الفصل الثاني

بديع الزمان في عصره

(١) حياة بديع الزمان

نشأته

كنيته أبو الفضل، ولقبه بديع الزمان، واسمه أحمد بن الحسين. ولد في همذان واستقر في خراسان، ومات فيها بمدينة هراة سنة ٣٩٨ﻫ.

أما لقب بديع الزمان فلست أدري كيف أحرزه. ما أحسب هذا اللقب إلا من صنعه، أو من صنع صاحب اليتيمة لكي تتم له السجعة ويقول: «هو بديع الزمان، ومعجزة همذان …» واتفاق اسمه مع اسم أبي الطيب يوقظ في نفسي الشك. ولعل هذا الشك قد تسرب إليها من قراءتي أولى رسائله الموجهة إلى الفضل بن أحمد الإسفرائيني، وهو أول من استوزر لابن سبكتكين، فاتح السند والهند، ومبيد الدولة السامانية التي بسطت سلطانها على فارس زمنًا حتى استطال الناس مدتها. وتعجبوا من طول بقائها، وقال فيها محمد زيد الداعي: «ما أشبه الدولة السامانية، في طول ثباتها وقلة كفاتها، إلا بالسماء التي رفعها الله بلا عمد.»

قال البديع في رسالته إلى الإسفرائيني: «إني عبد الشيخ واسمي أحمد، وهمذان المولد، وتغلب المورد، ومضر المحتد.» ومن يصل بنسبه إلى مضر، وهو فارسي لا شك فيه، لا يبعد أن يطبق المفصل ليكون له اسم شاعر الدهر أبي الطيب …

هذا ما يبدو لي في اسمه. أما الذي جعلني أشك في اسم أبيه أيضًا، فهو قول الحاكم أبي سعيد عبد الرحمن بن محمد بن دوست جامع رسائل البديع. قال — حين بلغ الرسائل التي تبادلها البديع وأبوه: «ولوالده إليه كتب ورقاع أنشأها هو — أي البديع — ونسبها إلى والده ليقرأها الأفاضل من الكتاب فيستدلوا بها على فضل والده.»

ومن يفعل هذا، كما قال معاصره، لا يخشى التصرف باسمه واسم أبيه ليأتي اسمه كما يتمنى ويرغب. وهب هذا هو اسم أبيه فلا شك عندي في أنه بدون أل. أعرف جيدًا أن الاسم لا يقدم ولا يؤخر، ولكنها فكرة عرضت لي فلم أبقها في صدري.

كان معلمه الأول الأستاذ أبا الحسن أحمد بن فارس، وفي الثانية عشرة غادر بلده. ولما بلغ الري اتصل بالصاحب بن عباد غلامًا، ولزم دار كتبه، فطبع على غرار تلك المدرسة وتأثر أساليبها. وُهب ذاكرةً قوية، وحافظة نادرة، فكان قفلة لا يفلت من خاطره ما يعلق به. ولعل هذا هو الذي حمل معاصريه على القول فيه: «إنه كان ينشد القصيدة التي لم يسمعها قط، وهي أكثر من خمسين بيتًا، فيحفظها كلها ويؤديها من أولها إلى آخرها لا يخرم منها حرفًا. وينظر في أربع أو خمس ورقات من كتاب لم يعرفه ولم يره نظرة واحدة، ثم يمليها عن ظهر قلبه، وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطوره، ثم هلم جرًّا إلى الأول ويخرجه كأحسن شيء وأملحه». إنها مبالغات نسبوا مثلها إلى المتنبي والمعري وأبي تمام، وهي عندي إلى الحكايات أقرب منها إلى التاريخ الرصين، فليست الأذهان دفاتر، ولا آلات تصوير شمسية حتى تحفظ وتلتقط آثار الأدباء كما هي.

أما قولهم: «وكان ربما يكتب الكتاب المقترح عليه فيبتدئ بآخر سطوره.» فهو مبني على تلك الرسالة التي رواها لنا البديع في مناظرته أبا بكر الخوارزمي، ولعل هذه الرسالة هي التي أوحت إلى الحريري مقامتيه: المغربية والقهقرية.

ثم غادر حضرة الصاحب وقصد جرجان، حيث خالط علماءها وهم من الإسماعيلية، فعاش بينهم حينًا مقتبسًا من علومهم وفلسفتهم الباطنية. وانصرف من عندهم إلى نيسابور فكانت له معركة أدبية فاصلة مع شيخ كتاب عصره أبي بكر الخوارزمي، فهبت ريحه واغتنمها … وفي نيسابور أملى مقاماته المشهورة. ويزعم المؤرخون أنها أربعمائة عدًّا، ولكن هذا غير صحيح. لم يقل ذلك أحد غير الهمذاني نفسه، حين قال من رسالة ينتقد فيها قصيدة للخوارزمي:

ولو أنصف هذا الفاضل لراض طبعه على خمس مقامات، أو عشر مفتريات، ثم عرضها على الأسماع والضمائر، وأهداها إلى الأمصار والبصائر، فإذا كانت تقبلها ولا تزجها، أو تأخذها ولا تمجها، كان يعترض علينا بالقدح، وعلى إملائنا بالجرح، أو يقصر سعيه ويتداركه وهنه، فيعلم أن من أملى من مقامات الكدية أربعمائة لا مناسبة بين المقامتين لا لفظًا ولا معنى، وهو لا يقدر منها على عشر، حقيق بكشف عيوبه، والسلام.

وفي هذا المعنى أيضًا كتب رسالة تهديد، أو إنذار بالحرب، إلى أبي المظفر في شأن أبيه أبي الحسين البغوي الذي لا يعجبه نثر البديع، فراح ينذره بأن من أملى من مقامات الكدية أربعمائة مقامة حقيق ألا يهاج لكشف عيوبه.

واستطاب البديع الأسفار بعد تغلبه على أبي بكر، ولا سيما بعد أن مات هذا، فراح ينتقل من حضرة إلى حضرة، فجاب خراسان وسجستان وغزنة وكرمان متكسبًا بأدبه من شعر ومنثور: مقامات ورسائل وقصائد، فحسنت حاله بعدما كانت حاشيته رقيقة يوم ورد على الخوارزمي أشعث أغبر منخرق السربال.

فاز البديع بأعطيات الملوك والوزراء والأمراء والرؤساء، وكأنه رأى هراة نقطة الدائرة من تلك الحضرات فألقى فيها عصا الترحال، وسعد جده فصاهر أحد أشرافها فاقتنى الضياع ومن فيها، حتى كتب إلى والده يقول له، كما مر: تقع عينك على خمسمائة نيران وألف أكَّار.

وحُكي أنه مات مسمومًا، وقيل: إنه مات بداء السكتة، ودفن حيًّا.

في هراة

قضى الأستاذ أطيب أيامه في هراة، ولأجل هراة الجميلة لم يردَّ على أمه، بل هجاها، كما سيمر بك … ولا بدع أن يُطَلِّقَ همذان من وقع في شراك هذه البلدة الجميلة التي يصفها ياقوت في معجم البلدان:

هراة مدينة عظيمة مشهورة من مدن خراسان. لم أر بخراسان عند كوني بها في سنة ٦٠٧ مدينة أجلَّ ولا أعظم، ولا أفخر ولا أحسن، ولا أكثر أهلًا منها، وفيها بساتين كثيرة، ومياه غزيرة، وخيرات كثيرة، محشوَّة بالعلماء، ومملوءة بأهل الفضل والثراء.

وكان الأستاذ هناك صهر البلد، فقرَّت عينه بعد تلك السخونة، كانت أيامه فيها حلوة لولا أبو البختري الذي كدَّرها عليه. ومع ذلك قضى في أُخْرَيَاتِ العمر حياة لا كُلْفَةَ فيها. ثم مات بغتة فاستراح من الأوجاع والآلام النفسية والجسدية، ولكن تلك الفزعة التي لَقِيَهَا في القبر — إن صح أنه دُفِنَ حيًّا — قد كفت ووفت.

أما حياته في هذه المدينة الغراء فقد رسم لها الشيخ — أولًا — صورة جدية ثم أتبعها بصورة أخرى هزلية، كتب البديع إلى الوزير الميكالي ابن أبي بُرَيْدَةَ يقول:

ولو رآني الأستاذ وأنا في قميص بأُذُنَيْنِ، وقباء ضيق الردنين، وعمامة كقبَّة الحجَّاج، وخفٍّ فاسد المزاج، أعلاه جراب، وأسفله خراب، على برذون عبديِّ التقطيع، يرقص كالرضيع، لَعَلِمَ كيف تجري الفرسان، وكيف يمسخ الإنسان.

ومع ذلك، وإن كان الأستاذ على هذه الحال التي وصفها، فهو يؤثر أن يظلَّ بين أكَّاريه وبقراته، ويعتذر في آخر هذه الرسالة عن الشخوص إلى «حضرة» الميكالي حتى يقول في ختامها:

والله لقد رأيت يدي مجَّت أفواه الأمراء والوزراء، وقد نظرت يمنة، فلم أرَ إلا محنة، وعطفت يسرة، فلم أرَ إلا حسرة.

رحم الله أبا الطيب الذي قال:

وإذا الشيخُ قالَ أفٍّ فما ملَّ
حياةً، ولكن الضعف ملَّا
الغنى بطر. كان الهمذاني يقطع الفلوات إلى الحضرات ماشيًا غالبًا، وراكبًا حينًا، مدعيًا بالسلب تارة على الأعراب، وطورًا على الأتراك. وها هو هنا يعتذر عن الشخوص إلى «حضرة» الوزير الميكالي، وكأني أتخيله بعدما كتب الرسالة السابقة، يطويها ويضعها تحت الوسادة، ثم أخذ ورقة أخرى ليدبِّج رسالة ثانية إلى صديق يصف له بقرة ويسأله أن يفتش عنها ويشتريها له، وكأني أسمعه يبربر متأففًا عندما همَّ بكتابة الرسالة: «استزارة البقر خير من استزارة البشر …» ثم ينكب ليكتب ما يلي:

وقد احتيج في الدار إلى بقرة يحلب درها، فلتكن صفوفًا تجمع بين قعبين في حلبة، كما تنظم بين دلوين في شربة، وليملأ العين وصفها كما يملأ اليد خلفها، وليزن مشيها سعة الذرع كما يزين درها سعة الضرع. ولتكن عوان السن بين البكر والمسن، ولتكن طروح الفحل رموح الرحل، وليصف لونها صفاء لبنها، وليكن ثمنها كفاء سمنها، ولتكن رخصة اللحم جمة الشحم، كثيرة الطعم سريعة الهضم، صافية كالجون فاقعة اللون، واسعة البطن وطية الظهر، ممتلئة الصهوة فسيحة اللهوة، لا تضيق بطنها عن العلف فيؤديها إلى التلف، ترد الهول ولا تخافه، وتشرب الرنق ولا تعافه، واجهد أن تكون كبيرة الخلق لتكون في العين أهيب، ضيقة الحلق ليكون صوتها في الأذن أطيب، واحذر أن تكون نطوحًا أو سلوحًا، وإياك أن تبعثها ملوحًا أو رشوحًا. ولتكن مطاوعة عند الحلب لا تمنع نفسها ولا تكثر لحسها، وداهية في الرعي لأقرب سعي، حمقاء على الحوض كالنعجة لا تأمن من البعجة، ألوفة للراعي الذي يرعاها، مجيبة لصوته إذا دعاها، مهتدية إلى المنزل بغير هاد، ذاهبة إلى المرعى بغير قيادة. ولا أظنك تجدها، اللهم، إلا أن يمسخ القاضي بقرة، وهو على رأي التناسخ جائز …

فاجهد جهدك وابذل ما عندك، واجعل اهتمامك أمامك وحرصك قدامك يوفق سعيك ويحسن هديك، واستعن بالله تعالى فإنه نعم المولى ونعم المعين والسلام.

حقًّا لو وجدت هذه البقرة البديعية لاستحق صاحبها الوسام الزراعي من الدرجة الأولى، وسهرت الدولة على سلامة أكثر من البشر … الحمد لله الذي جعل من هذا السباب مزارعًا فخص البقر بالتفاتة أدبية كريمة لم يرمقها بها أحد من قبل، وقلما جاد هو بمثلها على إخوانه البشر …

(٢) رأي الكتاب فيه

لا تعجبني تلك الجيوش من النعوت الجرارة التي كان يحشدها الثعالبي حين يترجم لأدباء اليتيمة وشعرائها. فكأنه كان يفتش عن ألفاظ وتعابير لينظمها صفوفًا عسكرية تعرض في ميادين الأذهان، وتؤدي التحية لكل ذي فضل. وهاك نموذجًا مما قاله في المترجم له: «هو بديع الزمان. ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد، وفرد الدهر، وغرة العصر، ومن لم يدرك قرينه في طرف النثر وملحه، وغرر النظم ونكته، ولم ير، ولم يرو أن أحدًا بلغ مبلغه من الأدب وسره، وجاء بمثل إعجازه وسحره، فإنه كان صاحب عجائب وبدائع وغرائب.»

ألا ترى معي أن صاحبنا الثعالبي يكيل المدح بالمدِّ، وأن مثل هذا الكلام أقرب إلى الهذر منه إلى الجد. عفوًا لقد جاءت السجعة، فكرهت أن أقول لها ما قاله جرير لصائدة القلوب١

أما الحاكم أبو سعيد عبد الرحمن بن دوست، جامع رسائل الهمذاني فكان كلامه موزونًا تقبله النفس، قال في مقدمة الرسائل يصف البديع للذي سأله جمع آثاره: «وكان أبو الفضل طلق البديهة. سمح القريحة، شديد العارضة، زلال الكلام عذبه، فصيح اللسان عضبه، إن دعا الكتابة أجابته عفوًا، وأعطته قيادها صفوًا، أو القوافي أتته ملء الصدور على التوافي. ثم كانت له طرق في الفروع هو افترعها. وسنن في المعاني هو اخترعها …»

هذا كلام رجل يفصل الثوب على القد فيقف عنده القارئ متأملًا. أما القول: «بديع الزمان، ومعجزة همذان، ونادرة الفلك، وبكر عطارد»، فعبارات تحتوي على كل شيء، وتكاد تكون لا شيء.

(٣) خَلق البديع وخُلقه

وصفه ابن دوست بقوله: «وكان أبو الفضل وضيَّ الطلعة، وضي العشرة، فنان المشاهدة، سحار المفاتحة، غاية في الظرف، آية في اللطف، معشوق الشيمة مرزوقًا فضل القيمة.» أما صاحب اليتيمة فيقول في هذا: «وكان مع هذا كله مقبول الصورة، خفيف الروح، حسن العشرة، ناصع الظرف، عظيم الخلق، شريف النفس، كريم العهد، خالص الود، حلو الصداقة مر العداوة.»

وأما البديع نفسه فيلقي بعض الضوء على شكله وطباعه، حين يقول معتذرًا في إحدى رسائله إلى رئيس استقدمه إليه، إنه: «همذاني المولد، جبلي المنبت، ناري المزاج، ضعيف البنية، يابس العظام، حاد الطبع، حديث السن.»

إلى أن يختم هذه السلسلة بقوله: «ألا يرحم لحمي الضعيف في هذا الهواء الكثيف؟ والأمراض لا تعبث من عبده بشحم ولحم، إنما تصل إلى العظم فتنقصه، وإلى الروح فتستخلصه.»

وفي رسالة أخرى إلى رئيس بلخ وعميدها يصف أسلوب عيشه بعد الثلاثين فيقول: «ورقات تدرس، وشجرات تغرس، وشويهات تحرس، واللبن الرائب، والبر الخليط، وعريش كعريش٢ موسى.»

إنها لحياة فلاح لا حياة رجل يملك ألف رقبة بشر وألف رأس بقر … كما قال لوالده. ولعل الأستاذ هنا، على عادة ذلك العصر، يخفي ما يملك إما خوفًا من الطمع فيه، وإما طمعًا بأعطية من هذا الرئيس العميد. وعلى كل حال أرى أن الخلتين: طالب علم وطالب مال، قد اجتمعتا فيه، وصاحباهما لا يشبعان.

كان شيخ همذان في صباه وشبابه أخا سفر جواب أرض. جاء حضرة الصاحب ابن اثني عشر ولزمها حتى اشتد ساعده، ولعله تركها مغاضبًا؛ لأنه في إحدى رسائله وقصائده يقف من الصاحب موقف النابغة من نعمائه. ثم ظل ينتجع الحضرات حتى بعدما أثرى واستقر في هراة. لقد طاب له المقام فيها، ولكن «الحيري» و«ابن البختري» والجباة كانوا يقضون مضجعه مطالبين بدفع الضرائب، والشيخ تعود أن يقبض لا أن يدفع … ولهذا ترى نيران الشكوى تتصاعد من رسائله سوداء قاتمة كدخان الأتون في عدانه الأول … ومن شدة إلحاح هؤلاء عليه نراه يختم رسالة لهذا العميد: «وأسأل الله خاتمة خير وعاجل وفاة، إن بطن الأرض أوسع من ظهرها وأرفق بأهلها.» كما يقول في رسالة أخرى: «والله لولا يد تحت الحجر، وكبد تحت الخنجر، وطفلة كفرخ يومين قد حببت إليَّ العيش، وسلت عن رأسي الطيش، لشمخت بأنفي في هذا المقام، ولكن صبر جميل والله المستعان.»

ولقد وصف هو نفسه وصدق في الوصف حيث قال:

خُلقتُ كما ترى صعب الثقاف
أردُّ يد المعاند في الخلافِ
ولي جسدٌ كواحدة المثاني
له كبد كثالثة الأثافي
هلمَّ إلى نحيف الجسم مني
لتنظر كيف آثار النحافِ

كان العرب يقولون غليظ الكبد. أما صاحبنا فصوَّر تلك الغلاظة أصدق تصوير. إنه سبَّاب شتَّام، همَّاز غمَّاز تخشى بوادره، وحسبك منه ما رواه عن نفسه فقال: «قدمت على الصاحب ولي اثنتا عشرة سنة. فبينا أنا عنده في دار الكتب إذ دخل أبو الحسن الحميري الشاعر، وكان شيخًا مبجلًا فقالوا له: إن هذا الصبي لشاعر، يعنوني بذلك.» أما الشيخ فنظم له بيتين مهذبين ليختبر ما عنده، فأجابه البديع جوابًا بذيئًا لا يصدر إلا عن الرعاع. ومن يطلع على نثره وشعره الصاخبين يرى أن شيخنا، إذا استولى على أمد الغضب، يستعمل الخاء والراء وكأنه ينثر المسك والند والعنبر … غضوب حتى الثورة المجنونة. وكما أن الفرن والتنور لا يخرجان الخبز رافخًا إلا إذا حميا، كذلك كان بديع الزمان.

قال الحجاج في جرير: «إنه لجرو هراش.» ولعل هذه تصدق على شيخ همذان. فهو أناني لا يرى فوق نفسه من مزيد، والويل لمن يفضل الخوارزمي عليه، فما عنده له غير النار والكبريت. وحسبك أن تقرأ قوله في الرسائل والمقامات: «من لقينا بأنف طويل قابلناه بخرطوم فيل.» لتدرك مبلغ شراسته، وهذا شأن كل من يضخم أمره بعد عسر، ويستغني بعد قلة. إن هذه الخصال الطاغية، والاعتداد بالنفس الذي يجر إلى الحط من قدر الآخرين كانت تقلقل دائمًا مركز الشيخ، فينقل من حضرة إلى حضرة تاركًا في كل وادٍ أثرًا من ثعلبة … قال في رسالته لأبي نصر المرزيان يوضح له لماذا خرج من جرجان ووقع في خراسان: «أما السبب فهو أن أناسًا غيَّروا السلطان ولا أعلم كيف احتالوا، وما الذي قالوا … وأشار عليَّ إخواني بمفارقة مكاني، وبقيت لا أعلم أيمنة أضرب أم شآمة، ونجدًا أقصد أم تهامة. ونظرت فإذا أنا بين جودين: إما أن أجود ببأسي وإما أن أجود برأسي، وبين ركوبين؛ إما المفازة، وإما الجنازة. وبين طريقين: إما الغربة، وإما التربة. وبين راحلتين: إما ظهور الجمال أو أعناق الرجال.»

لم يكن الدهاء ينقص شيخنا الهمذاني، فهو واسع الحيلة، طبٌّ كعنترة يأخذ الأمراء والوزراء. يصيب مقاتلهم — ولو مؤقتًا — يصيبهم بسجعه، وينصب لهم شرك الإطناب، وهم أبله من الحمام فيسقطون فيها.

أرانب غير أنهمُ ملوكٌ
مفتحة عيونهمُ نيامُ

وهكذا لم يبق ملك منهم إلا قرَّص أبو الفضل عجين «حضرته» وجدح منه سويقه … ولا أستبعد أن يكون مات مسمومًا؛ لأنه لم يسلم من لسانه أحد.

فالأنانية هي القطب الذي دارت عليه رحى حياته، أقلقه حب الظهور وأزعجه، فلا يكاد يسمع أن أحدًا قدم عليه كاتبًا حتى يهب لمقاضاته كأن له عنده دينًا، فتراه في كل مقام يمجن ويمزح ويتهكم، بل يكشف العورات ليرينا أنه قادر على القول في كل غرض، فهو من هذه الناحية أسلط لسان وأقذع هجاء، بل هو أحسد من مشى عليها. وحسبك منه أنه أراد أن يضع نفسه فوق الجاحظ كما سترى، فهو لو يستطيع أن يمحو معالم العبقرية من الدنيا حتى لا يبقى إلا هو لفعل. وقد أحسن ابن شهيد حين سمى في «التوابع والزوابع» شيطان البيع «زبدة الحقب». فشيخنا، غفر الله ذنوبه، كان كبطل مقاماته يدور مع الزمان كيفما دار، فكل من يتغلب وجبت عليه مدحته، يهمه أن يفوز ولو بشيء من الأسلاب، ولتكون فيما بعد كلمته مسموعة عند أولي الأمر، فيوصيهم بهذا، ويسألهم قضاء حاجة ذاك، لينعم بجاه ونفوذ بين الجماعة الذين حل عندهم.

كان يتشبع ويتسنن مطابقًا مقتضى الحال، ولا لوم عليه ولا حرج، ولعل الأبيات من شعره تصور لنا ما انطوى عليه:

ويكَ هذا الزمان زورُ
فلا يغرنك الغرورُ
زوقْ، ومخرقْ، وكلْ، وأطرقْ
واسرقْ، وطلبقْ، لمن تزورُ
لا تلتزم حالةً ولكن
دُرْ بالليالي كما تدورُ

ولا بدع أن أتى هذا ممن لا يظن بالناس إلا شرًّا، فيقول لنا في ديوانه:

كذاك الناس خدَّاعٌ
إلى جانب خدَّاعِ
يعيثون مع الذئبِ
ويبكون مع الراعي

وكأن الشيخ، غفر الله له، قد علم أنه فظ غليظ القلب والكبد، وكان يتوقع من الأيام أن تكسر شرته وتعدل أخلاطه، ولكنه يئس أخيرًا من كل خير طلبه عند الليالي، فصاح هذه الصيحة المؤلمة:

خليلي واهًا لليالي وصرفها
لقد ثقفت إلا كعوب خلائقي

(٤) شخصيته

يقرر البديع قضية يسميها الخراسانية الهمذانية، وكأنه مسلم بها في رسالة إلى الوزير أبي نصر بن أبي بريدة، وهي منشورة بكاملها في مختارات الرسائل ومنها يقول: «وإن فعلت فلأني خراساني: وأعز موجود في الخراسانية الإنسانية.»

ويوضح هذا أكثر في رسالة أجاب بها أستاذه أحمد بن فارس، وهي منشورة برمتها أيضًا: «واثنتان أيده الله، قلما تجتمعان: الخراسانية والإنسانية. وأنا وإن لم أكن خراساني الطينة فإني خراساني المدينة، والمرء من حيث يوجد، لا من حيث يولد، والإنسان من حيث يثبت، لا من حيث ينبت، فإذا انضاف إلى خراسان ولادة همذان، ارتفع القلم، وسقط التكليف. فالجرح جبار، والجاني حمار.»

ترى ما خطب خراسان وهمذان؟ يروي الجاحظ في «بخلائه» حكاية ديك مرو، وحكاية خاقان بن صبيح عن مسرجة رجل من أهل خراسان وفتيلتها الدقيقة، والعود المربوط فيها، وما دار بين المروي والخراساني من دروس اقتصادية ختمها خاقان بقوله: «ففي تلك الليلة عرفت فضل أهل خراسان على سائر الناس — أي في البخل — وفضل أهل مرو على سائر أهل خراسان.»

ولست أظن البديع يعني غير هذا بكلمة «الإنسانية». أليس هو في صراع دائم مع العمال والجباة، ومع أبيه وعمه، فبعد أن أصبح ذاك الثري صاحب الخمسمائة نيران وألف أكار لم تجد نفسه على أبيه إلا بمائة دينار، ولا تدفع له إلا بشرط أن ينتقل إلى هراة، والشيخ لا يترك وطنه، فكأن الولد يعجز أباه حتى لا يعطيه شيئًا من ثروته الطائلة.

ويظهر أن الوالد عجز عن أن ينال شيئًا من ولده الذي تكنى بأبي الفضل، ولا فضل، فاستكتب أمه رسالة في هذا الموضوع. ولكن بديع الزمان صخر لا يؤثر به شيء حتى مرداة عمرو بن كلثوم الطاحنة. فما رد عليها، بل قال فيها هذه الأبيات الثلاثة:

وعجوز كأنها قوس لامٍ
فلقوها من نبعة شر فلقِ
كاتبتني شوقًا إليَّ وقالت:
أخذ الله يا بني، بحقي
قلت لا أستطيع ترك بلادٍ
قد وفى الله في ثراها برزقي

وكتابه لأستاذه ابن فارس أليس شهادة صارخة على الخراسانية والإنسانية؟! لماذا يشكو الدهر ابن فارس؟ أليس لأنه في خصاصة وبلغه أن تلميذه أمسى من الأغنياء وهو في حاجة إلى ما يتبلغ به، فما كان من الأستاذ البديع إلا أن أجابه عن الكلام بكلام، واحتج بالخراسانية والهمذانية بكل وقاحة …

هذه واحدة وهي البخل وهو شر الخصال، وأضف إليها واحدة أخرى أبشع منها وهي الكبرياء، فالأستاذ أبو الفضل، غفر الله له، بلغ بالكبرياء حد التعجرف والطغيان، «فالقيام له» في المجالس، عند القدوم والذهاب، أمر لا هوادة عنده فيه. بدأ بذلك عند الخوارزمي، وكانت عاقبته تلك المعركة الأدبية التي تجاوز فيها البديع حدود أدب اللسان، فكان أشبه بأبناء الشوارع … عتب الأستاذ على أبي بكر؛ لأنه «دفع في صدر القيام عن التمام» أي لم تنتصب قامة الخوارزمي الانتصاب التام، حين استقبل البديع، فشن هذا عليه الغارة.

وهذا «القيام» يرافقنا في رسائله. فها هو ذا يدبج رسالة إلى أبي سعيد بن شابور؛ لأنه قام له حين دخل عليه، ثم ترك القيام حين خرج من عنده، فحشد عبارات اللوم والتعنيف، قال: «فأول ما أعتب عليه قعوده في المجلس عما بذله في أوله، وتثاقله في عجز الأمر عما حرض عليه في صدره، من توفير سلام، وإيفاء قيام … على أني دخلت عليه وأنا أحمد الهمذاني، وخرجت من عنده وأنا أحمد الهمذاني، فإن كان قيامه قد سرَّ، فقعوده ما ضرَّ، وبلغني أن كاتبه أبا الفضل بن نصرويه حكم للخوارزمي عليَّ بالفضل.

فقلت ولم أملك سوابق عبرتي
متى كان حكم الله في كرب النخلِ

وأما ذلك الوقع الوسخ ولا أعرف اسمه، وأحسب أن كنيته أبو الفضل، أو أبو الطهر! وما كان فهو اسم مفخم، ومعنى مرخم. فما أحوجه إلى سونيز عقل، وسعتر فطانة، حتى تحل مكالمته. وما كان أحسن حال السادة عند اللقاء حتى يكون حاله. نعم استنَّت الفصال حتى القرعاء.» وفي ختام هذه الرسالة يعين مكانًا للاجتماع عند الشيخ أبي القاسم ليعتذر إليه عما جرى من تقصير بحقه.

وهناك مكتوب آخر يوجهه إلى القاضي أبي نصر بن سهل أمرُّ من هذا لهجة؛ إذ يقول: «ما للقاضي، أعزه الله، يلقاني بوجه الزقوم، ويراني فلا يقوم؟! أنا أسأله أن يقتدي بغيره لا … ألست لقيامه أهلًا، لعن الله أكثرنا جهلًا، وأقلنا فضلًا، وأخسنا أصلًا. تلك القلنسوة ليست بأول قلانس الحكام، وتلك الشيبة ليست بأول شيبة في الإسلام، ونحن نخ … في خير من تلك القلنسوة، ونصفع خيرًا من تلك القَمَحْدوة.٣ فليحسن العشرة معي من بعد، ولست من رعيته، وليجمل الصحبة في ظاهره إن لم يجملها من نيته. أو فليفعل ما شاء فإنها شقشقة هدرت، والجميل أجمل والسلام.»

ألا ترى معي أن الأستاذ يفرض نفسه على البشرية فرضًا، وأنه يشبه بشارًا من هذه الناحية كل الشبه، فهو ينحني باللوم والسب والشتم على من لا يرضي غطرسته وكبرياءه، أو يفضل الخوارزمي عليه.

قد يقال لماذا لم يعنك إلا بخل الأستاذ وكبرياؤه؟ الجواب أن كبرياء الأستاذ خلقت رسائله النارية، وبخله وحبه المال أبدع مقاماته الطريفة، كما سترى.

هوامش

(١) يشير المؤلف إلى قول جرير:
طرقتك صائدة القلوب وليس ذا
وقت الزيارة فارجعي بسلام
(٢) العريش: الكوخ.
(٣) القمحْدُوة: مؤخر القذال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤