إلينا بشيخ آخر، فبعد أن تبادلنا التحية المعتادة وما تقضي به الآداب أهديناه بعض الثياب الثمينة، فأظهر الاثنان سرورهما واغتباطهما، ولمَّا شهدهما الأطفال والنساء الذين كانوا يتقاطرون إلى المكان زرافات وشتى وقد اكتسيا بهذه الثياب الفاخرة، أكثروا من مظاهر الفرح والسرور. وعلى أثر ذلك سألنا الشيخين عن سبب افتراقهما من قبيلتهما وسكناهما ضفاف النهر بعيدًا عنها، ففهمنا من جوابهما على هذا السؤال أن مسكنهما المعتاد إنما هو هذا المكان، وأنهما يدفعان الضرائب والفرض لرجل يُدعَى الشيخ عبد الرحمن، وهو رجل ظالم غشوم يقتل البعض ويفرق بين العائلات كما فعل معهما، ثم سألا منا أن نزودهما بتوصية إلى حاكم كردفان يوسف بك، فاتفق سليمان كاشف معي على أن نكتب هذه التوصية باللغة العربية فكتبناها وأعطيناهما إياها لكي يحملاها إلى يوسف بك. ولكي يعربا عن شكرهما لنا بعثا إلينا بست بقرات وستة رءوس من المواشي الأخرى وشيئًا كثيرًا من الغنم والخيل فوزعناها على الجنود.

وفي الساعة السابعة استأنفنا المسير، فرأينا على ضفتي النهر بعض أشجار الميموزا والتمر هندي، وكانت على الضفة الغربية قبيلة من قبائل البقارة وحكومة كردفان، أما الضفة الشرقية فكانت تسكنها قبيلة الدنكا، وهاتان القبيلتان اعتادتا السكنى بضفتي النهر في فصل الصيف وبالانسحاب إلى داخل إقليم الضهرية أثناء الشتاء. والنهر تحف به في هذا المكان الأدغال الكثيفة، وقد ألقينا المراسي في نقطة منه متساوية البعد عن الضفتين.

الجمعة ٢٩: قبل أن نتحرك للرحيل في الصباح قمنا بجملة مشاهدات وأرصاد على النهر، ودوَّنَّا نتائجها في الجدول. وكان بضفتي النيل بعض أشجار الميموزا وغابات من أشجار أخرى، وكان النهر فيما عدا ذلك محفوف الجانبين بالأدغال. وشهدنا في الساعة العاشرة بالضفة الشرقية نخلة واحدة، ومررنا بالجزر المبينة في الجدول. وكانت مساكن الشلك تبتدئ من هذه النقطة بالضفة عينها، وكان رجال هذه القبيلة لا يقع نظرهم علينا من بعيد حتى يولوا الأدبار خائفين، وكنا نشهد من آن إلى آخر أسرابًا كثيفة من الحيوانات أو جماعات من الناس. وفي الساعة العاشرة دنونا من الضفة الشرقية لنحتطب، فألقينا المراسي وسط النهر حيث قضينا الليل.

السبت ٣٠: كان الزورقان الصغيران اللذان معنا وذهبية من ذهبيات السودان متخلفة وراءنا، ففي الصباح ربطناها بالذهبيات الأخرى وتحركنا للمسير. وفي الساعة الثالثة رأينا بالضفة الشرقية بعض النخيل. وفي الساعة السادسة لمحنا الجبل المعروف بجبل تفافان على مسافة ميلين من النهر، وهو محفوف بالنخل، أما الضفة الغربية فكان بها عشش الشلك وبعض الجزر المبينة بالجدول. وبمجرد أن وقع نظر الشلك علينا ولوا أكتافهم مدبرين، واختبئوا بالغابات والأدغال المجاورة تاركين بالمكان الذي فروا منه ما كان معهم من الطيور والمواشي، وإذ كان من الأغراض التي نرمي إليها تطمين خواطر هؤلاء الناس واجتذابهم إلينا، عوَّلنا على ألا نمد أيدينا إلى شيء مما تركوه. وكنا في أحيان أخر نرى جماعات من الرجال والأطفال ولكننا كنا لا نجد معهم شيئًا من مواشيهم، وقد اتضح لنا أنهم كانوا ينقلونها إلى أماكن يأمنون عليها فيها. وعلى الجملة، فإن هؤلاء الناس لم يدعوا فرصة للفرار من وجوهنا كلما وقع نظرهم علينا إلا واغتنموها. وكان من عادتهم أن يوقدوا النار على مسافات مختلفة لإشعار بعضهم البعض بالخطر الطارئ. وكانت ضفتا النهر تحتويان هما وبعض الجزر أشجارًا قليلة من التمر هندي وغابات الأشجار المختلفة، أما فيما يلي ذلك فقد كانت الضفتان والجزر المذكورة بالجدول مغطاة بالأدغال. وقد ألقينا المراسي في وسط النهر لقضاء الليل به.

الأحد أول شوال سنة ١٢٥٥: كان اليوم أول أيام عيد الفطر، فأطلقنا المدافع من جميع الذهبيات ورفعنا كل ما كان عندنا من الأعلام، وكانت الضفتان مغطاتين بالأدغال فلم تستطع الزوارق أن تدنو منهما فأدينا صلاة العيد في الذهبيات والقوارب وسط النهر، وبعد أداء هذه الفريضة استأنفنا السير في الطريق. وكان الشلك على الضفة الغربية قد هجروا مساكنهم من عهد قريب بدون أن يأخذوا معهم مواشيهم التي كانت مخبأة في الأدغال. وشهدنا على مسافة ميل واحد منا نحو أربعين قرية على صف واحد كان يسكنها أولئك الشلك الهاربون، وكانت هذه العشش مخروطية الشكل والنصف الأسفل منها مبنيًّا بالطين والأعلى بالقش. وكنا نرى من حين إلى آخر بعض الأشخاص ولكنهم لم تكن معهم مواشيهم. فلما وصلنا تجاه تلك القرى رأينا بقرب الساحل أربعة من الشلك، فخاطبهم ترجماننا هدهون مطمِّنًا لخواطرهم وقائلًا لهم أن ليس هناك ما يدعوهم إلى الخوف منا، وإننا لم يكن من قصدنا إلحاق الأذى بهم، ثم أرسل إليهم زورقًا صغيرًا فجاء إلى ذهبياتنا شيخهم المسمى رجب عبد الله وآخر يُسمَّى جرهاب هييح ومعهما سنافيل هدية لنا، فعاملناهما بما يليق وأعطينا كلًّا منهما ثيابًا وشالًا وتحفًا مصنوعة بالخرز والزجاج، وأعطينا ابن المرحوم الشيخ عبد الرحمن خلعة من الفرو وبعض التحف الزجاجية.

ولما كانت قبيلة الدماب بقرب هذا المكان، فقد كلفناهما بإرسال رسول من طرفهما إلى شيخها، فبمجرد ما خرج هذا الشيخ شهدنا الشلك يعودون إلى أكواخهم ومعهم نساؤهم وأولادهم ومواشيهم. وإذ كانا قد أخبرانا بأن مشائخ هذه القرى سيحضرون لمقابلتنا غدًا، فقد تراجعنا إلى وسط النهر وألقينا مراسينا فيه قبيل الساعة الحادية عشرة، أي قبل غروب الشمس بساعة واحدة.

الاثنين ٢ شوال: شهدنا عندما أسفر الصبح على ضفة النهر عشرة من مشائخ الشلك قد حضروا في ذهبيتنا التي أرسلناها إليهم لنقلهم جميعًا، وقد اعترفوا بأن خمسة منهم هم أكابر مشائخهم، فأعطيناهم ثيابًا وأجراسًا وأشياء من الزجاج وأعطينا الخمسة الآخرين أشياء زجاجية فقط، وحينما رأينا أنهم قد سُرُّوا بهذه المقابلة أكدنا لهم بأن في استطاعتهم أن يكونوا في غاية الطمأنينة، وأننا مأمورون من صاحب السمو مولانا بحسن معاملة الذين لا يعترضوننا في سيرنا وبإتحافهم بالهدايا الثمينة، وأضفنا إلى ذلك طلبنا منهم أن يخبروا مكهم بما أبديناه لهم من التأكيدات. وبمجرد انصرافهم رأينا في الحال ألفين من الشلك مجردين من الثياب ومدججين بالأسلحة، وكان كل منهم يحمل دملجًا من سن الفيل أو الحديد أو البرونز، وكان النساء والرجال منزوعة من فكهم الأسفل الأربع الأسنان الأمامية منها، وكان في أقدامهم دملج من الحديد، ويجعل الشلك بطرف رماحهم جملة من ريش النعام يحلونها بها. ومن العادات الشائعة عندهم أن ينام المرضى والعزاب في الرماد وفي روث الحيوانات فتتلوث وجوههم بهاتين المادتين، وهم يقيمون الصلاة أمام شجرة محاطة بالبوص ومعلق بها الشيء الكثير من الجلود والريش. وفي هذه القرى أبقار كثيرة وخيل وغنم ودجاج وفيها أيضًا الكلاب، والزراعة الشائعة هناك الذرة والسمسم والتبغ والفاصوليا. وقد أرسلوا إلينا برسم العساكر إكرامًا لهم أربعة أثوار وستة رءوس من الغنم وسنَّي فيل. وكان الشاطئ مغطى بأشجار الميموزا والأدغال وأشجار أخرى، فألقينا مراسينا وسط النهر لقضاء الليلة.

الثلاثاء ٣ شوال: بالنظر لاشتداد ريح الشمال أمس واضطراب النهر دخل الماء في ذهبيتنا الثالثة وانكسر أعلى سارية الذهبية السابعة، ولما كان هبوب الريح لا يسمح بإصلاحه فقد لبثنا إلى التاسعة لإصلاحه. وقد أخذنا معنا في هذا المكان اثنين من الشلك ليرشدانا في الطريق، وفي أثناء مسيرنا شهدنا مساكن هؤلاء الشلك وكان عددها نحو الأربعين، ورأينا جملة من زوارقهم وبعض أشخاص منها. وإذ شعرنا في الساعة الحادية عشرة بالحاجة إلى الوقود، فقد دنونا من الساحل الشرقي وصعد بحري من بحارة الذهبية السادسة في شجرة لقطع الخشب منها فسقط وتوفِّي لساعته. والأشجار على الضفة الشرقية متفرقة هنا وهناك، أما الضفة الغربية فمغطاة بأكواخ الشلك تتخللها الأشجار. أما الجزر المبينة في الجدول فمغطاة هي والشواطئ بالأدغال المسماة بالحمصوف. وقد ألقينا المراسي وسط النهر لقضاء الليلة.

الأربعاء ٤ شوال: في الساعة الرابعة من الصباح زايلنا المكان لاستئناف السير، وقد اختلفت الريح فاضطررنا إلى الوقوف ساعتين ثم استأنفنا بعدهما المسير، فقطعنا نحو ثمانية أميال في اتجاه الشرق دخلنا بعدها في خليج فصرنا بذلك تحت الريح، ولم نستطع الخروج من هذا المكان إلا في الساعة الحادية عشرة. وشهدنا في الجهة الغربية أحد عشر كوخًا لجماعة من الشلك المناياق، وكان هناك جملة من شجر الدوم، وكانت تُرى على الضفتين أشجار التمر هندي وأحيانًا بعض أشجار الميموزا. وكانت قرية الشيخ تشاك تُرى إلى الجانب الغربي وتجاهها ثلاثون قرية تتخللها أشجار التمر هندي وأشجار أخرى من أنواع مختلفة. وكانت تُرى إلى جهة الغرب بعيدًا عن الشواطئ مساكن الدنكا، وقد اعتادت هذه القبيلة سكنى السواحل أيام الصيف، أما الجانب الغربي فكان لا يُرى فيه سوى أقوام من الشلك. وقد رسونا في هذا المكان لقضاء الليلة.

الخميس ٥ شوال: تحركنا للرحيل في الصباح، فالتقينا على الضفة اليسرى بجملة من الشلك المسلحين، فسألهم هدهون الذي كان بإحدى الذهبيات عن المكان الذي هم منه آتون، فلما أجابوا بأنهم مقبلون من جهة شمك خطر لنا أنهم حضروا خصيصًا إلينا، فأرسلنا على الفور زورقًا ليقل شيخهم المدعو إدريس سليمان رجب وغيرهم من رفاقه، فلما وصلوا إلى ذهبيتنا وسألناهم عن الأخبار أجابوا بأنهم مبعوثون إلينا من طرف المك، وقد سألونا إلى أين نحن ذاهبون وما هو غرضنا من هذه الرحلة وإذا كان في نيتنا قتالهم لكي يخبروا في هذه الحالة مكهم بما عزمنا عليه أو إذا كنا نخترق هذه الأصقاع لمجرد الرحلة، فأجبناهم عندئذٍ بأننا عملًا بإرادة صاحب السمو مولانا قد اعتزمنا استكشاف منبع النيل الأبيض، وأنه لم يكن في نيتنا الإضرار بأحد ما، وأنه ليس هناك ما يدعوهم إلى الخوف منا، ثم قلنا لهم بالحرف الواحد: «وإذا أحب مككم أن يحضر إلينا بحسن نية لمشاهدتنا، فإننا نكرمه ونحسن معاملته ونتحفه بالهدايا الثمينة، فانطلقوا إذن إليه لتوافوه بهذا الخبر.» وبعد ذلك أهدينا هؤلاء الرؤساء الثلاثة التحف والثياب الفاخرة، واكتسبنا مودتهم فغادرونا راضين عنا. وتحركنا نحن للمسير متجهين إلى ناحية الغرب، وكنا نرى حيث نسير قرى الشلك وأشجار التمر هندي وغيرها من الأشجار، كما كنا نرى من جهة الشرق بعض قرى الدنكا خالية من السكان، وكانت شواطئ النهر مرتفعة في بعض جهات منها. فألقينا مراسينا وسط النهر في هذا المكان لقضاء الليلة به.

الجمعة ٦ شوال: زايلنا في الصباح مكاننا، فوصلنا إلى قرية ديماك التي يقيم بها المك. ورأينا على الضفة الغربية للنهر الشيخ سليمان أحد المشائخ الثلاثة الذي أُلبس الخلعة أمس ومعه اثنان من الشلك ينتظراننا بالساحل عملًا بأمر المك، فلما وقع نظرهم علينا أشاروا إلينا بالوقوف حيث وصلنا، وقالوا إنهم ذاهبون لإخطار المك بوصولنا، وما فاهوا بهذه الكلمات حتى انطلقوا، بينما كنا نلقي المراسي وسط النهر طبقًا للعادات العسكرية. وفي الساعة السادسة حضر إلينا المشائخ الثلاثة الذين رأيناهم بالأمس ومعهم جماعة من الشلك المسلحين، وألبسوا أحدهم قميصًا من القماش الهندي كما لو كان المك، فلما شهدنا هذا الأمر أنفذنا زورقًا لإحضار المشائخ الثلاثة مع وكيل المك وشيخ آخر كبير إلى ذهبيتنا، فلما سألنا عما إذا كان المك قد حضر أجابوا بأن المرتدي لذلك الثوب إنما هو المك، فأشار إلينا وكيلنا إشارةً أراد بها إعلامنا بأن هذا الرجل لم يكن المك، وبالرغم من أننا كنا قد أدركنا ذلك أول وهلة لم نشأ أن نظهر في مظهر المرتاب في أن الذي حضر إنما هو المك، ولهذا لم نقتصر على إلباس المشائخ الذين حضروا الثياب الفاخرة، بل وضعنا لهم ضمن صرة ثلاث مدًى وثمانية أجراس وقطعتين من حرير الموصل وحزامًا من الكشمير الإنكليزي وأشياء كثيرة من المصنوعات الزجاجية، وأرفقناهم بالشيخ أحمد وهدهون والريس حسن لتسليم الهدية إلى المك. ولما كان المك مقيمًا بجزيرة صغيرة تجاه القرى البعيدة من ذهبيتنا، فقد قصدوا إليه في ذلك اليوم، على أننا لم نرهم بعد ذلك، ولم نستطع أن نعلم من أمرهم شيئًا وإنما رأينا من يُدعَى علي محمد من قبيلة الجاهلين (لعلها الجعليين) كان في تجارة مع الشلك. فلما كان المساء ألقينا مراسينا كالعادة وسط النهر لقضاء الليلة به.

السبت ٧ شوال: بالنظر لهبوب الرياح الشمالية هبوبًا شديدًا دنونا بذهبياتنا من الشاطئ، وأخرجنا عساكرنا لتنظيفها وغسلها، آخذين لذلك ما يلزم من الاحتياطات الواجبة. وفي الساعة العاشرة أي قبل غروب الشمس بساعتين عاد الأشخاص الثلاثة الذين كنا قد أرسلناهم إلى المك بالأمتعة المهداة، فأخبرونا بأنهم لم يجدوا في القرية التي قيل إن المك مقيم بها أحدًا ما من الرجال، وأنهم لم يجدوا بها سوى النساء، فلما رأينا ذلك طلبنا من وكيل المك أن يقدمنا إليه ويعرفنا به، فلما جاوبونا بأنه لم يكن من المعتاد عندهم تقديم أحد إلى المك عدنا إلى أماكننا، حيث علمنا فيما بعد أن المك خشي نزول الأذى به فاختفى في مكان آخر. وفي المساء حضر إلينا بعض الشلك بخمسة أبقار عجاف، فبعد أن وزعناها على العساكر أرسينا مراكبنا وسط النهر حيث قضينا الليل كالمعتاد.

الأحد ٨ شوال: تحركنا للمسير فوجدنا بالجهة الغربية جزيرة مغطاة بالقرى وأشجار الميموزا، وبجهة الشرق جزيرتين قد تكاثفت على وجههما الأدغال. وفي الساعة الخامسة وجدنا بالضفة الغربية للنهر قرى للشلك تتخللها أشجار الجميز، ووقع نظرنا على كثير من الشلك يحملون المزاريق، والتقينا عند الساحل الشرقي بجماعات من الدنكا كانوا يرمقوننا من بعيد. وبالنظر لاشتداد الرياح تمزقت قلوع الذهبيتين التاسعة والحادية عشرة، فاضطررنا إلى التخلف وألقينا مراسينا لهذا السبب من ناحية الساحل الشرقي تجاه تلك القرية، ولما أدركتنا الذهبيتان اهتممنا بإصلاح ما لحقهما من العطب، ثم استأنفنا المسير فالتقينا نحو الساحل الغربي بجماعة من الشلك مسلحين بالمزاريق أخذوا يرمقوننا بأبصارهم. والجزر المبينة في الجدول مغطاة كلها بالأشجار والأدغال، وبالنظر لأننا لم نقف على أسمائها فقد أشرنا إليها في الجدول بالأرقام. وعند الساعة الحادية عشرة دنونا من الساحل الشرقي لأخذ حاجتنا من الحطب، ثم انسحبنا للرسو كالمعتاد في وسط النهر.

الاثنين ٩ شوال: تحركنا للمسير وكان الجو غيمًا والريح شرقيًّا، فنظرنا على الساحل الغربي جملة قرى للشلك وبعض أشجار النخل على الساحلين. وقبيل الساعة الثالثة وصلنا إلى مكان تجري فيه مياه لا تشبه مياه البحر الأبيض لأن لونها كان ضاربًا إلى الحمرة، وكان عرض مصب هذا النهر نحو ربع ميل، فلما رأينا أنه يصب في النهر الأبيض أخبرنا سليمان كاشف بأنه يُسمَّى بحر السباط، وأنه يسيل من جهة مكياده، أما الشلك فكانوا يسمونه بحر تلخي. ولما كانت مهمتنا تقضي علينا بمواصلة السير في البحر الأبيض، لم نشأ أن ندخل في هذا النهير بل تابعنا المسير في طريقنا الأول، وكان بناحية الغرب عند مصب النهير قرية صغيرة للشلك إلا أن سكانها كانوا قد لجئوا إلى الفرار، وقد شهدنا في طريقنا على مسافة نصف فرسخ من النهر جملة قرى للشلك يحيط بها النخل. ولم نجد على طول سيرنا من الساعة السادسة إلى الساعة الثامنة أثرًا ما لقرية أو لإنسان. فلما كانت الساعة التاسعة وجدنا على الساحل الغربي قريتين أو ثلاث قرى، وعلى الساحل الشرقي بعضًا من حيوان الزراف وفرس البحر.

وعلى مسافة نحو اثني عشر ميلًا من النهر شهدنا ثلاثة جبال مغطاة بالغابات، كما شهدنا من جهة الغرب على مسافة قصية من النهر جملة من القرى وبعض الناس والأشجار، وكان الساحل من جهة الشرق مرتفعًا قليلًا، والضفتان والجزر المبينة في الجدول مغطاة بالحمصوف والأدغال. ولاحظنا أن هذه الأدغال كانت ممتدة من الشاطئين إلى الداخل من الناحيتين على مسافة ميلين، وأن سكان تلك القرية كانوا يرمقوننا بأبصارهم أثناء فرارهم. وفي الساعة الحادية عشرة — أي قبل غروب الشمس بساعة — كانت الرياح قد سكنت، فوقفنا بالنظر لوجود المراكب متخلفة وراءنا، وألقينا المراسي وسط النهر كالعادة.

الثلاثاء ١٠ شوال: عند رحيلنا في الصباح كان الهواء يهب من ناحية الشمال كما كان الجو متلبدًا بالضباب. ففي الساعة الثانية شهدنا من ناحية الغرب على مسافة ميلين أو ثلاثة أميال ثمانية عشرة قرية تنتهي عندها حدود بلاد الشلك، ورأينا على مسافة ثلاثين ميلًا من جهة الجنوب جبلًا شاهقًا، أما الشاطئ الغربي فلم نجد عنده شيئًا، ومع أننا كنا ننظر بالمنظار المقرب فإننا لم نرَ إلا أدغالًا متكاثفة وبعض الفيلة، وشهدنا بعيدًا عن النهر جملة من أفراس البحر. ومنذ الساعة الخامسة إلى وقت العصر لم يقع نظرنا على شيء مطلقًا، وفي أثناء الليل شهدنا على مسافات قصية من الضفتين الشرقية والغربية نيرانًا مشتعلة. وفي الساعة التاسعة دنونا من الضفة الشرقية لأخذ ما نحن في حاجة إليه من الحطب ثم استأنفنا السير في طريقنا، وكانت سواحل النهر ممتلئة بالأدغال الممتدة إلى مسافة ميلين منها، وكان الماء في هذه الأدغال راكدًا آسنًا تُشتمُّ منه رائحة كريهة ويكثر بسببه البعوض المؤذي بلسعاته. وفي المساء رسونا وسط النهر لقضاء الليل.

الأربعاء ١١ شوال: تحركنا لمواصلة السير في الصباح، فلما كانت الساعة الرابعة شهدنا من جهة الشرق على مسافة ميل من النهر بحيرة صغيرة تحيط بها الأدغال، ومن جهة الغرب بحيرة أخرى ماؤها ضارب إلى السواد، وعرض البحيرة الأخيرة ثلاثة أميال، فذهبنا مع إبراهيم أفندي وسليمان كاشف في زورق صغير إلى البر لسبر أغوارهما، فبعد أن سلكنا من الطريق ثلاثة أميال وجدنا أن عمق الماء في هذه البحيرة قامتان ونصف قامة، وتأكدنا أن أرض القاع سوداء اللون، وأن المياه راكدة لا تتحرك بحركة ما. ولما كان الوقت غير كافٍ للتوسع في البحث والاستقصاء، فإننا لم نتحقق مما إذا كان المكان الذي وصلنا إليه خليجًا من الخلجان، وكل ما استنتجناه أن مياهه يختلف لونها عن لون مياه النهر الأبيض الذي يجري بسرعة ميل ونصف في الساعة ويبلغ عرضه مائة خطوة وعمقه ثلاث قامات ونصف. ولقد ألقينا مراسينا وسط النهر في هذا المكان حيث قضينا الليل.

الخميس ١٢ شوال: في الصباح قصدنا مبكرين إلى البحيرة للتحقيق والتدقيق في أمرها، وكان وصولنا إليها من طريق الضفة الغربية، فبعد مسير أربع ساعات اضطرتنا قلة عمق الماء إلى تحويل طريقنا. ومع أننا غيرنا اتجاهنا لتجنب الانغراز في أرض القاع، فقد انغرزت فيها السفينة رقم ١٠ ولم نستطع تخليصها إلا في الساعة السابعة؛ تارةً لقلة الهواء وتارةً أخرى لاختلاف الرياح. وكنا حتى حين وصولنا إلى البحيرة نُلقي المسبار في كل ساعة، فوجدنا أن عمق الماء كان في بعض الأحيان قامة وفي أحيان أخرى قامتين. وقد علمنا بالرغم من عدم وجود تيار للماء ومن رواية أحد البحارة أن البحيرة متصلة بجملة بحيرات أخرى، وكنا نشاهد من الناحيتين جزرًا صغيرة من الأدغال الضارب لونها إلى السواد، وكنا كلما تقدمنا إلى الأمام وجدنا أن العمق لا يزيد على قامة واحدة، وأن القاع أسود اللون كقاع البحيرات عادة، وأنه كان لا يوجد حوالي هذه البحيرة أثر للإنسان ولا للحيوان، وكل ما كان يقع البصر عليه إنما هو النيران التي كانت تُشاهَد من بعيد. وقد ألقينا المراسي في هذا المكان لقضاء الليل به كالمعتاد.

الجمعة ١٣ شوال: كان الجو في الصباح متلبدًا بالغيم، ولسكون الريح اضطررنا إلى استعمال المجاديف إلى أن هبت ثانيًا من الشرق، وقد رأينا عندئذٍ ثلاثة أشجار من النخل في جهة الشرق. وفي الساعة الرابعة شهدنا على مسافة ميلين من ضفتي النهر كثيرًا من التكول — أي العشش — مختلف شكلها عن شكل ما وقع نظرنا عليه منها حتى الآن. ومع أننا رأينا أربعة رجال على الجانب الغربي وستة على الجانب الشرقي، فإننا لم نستطع أن نعلم من أي الأقوام أو القبائل كانوا. وفي الساعة الخامسة سقطت الريح فاستعملنا المجاديف حتى الساعة العاشرة. وفي الساعة الحادية عشرة دنونا من الضفة الشرقية لنحتطب، فشهدنا أثناء الاحتطاب أن في المكان كثيرًا من دود الحجامة، فأخذنا منه ما يلزم لحاجتنا الشخصية، ولهذه اللحظة لم يتغير لون الماء، بل كان طعمه رديئًا ورائحته كريهة ولا يزيد عمقه عن قامة واحدة وظهر لنا أنه راكد بالمرة، فتحققنا وجودنا في مياه إحدى البحيرات.

وفي منتصف الساعة الحادية عشرة عُقِد اجتماع حضره كل من سليمان كاشف والقائمقامان رستم أفندي وإبراهيم أفندي واليوزباشي فيض الله أفندي واليوزباشي الياور عبد الرسول أفندي؛ لتقرير الاتجاه الذي ينبغي لنا أن نتابع السير فيه، أعني السير في اتجاه النيل الأبيض أو البقاء في البحيرة، فبعد المفاوضة الطويلة وبالنظر لأن الغرض المقصود من بعثتنا هو استكشاف منبع النيل الأبيض، فقد قررنا مواصلة السير في طريق هذا النهر، وكتبنا بذلك تقريرًا أمضيناه جميعًا، وبناءً على هذا التقرير سارعنا إلى الأوبة بالمجاديف.

السبت ١٤ شوال: وصلنا في الساعة الثامنة إلى قرب البحر الأبيض، وكانت جملة من سفننا قد تخلفت وراءنا فلم تدركنا إلا في الساعة الحادية عشرة، فقضينا الليلة تجاه البحر الأبيض.

الأحد ١٥ شوال: كان الجو قليل الضباب في الصباح عندما تحركنا، إلا أننا شهدنا قبيل الساعة التاسعة بالقرب من الضفة الشرقية للنهر بعض أكواخ وجملة أشخاص لم نستطع تمييزهم لبعدهم القصي عنا. والضفتان في هذا المكان من النهر تحف بهما أعواد الخيزران والبوص. وفي الساعة الحادية عشرة طوينا أشرعتنا وألقينا مراسينا وسط النهر بسبب سكون الريح من جهة ولتمكين السفن المتخلفة من اللحاق بنا.

الاثنين ١٦ شوال: إننا مع تحركنا للمسير مبكرين لم نستطع التقدم إلى الأمام لشدة الريح من جهة ولوجود كردة — أو فردة أو خردة — في طريقنا، فمنعنا هذا وذاك من متابعة السير واضطرت جملة من قواربنا إلى التخلف عنا، وقد لمحنا على مسافة ميل ونصف من الضفة الشرقية للنهر بضعة أكواخ وبعض أناس وحيوانات، فلما وصلنا إلى طرف الكردة تجاه الأكواخ السالفة الذكر وقفنا في مكاننا، فخرج للحال من الأكواخ عشرة أشخاص وتقدموا نحونا ومعهم عجل قتلوه على الشاطئ طعنا بحرابهم ثم لجئوا إلى الفرار فاعتراني من هذا الفعل شك وشبهة، فاستدعينا محمدًا وهو أحد عساكرنا السودانيين وأصله من قبيلة الدنكا، فسألته عن رأيه في فعل هؤلاء الناس، فأجاب بأنهم أرادوا به الإشعار بنزعتهم العدائية، وأنهم أرادوا أن يبينوا لنا الطريقة التي عزموا على أن يعاملونا بمقتضاها. وفي الساعة الثانية وصل إلى الشاطئ أربعون رجلًا ومعهم أربع بقرات تركوها خلفهم، وكانت شعورهم طويلة حمراء اللون وليس بينها وبين شعور غيرهم من السودانيين جامعة شبه، وكان في ذراع كلٍّ منهم دملج من سن الفيل أو الحديد أو النحاس على شكل الأساور، وكانت بأيديهم الحراب والنشاب، وكانت أجسامهم موشومة بالألوان كأجسام الشلك وإنما يتكلمون بلهجة تقرب من رطانة الدنكا، فقايضونا على ما معهم من الذرة والسمسم بأشياء من الزجاج، وقد فعلوا ذلك على غير علم من شيخهم لأننا لم نشك أبدًا في أنه لو وقف على ما حصل منهم لما كتم غيظه، وهو ما حصل فعلًا إذ علمنا أنه وبخ هؤلاء الرجال على فعلهم، فأمرت عندئذٍ محمدًا بالذهاب إليه لطلبه فلم يحضر الرجل بنفسه، وإنما أرسل إلينا على يد آخر معزة وقليلًا من التبغ على سبيل الهدية. ولطالما سألنا هذا الرسول واستفهمنا منه فلم نستطع أن نعلم من أقواله أكثر من أنه هو وأصحابه من النويريين، فأخلينا سبيله بعد أن أعطيناه شيئًا من المصنوعات الزجاجية وقلنا له إنه كان يجب أن يحضر معه شيخه لما كان في عزمنا من إتحافه ببعض الهدايا، وأفهمناه بواسطة العسكري محمد أنه لم يكن هناك ما يدعو إلى خوفه، ثم أذنَّا له بالانصراف على أن يرافقه هذا العسكري. على أن الشيخ لم يرضَ بوسيلة ما التسليم بتأكيداتنا الودية، ولكن أرادت الحكمة الإلهية أن يدنو أحد رجاله من محمد ويخبره بما عزم عليه أصحابه من الكيد لنا والتنكيل بنا، وكان مما أخبره به أن المعزة المهداة كانت مسمومة، وأن الغرض الذي كانوا يسعون إليه هو اكتساب ثقتنا حتى إذا استنمنا إليهم عبثوا بنا شر عبث، وعلى أثر هذا أركن الرجل إلى الفرار.

ولقد بادر محمد برواية ما حصل على مسمعي، فأمرت في الحال بفحص المعزة وبيان السبب في انتفاخ جميع أجزاء جسمها وخروج زبد من فمها، فتأكد لي أن هذه العلامات تؤيد الشبهة في حق أولئك الناس وتدل على سوء نيتهم نحونا.

عندئذٍ أمرت بعض عساكر الذهبية الأولى بإطلاق النار، فأطاعوا الأمر فسقط رجل كان واقفًا بجوار الشيخ قتيلًا، وفر آخرون مثخنين بالجراح تاركين خلفهم ما كان معهم من الرماح والنبال، ولقد رأينا عندما تحركنا حلة الشيخ المذكور واقعة إلى الشرق على مسافة نصف ميل تحيط بها الأشجار الضخمة وتفصلها عن النهر بحيرة تكاثفت على شواطئها الأشجار والأدغال. وضفتا النهر في هذا المكان تخفيهما عن الأنظار شجيرات البوص والخيزران، وعندهما جزيرتان ذكرناهما في الجدول. ولما أدركتنا القوارب التي تخلفت عنا في الطريق ألقينا مراسينا كالمعتاد.

الثلاثاء ١٧ شوال: لم نرَ في هذا اليوم شيئًا يستحق الذكر، وغاية الأمر أننا لمحنا قبيل الساعة الخامسة بعض الزوارق في ناحية الشرق ودخان النيران متصاعدًا إلى عنان السماء على بعد ستة أو سبعة أميال في النهر. وقد مررنا بجزيرتين ذكرناهما في الجدول. وحافتا النهر في هذا المكان كثيرتا البوص والخيزران إلى حد أن هذين النبتين كانا يوغلان فيه بقدر ميل أو ميل ونصف.

الأربعاء ١٨ شوال: أخبرني أحد الضباط بأن عسكريًّا من عساكر السودانيين سقط في الماء فغرق. وفي الساعة الرابعة رأينا من ناحية الشرق جملة أكواخ تظللها الأشجار وتحوم حولها الناس والحيوانات، وكان بعض الناس على مقربة من النهر فلاذوا بالفرار حينما وقعت أنظارهم علينا. وفي الساعة السابعة اشتدت الريح فألقت بإحدى ذهبياتنا على مرتفع من قاع النهر فلم نتمكن من انتشالها إلا في الساعة العاشرة، وتخلفت عنا جملة من القوارب فاضطررنا إلى الوقوف لانتظارها. وضفاف النهر في هذا المكان ينبت فيها البوص والخيزران في جهات متفرقة منها. وقد لاحت لنا جملة أكواخ ولَّى ساكنوها الأدبار عندما وقع نظرهم علينا، وأغلبهم يعيشون من صيد البحر على شواطئ النهر.

الخميس ١٩ شوال: قبيل الساعة الثالثة شهدنا حلة صغيرة، ومع أن فريقًا من ساكنيها قد دنوا من شواطئ النهر إلا أنهم لم ينتظروا وصولنا إليهم. وفي الساعة الخامسة مررنا بجزيرة، وفي الساعة التاسعة مررنا بأخرى، ومع أن هاتين الجزيرتين لم يزد طول إحداهما على ثلاثة أميال وطول الأخرى على أربعة، فإن تكاثف الخيزران والبوص عندهما حال دون جر القوارب باللبان، وهذا فضلًا عن أن اشتداد تيار الماء جعل استعمال المجاديف عديم الجدوى، وأخذت هذه القوارب تتحول عن مجراها. ومع أننا لم نبصر بأثر من المساكن، فإن الدخان الذي كنا نراه متصاعدًا إلى عنان السماء في جهات متقاربة من بعضها حملنا على الظن بوجودها. وكانت بالضفة الغربية أشجار متفرقة، وحافتا النهر كثيفتا البوص والخيزران. وقد ألقينا مراسينا في الساعة الحادية عشرة.

الجمعة ٢٠ شوال: شهدنا في الساعة الثالثة من الصباح بعض أشجار الدلب بالضفة الغربية، والتقينا بكردة فكانت سببًا في تخلف بعض القوارب، ولم نقطع من الطريق إلا قليلًا. وقد رأينا فيلةً كثيرة على الضفتين، كما رأينا أشجارًا متفرقة وبوصًا وخيزرانًا متكاثفين.

السبت ٢١ شوال: تحركنا للرحيل مبكرين، فرأينا في الساعة الرابعة أشجارًا على مقربة من النهر، وشهدنا أكواخًا في الناحية الغربية، واستكشفنا في الساعة الخامسة في الناحية الشرقية بعض أكواخ أخذ ساكنوها يرمقوننا من بعيد. وفي الساعة الثامنة وقع نظرنا على عدد عظيم من الفيلة في الناحيتين.

وفي الساعة التاسعة استكشفنا بشاطئ النهر جملة أكواخ تحيط بها أشجار متفرقة، ورأينا على مسافة ميلين منه حلة كبيرة فرَّ سكانها منها عند وصولنا. وبالنظر لنفاد حطب الوقود من عندنا دنونا من الشاطئ لأخذ ما يلزمنا منه، وكان أحد العساكر السودانيين من رجال الذهبية الثانية مريضًا فتُوفِّي في هذه الساعة. وقبل ارتحالنا اقتربت امرأة من ذهبيتنا، فأخذناها وسألناها بواسطة الترجمان محمد عن سبب فرار سكان هذه الحلة لوصولنا، فأجابته بأن سكان الغرب — أي الضفة الغربية — من قبيلة النوير وأن سكان الشرق من قبيلة الكيك وأنها من القبيلة الأولى، وأن الأكواخ القريبة من الشاطئ يسكنها أناس يتغذون بالحيوانات المائية كفرس البحر والتمساح، وأن السبب في فرارهم إنما هو الخوف، فأطلقنا سراحها بعد أن زودناها بشيء من اللحم والذرة، وأوصيناها بأن تخبر أهل قبيلتها أن الذين يحضرون منهم إلينا لا ينبغي أن يخشوا أذى ولا مكروهًا، وأنهم يُعامَلون بالمعروف ويُقابَلون بالحسنى وتُعطَى لهم الهدايا.

وضفاف النهر في هذا المكان ممتلئة بالحمصوف والبوص والخيزران. وإذ كنا بحيث نستطيع أخذ ارتفاع الشمس في هذا اليوم، فقد قمنا بهذا العمل ثم ألقينا مراسينا.

الأحد ٢٢ شوال: ما تنفس الصبح حتى هممنا بالرحيل، فشهدنا في جهة الغرب على مقربة من النهر جملة أكواخ للنويريين تحيط بها الأشجار، وفي جهة الشرق عددًا عظيمًا من أشجار الدلب المختلفة الأنواع، وعلى ضفة النهر أكواخًا لقبيلة الكيك.

وفي الساعة الثالثة شهدنا شبه بحيرة، سبرنا عمقها فاتضح لنا أنه نصف قامة في بعض الأمكنة وقامة في غيرها، أما الماء فراكد آسن، وأبصرنا في ناحية الشرق على ضفة النهر جملة أكواخ لقبيلة الكيك لاذ أهلها بالفرار حينما وقعت أنظارهم علينا واختفوا في البوص والخيزران القريبين منهم، فأرسلت إليهم ترجماننا محمدًا ليهدئ روعهم ويسكن جأشهم ويؤكد لهم بأن لا خوف عليهم من جهتنا وأن نياتنا نحوهم حميدة للغاية القصوى، فبرز ثلاثة منهم من مخابئهم وخرج من الأكواخ عشرة أطفال أقبلوا نحونا، فسألناهم من أية قبيلة هم فأجابوا بأنهم من قبيلة الكيك وأنهم يعيشون من صيد الأسماك وأفراس البحر والتماسيح، ثم وجهنا إليهم أسئلة قصدنا بها إلى استقصاء الأخبار في جهتهم فأجابوا بأن النيل الأبيض تحف به على مقربة منهم جبال ذات هضاب في غاية الخصوبة، وأن فيما يلي هذه الجبال قبيلة الكلكور التي يتغذى أهلها بلحوم الإنسان، وأن على مقربة من هذه القبيلة تعيش قبائل النوفهون والباطلية والبحور، فأخلينا سبيلهم بعد أن أتحفناهم بهدايا من المصنوعات الزجاجية، وأوصيناهم ألا يخشوا أحدًا منا وأن يخبروا بذلك أهل القبائل الأخرى وأنهم إذا جاءوا إلينا أتحفناهم بالهدايا.

واستكشفنا بعد ذلك جملة أكواخ يتغذى معظم ساكنيها بالذرة الخاصة بتلك البلاد والذرة الشامية الكثيرة الانتشار فيها والأسماك.

وإذ كانت سرعة التيار في هذا المكان ميلين، فقد استحال علينا تسيير القوارب بجر اللبان أو بالمجاديف، دع أن النهر فيه كثير المنعرجات والمنعطفات. وفي الساعة الحادية عشرة ألقينا المراسي وبتنا حيث وقفنا.

الاثنين ٢٣ شوال: بكرنا بالارتحال، واضطررنا إلى جر القوارب باللبان بسبب الكردة واستعملنا المجاديف لاجتيازها، وتخلف قاربان من قواربنا. وفي الساعة السادسة (الزوال) لمحنا أربعة زوارق لقبيلة الكيك تتجه نحونا ويرشقنا راكبوها بالنبال، فأمرنا بعض العساكر بإطلاق النار فقُتل اثنان منهم وغاص الآخرون في الماء طلبًا للفرار. على أننا لم يسعنا إلا الدهشة من جرأة هؤلاء الناس وإقدامهم على مهاجمتنا جهارًا نهارًا بما عندهم من الوسائل الضعيفة. هذا، والجانب الشرقي من النيل الأبيض يحتوي بعض الغابات، أما الضفتان فنبات الحمصوف والخيزران، والبوص فيهما كثير. وقد ألقينا مراسينا لقضاء الليل.

الثلاثاء ٢٤ شوال: لم نقطع من الطريق إلا مسافة قصيرة بالرغم من تبكيرنا بالرحيل، والسبب في ذلك أن ذهبيتنا الخامسة نفذ الماء منها فأصاب بعض الذرة وخمسة صناديق من الذخيرة، وبالنظر لارتفاع ضفتي النهر في هذا المكان وتكاثف الحمصوف والخيزران والبوص فيهما، فقد تعذَّر علينا إنزال الصناديق إلى البر لتجفيفها. على أننا اهتممنا منذ اليوم التالي بسد الثقب الذي نفذ الماء منه، ونجحنا في إصابة هذا الغرض نجاحًا باهرًا. وقد قطعنا حتى الساعة العاشرة مسافة قصيرة بسبب الكردة من جهة وشدة الريح من جهة أخرى.

وفي تلك الساعة شهدنا على مقربة من الشاطئ بعض أكواخ لقبيلة الكيك، فألقينا مراسينا في هذا المكان لقضاء الليلة به.

الأربعاء ٢٥ شوال: كان الجو في ساعة رحيلنا صباحًا متلبدًا بالغيوم والريح مختلفة. وفي الساعة الثالثة رأينا في ناحية الشرق على مقربة من الشاطئ جملة أكواخ وأشجار دلب كثيرة وعددًا وافرًا من أشجار أخرى. وفي الساعة الرابعة اشتدت الرياح مخالفة لنا، فتخلف البعض من قواربنا. وفي الساعة السادسة وقع نظرنا على جملة من رجال الكيك يبدون إشارات العداء والتهديد لنا ويلقون في الماء عجلًا وثورًا، فأمرت بإطلاق النار عليهم فلم يكن منهم إلا أن ألقوا ما كان بأيديهم من الرماح والنبال وولوا الأدبار. وقد استعنا على المسير حتى الساعة التاسعة باللبان والشراع والمجاديف. وفي الساعة الحادية عشرة لفت نظرنا اجتماع عدد عظيم من الفيلة في جهة الشرق، وعلى مقربة من الضفة الشرقية للنهر بعض الأشجار، وتصاعد الدخان إلى عنان السماء. ويحف بالنهر من الجانبين في هذا المكان الكثير من نبات الحمصوف والبوص والخيزران. وقد ألقينا مراسينا لقضاء الليلة.

الخميس ٢٦ شوال: كان الجو متلبدًا بالضباب ساعة تحركنا للرحيل صباحًا، وقد رأينا في جهة الشرق كثيرًا من الفيلة وبعض الأشجار، وفي الغرب جملة أكواخ تحيط بها الأشجار. وفي الساعة الرابعة بينما كنا متجهين نحو الشرق حيث يوجد بعض الأكواخ إذا برجلٍ وامرأة كانا يسيران على الشاطئ، فلم نستطع أن نقف منهما على شيء بالرغم من الأسئلة العديدة التي وجهناها إليهما. وفي الساعة التاسعة رأينا في جهة الغرب عدة أكواخ، فاستولينا على ثلاث نساء وجهنا إليهن الأسئلة برفق، فكان كل ما استطعن قوله إنهن زوجات رجال قتلهم حزب من النويريين. ولمحنا في ناحية الغرب مستنقعًا، وبعد أن قطعنا جزءًا من الطريق التقينا بمستنقع آخر أقل من الأول اتساعًا.

وفي المساء شهدنا في الشرق جملة أكواخ، فدنونا بدون أن يستشعر بنا أحد من ست نساءٍ طاعنات في السن كنَّ على شاطئ النهر يعولن وينحن بلغتهن رافعات وجوههن نحو السماء، وما زلنا ندنو منهن حتى أدركناهن ففهمنا من إجابتهن على أسئلتنا إليهن أنهن من قبيلة الكيك، وأننا سوف نجد أمامنا جبلًا هضبته شديدة الخصب، فأخلينا سبيلهن. ولم نستطع أن نحقق إذا كان المستنقعان اللذان التقينا بهما في طريقنا ناشئين عن النهر أو عن مياه الأمطار، على أننا لو تصدينا لهذا التحقيق لما خرجنا منه بفائدة يحسن الوقوف عليها، لأن الخيزران والبوص ومن تحتهما الطين موغلان في النهر بمقدار ميل تقريبًا. وسكان الأكواخ القائمة على ضفتي النهر يعيشون من صيد الحيوانات التي تعيش في الماء وعلى الأرض، وهذا هو سبب العثور على كثير من بقايا هذه الحيوانات في الأكواخ. وكنا في أثناء سيرنا طول النهار نرى الدخان متصاعدًا شرقًا وغربًا. وكثير من المساكن كائن على مسافة ستة أميال من الشاطئ. وبما أننا بينا في الجدول الزمن الذي رأينا فيه تلك الأكواخ وذينك المستنقعين، فلا فائدة في تكرار القول هنا عنها. وضفتا النهر محفوفتان بالخيزران والبوص والأدغال. وقد ألقينا المراسي في هذا المكان.

الجمعة ٢٧ شوال: استأنفنا السير في الطريق فلمحنا في جهة الشرق بحيرتين صغيرتين، وفي الغرب بعض الأكواخ.

وفي الساعة الثالثة رأينا من ناحية الشرق أيضًا بعض أكواخ، فتقدم نحونا جملة من الرجال والنساء رافعين الأيدي نحو السماء كالمبتهل، وقالوا عنا إننا رسل من عند الله، وكان معهم عجل. وكل ما استطعنا أن نفهمه من صياحهم وحركاتهم أنهم يدعوننا إلى قبول العجل، فلما دنونا من مساكنهم طمأنهم ترجماننا محمد قائلًا ألا يخشوا منا أذًى، وإننا نطلب منهم أن يبعثوا إلينا بشيخهم، فما هي إلا برهة حتى حضر إلينا فعلمنا منه أن السكان في هذا المكان من قبيلة الكيك، فأهديناه بعض المصنوعات الزجاجية. فلما شهد ذلك أتباعه اطمأنوا واحتشدوا حتى بلغ عددهم ٥٠٠ نفس وكانوا عزلًا من السلاح، فأحاطوا بنا على النهر، فأمر الشيخ رجاله بإحضار ثماني بقرات. وقد جاوبنا على أسئلتنا بأنه يوجد في وسط النهر جبل شديد الخصوبة، وأنه لا يستطيع أن يرشدنا إلى شيء عن سكانه، ثم قال إن فيما يلي هذا الجبل قبيلة أخرى، فسألناه عما إذا كان أحد رجاله ذهب إلى ذلك الجبل أو عرف شيئًا عنه، فأجابه بأن لا أحد من رجاله ذهب إليه لأن القبائل التي تسكنه معادية بعضها لبعض، ثم قال إنه خصم لدود لتلك القبائل، فإذا وقع يومًا في أيديهم فلا خلاص له منهم، وإن هذا هو السبب في جهله أحوالهم إلا ما اتصل به سماعًا من الناس، فسألناه عن ديانته فقال إن لهم يومًا معينًا يجتمعون فيه حول شجرة ليقوموا بفروض دينهم. ثم جيء بالثماني البقرات فذُبحت ووُزِّعت بين العساكر. وكان الخمسمائة نفس من الأهالي الرجال والنساء والأطفال الذين احتشدوا على ضفة النهر يبتهلون إلينا بلغتهم على اعتقاد أننا رسل من عند الله، فلما شهدنا ذلك أرسلنا إليهم الترجمان محمدًا ليقول لهم إننا جئنا هنا بأمرٍ من الله القوي المتعال لمعاقبة القبائل العاصية وحماية القبائل الطائعة.

وفي الساعة السابعة تحركنا للمسير. وفي الساعة الحادية عشرة رأينا مستنقعًا في ناحية الشرق. وضفاف النهر بهذا المكان كثيرة البوص والحمصوف والخيزران كما في غيره. وقد ألقينا المراسي لانتظار القوارب المتخلفة وقضاء الليل.

السبت ٢٨ شوال: زايلنا مكاننا قبيل الفجر. ففي الساعة الثانية رأينا في جهة الشرق بعض الأشجار، وفي الساعة الثالثة منعتنا الكردة واشتداد الريح من قطع ما كنا نود قطعه من المسافات. والتقينا في الطريق بثلاث بقرات كن طافيات على وجه الماء، ولا شك أن رجال الكيك هم الذين ألقوها في الماء فأخذناها واقتسمها العساكر بينهم، ثم دنونا من الشاطئ لجر القوارب باللبان بسبب الكردات. ونظرنا أشخاصًا كانوا يرمقوننا من بعيد، فاستدعينا أحدهم لنستفهم منه عن مجرى النهر وموضعه، فلم نتمكن من إفهامه مرادنا. على أننا حينما سألناه عن سبب إلقاء قومه للبقرات الثلاث في الماء، قال إنهم اعتبرونا مبعوثين من عند الله فخشوا بأسنا، ثم جاء إلينا ببقرة رابعة فأخلينا سبيله بعد أن أعطيناه شيئًا من المصنوعات الزجاجية. ومع أننا أنزلنا إلى البر شرذمة من العساكر لحماية الرجال الذين يجرون اللبان، فإننا لم نكد نصل إلى طرف الكردة حيث كانت الساعة الخامسة حتى برز لنا أكثر من أربعمائة إلى خمسمائة رجل من قبيلة الكيك مسلحين بالرماح والنبال، فمنعوا رجالنا من المرور قائلين لهم إنهم لا يجوز لهم الذهاب إلى أبعد من النقطة التي وصلوا إليها، فأخذ ترجماننا محمد يبين لهم حقيقة الأمر ويطمئن خواطرهم فلم يتمكن من إقناعهم ووقفوا وقفة المتأهب لمقاومتنا، فتدبرت في الأمر وقلبته على وجوهه فكان من نتيجة ذلك أن أمرت سليمان كاشف والقائمقام رستم أفندي بالنزول إلى البر في العدد الكافي من العساكر، إلا أننا لما زحفنا عليهم وقتلنا البعض منهم بدون أن يلحقنا أقل أذى رأينا سوادهم الأعظم يلتمس الفرار أمامنا، فطاردناهم حتى بلغنا إلى أكواخهم حيث أخذنا ثمانيًا من نسائهم وبناتهم ومقدارًا عظيمًا من مواشيهم. ولكن لما حِرنا في أمر المسبيات وكنا نعلم أن الاسترقاق يخالف نيات صاحب السمو مولانا، فقد أعطينا هذه النسوة شيئًا من الهدايا، وأفهمناهن أننا كنا نريد معاملة أعدائنا بمثل ما عاملناهن ثم أخلينا سبيلهن. وقد اتضح لنا أن عادات القوم كعادات الشلك، أي إنهم يقضون الليل في البحيرات ويتحلون بالدمالج من سن الفيل أو النحاس أو الحديد، أما لغتهم فأقرب إلى لغة الدنكا، وهم يعتاضون عن الختان بخلع ثلاث من أسنانهم، وقوام غذائهم الذرة والسمسم والقرع، وهم يزرعون هذه الحاصلات في مساحات كبيرة من الأرض، ويقتنون الكثير من البقر والثيران والغنم والماعز. ثم جاء إلينا الأشخاص الذين ألقوا في النيل البقرات الثلاث التي التقطناها في الصباح ومعهم ثلاثة عجول، فسألناهم عن سبب مهاجمة الأهلين لنا فأجابوا بأنهم في الحقيقة من رجال القبيلة، ولكنهم من الأشقياء الذين يُخشى سوء فعالهم لأن مساكنهم بعيدة عن النهر. وقد ألقينا مراسينا في هذا المكان حيث قضينا الليل.

الأحد ٢٩ شوال: كان الطقس ساعة رحيلنا صباحًا ينذر بهطول الأمطار وتكاثف الضباب. وقد شهدنا على ضفتي النهر وقت مرورنا كثيرًا من الناس يبذر بعضهم الأرض ويبسط الآخرون أيديهم إلى السماء صائحين بقولهم إننا لمبعوثون من عند الله. وكانوا يريدون تقديم الماشية إلينا ويدعوننا بالإشارة إلى أخذها، ثم ألقوا في الماء جملة من صغار الماعز. وفي الساعة الخامسة شهدنا في ناحية الغرب كوخين كبيرين تحيط بهما مواشٍ كثيرة. وفي الساعة السابعة رأينا إلى يميننا وشمالنا بحيرتين، فالتي إلى يميننا محاطة بكثير من الأشجار، والتي إلى يسارنا على سواحلها الكثير من البط ومالك الحزين. وهذه البحيرة مجاورة للنهر، وقد ذهب سليمان كاشف وإبراهيم أفندي لتحقيق أمرها، فوجدا أن عمقها لا يزيد على ربع المتر إلى ثلاثة أرباعه، وعقب عودتهما استأنفنا الطريق، فرأينا في الساعة الحادية عشرة بناحية الشرق بحيرة أخرى غطى البط سطح مائها. ويحف بالنهر في هذا المكان الكثير من الحمصوف والبوص والخيزران، وكان الطقس معتدلًا والوقت موافقًا فأخذنا ارتفاع الشمس وألقينا مراسينا.

الاثنين أول ذي القعدة: زايلنا مكاننا مبكرين، فشهدنا بجهة الغرب ثلاث حلل كبيرة تحيط بها بقرات كثيرة، وما هي إلا لحظة حتى برز جملة أشخاص ألقوا في الماء بقرتين، ثم نكصوا على الأعقاب هاربين. وفي الساعة الثانية هبت الريح من الشرق، والتقينا في الطريق بكردة تخلف بسببها بعض القوارب، فقررنا لصد مقاومة الكردة التحول إلى الضفة الشرقية لجر القوارب باللبان، وأخرجنا لحماية الذين يجرون اللبان شرذمة من العساكر المسلحين، ولكننا لم نلبث أن رأينا نحو أربعمائة إلى خمسمائة رجل من قبيلة الكيك يتقدمون نحونا حتى صاروا ممن يجرون اللبان قيد عشرين خطوة، ففهمنا من النظر إلى حركاتهم أنهم يريدون بنا سوءًا وأنهم يقصدون الهجوم علينا، فأنذرناهم على لسان ترجماننا محمد بأنهم إذا لم يخلوا لنا السبيل فلا بد من إنزال العقوبة بهم، ولكنهم أبوا إلا التمادي في طغيانهم والإصرار على البغي والعدوان، فبعد النظر في الأمر أمرت سليمان كاشف والقائمقام رستم أفندي بالنزول إلى البر في مئتي جندي من الحرس الخاص، فما هي إلا بضع طلقات أطلقها هؤلاء من بنادقهم حتى قُتل من الأعداء الجم الغفير والتمس الباقون الفرار، وفي الأثناء استولينا على بعض الماشية وقسمناها بين الجنود الظافرة. وفي الليلة السابقة نفذ الماء إلى أحد القوارب فلحق العطب بمؤن العساكر، وإذ كانت الضرورة ماسة إلى تجفيفها فقد قررنا الوقوف في هذا المكان حيث كانت الساعة الثامنة.

ولقد أدركنا شيخ القرية التي قهرنا أهلها على أثر مظاهراتها العدائية نحونا، ومعه جملة من الرجال والنساء عزلًا من السلاح وكانوا يسحبون خمس بقرات، فقال لنا بلغته إننا لرسلٍ من عند الله، ودعا لنا كما يدعو المرء لكائن فوق العادة. فبعد أن عفونا عن أولئك الأشخاص ووافيناهم بالهدايا والتحف قلنا لهم إننا جئنا إلى هذا المكان بأمرٍ من الله تعالى، وإذ كانوا من العصاة المعاندين فقد حاق بهم العذاب. ثم سألنا منه أن ينذر القبائل التي في طريقنا بالإمساك عن الاقتداء بقبيلته التي أنفذت رجالًا منها مسلحين لاعتراضنا في الطريق، وإلا عاملناهم بمثل ما عاملونا به، فتعهد بذلك مقسمًا برأسه وعينه وقصد من فوره إلى كوخه. ثم جاء فريق من الضفة الغربية ليقدموا إلينا ثلاث بقرات، فما كان أعظم دهشتنا حينما علمنا أن قدوم هؤلاء الناس علينا إنما كان نتيجة النصيحة التي أسداهم الشيخ إياها. ورأينا من جهة الغرب مستنقعين ثم مستنقعًا ثالثًا تحيط به الأكواخ. وضفتا النهر في هذا المكان يحف بهما الحمصوف والبوص والخيزران. وفيه ألقينا المراسي لقضاء الليلة.

الثلاثاء ٢ القعدة: بكرنا بالمسير فرأينا قبيل الساعة الثالثة في جهة الشرق أكواخًا قد أقبل سكانها عزلًا من السلاح ليهدوا إلينا بعض الحيوانات، فلم نلبث أن قسمناها بين العساكر. وقد أصيبت دفتا الذهبية الثالثة وإحدى الفلايك بعطب خفيف تسبب عن شدة الرياح، فوقفنا في هذا المكان لإصلاحهما. وفيه أقبل أولئك السكان أنفسهم ومعهم عدد عظيم من النساء، وكانوا جميعًا عزلًا من السلاح فقدموا إلينا الشيء الكثير من عجول البقر والماعز وجرار اللبن وسنَّي فيل، وكانوا يسموننا في لغتهم برسل الله ومبعوثيه، ثم قاموا بحركات أرادوا بها العبادة إذ أخذوا يسجدون أمامنا، فأعطيناهم شيئًا من المصنوعات الزجاجية، وعممنا بعضهم بقطع من قماش أنقرة — أي بالشيلان — فانطلقوا يطوفون على الباقين، وبأيديهم هذه القطع يمرون بها على وجوههم وأعينهم ويقبِّلونها مظهرين إشارات السرور والفرح، ولقد تسلمنا منهم ما يكفي من الماشية لغذاء العساكر، ولكننا لم نقبل شيئًا من سمنهم لأنه كان لفساده كريه الرائحة. وعلى أثر ذلك استأنفنا الطريق، فبعد أن سرنا قليلًا ارتطم أحد أفراس البحر بالذهبية الثالثة، فأحدث بها فتحة أخذ الماء ينفذ منها إلى داخلها، فاضطررنا إلى الوقوف لإصلاح العطب. وقد قُدِّمت إلينا في الأثناء من أهل الضفة بقرتان صغيرتان فلم نقبلهما لاستغنائنا عنهما، فأحزن أصحابهما هذا الرفض. ويظهر أن الأراضي الفسيحة التي مررنا بها على مدى ميلين أو ثلاثة أميال من النهر في غاية الخصب. وقد اعترضتنا صعوبات كثيرة بسبب الكردات، وقاع النهر في هذا المكان رملي وضفافه مغطاة بالحمصوف والبوص والخيزران. وعند غروب الشمس ألقينا المراسي وسط النهر.

الأربعاء ٣ القعدة: برحنا مكاننا عندما أسفر الصبح. ففي الساعة الثالثة رأينا مستنقعًا في جهة الغرب. وفي الساعة الخامسة اضطرتنا الكردة إلى الوقوف ساعة، فأقبل علينا أثناءها من سكان الضفتين الشرقية والغربية الجم الغفير وكانوا عزلًا من السلاح، وقدموا إلينا ثلاثين بقرة لم نستطع قبولها، وحاولنا إفهامهم بواسطة الترجمان محمد أننا لم نكن الآن في حاجة إليها، ولكنهم لم يقبلوا هذا العذر وأبوا إلا أن يلزمونا بقبولها، فرجونا منهم أن يبقوها عندهم أمانة حتى نعود فنأخذها منهم، فقالوا إنهم سيوافوننا بغيرها عند العودة، ولما يئسوا من قبولنا هديتهم عادوا والحزن ملء قلوبهم.

وفي الساعة السابعة رأينا بناحية الغرب مستنقعًا، وكانت الريح ضعيفة جدًّا فجررنا القوارب ساعةً باللبان. وكان الطقس مناسبًا والمكان موافقًا لأخذ ارتفاع الشمس ففعلنا، وكنا قد رصدناها من قبل عند الزوال. وكانت الأدغال وقصب السكر وأعواد الخيزران متكاثفة الأفنان على الضفتين. وقد رأينا على مسافة أربعة أميال من ناحية الغرب أشجارًا كثيرة، فألقينا المراسي في هذا المكان لقضاء الليل.

الخميس ٤ القعدة: بكرنا بالرحيل صباحًا. وكان ينقصنا حطب الوقود فأخذنا منه حاجتنا من الضفة الغربية، وتقاطر إلينا الكثيرون من سكان الأكواخ الواقعة على هذه الضفة عزلًا من السلاح فأهدونا مواشي بادرنا بقبولها. وكما ذكرناه أول الشهر كان الشيخ الذي عاقبناه قد أخطر بوصولنا السواد الأعظم من سكان هذه الأرجاء، فتواردوا في جموع كثيفة إلى ساحل النهر عزلًا من السلاح ومعهم المواشي برسم الهدية، وكان الرجال والنساء والأطفال يصلون تباعًا رافعين أيديهم نحو السماء يلتمسون منا قبول ما جاءوا به من الماشية والغنم والماعز والكلاب، قائلين إنها عندهم في أكواخهم بمقادير عظيمة جدًّا. وفي الساعة الثامنة ثُقِب القارب التاسع وكانت الريح ضعيفة، فاضطررنا إلى سحب القوارب باللبان. وقد شهدنا في ناحية الغرب بعض الغابات ومستنقعين كبيرين وفي ناحية الشرق مستنقعًا آخر، واتضح لنا أن قاع النيل في هذه الجهة رملي وأن شواطئه كثيرة الأدغال والخيزران، فألقينا المراسي في وسط النهر للمبيت في هذا المكان.

الجمعة ٥ القعدة: في ساعة رحيلنا كان الجو كثير الضباب والريح ضعيفة جدًّا، فلم نستطع التقدم إلى الأمام. وشهدنا بالضفة الشرقية عددًا عظيمًا من الحلل خرج ساكنوها منها عزلًا من السلاح ومعهم عشر بقرات وبعض رءوس من الضأن ليهدوها إلينا، فقبلناها ووزعناها بين الضباط والعسكر. وفي ناحية الشرق شهدنا مستنقعًا ثم التقينا بكردة. ورأينا في الساعة العاشرة حلة كبيرة خرج أهلها عزلًا من السلاح ومعهم هدية من الماشية، فلم نستطع قبولها منهم. وكان بعض القوارب قد تخلف عنا بسبب الكردات، فوقفنا في انتظارها حتى الساعة الحادية عشرة. ونظرنا على مسافة بعيدة من ناحية الغرب غابات عديدة ومستنقعًا، وكانت شواطئ النهر مجلَّلة بالأدغال والخيزران. ولما جنَّ الليل ألقينا المراسي في هذا المكان.

السبت ٦ القعدة: كانت الريح في الصباح مختلفة والكردات في الطريق متتابعة، فتعذر السير بالشراع لما فيه من الخطر المؤكد، فاضطررنا إلى سحب القوارب باللِّبَان مدة أربع ساعات وصالًا. ورأينا في جهة الشرق قبيل الساعة السادسة صحراء ذات مساكن تحيط بها الحيوانات. ولسرعة التيار في هذا المكان ولاستكشافنا فرعًا من النهر أوجد في نفوسنا شيئًا من الشك والتردد، عوَّلْنا على استقصاء الأخبار للوقوف على الحقيقة، فقيل لنا إن النهر الأكبر هو الذي إلى جهة الغرب وإن هذا الفرع من الماء مشتق من النهر الأصلي ومتجه نحو الغرب. وفي الساعة التاسعة شهدنا يمنة ويسرة مسكنين؛ فالذي إلى جهة اليسار كان متخربًا، وبالنظر لتخلف بعض القوارب اضطررنا إلى الوقوف تجاهه، ولقد تُوفِّي جندي من عساكر الذهبية الثالثة فقمنا بالواجب نحوه، وبعث إلينا سكان المسكنين بالمواشي ملحفين في الرجاء بقبولها، فسألناهم عن الجبل الذي نُقل إلينا بعض الشيء عنه فيما سبق، فلم نستطع الحصول منهم على معلومات مقنعة أو مرضية. وقاع النهر في هذا المكان رملي وشطوطه مملوءة بالأدغال والخيزران، أما شطوطه الغربية فكثيرة الغابات على مسافة خمسة أميال تقريبًا من النهر. وقد ألقينا المراسي في وسطه للمبيت.

الأحد ٧ القعدة: كان قد اتصل بنا منذ زمن أن الذهبيتين الثالثة والسابعة وقاربين من القوارب قد نفذت المياه إلى داخلها، وأن روائح كريهة ضارة بصحة العساكر كانت تنبعث منها؛ فرأينا أن الأوفق الوقوف في هذا المكان الصالح لإصلاح الذهبيتين والقاربين، واغتنمنا هذه الفرصة لتنظيف الذهبيات والقوارب الأخرى وللعناية بالشئون الصحية ولغسل ملابس الجنود، وقضينا بعد ذلك ساعة في رياضتهم وتدريبهم على الحركات العسكرية.

الاثنين ٨ القعدة: لبثنا إلى الساعة التاسعة في إصلاح القاربين التاسع والعاشر وترميمهما، وقد أقبل في الأثناء من جهة الغرب جملة أشخاص ومعهم المواشي برسم الهدية، وكان المدَّخر منها لمؤنة الجنود قد أشرف أن ينفد، فقبلناها وأعطيناهم في مقابلها بعض الهدايا، ثم باشرنا تدريب العساكر على ضرب النار. وبعد أن فحصنا القوارب وفتشناها رأينا خمسة أو ستة أرادب من الذرة والقمح قد تطرق الفساد إليها.

الثلاثاء ٩ ذي القعدة: كان الجو ذا ضباب ساعة تحركنا للرحيل والرياح الجنوبية شديدة الهبوب. ورأينا في الساعة الثانية بناحية الغرب مستنقعًا وثلاثة مساكن وبناحية الشرق مساكن غيرها، ولكننا لم ننظر أحدًا من البشر. وشهدنا في الساعة الرابعة على مسافة ميل منا غربًا مساكن كثيرة يحيط بها جمٌّ غفير من الأهلين، وقد توارد هؤلاء على سواحل النهر عزلًا من السلاح لمشاهدتنا، ورأينا مستنقعًا. ومع أن الرياح بقيت موافقة حتى الساعة السادسة، فقد اضطررنا إلى سحب القوارب باللبان إلى الساعة العاشرة. وفي هذا المكان ينتهي فرع النهر الذي سبق الكلام عليه بتاريخ ٦ الجاري، فإذا بفرع آخر يُشتَق منه في المكان الذي وصلنا إليه، ولكن تيار الماء فيه لم يكن سريعًا. وقد أقبل علينا أصحاب المساكن التي رأيناها في الصباح يرجون منا قبول مواشيهم على سبيل الهدية. والنهر في هذا المكان محفوف بالأدغال وقصب السكر والخيزران. وفي الساعة العاشرة ألقينا مراسينا وسط النهر.

الأربعاء ١٠ القعدة: كان الجو في الصباح ذا ضباب والريح ساكنة، فأخرجنا فريقًا من العساكر لشد اللبان وجردنا شرذمة منهم بالسلاح لحماية هذا الفريق، ثم هبت الريح قليلًا ولكنها سكنت تمامًا بعد مسيرة ساعتين. وقد رأينا في جهة الغرب جملة مساكن، ولكنَّا لم نرَ أثناء هذا النهار أثرًا ما للنباتات. واضطرَّنا سكون الرياح وشدة التيار إلى الاعتماد على اللبان في سحب السفن، فبلغنا في الساعة العاشرة إلى نهاية فرع النهر الذي وصلنا إلى فمه في الساعة السابعة، فرأينا جملة حلل تقاطر إلينا ساكنوها ومعهم الهدايا من المواشي، فتعذر علينا قبولها لهجوم الليل. وشهدنا غابات كثيفة غربي النهر على مسافة خمسة أميال منه، وكانت ضفتاه في هذا المكان مجلَّلتين بالبوص والأدغال والخيزران. ولما جنَّ الليل ألقينا المراسي وسط النهر.

الخميس ١١ القعدة: كان الجو وقت رحيلنا شديد الضباب والريح تهب من الشمال بقوة عظيمة، فرأينا في الغرب والشرق جملة مساكن وبحيرات. ومواشي هذه البقاع عبارة عن كمية وافرة من الثيران والبقرات والغنم والماعز، فأقبل أولئك السكان نحونا عزلًا من السلاح يحملون على أكتافهم الغنم والماعز، بينا كان غيرهم يحملون على رءوسهم آنية مملوءة باللبن والسمن، ولقد وصلوا إلى شاطئ النهر ومعهم جملة من البقر، وتبعوا مراكبنا ثلاث ساعات وهم يشيرون إلينا بأيديهم راجين منَّا قبول هديتهم، فاكتفينا بأخذ قليل من اللبن وبعض الحيوانات التي جاءوا بها، ولكننا لم نقبل شيئًا من السمن لرداءة رائحته. وفي الساعة السابعة صفا الجو واعتدلت الريح، فعدلنا عن شد اللبان ووقفنا في هذا المكان.

الجمعة ١٢ القعدة: تحركنا للرحيل صباحًا، فرأينا في ناحية الشرق حلتين وفي ناحية الغرب حلة واحدة يحيط بها عدد عظيم من الماشية، وقد أقبل سكان المكان علينا ليهدونا بعض مواشيهم وما كانوا يحملون على رءوسهم من جرار اللبن، وتبعونا ساعتين أو ثلاث ساعات ملحين علينا بقبول هداياهم. وكان تجاه هذه الحلل على شاطئ النهر جملة زوارق، ولما لم تقع أنظارنا على طفل واحد في هذه الجهة سألنا عن السبب، فكان الجواب أننا مبعوثون من عند الله وأنهم لشدة خوفهم على أطفالهم بعثوا بهم إلى مساكن أخرى في جهة الشرق ودفنوا أسلحتهم. وقد وقع نظرنا شرقًا وغربًا على مثلها.

وفي الساعة الثامنة شهدنا بناحية الغرب على مسافة خطوتين من النهر فيلًا منغرزًا في الوحل، فقتلناه رميًا بالرصاص ثم خرجنا لنقتلع سنَّيْه فلما اقتلعناهما تركناهما في مسكن قريب لأخذهما منه عند العودة. وفي الساعة التاسعة كانت الريح قد سكنت فوقفنا جهة الشرق. والنيل في هذا المكان يحف به البوص والخيزران والأدغال. ولما ولَّى النهار ألقينا المراسي وسط النهر.

السبت ١٣ القعدة: زايلنا مكاننا صباحًا والسكون سائد، وكان سيرنا في معظم الوقت لشد اللِّبان. وقد أبصرنا في ناحية الغرب بعض الفيلة وبحيرة كانت طيور مالك الحزين تروح وتغدو على شواطئها. وفي الساعة السادسة هبت الريح من مشرق الشمس، فلاحت لنا في الغرب بحيرة كانت المواشي الكثيرة بجوارها. وفي الساعة الحادية عشرة استكشفنا في جهتي الشرق والغرب جملة من الحلل، والظاهر أن المساكن الواقعة في جهة الشرق كانت قد أُحْرِقت لأننا قد رأينا بها بعض الجثث. ثم دنونا من المساكن التي إلى جهة الغرب لاستقصاء أخبارها، فعلمنا أن أشخاصًا من قبيلة الطوطوية جاءوا الليلة الماضية فاستولوا على المواشي بعد أن قتلوا عشرة رجال، وقالوا إن المعتدين أعداء لهم وإنهم وإياهم في قتال مستمر. وضفاف النهر في هذا المكان كثيرة البوص والخيزران والأدغال. ولقد وقفنا عند الغرب في انتظار وصول القوارب المتخلفة فلم تصل إلا في الساعة الحادية عشرة. ولقد ألقينا مراسينا وسط النهر حينما أسدل الليل ستاره.

الأحد ١٤ القعدة: كان الجو ساعة رحيلنا ذا ضباب، وقد رأينا كردة في طريقنا فاضطررنا إلى جر اللبان، ثم التقينا في طريقنا ببحيرة وست حلل كبيرة كما هو مذكور في الجدول. وفي الساعة السادسة رأينا في جهة الغرب مسكن الشيخ الأكبر لقبيلة بندرله هيال واسمه بوهيور، فجاء هذا الشيخ إلى ذهبيتنا فاستفهمنا منه عن الجبل الذي سبق الكلام عليه وعن أشياء أخر، فأجاب بأن في ناحية الغرب قبيلة لا يزال في قتال متواصل معها بسبب المرعى، فسألناه عن الجبل الذي حُدِّثْنا عنه واسمه بندرله هيال هل هو بعيد عن النهر وهل به مناجم للمعادن، فأجاب بأنه على مسيرة يوم من الساحل، وأن بالقسم الغربي من الغابات الكثيرة ما يحول دون الإحاطة التامة بأحواله، أما المعادن فقال إنه لا يعلم شيئًا عنها. وكان الشيخ والرجال والنساء يحلون آذانهم وسوقهم بحلقات من الحديد والنحاس، فسألنا الشيخ من أين يأتون بهذين المعدنين، فأجاب من مكان على مسيرة ثلاثة أيام من المساكن، وأنهم يتاجرون ويقايضون على مواشيهم بتلك الحلقات الحديدية والنحاسية التي تُصْنَع هناك، ثم قال إن أهل تلك الجهة يستخرجونهما من مواضع واقعة في الغرب. فسألناه عن المكان الذي ينبع منه النهر وهل إذا كان صحيحًا ما يقال من ضرورة التقائنا في الطريق بجبل وسط النهر، فأجاب بأنه لا هو ولا أحد من قبيلته يستطيعان حل هذا اللغز. فسألته عن كيفية الغذاء عندهم، فقال إنه يتألف من الذرة والسمسم والقرع الكبير الحجم وإنهم يزرعون قليلًا من التبغ. وقد أخلينا سبيله هو وإخوته ظاهرةً عليهم علامات الاغتباط والسرور بما أهديناهم من قليل التحف الزجاجية. وقد اقتدى سكان هذه الأماكن بغيرهم ممن مررنا بهم، أعني أنهم كانوا يجيئون إلى شاطئ النهر جماعات حشيدة ليقدموا إلينا برسم الهدية شيئًا من حيواناتهم الأهلية وجرارًا من اللبن، وكانوا في بعض الأحيان يقتربون من ساحبي اللبان فيقبضون على الحبال ويتطوعون لسحبها معهم على سبيل المساعدة، وكانت مواشيهم متفرقة في هذه الأمكنة لا يُحصَى لها عدد، وقد رأيناها ترعى الكلأ والأدغال النابتة على شطوط النهر.

وكان قال النهر في هذا المكان رمليًّا، وقد رأينا أشجارًا كثيرة في ناحية الغرب على مسافة أربعة أميال من النهر، وفي ناحية الشرق قبيل الساعة الحادية عشرة جثة فيل فاقتلعنا منها السِّنَّيْن. وما أسدل الظلام ستاره حتى ألقينا المراسي وسط النهر للمبيت.

الاثنين ١٥ القعدة: كانت الريح عند رحيلنا في الصباح تهب من الشمال. في منتصف الساعة الثالثة اضطررنا إلى الوقوف لحدوث تلف في دفة الذهبية الثالثة وبوشر إصلاحه. وفي الأثناء سقطت ثلاث زكائب الجنود في الماء فذهبت ضياعًا، وكان سقوطها بإهمال عدة أشخاص فعُوقِبوا طبقًا للوائح والقوانين وأُضِيفَت الخسارة إلى حسابهم.

وفي الساعة السابعة استأنفنا السير في ريح مختلفة، فاضطررنا لهذا السبب ولوجود الكردات أمامنا إلى جر اللبان حتى الساعة الحادية عشرة. وقد أقبل علينا بعض سكان هذه الأصقاع وأخذوا يساعدون عساكرنا على شد اللبان، وتقدم سكان الحلل التسع التي شهدناها نحو الشاطئ راجين قبول المواشي التي جاءوا بها على سبيل الهدية، ولقد اقتفوا أثرنا نحو ساعتين أو ثلاث ساعات، ولكننا رفضنا هديتهم فعادوا من حيث أتوا كاسفي البال.

واستكشفنا في الغرب مستنقعًا تكاثرت عليه الأطيار من مالك الحزين، وشهدنا غابات كثيرة في هذا المكان. وفي الساعة الحادية عشرة لمحنا حلة جاء أحد سكانها إلينا بسن فيل. والنهر في هذا المكان مغطى إلى مسافة ميلين أو ثلاثة أميال من الساحل بالبوص والخيزران وشهدنا المواشي ترعى هذه النباتات، ووقعت أنظارنا على آثار للحريق في كثير من الأماكن. أما قاع النهر فرمليٌّ، وحافاته مجللة بالخيزران والأدغال. وقد ألقينا المراسي وسط النهر بعد مغيب الشمس.

الثلاثاء ١٦ القعدة: كان الجو ساكنًا في الصباح عند رحيلنا، فاضطررنا إلى التقدم تارة بجر اللبان وتارة بالرياح الضعيفة التي كانت تهب من آنٍ إلى آن. وأبصرنا من ناحيتَي الشرق والغرب بعشرة مساكن ومستنقع وكان هذا المستنقع إلى جهة الغرب، وقد أقبل سكان هذا المكان اقتداءً بغيرهم ليهدونا بهداياهم ويقتفوا أثرنا، وكان بالمساكن التي رأيناها شيء من التبغ والذرة والسمسم وسنَّيْن من الفيل اتُّخِذتا كوتدين، وفي هذه اليوم جاءوا بأربع أسنان صغيرة. وفي الساعة الحادية عشرة رسونا في ناحية الغرب، فتقدم شاب في العشرين أو الحادية والعشرين من عمره إلى محمد الترجمان وقال إن في عزمه اقتفاء أثرنا لما هو فيه من الفقر وسوء الحال، فبعد فحصه قررنا أخذه معنا وسترناه بما يلزم من الملابس. أما شواطئ النهر فمكسوة ببقايا الخيزران والأدغال، لأنها إما قد رعتها المواشي وإما قد أحرقتها النار. والنهر في هذا المكان آهل بالتماسيح وأفراس البحر، وقاعه من الرمل، وعرضه نحو الثلاثة الأميال، وعلى الضفة الغربية حطب كثير جدًّا. ولما جنَّ الليل ألقينا المراسي للمبيت.

الأربعاء ١٧ القعدة: جيء إلينا في الصباح من الضفتين الشرقية والغربية ببعض الماشية، فوُزِّعت قبل الرحيل على العساكر الذين كانوا في أشد الحاجة إليها، ولما رأى السكان أن هديتهم قُبِلت عادوا إلى مساكنهم ليأتوا منها بأحسن ما عندهم من الماشية، ثم أخذوا عقب وصولهم يتبعوننا راجين منا قبولها وأخذوا يشدون اللبان مع العساكر. وكانت الضفة الغربية تسكنها قبيلة الهياب (أو الهلياب، أو العلياب)، والضفة الشرقية تسكنها قبيلة البحور، والقبيلتان في قتال مستمر بسبب المرعى. ومع سيرنا نحو الساعتين بقوة الريح، فقد اضطررنا في الغالب إلى التعويل على جر اللبان. وفي الساعة الخامسة شهدنا فرعًا للنهر، وظهر لنا أن القاع في هذا المكان رملي وأن الشواطئ كثيرة البوص والخيزران. ومما شوهد بالجهة الشرقية قريبًا من النهر أشجار أوروبية وأنواع من أشجار أخرى، وإذ كانت تنقصنا الأدوات اللازمة لجر القوارب باللبان فقد قطعنا جملة من هذه الأشجار، وألقينا المراسي وسط النهر.

الخميس ١٨ القعدة: كان الجو في الصباح ساكنًا، فبعد جر المراكب باللبان زمنًا هبت ريح موافقة واصلنا السير بواسطتها إلى الساعة الخامسة، ولكننا اضطررنا لتعاقب الكردات في طريقنا إلى استئناف الجر باللبان، وقد ساعد السكان العساكر على أداء هذه المهمة إلى الساعة التاسعة، وتواردوا علينا من الشاطئين في جموع حشيدة عزلًا من السلاح ومعهم الماشية فلما شهدنا ذلك وقفنا عند الشاطئ الغربي، فأقبل علينا الشيخ ريان قنجق — لعله ريحان — فسألناه عن البلد، فأجاب بأننا سنمر بقبيلة الشير المعادية له وأنها تتكلم بغير لغته وتشتغل بزراعة الذرة والسمسم والتبغ والقرع الكبير. والظاهر أن هذا الرجل شيخ قبيلة الهلياب السالفة الذكر، وكان قد جاء في حشد مؤلَّف من ألف نفس عزلًا من السلاح، ومن عادتهم أن يربطوا بأجسامهم أذناب الأبقار وقرونها لما لهذا الحيوان من الاحترام عندهم. ولم نأخذ مما أتوا به من الماشية إلا ما كنا في أشد الحاجة إليه، وأهدينا الشيخ في مقابله بعض المصنوعات الزجاجية وقطعًا من قماش القطن ليتخذ منها ثيابًا، وقد أعربنا له عن سرورنا من هديته، فظل يجر باللبان مع عساكرنا حتى المساء.

وفي الساعة التاسعة اقتربنا من الضفة الشرقية، فأقبل على ذهبيتنا ثلاثة من كبار مشائخ البحور فأعطيناهم من المصنوعات الزجاجية وقليلًا من قماش الصوف الأبيض، ووجهنا إليهم أسئلة أجابوا عليها بأن مساكنهم قريبة من النهر وأنهم يقتصرون في زراعتهم على السمسم والتبغ والقرع، وقالوا أيضًا إنهم في خصام مستمر مع قبيلة الهياب وقبيلة أخرى. وكانت قبيلة البحور قد جاءت بخمسين رأسًا من البقر برسم الهدية فأخذنا منها أجودها. والنهر في هذا المكان آهل بالتماسيح الكثيرة وأفراس البحر، أما الشواطئ فكثيرة البوص والخيزران.

وبالساحل الغربي أشجار لا يُحصَى عددها، وإلى الغرب منها سبعة مساكن وإلى الشرق مسكن واحد وست جزر صغيرة. ولما أرخى الليل سدوله ألقينا المراسي وسط النهر.

الجمعة ١٩ القعدة: في منتصف الليل تُوفِّي سليمان كاشف الكاتب، وأفندي آخر أصله من الآستانة العلية، وكان يشكو منذ شهرين داء الإسهال، فوقفنا في الصباح للقيام بالفروض الواجبة نحوهما. وفي ساعة استئناف الطريق خرج إلينا عدد عظيم من الأهالي من مساكنهم عزلًا من السلاح كالأمس كما هو مذكور في الجدول المرفق بهذا، ومعهم كثير من الحيوانات المختلفة الأنواع. وفي جهة الغرب وفد إلينا رهط من قبيلة الهلياب ليقدموا برسم الهدية مواشي اختاروها لنا. وأراد جماعة قبيلة البحور النازلة بالضفة الشرقية التفوق على غيرهم في الإكرام، فاختاروا لنا ما رأوه الأوفق والأحسن من مواشيهم، حتى بلغ ما أُهدِي إلينا في ذلك اليوم خمسين رأسًا من المواشي، فأعطينا المشائخ قطعًا من الشال الأبيض سرهم حسن منظرها وانقلبوا إلى منازلهم فرحين. وفي الساعة التاسعة شهدنا في الشرق بعض الفيلة وعددًا عظيمًا من التماسيح وأفراس البحر، وشهدنا غربًا غابات تبعد عن النهر بأربعة أميال وأشجارًا متفرقة، وهذه الأشجار من سبعة أنواع وهي: شجر أوروبا، والنبق، والديكر، والأنديراب، والإكليج، والطليح، والأسيم. وشواطئ النهر من جهة الغرب مرتفعة بقدر الذراع. وقد ألقينا المراسي في وسط النهر للمبيت.

السبت ٢٠ القعدة: كانت الريح وقت رحيلنا ساكنة والجو ذا ضباب، فتقدمنا قليلًا بشد اللبان. فلما كانت الساعة الرابعة وصلنا إلى مكان يُشتَق فيه من النهر فرعان، وكانت المياه حافظة فيهما لونها، وكان فرع يتجه نحو الغرب والآخر نحو الشرق، وقد عرفنا أن قبيلة الهياب تنتهي مواطنها في هذا المكان. وكنا لا ندري أيبقى هذان الفرعان منفصلين أم يلتقيان فيما بعد، وإذ كان واجبًا التأكد من هذا الأمر فقد وقفنا عند هذا المكان لالتقاط الأخبار واستجلاء الحقيقة، فاستدعينا رهطًا من الهياب الذين في الغرب للاستفهام منهم عما إذا كان الفرعان منفصلين حتى النهاية، وعن مقدار امتدادهما في هذه الحالة، وعما إذا كنا سنلتقي أثناء سيرنا بجبل ما، فقالوا إن هذين الفرعين نُهَيْران منفصلان، وإن لكل منهما مجرى خاصًّا، وإن النهير الذي إلى ناحية الغرب قليل الماء بخلاف الذي إلى ناحية الشرق فإنه أكبر حجمًا وأغزر ماءً. أما مقدار امتدادهما فقد أكدوا لنا أنهم يجهلونه كما يجهلون إذا كان في الطريق جبل أم لا، وأنهم على كل حال لم يسمعوا قط بسيرة هذا الجبل، وأن كل ما يعرفونه أنه توجد في الجهات العليا قبائل كثيرة تتكلم بلغة غير لغتهم، وأنهم وإياهم في قتال مستمر، وأن هذا هو سبب انقطاع علائقهم بهم وجهلهم الكثير من شئونهم. وللتأكد من صحة هذه الأقوال جئنا من الشاطئ الشرقي بشيخين من قبيلة البحور ووجهنا إليهما الأسئلة السابقة، فأجابوا بما يقرب من إجابة رجال قبيلة الهياب، فثبت لنا صدق هؤلاء.

ولما كان استكشاف هذين الفرعين جزءًا متصلًا بالمهمة التي نيط بنا أداؤها، فقد عهدت إلى سليمان كاشف والقائمقام رستم أفندي والفرنسي إبراهيم أفندي واليوزباشي فيض الله بالتوجه لاستكشاف الفرع الغربي، وأنفذت بطريق البر بعثة صغيرة من بعض العساكر، وأرسلت ثلاثة من البحرية في زورق لسبر الأعماق، فبعد أن قطع الجميع نحو الميلين على اتجاه الطول وجدوا أن عرض هذا الفرع يختلف من ٨ إلى ١٠ كولاج، وأن عمقه يتراوح بين كولاج ونصف وكولاجين، وأن سرعة الماء ميل ونصف في الساعة.

ولاختبار الفرع الشرقي أنفذت الأشخاص أنفسهم في زورق لأداء هذه المهمة، فبعد أن قطعوا من مجراه ميلين لاحظوا أن عرضه يبلغ في بعض الأماكن نصف الميل وفي البعض الآخر ربعه، وأن عمقه عند مصبه يتراوح بين كولاج ونصف وكولاجين إلى كولاجين ونصف، وأن سرعته نصف الميل في الساعة، وأن الماء فيه أغزر منه في الفرع الغربي، وأن الشاطئ أوسع منه فيه، فاستنتجنا أن الأوفق هو المرور في هذا الفرع. ولما لم يكن الوقت ملائمًا للمسير فقد قررنا قضاء الليلة في المكان الذي كنا فيه.

الأحد ٢١ القعدة: تحركنا للرحيل ولم تكن الريح موافقة، فاضطررنا إلى جر المراكب باللبان حتى الظهر، وبعد أن قطعنا مسافة طولها خمسة أميال وجدنا أن المكان الذي وصلنا إليه لا يتجاوز عمقه نصف كولاج بل أقل من هذا النصف، فأمرنا بإبقاء الزوارق والقوارب وسط النهر، وبعد أن اختبرنا الأعماق بين الجانبين اتضح لنا أنها واحدة، فجمعنا الضباط وعرضنا عليهم الحالة فأجمعوا رأيًا على وجوب تدوين حوادث الأمس واليوم في جريدة المذكرات اليومية، وأن الفرع الغربي لم يكن صالحًا للملاحة لقلة عمقه بخلاف الفرع الشرقي، فهو بالنظر إلى كونه أعرض من هذا وأغزر ماء أولى بالاستكشاف، لذا عقدوا النية على استكشافه وقالوا إنهم سيقومون بهذا الواجب حتى الظهر. ولكن لما كان عمق الماء آخذًا في النقصان على التوالي ولم يزد على نصف كولاج بل على أقل من النصف، فقد صار من المتعذر استئناف الرحلة ولا سيما وأن القوارب قد توسطت النهَير بدون أن تستطيع التقدم خطوة إلى الأمام. وبعد إيقاف الضباط على هذه الأحوال استُدعِي قباطين الذهبيات والقوارب للاجتماع في المجلس، فلما اجتمعوا بُسِطت عليهم الحالة وطُلِب منهم إبداء آرائهم، وكان هؤلاء القباطين هم: القبطان هارون، والقبطان فراج، والقبطان أحمد، والقبطان محمد، والقبطان عشري، والقبطان هلالي، والقبطان حسين، والقبطان شبانة، والقبطان عثمان، والقبطان محمد، والقبطان حسن الطويل؛ فكان جوابهم بأنه كان في علمهم وعلم غيرهم جميعًا من أيام مضت أن الماء آخذ بالنقصان، ولكنهم لم يجسروا على مخاطبة رئيسهم في الأمر، وأنهم رأوا الفرعين أول من أمس ملتقيين، فلما أيقنوا بذلك ولم يخالجهم فيه شك قرروا بالإجماع وجوب السير بالسفن في الفرع الشرقي، وأنهم مع تقدمهم في هذا الفرع إلى وقت الظهر وعلمهم بأن عمق هذا الفرع لم يكن عند مصبه ليزيد على كولاجين أو كولاجين ونصف، فقد وجدوا أن العمق في المكان الذي وصلوا إليه لا يزيد على نصف كولاج، وأنهم يرون من المستحيل لهذا السبب التقدم إلى أبعد مما وصلوا إليه، وأن الأمر على كل حال بيد أعضاء المجلس.

وبعد أن راجع أعضاء المجلس ما تقدم قرروا ما يأتي: حيث إنه عقب الإيغال في الفرع الشرقي حتى الظهر لم نجد عمق الماء زائدًا على نصف كولاج، وأيقنا لهذا السبب الذي قضى على سفننا بالوقوف وعدم الحركة تعذر التقدم إلى الأمام، وحيث إنه بعد المفاوضة مليًّا في الأمر وتقليبه على وجوهه المختلفة في مجلس مؤلف من قباطين القوارب، وبعد إثبات الأسئلة والأجوبة السالفة الذكر في محضر الجلسة؛ تبين أنه من غير المستطاع مواصلة الرحلة، فتقرر بالإجماع التراجع إلى الوراء والعودة منذ اليوم التالي.

الاثنين ٢٢ القعدة: لما كانت هذه المرة هي المرة الأولى التي ظهر فيها رعايا صاحب السمو مولانا في هذه الأنحاء البعيدة، فقد نشرنا الأعلام خافقةً إجلالًا له وأطلقنا ٢١ مدفعًا وغادرنا المكان بعد ذلك.

ملاحظات خاصة بالعودة

السبت ٢٧ القعدة: في الصباح وصلت إلى الشاطئ امرأة من قبيلة الكيك في حالة يُرثى لها، وكانت عديمة الزوج والأقارب، فأعربت عن رغبتها في اقتفاء أثرنا، فأجبناها إلى طلبها وأعطيناها شيئًا من المصنوعات الزجاجية. وكانت الريح شديدة فلبثنا ننتظر ثلاث ساعات ثم تحركنا للمسير. وفي يوم الأربعاء ١ الحجة شعرنا بالحاجة إلى الوقود، فدنونا من الشط الشرقي لأخذ حاجتنا منه، وكان في هذه الجهة مسكن لقبيلة «الدرهاه» فلجأ ساكنوه إلى الفرار، وقد تحفز أحدهم للاعتداء على أحد عساكرنا السودانيين، وفطن له هذا فضربه ببندقيته وأخذ ولدين صغيرين كانا معه، وبعد المفاوضة قررنا إبقاء الولدين معنا.

الأربعاء ٨ الحجة: إنه لاختلاف الريح وانتشار الضباب وموافقة هذا اليوم لوقفة عرفات، دنونا من الشاطئ الشرقي للعناية بتنظيف أبداننا وملابسنا. وكان أحد العساكر مريضًا منذ أيام فاخترمته المنون ساعة وصولنا. وقد قضينا الليلة في هذا المكان.

وفي اليوم التالي «الخميس» كان عيد الأضحى، فلما أشرقت الشمس أطلقنا واحدًا وعشرين مدفعًا، وبعد أن أدى الضباط والعساكر صلاة العيد تحركنا للرحيل.

الأحد ١٢ الحجة: في الساعة الثالثة وصلنا إلى المكان الذي بلغنا إليه يوم الاثنين ٩ شوال، فوجدنا في ناحية الشرق نُهَيرًا ماؤه ضارب إلى الحمرة يسمونه بحر السوبات بلغة العرب وبحر شلفيح بلغة الشلك، وكنا قد رأينا أن الأنسب استكشافه في عودتنا.

الاثنين ١٣ الحجة: منذ الصباح أوغلنا في هذا النهَيْر، ولون مائه يختلف قليلًا عن لون ماء النيل الأبيض، ويتراوح عمقه من ثلاثة كولاج إلى خمسة، ومذاق مائه طيب، وحافات ضفتيه عالية بقدر كولاجين أو ثلاثة، وعرضه نصف ميل، وسرعة تياره ربع ميل في الساعة.

وفي الساعة الثالثة كانت الريح الغربية تهب بشيء من الشدة، وكان توالي الكردات يمنعنا من سحب المراكب باللبان والتجديف، فقضينا ثلاث ساعات تقريبًا في هذا المكان، حتى إذا هدأت الرياح استأنفنا الطريق. وفي الساعة الحادية عشرة رأينا ست شجرات من الدلب في جهة الغرب وحلة مؤلفة من بعض التكولات، ولكننا لم نتمكن من معرفة القبيلة التي يتبع لها ساكنوها، لأنهم كانوا قد لجئوا إلى الفرار عندما وقع نظرهم علينا.

وقد رأينا ضفتي النهَيْر مرتفعتين، وفيهما أشجار قليلة متفرقة وقليل من الأدغال، والأرض في هذا المكان على أقصى ما يُتصوَّر من الجودة. ووجدنا بناحية الغرب على مسافة ثلاثة أميال أو أربعة من النهر نيرانًا مشتعلة. فلما أقبل الليل ألقينا المراسي وسط النهر.

الثلاثاء ١٤ الحجة: هممنا بالرحيل منذ تنفس الصبح. ففي الساعة الثالثة رأينا في جهة الغرب حلة كبيرة إلى غربيها فرع صغير، ووجدنا بين البوص والأدغال التي تحف به زوارق صغيرة، وعلمنا أن الأهالي يزرعون التبغ في الأجزاء المرتفعة، وكانوا يفرون منا كلما دنونا منهم. وقد عثرنا بداخل حلة على أربع نساء ورجل كانوا مختبئين بها، فأحضرناهم إلى مكاننا وسألناهم عن قبيلتهم وعن السبب الذي يُلجئ الأهالي إلى الفرار، فأجابوا بأنهم من قبيلة الدنكا، وأن الذين لجئوا إلى الفرار خائفون، أما هم فإنهم لمرضهم لم يستطيعوا اقتفاء أثرهم. وكان في الحلل مقادير كبيرة من الأغذية كالذرة والدجاج، فطلبنا منهم البقاء في حلتهم وعدم التحول عنها، وأن يحضوا الفارين على العودة والثقة بنا والاطمئنان إلينا، وقد أفهمناهم مرادنا هذا بواسطة الترجمان محمد. ثم واصلنا السير في طريقنا، ولكن النهر كان كثير المنعطفات والملتويات في هذا المكان والكردات كثيرة ومتعاقبة، فاضطررنا إلى شد المراكب باللبان وعهدنا إلى شرذمة من العسكر المسلحين حماية المكلفين بسحب القوارب، وبقينا على هذا الحال إلى الساعة الحادية عشرة.

وقد رأينا على مسافة ميل تقريبًا حلة شرقي النهر الذي يبلغ عمقه في هذه الجهة ثلاثة كولاج وأحيانًا أربعة، أما ارتفاع السواحل فوق سطح الماء فيتراوح بين كولاجين وثلاثة، والأرض فيها جيدة التربة وبها البوص والأدغال. ولما هجم الليل ألقينا مراسينا في وسط النهر لقضاء الليلة.

الأربعاء ١٥ الحجة: لم تكن الريح موافقة في ساعة رحيلنا صباحًا، فاتخذنا التدابير اللازمة لسحب المراكب باللبان. فلما كانت الساعة الثالثة رأينا حلة في الشرق وأخرى غربًا، ففر سكان الحلة الشرقية عندما اقتربنا منهم بخلاف الحلة الغربية، فقد برز سكانها من حلتهم مقبلين نحو شاطئ النهر عزلًا من السلاح، فاستدعينا بعضهم فجاءوا إلينا طوعًا في زوارقنا، فسألناهم عن قبيلتهم وعن السبب الذي جعل أهالي الحلة الأخرى يفرون، فأجابوا بأنهم من قبيلة الدنكا وأن سبب فرار الآخرين الخوف، فهدَّأْنا روعهم وطلبنا منهم أن يحضوا أبناء وطنهم على الحضور لمقابلتنا، ثم أعطيناهم شيئًا من المصنوعات الزجاجية وبعض قطع من قماش الصوف الأبيض، فسُرُّوا بهذه الهدية وجاءونا بثلاثة أثوار لم نلبث أن وزعناها بين العساكر. ثم وجهنا إليهم أسئلة أخرى أجابوا عليها بقولهم إن قبيلة النوير التي هم في قتالٍ مستمر معها توجد أمامنا على مسيرة خمسة أو ستة أيام، وإنهم يخشون بأسها، فأخلينا سبيلهم وأكدنا لهم مودتنا وصدق ميلنا إليهم.

وفي الساعة الحادية عشرة رأينا حلة على النهر شرقًا وأخرى غربًا وثالثة على مسافة ميل تقريبًا من الثانية. وإذ كانت الريح مختلفة، فقد سرنا ببطء بواسطة الجر باللبان، ورأينا شرقًا وغربًا جملة مبانٍ وحيوانات مفترسة. ولون الأرض في هذا القسم من البلاد أسمر، وشواطئ النهر مرتفعة بقدر كولاج أو كولاج ونصف، وبحافته بعض الشجيرات النادرة، وكانت أفراس البحر والتماسيح تلوح لناظرنا من آن إلى آخر، وفي هذا المكان كثير من البط والبجع والطيور المختلفة. ولما جَنَّ الليل ألقينا مراسينا وسط النهر.

الخميس ١٦ الحجة: دخل الماء منذ أيام في الذهبية الرابعة والقاربين التاسع والعاشر وكانت الحاجة إلى ترميمها ماسَّة، فاستخرجناها من الماء ورُمِّمت، وفي أثناء ترميمها اشتغل العساكر بشئون أنفسهم فاغتسلوا وغسلوا ثيابهم، وقضوا قبيل العصر ساعة في التدريب العسكري. وقد قضينا الليلة في هذا المكان.

الجمعة ١٧ الحجة: بالنظر لأن ترميم القارب العاشر لم يتم بعد ولقلة موافقة الرياح، قررنا البقاء في هذا المكان حتى الساعة السابعة، وفيها سرنا بواسطة شد اللبان حتى الساعة الحادية عشرة، فرأينا على مسافة ميل من النهر غربًا حلتين، ولكننا لم نشهد حولهما أحدًا من السكان. وشواطئ النهر عالية، وارتفاعها يختلف من كولاجين إلى ثلاثة، والأرض شديدة السمرة، والحيوانات المفترسة كثيرة. ولما أرخى الليل سدوله ألقينا المراسي وسط النهر.

السبت ١٨ الحجة: تطرق الماء أثناء الليل إلى أحد الزوارق حتى أشرف على الغرق، وقد أحس الحارس الذي كان فيه بذلك فأعطى إشارة الاستغاثة، فأُجرِي اللازم لسحب الزورق إلى الضفة الغربية بعد أن فُرِّغ من أمتعة العساكر التي كان الماء قد أصابها، واستُدعِي الرئيس حسن الطويل الذي عزا هذا الحادث إلى سوء النية، فتقرر عندئذٍ عقد مجلس لمعاقبة من تثبت إدانته، واستُدعِي الحارس أيضًا وفُتِح المحضر، فبعد النظر في الأمر عُوقِب المذنبون بما تقضي به اللوائح والقوانين، وقد استدعى تجفيف الأمتعة وترميم الزورق كل الوقت حتى المساء، فلزمنا مكاننا وسط النهر.

الأحد ١٩ الحجة: كانت الريح ساكنة ساعة تحركنا للرحيل، فأخرجنا المكلفين بجر اللبان جميعًا ومعهم شرذمة من العسكر لحمايتهم، واستمر السير بهذه الواسطة حتى الظهر. وفي الساعة الثالثة شهدنا على شاطئ النهر غربًا بعض الأشجار، ثم على بعد ميلين منه حلة خالية من السكان. وكان الوقت ساعتئذٍ قيظًا، فلزمنا السكون حتى الساعة التاسعة حيث استأنفنا المسير، وقد سرنا حتى المساء باللبان. ورأينا شرقًا على مسافة ميل ونصف من النهر حلة خالية من السكان، وعن يميننا ويسارنا عددًا عظيمًا من الضواري. أما شواطئ النهر فكانت مرتفعة بقدر ثلاثة كولاج إلى أربعة، وبها أدغال كثيرة وبوص، والأرض جيدة ومتناسقة التمهيد. أما النهر فكان عامرًا بأفراس البحر والتماسيح وشواطئه بالطيور المائية. وفي الغروب ألقينا مراسينا وسط النهر.

الاثنين ٢٠ الحجة: كانت الريح عند رحيلنا ساكنة، فسارت المراكب باللبان حتى الساعة الرابعة، وكانت الريح الغربية شديدة مخالفة فرسونا على الضفة الشرقية. وفي الساعة السابعة هدأت الريح بعض الشيء، فتحولنا إلى الضفة الغربية للسير باللبان، ووقع نظرنا على أشجار الدلب، ثم سرنا بالشراع حتى المساء. وعلى مسافة تختلف من ٥ إلى ٦ أميال من الضفة الشرقية شهدنا دخان جملة نيران، ورأينا كما هو مدون في الجدول حلة خالية من السكان، وكانت الضواري كثيرة يمنة ويسرة، وكذا النهر فقد كان عامرًا بأفراس البحر والتماسيح، وكانت الشواطئ آهلة بالطيور المائية وفيها بعض شجرات، وارتفاعها من ثلاثة كولاج إلى أربعة. وقد ألقينا مراسينا وسط النهر.

الثلاثاء ٢١ الحجة: بالنظر لسكون الريح في الصباح أخرجنا الرجال كالمعتاد لسحب المراكب باللبان وعيَّنَّا شرذمة من العساكر المسلحين لحمايتهم، وواصلنا السير حتى الساعة الخامسة حيث اضطرنا القيظ إلى الوقوف. وبعد الاستراحة ساعتين تقريبًا استأنفنا السير باللبان، فرأينا في الغرب حلة برز منها رجلان وامرأة قاصدين إلينا، وكنا قد لاحظنا أن معظم السكان لجئوا إلى الفرار، فسألناهم عن سبب فرارهم فأجابوا أن السبب هو الخوف والرهبة، فأرضيناهم ببعض ما معنا من المصنوعات الزجاجية، وطلبنا منهم مقابلة مواطنيهم لتفهيمهم بأن لا شيء هناك يدعو إلى الخوف منا. وفي الساعة العاشرة وصل خمسة رجال ومعهم خمسة أثوار ورأس من الضأن قدموها إلينا هدية فقبلناها ووزعناها على العساكر، ثم أعطيناهم في مقابلها بعض المصنوعات الزجاجية طالبين منهم أن يحضوا إخوانهم على الحضور إلينا، ويقولوا لهم إنهم سيُعامَلون بالمعروف ويعودون مزوَّدين بالهدايا.

وقد رأينا إلى الغرب على بعد ميلين من النهر حلة آهلة بالسكان، وإلى الشرق كثيرًا من الضواري والطيور المختلفة. وارتفاع الشواطئ في المكان يختلف من كولاجين إلى ثلاثة تقريبًا، والأدغال بها كثيفة كما أن أفراس البحر والتماسيح في مياهه كثيرة. ولما مالت الشمس إلى المغيب ألقينا مراسينا لقضاء الليلة.

الأربعاء ٢٢ الحجة: كانت الريح في الصباح موافقة، فقطعنا من الطريق مسافة طويلة مدة ساعتين، ثم انقلبت الريح فاضطررنا إلى السير باللبان حتى الساعة الخامسة. وعلى مسافة نصف ميل تقريبًا من الضفة الشرقية رأينا حلة. وبالنظر لنفاد الحطب من المراكب دنونا من الساحل لأخذ حاجتنا منه، وقد حضر إلينا جملة من الأهلين فقدموا إلينا ثورًا وأعطيناهم في مقابله بعض المصنوعات الزجاجية، ولم يظهروا الخوف منا.

واضطرنا اشتداد حرارة الشمس إلى البقاء في هذا المكان حتى الساعة الثامنة، ثم استأنفا السير باللبان. وفي الساعة الحادية عشرة مررنا بجزيرة رملية. ولم يكن عمق الماء الغامر للجزء الغربي من هذه الضفة يزيد على كولاج واحد أو نصف كولاج، وهو ما منعنا من المرور في هذه الناحية، على أننا استقصينا الجهة الغربية فاستطعنا المرور لأن عمق الماء فيها كان يبلغ كولاجًا واحدًا، وكانت سرعته في الساعة تناهز الميلين. وقد رأينا يمنة ويسرة كثيرًا من الضواري والطيور وزرافة واحدة، والنهر مسكون بأفراس البحر وعدد عظيم من التماسيح. ولما ولَّى النهار وأقبل الليل ألقينا المراسي وسط النهر.

الخميس ٢٣ الحجة: كان الجو في الصباح ذا ضباب والريح مختلفة قليلًا، ولتعاقب الكردات نحو الساعتين تقريبًا سرنا باللبان حتى منتصف النهار حيث اضطرنا القيظ إلى الوقوف ثلاث ساعات استأنفنا بعدها المسير. ورأينا شرقًا كما ذكرنا في الجدول أربع حلل تفرق أهلها يمنة ويسرة، وكثيرًا من الضواري والطيور المتنوعة، ووجدنا في الماء أفراس البحر والتماسيح. وقدرنا ارتفاع الشواطئ فوق سطح الماء بثلاثة كولاج إلى أربعة. وقد ألقينا المراسي وسط النهر.

الجمعة ٢٤ الحجة: بسبب سكون الريح صباحًا اضطررنا إلى السير بواسطة اللبان حتى الساعة الرابعة حيث اشتد القيظ، فجانبنا السواحل شرقًا وأمرنا العساكر بالتفرغ لنظافة أنفسهم. ولما كانت الساعة الثامنة واصلنا السير باللبان حتى المساء، فرأينا على مسافة ميلين غربًا من الساحل حلة لم نرَ حولها نافخ نار. والحشائش والأدغال كثيرة بسواحل النهر، وارتفاع هذه فوق سطح الماء يختلف من ثلاثة كولاج إلى أربعة. وقد ألقينا المراسي عندما ولَّى النهار.

السبت ٢٥ الحجة: كانت الريح ساكنة في الصباح، فسرنا باللبان حتى الساعة الثانية تقريبًا حيث بدأت تهب ريح الجنوب، فقضينا حتى المساء في التقدم تارة باللبان وطورًا بالشراع. ورأينا كما ذكرنا في الجدول المرفق بهذا جملة حلل على مسافة ميل أو ميلين من النهر لم يقع نظرنا على أحد من سكانها. وكنا من آن إلى آخر نلقي المسبار في الماء لمعرفة عمقه وتدوينه في الجدول، فظهر لنا أنه كان في بعض الأماكن كولاجًا واحدًا وفي غيره أقل من كولاج. وشهدنا يمنة ويسرة عددًا عظيمًا من الضواري وأنواع الطيور، وكان الشاطئ يختلف على الدوام من كولاجين إلى ثلاثة، أما أفراس البحر والتماسيح فكانت تُرى نادرًا في قاع النهر. وبالنظر لهجوم الليل ألقينا المراسي للمبيت.

الأحد ٢٦ الحجة: كانت الريح القبلية عند رحيلنا صباحًا موافقةً لنا، فسرنا بها حتى الساعة الخامسة، ولكن اشتداد القيظ في هذه الساعة اضطرنا إلى الوقوف في هذا المكان ثلاث ساعات، ثم هبت الريح الغربية نحو ساعة فاغتنمناها للتقدم بعض الشيء إلى الأمام، ثم التجأنا إلى اللبان حتى المساء، وفي الغرب رأينا جزيرة رملية صغيرة، وتبين لنا أن عمق الماء نصف كولاج تارة وكولاج تارة أخرى وقد بينا ذلك في الجدول. وشهدنا في الشرق حلة وفي الغرب مثلها وعلى الشواطئ نبات الحمصوف متكاثفًا. وكان ارتفاع الشاطئ فوق الماء يختلف من كولاجين إلى ثلاثة، فألقينا المراسي في هذا المكان لقضاء الليلة به.

الاثنين ٢٧ الحجة: قضينا اليوم في المكان الذي ألقينا المراسي فيه. ونظرًا إلى أن الماء كان يقل بالتدريج كل يوم، وإلى ما لقيناه قبل الوصول إلى هذا المكان بيومين أو ثلاثة من المصاعب لتسيير المراكب، وإلى أن عمق الماء لم يزد عقب ذلك على نصف كولاج، وإلى أننا منذ بدأنا بالمسير في هذا النهر لم نجد الريح موافقة قط، وإلى أن المسافة القصيرة التي قطعناها إنما قُطِعت باللبان؛ قررنا العودة من حيث أتينا. ولما كان المكان والزمان مناسبين لأخذ ارتفاع الشمس، فقد أخذنا هذا الارتفاع وأمرنا العساكر في الآن نفسه بالتفرغ للنظافة. وقضينا الليلة في هذا المكان.

الثلاثاء ٢٨ الحجة: اهتممنا في هذا اليوم بتنفيذ القرار الذي أخذناه بالأمس، وهو ما وجدنا في سبيله بعض الصعوبات لأن عمق الماء في النهر لم يكن على نسق واحد بل كثير التغير كما هو مبين في الجدول، دع أن تعرج النهر والتواءه كانا يعوقان سيرنا فيه، وقد استدللنا ببعض العلامات على ضرورة وجود حلة على مسافة ميل من ضفة النهر، على أن الأهلين الذين وقع نظرنا عليهم لم يظهروا من الاطمئنان إلينا ما أظهره الذين رأيناهم قبل الآن، وبالرغم مما أكدناه لهم من ميولنا السلمية ورغبتنا في حمايتهم؛ فإن ذلك لم يمنعهم من الفرار.

والشواطئ مرتفعة فوق سطح الماء بنحو ثلاثة كولاج إلى أربعة، والأرض جيدة التربة وبها الكثير من الطيور والحيوانات المفترسة، أما النهر فعامرٌ بالتماسيح وقليل من أفراس البحر، وللماء طعم لذيذ جدًّا.

ولما انتهينا في ٢٨ الحجة من استكشاف بحر السوبات، وبالنظر لتعذر مواصلة السير إلى الأمام، واضطرارنا إلى النكوص على الأعقاب؛ عدنا من المكان الذي بلغنا إليه، فوصلنا في ٩ محرم الحرام سنة ١٢٥٦ إلى الحلة التي يسكنها كبير مشائخ الشلوك، وقد انتظرنا عندها نحو الساعتين فلم يتقدم إلينا أحد من جهته. وبعد أن رصدنا الشمس في خط الزوال واصلنا السير في طريقنا.

وفي ١٤ محرم التقينا بمشائخ البقارة الذين عرفناهم يوم ١٨ رمضان في أوائل رحلتنا على النيل الأبيض، فأظهروا لنا من علائم المودة والميول الحسنة ما أظهروه منها قبلًا، لأنهم جاءوا إلينا ببعض الأبقار والغنم والماعز فوزعناها على الضباط والعساكر، وقد نزل أحد مشائخهم ويُسمَّى أدهر في إحدى ذهبياتنا مسافرًا إلى الخرطوم لقضاء حاجة له فيها.

وقد ازدادت مشاق السير وتضاعفت صعوباته بتناقص الماء في النهر على الدوام، حتى إن عمقه لم يزد في بعض الأماكن على نصف كولاج، وتعذر السير على كثير من مراكبنا.

وأقوام الدنكا يقيمون في الغرب ويرعون قطعانهم في يعقوبة الكائنة به، فلما أخبرهم بعض فرسان البقارة بقرب وصول الأتراك إليهم ذُعِروا وأخذوا يفرون، ولكنها لم تكن إلا حيلة من أولئك الفرسان الذين ألقوا الخوف في روعهم لاغتنام فرصة انزعاجهم ووقوع الاختلال بينهم لسلب مواشيهم، ولقد سلبوها فعلًا وفروا بها إلى ناحية الغرب.

وبالنظر لتعطل حركة القوارب لقلة الماء جاءت إلينا الأخبار بأن الماء غزير في ناحية الشرق، فاغتنمنا هذه الفرصة للخروج من ذلك المأزق.

وتلك القبائل في قتال مستمر تقريبًا، وهي كلما أسرت بعض الأسرى من أعدائها قتلتهم أو قايضت على كل منهم بثلاثين بقرة أو عشرة من عجولها. وقد اجتزنا هذه الأصقاع سالمين.

ولما دنونا من الضفة الشرقية جاء إدريس شيخ الدنكا إلى ذهبيتنا فأعطيناه ثيابًا وأدوات من الزجاج المختلف الألوان، وأتحفنا بمثل هذه الهدايا جميع من كانوا معه، فسُرَّ بذلك سرورًا عظيمًا.

والفضاء الفسيح بين نهر السوبات وجبل جيماتي تسكنه قبائل الدنكا التي لها عناية خاصة بتربية الماشية.

وتسكن الضفة الغربية قبائل الشلك، والبقارة، ولهم مثل هذه العناية بتربية الماشية والأغنام.

وفي ١٩ من الشهر الجاري هبت ريح موافقة من الجنوب، فوصلنا إلى «معاسة زيلاش» أو زيلات التي جنحت عندها القوارب كلها ما عدا اثنين، ولكننا تمكنا بقوة الرجال من تعويمها.

وفي الساعة السابعة وصلنا إلى مكان كان عمق الماء فيه أقل من نصف ذراع، ولكننا استطعنا الخلاص من هذا المأزق بالرغم من ذلك.

وفي يوم الخميس ٢٢ محرم تُوفِّي اليوزباشي حافظ أغا وكان قد لزم الفراش منذ أيام، فبعد دفنه واصلنا السير في طريقنا.

وفي الساعة التاسعة من يوم الاثنين ٢٦ محرم وصلنا إلى الخرطوم، حيث أطلقنا ٢١ مدفعًا فرحًا بعودتنا سالمين.

وبمجرد وصولنا إليها أرسلنا إلى حكمدار السودان بسنار خطابًا أمضى عليه ضباط البعثة جميعًا لإخباره بعودتنا، وبأننا استكشفنا طبقًا لأوامر صاحب السمو مولانا المعظم مجرى النهر الأبيض بطريقي البر والنهر.١

الإمضاءات: سليم قبودان، سليمان كاشف، الصاغقولاسي رستم، أسد الله، إبراهيم أفندي، فيض الله، هيوس باشي، عبد الرسول.

خلاصة من جداول رهنامج القبودان سليم في البحر الأبيض.*
سنة ١٢٥٥ هجرية سنة ١٨٣٩ ميلادية الطريق عرض النهر عمق النهر سرعة التيار في الساعة درجة الحرارة
رمضان نوفمبر ميل ميل كولاج ميل درجة
٩ سبت ١٦ ٥-٤ كولاج ميل درجة
١٠ أحد ١٧ ٣٤–٢٥ إلى ٣ ٣ إلى ١٩ إلى ٢٦
١١ اثنين ١٨ ١٥–١٧ ٣ ٢٧
١٢ ثلاثاء ١٩ ١٧–١٩ إلى ١ ٤ إلى ١٨ إلى ٢٧
١٣ أربعاء ٢٠ ٦–٢٦ إلى ١ إلى ٢٠ إلى ٢٧
١٤ خميس ٢١ ٨–١٠ إلى ١ ٤ ١٨ إلى
١٥ جمعة ٢٢ ١٤–١٨ ٤ إلى ٥ ١٨ إلى ٣٠
١٦ إلى ١٩ ٢٣ إلى ٢٦ محطة
٢٠ أربعاء ٢٧ ٢٥-٢٥ إلى ٣ إلى ٤ ١٨ إلى ٣١
٢١ خميس ٢٨ ٢٤–٣١ ١ إلى إلى ٢٠ إلى ٢٩
٢٢ و٢٣ ٢٩ و٢٣ محطة
ديسمبر
٢٤ الأحد ١ ٣٣–٣١ إلى ١ إلى ٤ ١٧ إلى
٢٥ الاثنين ٢ ٤٨–٢٦ إلى إلى ٤ إلى ٢٠ إلى
٢٦ الثلاثاء ٣ ٢٠–١٢ إلى ٣ ١٧ إلى ٣٢
٢٧ الأربعاء ٤ ١٤–٢٦ إلى ١ إلى ٤ ٢٠ إلى ٣٢
٢٨ الخميس ٥ ٢٨–١٧ إلى ١ إلى ٤ ٢٠ إلى ٢٩
٢٩ الجمعة ٦ ٤٦-٤٧ إلى ٢ إلى ٤ ١٩ إلى ٢٨
٣٠ السبت ٧ ٢٦–٤١ إلى ١ ٣ إلى ٦ ١٩ إلى ٢٨
شوال
١ الأحد ٨ ٢٠–٣١ إلى ٣ إلى ٦ ٢٢ إلى ٢٩
٢ الاثنين ٩ محطة
٣ الثلاثاء ١٠ ٦–٤ ١٥ إلى ٢٦
٤ الأربعاء ١١ ١٢–٢٤ ٢ إلى ١٨ إلى ٢٩
٥ الخميس ١٢ ٣٩–٤١ إلى ٢ إلى ٦ ١٧ إلى ٢٧
٦ الجمعة ١٣ ١٢–١٧ ٣ إلى ٥ ١ ١٩ إلى ٢٥
٧ السبت ١٤ محطة
٨ الأحد ١٥ ٢٩–٣٣ إلى ٢ إلى ٤ ١ ١٧ إلى ٢٧
٩ الاثنين ١٦ ٣١–٥٠ إلى ٢ إلى ١ ٢٠ إلى ٢٧
١٠ الثلاثاء ١٧ ٤٦–٣٩ إلى إلى ١ ١٧ إلى ٢٦
١١ الأربعاء ١٨ ١٥–١ إلى ٢ إلى ٣ ١ ١٧ إلى ٢٩
١٢ الخميس ١٩ ١٢–٢١ إلى ١ إلى ١ ٢٠ إلى ٢٩
١٣ الجمعة ٢٠ ١٩–١٧ إلى ١ إلى ١ ١٧ إلى ٢٩
١٤ السبت ٢١ محطة
١٥ الأحد ٢٢ ٢٦–٣٤ إلى ٢ إلى ٥ ١٨ إلى ٢٩
١٦ الاثنين ٢٣ ١١–١٣ إلى ٣ إلى ١٨ إلى ٣٠
١٧ الثلاثاء ٢٤ ٢٦–٣٩ ٢ إلى ٣ ١٧ إلى ٢٩
١٨ الأربعاء ٢٥ محطة
١٩ الخميس ٢٦ ٢٣–١٩ إلى ٣ ١٦ إلى ٢٨
٢٠ الجمعة ٢٧ ٣٤–١٩ إلى إلى ٣ ١٦ إلى ٢٩
٢١ السبت ٢٨ ٣٩–٣٠ إلى ٢ إلى ٣ ١٥ إلى ٢٧
٢٢ الأحد ٢٩ ١٥–٨ إلى إلى ٣ ١٥ إلى ٢٦
٢٣ الاثنين ٣٠ ١٠–٦ ٣ ٢ ١٦ إلى ٢٧
٢٤ الثلاثاء ٣١ ١٩–١٠ ٢ إلى ٣ ١٠ إلى ٣٠
يناير ١٨٤٠
٢٥ الأربعاء ١ ١٥–١٩ إلى إلى ٣ ١٧ إلى ٢٨
٢٦ الخميس ٢ ٢٦–٣٦ إلى ٢ إلى ٣ ١٩ إلى ٢٩
٢٧ الجمعة ٣ ١٨-١٩ إلى ٦ ١٥ إلى ٢٩
٢٨ السبت ٤ ١٧–١١ ٢ إلى ١٧ إلى ٢٨
٢٩ الأحد ٥ ٤٧–٣٢ إلى ٢ إلى ٣ ١٨ إلى ٢٩
ذو القعدة
١ الاثنين ٦ ١٣–١٠ ٣ ١٨ إلى ٣٠
٢ الثلاثاء ٧ ٢١–١٦ إلى إلى ١٨ إلى ٢٨
٣ الأربعاء ٨ ٢٦–٢٢ إلى ٢ إلى ٣ ١٧ إلى ٣١
٤ الخميس ٩ ٥٣–٢١ ٢ إلى ٣ ١٧ إلى ٣٠
٥ الجمعة ١٠ ٢٩–١٩ ٣ ١٨ إلى ٢٩
٦ السبت ١١ ٤١–١٧ إلى ٢ إلى ٣ ١٩ إلى ٣٠
٧ و٨ ١٢ و١٣ محطة
٩ الثلاثاء ١٤ ٢٥–٢٠ ٢ إلى ١٩ إلى
١٠ الأربعاء ١٥ ٣١–١٥ إلى إلى ١٨ إلى ٣٠
١١ الخميس ١٦ ٢٨–٢٣ إلى ٢ إلى ١٨ إلى ٣٠
١٢ الجمعة ١٧ ٣٨–٢٥ ٢ إلى ١٩ إلى ٣٠
١٣ السبت ١٨ ٤٨–٢٥ إلى ٢ إلى ٣ ٢٠ إلى ٣١
١٤ الأحد ١٩ ٤٤–٢٠ ٢ إلى ١٩ إلى ٣٠
١٥ الاثنين ٢٠ ٢١–١٦ إلى ٢ إلى ٤ ١٩ إلى ٢٩
١٦ الثلاثاء ٢١ ٥٥–٢٦ إلى ٢ إلى ٣ ١٩ إلى ٣٠
١٧ الأربعاء ٢٢ ٣٨–١٧ إلى إلى ١٨ إلى
١٨ الخميس ٢٣ ٣٢–٢٢ إلى ١٨ إلى ٣٠
١٩ الجمعة ٢٤ ٢٩–١٨ إلى إلى ٢ ١٨ إلى ٣١
٢٠ السبت ٢٥ ١٠–٤ ١٩ إلى ٣٠
٢١ الأحد ٢٦ ١٥–٥ إلى ١٨ إلى ٢٩
٢٢ الاثنين ٢٧ السير في النهر نزولًا وانقطاع الملحوظات
فبراير
٢٣ إلى ٣٠ ٢٨ إلى ٤ السير في النهر نزولًا وانقطاع الملحوظات
ذو الحجة
١ إلى ١٢ ٥ إلى ١٦ السير في النهر نزولًا وانقطاع الملحوظات
١٣ الاثنين ١٧ ٣٣–١٣ إلى إلى ٥ ١٩ إلى ٣٩
١٤ الثلاثاء ١٨ ٢٩–١١ إلى إلى ٢٠ إلى
١٥ الأربعاء ١٩ ٢٥–٩ ٢ إلى ٣ ١٩ إلى ٢٩
١٦ الخميس ٢٠ ٢٥–٩ ٢٢ إلى
١٧ الجمعة ٢١ ١٥–٤ إلى ٢ ٣١ إلى ٣٣
١٨ السبت ٢٢ ١٥–٤ ٢٢ إلى
١٩ الأحد ٢٣ ٢٥–٩ إلى إلى إلى ٣٣
٢٠ الاثنين ٢٤ ٢٧–١٢ إلى ٣ ٢١ إلى ٣٣
٢١ الثلاثاء ٢٥ ٢٢–٩ ٢ إلى ٢١ إلى ٣٣
٢٢ الأربعاء ٢٦ ٢٧–١٢ إلى إلى ٣ ٢٣ إلى ٣٣
٢٣ الخميس ٢٧ ٣٠–١٨ إلى ١ إلى ٣ ٢٦ إلى ٣٣
٢٤ الجمعة ٢٨ ٥–٧ ١ إلى ٢٥ إلى ٣٤
٢٥ السبت ٢٩ ٢٨–٨ إلى ١ ٢٥ إلى ٣٥
مارس
٢٦ الأحد ١ ٣٧–١٢ إلى إلى ١ ٢٤ إلى
إن رهنامج القبودان سليم مؤلَّف من ٢٠ جدولًا تحتوي ١١ عمودًا للبيانات الآتية: الساعات، والطريق، والتيار، والترمومتر أي درجة الحرارة، وطول النهر (لعله العرض)، وعمقه، ونمر الترتيب المعطاة للجزر، وأسماء هذه الجزر، والاتجاه، والرياح، والملحوظات.

٢٧ إلى ٢٩ والأيام التالية من أول محرم سنة ١٢٥٦ (٥ مارس) إلى ١٠ صفر (١٣ أفريل) لم تدون ملحوظات، ولا مشاهدات.

١  أشار المغفور له الأمير رفاعة بك رافع إلى هذه البعثة في كتابه «مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية»، طبعة سنة ١٣٣٠، صحيفة ٢٤٢، فقال: «وقد اعتنى رحمه الله — أي جنتمكان محمد علي — بالبحث عن استكشاف منبع النيل، اقتداءً بمشاهير قدماء ملوك مصر وملوك العجم وإسكندر والبطالسة وقياصرة الروم وعقلاء خلفاء مصر ونبلاء سلاطينها وملوكها بعد الفتح، فأرسل في ظرف أربع سنوات ثلاث إرساليات متوالية، وكانت في سنة ١٢٥٧ — والصحيح في سنتي (١٢٥٥-١٢٥٦) — الإرسالية الثانية تحت رياسة سليم بك قبودان ودرنو بك المهندس، وهي أنفع الإرساليات. فسارت من الخرطوم في النيل المسمى بالبحر الأبيض مسافة ٥٠٠ فرسخ، حتى وصلت إلى جزيرة جانكير بمشرع جندكرو، وعندها رمال وصخور متكاثرة، فالشلالات تمنع عن النيل منعًا كليًّا. فاقتصر القبودان المذكور على أخذ الاستعلامات اللازمة من أهالي تلك الجهة. فاستبان من ذلك أن منبع النيل بقرب دائرة الاستواء على ٣٠ مرحلة فوق جزيرة جانكير، فتكون المسافة بينها وبين ومنبع النيل نحو ١٥٠ فرسخًا تقريبًا. وبهذا الاستكشاف سهل لسياح الإنكليز إتمام استكشافهم بيمن إرسالية جنتمكان الذي كان ولم يزل طرفه للبحث عن إحراز المكارم يقظان.» ا.ﻫ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤