ديوان الفرزدق

حرف الباء

قال:

أوصي تميمًا إنْ قضاعة ساقها
قَوَا الغيثِ من دارٍ بدومة أو جدب
إذا انتجعت كلب عليكم فمكِّنوا
لها الدار من سهل المباءة والشرب
فإنهم الأحلاف والغيث مرة
يكون بشرق من بلاد ومن غرب
أشَدُّ حبالٍ بين حيَّين مرة
حبال أُمرَّت من تميم ومن كلب
وليس قضاعيٌّ لدينا بخائف
وإن أصبحَتْ تغلي القدور من الحرب
فإن تميمًا لا يجير عليهمُ
عزيز ولا صنديد مملكة غلب
هم المتحلَّى أن يُجار عليهمُ
إذا استعرت عدوى المعبَّدة الحرب
وأجسَم من عاد جُسوم رجالهم
وأكثر إن عُدُّوا عديدًا من الترب
مَصاليتُ عند الروع في كل موطن
إذا شخصتْ نفس الجبان من الرعب

وقال:

وإجَّانة ريا الشروب كأنها
إذا اغتمستْ فيها الزجاجة كوكب
مُختَّمة من عهد كسرى بن هرمز
بكرنا عليها والفراريج تنعب
سبقتُ بها يوم القيامة إذ دنا
وما للصبا بعد القيامة مطلب

وقال:

لعمري لقد أوفى وزاد وفاؤه
على كل جارٍ جَارُ آل المهلب
أَمرَّ لهم حبلًا فلما ارتقوا به
أتى دونه منهم بدرء ومنكب
وقال لهم حلوا الرحال فإنكم
هربتم فألقوها إلى خير مهرب
أتوه ولم يرسِل إليهم وما ألوا
عن الأمنع الأوفى الجوار المهذَّب
فكان كما ظنوا به والذي رجوا
لهم حين أُلْفوا عن حراجيجَ لغَّب
إلى خير بيت فيه أوفى مجاور
جوارًا إلى أطنابه خير مذهب
خببن بهم شهرًا إليه ودونه
لهم رَصَد يُخشى على كل مَرقَب
مُعرَّقة الألحى كأن خبيبها
خبيب نعاماتٍ روائحَ خُضَّب
إذا تركوا منهنَّ كل شِمِلَّة
إلى رخمات بالطريق وأذؤب
حَذَوا جلدها أخفافهنَّ التي لها
بصائر من مخروقها المتقوِّب
وكم من مناخٍ خائف قد وردنه
حرى من ملمَّات الحوادث معطب
وقعن وقد صاح العصافير إذ بدا
تباشير معروف من الصبح مغرب
بمثل سيوف الهند إذ وقعت وقد
كسا الأرض باقي ليلها المتجوِّب
جلوا عن عيون قد كَرين كلا ولا
مع الصبح إذ نادى أذان المثوِّب
على كل حرجوج كأن صريفها
إذا اصطكَّ ناباها ترنَّم أخطب
وقد علم اللائي بكين عليكمُ
وأنتم وراء الخندق المتصوِّب
لقد رقأت منها العيون ونوَّمت
وكانت بليل النائح المتحوِّب
ولولا سليمان الخليفة حلَّقت
بهم من يد الحَجَّاج أظفار مغرب
كأنهمُ عند ابن مروان أصبحوا
على رأس غينا من ثبير وكبكب
أبى وهو مولى العهد أن يقبل التي
يُلام بها عرض الغدور المسبب
وفاء أخي تيماء إذ هو مشرف
يناديه مغلولًا فتًي غير جأنب
أبوه الذي قال اقتلوه فإنني
سأمنع عرضي أن يُسبَّ به أبي
فإنَّا وجدنا الغدر أعظم سبةً
وأفضح من قتل امرئ غير مذنب
فأدَّى إلى آل امرئ القيس بزه
وأدراعه معروفة لم تغيَّب
كما كان أوفى إذ ينادي ابن دَيْهث
وصرمته كالمغنم المتنهَّب
فقام أبو ليلى إليه ابن ظالم
وكان إذا ما يسلل السيف يضرب
وما كان جارًا غير دلو تعلَّقت
بحبلَيه في مُستحصَد الحبل مكرب
إلى بدر ليل من أمية ضوءه
إذا ما بدا يعشى له كل كوكب
وأعطاه بالبر الذي في ضميره
وبالعدل أمرَي كل شرق ومغرب

وقال يمدح عبد الملك بن مروان:

إذا لاقى بنو مروان سلُّوا
لدين الله أسيافًا غضابًا
صوارم تمنع الإسلام منهم
يوكَّل وقعُهنَّ بمن أرابا
بهنَّ لقوا بمكة ملحديها
ومَسْكن يحسنون بها الضرابا
فلم يتركن من أحد يصلِّي
وراء مكذب إلا أنابا
إلى الإسلام أو لاقى ذميمًا
بها ركن المنية والحسابا
وعرَّد عن بنيه الكسب منهم
ولو كانوا أولي غلق شغابا

وقال:

دَعَوا ليستخلف الرحمن خيرهم
والله يسمع دعوى كل مكروب
فانقضَّ مثل عتيق الطير يتبعه
مَساعِر الحرب من مُرْدٍ ومن شيب
لا يعلف الخيلَ مشدودًا رحائلها
في منزل بنهار غير تأويب
تغدو الجياد وتعدو وهو في قتم
من وقع مُنعَله تُزجى ومجنوب
قِيدت له من قصور الشام ضمَّرها
يطلبن شرقي أرض بعد تغريب
حتى أناخ مكان الضيق مغتصبًا
في مكفهرَّين مثلَي حرَّة اللوب
وقد رأى مصعبٌ في ساطع سبط
منها سوابق غاراتٍ أطانيب
يوم تركن لإبراهيم عافية
من النسور وقوعًا واليعاقيب
كأن طيرًا من الرايات فوقهمُ
في قاتم ليطها حمر الأنابيب
أشطان موت تراها كلما وردت
حمرًا إذا رفعت من بعد تصويب
يتبعن منصورة تروي إذا لقيت
بقانئٍ من دم الأجواف مغصوب
فأصبح الله ولَّى الأمر خيرهمُ
بعد اختلاف وصدعٍ غير مشعوب
تراث عثمان كانوا الأولياء له
سربال ملك عليهم غير مسلوب
يحمي إذا لبسوا الماذيُّ ملكهمُ
مثل القروم تسامي للمصاعيب
قوم أبوهم أبو العاصي أجاد بهم
قرم نجيب لحرَّابٍ مناجيب
قوم أثيبوا عن الإحسان إذ ملكوا
ومن يد الله يرجى كل تثويب
فلو رأيت إلى قومي إذا انفرجت
عن سابق وهو يجري غير مسبوب
أَغرَّ يعرف دون الخيل مشترفًا
كالغيث يحفش أطراف الشآبيب
كاد الفؤاد تطير الطائرات به
من المخافة إذ قال ابن أيوب
في الدار إنك إن تُحدث فقد وجبت
فيك العقوبة من قطع وتعذيب
في محبس يتردَّى فيه ذو ريب
يخشى عليَّ شديد الهول مرهوب
فقلت: هل ينفعَنِّي إن حضرْتكمُ
بطاعة وفؤاد منك مرعوب
ما تنهَ عنه فإني لست قاربه
وما نهى من حليم مثل تجريب
ولا يفوتك شيء أنت طالبه
وما مَنعتَ فشيء غير مقروب

وقال:

إني ابن حماد المئينَ غالب
قطعت عرض الدو غير راكب
وغمرة الدهنا بغير صاحب
والمغزر الرفد بكف الحالب

ومرَّ ببني الهجيم وقد أخذوا ذئبًا فأوثقوه، فسألهم أن يطلقوه؛ ففعلوا؛ فعلَّق في عنقه طابق لحم، وقال:

لما أتيت بني الهجيم وجدتهم
وأسيرهم بعمايتين الذيب
أطلقت ذئب بني الهجيم فقلصت
بالذئب صادقة النجاء خبوب
يا ذئب ويحك إن نجوت فبعدما
يأس وما نظرت إليك شعوب

وقال:

ألا زعمت عرسي سويدة أنها
سريع عليها حفظتي للمعاتب
ومكثرةٍ يا سود ودَّت لوَ انها
مكانك والأقوام عند الضرائب
ولو سألت عني سويدة أُنبئت
إذا كان زاد القوم عقرَ الركائب
بضربي بسيفي ساق كل سمينة
وتعليق رحلي ماشيًا غير راكب
ولولا أُبَيْنوها الذين أُحبهم
لقد أنكرت مني عنود الجنائب
فما ظَلَمتْ أن لا تنور وخلفها
إذا الجدب ألقى رحله سيف غالب
خليطان فيها قد أبادا سراتها
بعقر المناقي واجتلاح العرائب
ولو أنها نخل السواد ومثله
بحافاتها من جانب بعد جانب
ولو أنها تبقى لباقٍ لأُلجئت
إلى رجل فيها صنيع وكاسب

وقال:

وركبٍ كأن الريح تطلب عندهم
لهاترة من جذبها بالعصائب
يعضون أطراف العصي كأنها
تخزئ بالأطراف شوك العقارب
سروا يخبطون الليل وهي تلفُّهم
على شعب الأكوار من كل جانب
إذا ما رأوا نارًا يقولون: ليتها
وقد خصرت أيديهمُ نار غالب
إلى نار ضرَّاب العراقيب لم يزل
له من ذبابي سيفه خير جالب
تدربه الأنساء في ليلة الصبا
وتنتفخ اللبات عند الترائب

ومرَّ الفرزدق على مسجد بني السمين فقال: لمن هذا المسجد؟ فقيل: بني السمين من بني حنيفة، فقال: والله أنا أسمنُ منهم حَسَبًا، وأنشأ:

أنا ابن السمين من ذؤابة دارم
وأورثني ضرب العراقيب غالب

وقال يمدح رجلًا من عميرة بن لد بن ربيعة وهم في عبد القيس حلفاء:

عميرة عبد القيس خير عمارة
وفارس عبد القيس منها ونابها
فأنتم بدأتم بالهدية قبلنا
فكان علينا يا ابن مخ ثوابها

وقال لمالك بن عبد المنذر بن الجارود:

إذا مالكٌ ألقى العمامة فاحذروا
بوادر كفَّي مالكٍ حين يغضب
فإنهما لن يظلماك وفيهما
نكال لعريان العذاب عصبصب

وقال:

لو أن كعبًا أو حاتمًا نُشِرَا
كانا جميعًا في بعض ما يهب

حرف التاء

قال:

إني لقاضٍ بين حيَّين أصبحا
مجالس قد ضاقت بها الحلقات
بنو مسمع أكفاؤها آل دارم
وتنكح في أكفائها الحبطات
ولا يدرك الغايات إلا جيادها
ولا تستطيع الجلة البكرات

وقال:

آلَ تميم ألا لله أمكم
لقد رميتم بإحدى المصمئلات
فاستشعروا بثياب اللؤم واعترفوا
إن لم تروعوا بني أفصى بغارات
وتقتلوا بفتى الفتيان قاتله
أو تُقتَلون جميعًا غير أشتات
لله در فتًى مروا به أصلًا
مُهشَّم الوجه مكسور الثنيات
راحوا بأبيض مثل البدر يحمله
عتم العلوج بأقياد مذلات

حرف الجيم

قال:

غفرتُ ذنوبًا وعاقبتها
فأولى لكم يا بني الأعرج
تدبُّون حول ركياتكم
دبيب القنافذ في العرفج
فلولا ابن أسماء قلدتكم
قلائد ذي عرة منضج

لمَّا قدم خالد بن عبد الله القسري على العراق أوثق عمر بن هبيرة وحبسه في دار الحكم بن أيوب الثقفي بواسط، وكان لابن هبيرة غلمة روميون، قد علموا صناعات الروم وأعمالهم، فجاءوا ونزلوا تلقاء السجن الذي فيه ابن هبيرة وبينه وبينهم الطريق؛ فحفروا سربًا وسقفوه بالساج وحفروه قصد البيت الذي هو فيه حتى انتهى الحفر إلى بيته، وقد وطئوا له الخيل العتاق وضمَّروها، فخرج نحو الشام وأناخ بباب مسلمة بن عبد الملك ليلًا، فبلغ خالد بن عبد الله أن ابن هبيرة خرج من السجن ولجأ إلى مسلمة بن عبد الملك؛ فأحضر سعيد بن عمرو الحرشي وكان من أعدى الناس لابن هبيرة، فقال له: سِرْ وراء ابن هبيرة، فخرج الحرشي يقتل رواحله حتى وقف على خبره، فرجع لخالد بالخبر، فلقي خالد بعد ذلك ابن هبيرة وهو على باب هشام، فقال له: يا ابن هبيرة أبقتَ إباق العبد؟ فقال له ابن هبيرة: حينما نمت يا خالد نوم الأمة، وفي ذلك يقول الفرزدق:

ولما رأيت الأرض قد سدَّ ظهرها
ولم ترَ إلا بطنها لك مخرجًا
دعوت الذي ناداه يونس بعدما
ثوى في ثلاثٍ مظلمات ففرجا
فأصبحتَ تحت الأرض قد سرتَ ليلة
وما سار سارٍ مثلها حين أدلجا
هما ظلمتا ليل وأرض تلاقتا
على جامع من أمره ما تعرجا
خرجت ولم تمنن عليك شفاعة
سوى ربذ التقريب من آل أعوجا
أغرَّ من الحُوِّ الجياد إذا جرى
جرى جري عريان القرى غير أفحجا
جرى بك عريان الحماتين ليله
به عنك أرخى الله ما كان أشنجا
وما احتال محتال كحيلته التي
بها نفسه تحت الصريمة أولجا
وظلماءَ تحت الأرض قد خضت هولها
وليل كلون الطيلساني أدعجا

رُوِيَ أن راكبًا أقبل من اليمامة فمرَّ بالفرزدق وهو جالس فقال له: من أين أقبلت؟ قال: من اليمامة، فقال: هل أحدث ابن المراغة بعدي من شيء؟ قال: نعم، قال: هات؛ فأنشد:

هاج الهوى بفؤادك الملجاج

فقال الفرزدق:

فانظر بتوضح باكر الأحداج

فأنشد الرجل:

هذا هو شغف الفؤاد مُبرِّح

فقال الفرزدق:

بنوًى تقاذف غير ذات خداج

فأنشد الرجل:

إن الغراب بما كرهتَ لمولَع

فقال الفرزدق:

بنوى الأحبة دائم التسحاج

فقال الرجل: هكذا والله! أفسمعتَها من غيري؟ قال: لا، ولكن هكذا ينبغي أن يُقال، أوَمَا علمت أن شيطاننا واحد، ثم قال: أمدح بها الحجاج؟ قال: نعم، قال: إياه أراد.

حرف الدال

قال:

إن تنصفونا يالَ مروان نقترب
إليكم وإلا فأذنوا ببعاد
فإن لنا عنكم مزاحًا ومذهبًا
بعيس إلى ريح الفلاة صوادي
مُخيِّسةٍ بزلٍ تخايل في البرى
سوار على طول الفلاة غوادي
وفي الأرض عن ذي الجَور منأًى ومذهب
وكل بلاد أُوطنت كبلادي
وماذا عسى الحَجَّاج يبلغ جهده
إذا نحن خلفنا حفير زياد

وقال:

إذا شئت غناني من العاج قاصف
على معصمٍ ريانَ لم يتخدد
ببيضاءَ من أهل المدينة لم تعشْ
ببؤس ولم تتبع حمولة مجحد
نعمتُ بها ليل التمام فلم يكد
يروِّي استقائي هامة الحائم الصدي
وقامت تخشيني زيادًا وأجفلت
حواليَّ في بردٍ رقيق ومجسد
فقلتُ ذريني من زياد فإنني
أرى الموت وقَّافًا على كل مرصد
وليست من اللائي العدان مقيظها
يرحن خفافًا في الملاء المعضَّد
ولكنها يجبى النضارى لأهلها
وتنمي إلى أعلى منيفٍ مُشيَّد
حوارية تمشي الضحى مرجحنة
وتمشي العشي الخَيزلى رِخوة اليد

قتل بنو نهشل رجلًا من بني سعد؛ فقتلوا به رجلًا واغتالوا آخر فقال:

أترقع بالأمثال سعد بن مالك
وقد قتلوا مَثنى بظنة واحد
إذا راح ركبان الصليب دعاهمُ
ببرقة مهزول صدًى غير هامد
فلم يبق بين الحي سعد بن مالك
ولا نهشل إلا دماء الأساود
إذا فأصابتكم من الله جزة
كما جزَّ أعلى سنبل كفُّ حاصد

وقال يهجو بني نهشل:

بني نهشلٍ لا أصلح الله بينكم
وزاد الذي بيني وبينكمُ بعدا
أمن شر حي لا تزال قصيدة
يغني بها الركبان طالعة نجدا
غضبتم علينا أنْ علتْكم مجاشع
وكان الذي يحمي ذماركمُ عبدا

وقال يمدح عمر بن الوليد بن عبد الملك:

إليك سمت يا ابن الوليد ركابنا
وركبانها أسمى إليك وأعمد
إلى عمر أقبلن معتمداته
سراعًا ونعم الركب والمتعمد
ولم تجرِ إلا جئت للخيل سابقًا
ولا عدت إلا أنت في العود أحمد
إلى ابن الإمامين اللذَين أبوهما
إمام له لولا النبوَّة يُسجَد
إذا هو أعطى اليوم زاد عطاؤه
على ما مضى منه إذا أصبح الغد
بحق امرئ بين الوليد قناته
وكندة فوق المرتقى يَتصعد
أقول لحرف من يدعْ رحلها لها
سنامًا وتثوير القطا وهي هجد
عليكِ فتى الناس الذي إن بلغته
فما بعده في نائل متلدَّد
وإن له نارين كلتاهما لها
قِرًى دائم قدام بيتيه توقد
فهذي لعبط المشبعات إذا شتا
وهذي يد فيها الحسام المهند
ولو خلَّد الفخر امرأً في حياته
خَلدتَ وما بعد النبي مخلَّد
وأنت امرؤ عوَّدت للمجد عادة
وهل فاعل إلا بما يتعوَّد
تسائلني: ما بال جنبك جافيًا
أهمًّا جفا أم جفن عينك أرمد؟
فقلت لها: لا، بل عيال أراهمُ
وما لهمُ ما فيه للغيث مقعد
فقالت: أليس ابن الوليد الذي له
يمين بها الأمحال والفقر يطرد
يجود وإن لم ترتحل يا ابن غالب
إليه وإن لاقيته فهو أجود
من النيل إذ عم المنار غناؤه
ومن يأته من راغب فهو أسعد
فإن ارتداد الهم عجز على الفتى
عليه كما رُدَّ البعيرُ المقيد
ولا نُجح في هم إذا لم يكن له
زماع وحبل للصريمة محصد
جرى ابن أبي العاصي فأحرز غاية
إذا أحرزت مَن نالها فهو أمجد
وكان إذا احمرَّ الشتاء جفانُه
جفانٌ إليها بادئون وعُوَّد
لهم طرق أقوامهم قد عرفنها
إليهم وأيديهم إلى الشحم حمَّد
وما من حنيف آل مروان مسلم
ولا غيره إلا عليه لكم يد
إذا عدَّ قوم مجدهم وبيوتهم
فضلتم إذا ما أكرم الناس عُدِّدوا

وقال:

كل امرئ يرضى وإن كان كاملًا
إذا كان نصفًا من سعيد بن خالد
له من قريش طيبوها وبيضها
وإن عضَّ كفَّي أمه كل حاسد

حرف الراء

قال يمدح سيدنا عمر بن عبد العزيز — رضي الله عنه:

زارت سكينة أطلاحًا أناخ بهم
شفاعة النوم للعينَين والسهر
تجدَّلوا عن خفاف الوطء منعلة
حيث التقى الرَّكَب المنكوب والقصر
كأنما مُوِّتوا بالأمس إن وقعوا
وقد بدت جُدَد ألوانها شهر
فقد يهيج على الشوق الذي بَعثتْ
أقرانه لائحات البرق والذكر
وساقنا من قسا يزجي ركائبنا
إليك منتجع الحاجات والقدر
وجائعاتٌ ثلاث ما تركن لنا
مالًا به بعدهنَّ الغيث يُنتظر
ثنتان لم يتركا لحمًا وحاطمةٌ
بالعظم حمراء حتى اجتيحت الغُرر
فقلت: كيف بأهلي حين عضَّ بهم
عام له كل مال مُنعِق جزر
عام أتى قبله عامان ما تركا
مالًا ولا بلَّ عودًا فيهما مطر
تقول لما رأتني وهي طيبة
على الفراش ومنها الدَّلُّ والخفر
كأنني طالب قومًا بجائحة
كضربة الفتك لا تُبقي ولا تذر
أصدر همومك لا يقتلك واردها
فكل واردة يومًا لها صدر
لما تفرق بي همي جمعت له
صريمة لم يكن في عزمها خور
فقلت: ما هو إلا الشام تركبه
كأنما الموت في أجناده البَغَر
أو أن تزور تميمًا في منازلها
بمروَ وهي مخوف دونها الغرر
أو تعطف العيس صُعرًا في أزمَّتها
إلى ابن ليلى إذا ابزوْزى بك السفر
فعُجتها قِبلَ الأخيار منزلة
والطيبي كل ما الْتاثت به الأرز
قرَّبت محلفة أقحاذ أسنُمها
وهنَّ من نعم ابنَي داعر سرر
مثل النعائم يزجينا تنقُّلها
إلى ابن ليلى بنا التهجير والبكر
خُوصا حراجيج ما تدري أما نقبت
أَشكى إليها إذا راحت أم الدَّبَر
إذا تروَّح عنها البرد حل بها
حيث التقى بأعالي الأسهب العكر
بحيث مات هجير الحمض واختلطت
لصاف حول صدى حسَّان والحفر
إذا رجا الرَّكب تعريسًا ذكرت لهم
غيثًا يكون على الأيدي له درر
وكيف ترجون تغميضًا وأهلكمُ
بحيث تلحس عن أولادها البقر
ملقَّون باللبب الأقصى مقابلهم
عطفًا قسا وبراق سهلة عفر
وأقرب الريف منهم سير منجذب
بالقوم سبع ليال ريفهم هجر
سيروا فإن ابن ليلى من أمامكمُ
وبادروه فإن العرف مبتدر
وبادروا بابن ليلى الموت إن له
كفَّين ما فيهما بخل ولا حصر
أليس مروان والفاروق قد رفعا
كفَّيه والعودُ ماءَ العرق يعتصر
ما اهتزَّ عود له عرقان مثلهما
إذا تروَّح في جرثومه الشجر
ألفيت قومك لم يُترك لأثلتهم
ظلٌّ وعنها لحاء الساق يُقتشر
فأعقب الله طَلًّا فوقه ورق
منها بكفَّيك فيه الريش والثمر
وما أعيد لهم حتى أتيتهمُ
أزمان مروان إذ في وحشها غرر
فأصبحوا قد أعاد الله نعمتهم
إذ هم قريش وإذ ما مثلهم بشر
وهم إذا حلفوا بالله مقسمهم
يقول لا والذي من فضله عمر
على قريش إذا احتلَّت وعضَّ بها
دهر وأنياب أيام لها أثر
وما أصابت من الأيام جائحة
للأصل إلا وإن جلَّت ستُجتبر
وقد حمدتَ بأخلاق خُبرتَ بها
وإنما يا ابن ليلى يحمد الخبر
سخاوة من ندى مروان أعرفها
والطعن للخيل في أكتافها زور
ونائل لابن ليلى لو تضمنه
سيل الفرات لأمسى وهو محتقر
وكان آل أبي العاصي إذا غضبوا
لا ينقضون إذا ما استُحصد المرر
يأبى لهم طول أيديهم وإن لهم
مجد الرهان إذا ما أعظم الخطر
إن عاقبوا فالمنايا من عقوبتهم
وإن عفوا فذوو الأحلام إن قدروا
لا يستثيبون نعماهم إذا سلفت
وليس في فضلهم منٌّ ولا كدر
كم فرَّق الله من كيد وجمَّعه
بهم وأطفأ من نار لها شرر
ولن يزال إمام منهمُ ملك
إليه يشخص فوق المنبر البصر

وقال يرثي عبد العزيز والد سيدنا عمر — رضي الله عنهما:

إن الأرامل والأيتام قد يئسوا
وطالبي العرف إذ لاقاهم الخبر
إن ابن ليلى بأرض الشام أدركه
وهم سراع إلى معروفه القدر
لما انتهوا عند باب كان نائله
به كثيرًا ومن معروفه فجر
قالوا: دفنَّا ابن ليلى فاستهلَّ لهم
من الدموع على أيامه درر
من أعين علمت أنْ لا حجاز لهم
ولا طعام إذا ما هبَّت القرر
ظلوا على قبره يستغفرون له
وقد يقولون تارات لنا العبر
يقبِّلون ترابًا فوق أعظمه
كما يقبَّل في المحجوجة الحجر
لله أرض أجَنَّتْه ضريحتها
وكيف يُدفَن في الملحودة القمر

وقال:

وكل فتًى عاري الأشاجع لاحه
سموم الثريا لونه قد تغيرا
على كل مذعان السرى رادنية
يقود وأًى غمر الجراء مصدَّرا
شديد ذنوب المتن منغمس النسا
إذا ما تلقَّته الجراثيم أحصرا
وكم من رئيس غادرته رماحنا
يمج نجيعًا من دم الجوف أحمرا
ونحن صَبَحنا الحي يوم قُراقِرٍ
خميسًا كأركان اليمامة مذ سرى
ونحن أجزنا يوم حزم ضريبة
ونحن منعنا يوم عينين منقرا
ونحن حدرنا طيئًا من جبالها
ونحن حدرنا من ذرى الغور جعفرا
بأرعن جرار تضوء له الصوى
إذا ما اغتدى من منزل أو تهجَّرًا
له كوكب إذ ذرت الشمس واضح
ترى فيه منا دارعين وحسرا
أبي يوم جاءت فارس بجنودها
على حَمَضَى رد الرئيس المشوَّرا
غدًا ومساحي الخيل تقرع بينها
ولم يكُ في يوم الحفاظ مغمرا
كأن جذوع النخل لما غشينه
سوابقها من بين ورد وأشقرا

لمَّا مدح الفرزدق سعيد بن العاص بالقصيدة اللامية التي يقول في مطلعها: (وكوم تنعم الأضياف عينًا)، ويستجير بها من زياد بن أبيه؛ لأنه كان هجا بني فقيم فطلبه زياد ليقتله فهرب للمدينة المنورة، فبُلِّغَ هذا فأشاع أن لو أتاه الفرزدق مستجيرًا ومستقيلًا من جنايته وممتدحًا لأجاره وعفا عنه وأجازه، فبلغ ذلك الفرزدق وكان أجبن من صافر فقال:

تذكَّر هذا القلب من شوقه ذكرًا
تذكر شوقًا ليس ناسيه عصرا
تذكر ظمياء التي ليس ناسيًا
وإن كان أدنى بينها حججًا عشرًا
وما مغزل بالغور غور تهامة
ترعى أراكا من مخارمها نضرا
من العوج حواء المدامع ترعوي
إلى رشأ طفل تخال به فترا
أصابت بأعلى ولولان حبالة
فما استمسكت حتى حسبن بها نفرا
بأحسن من ظمياء يوم لقيتها
ولا مزنة راحت غمامتها قصرا
وكم دونها من عاطف في صريمة
وأعداء قوم ينذرون دمي نذرا
إذا أوعدوني عند ظمياء ساءها
وعيدي وقالت: لا تقولوا له هجرًا
دعاني زياد للعطاء ولم أكن
لأقربه ما ساق ذو حسب وفرا
وعند زياد لو يزيد عطاءهم
رجالٌ كثير قد يرى بهمُ فقرا
قعود لدى الأبواب طلاب حاجة
عوان من الحاجات أو حاجة بكرا
فلما خشيت أن يكون عطاؤه
أَداهمَ سودًا أو محدرجةً سمرا
فزعت إلى حرف أضرَّ بنيِّها
سُرى الليلِ واستعراضها البلد القفرا
تنفس من بهو من الجوف واسع
إذا مدَّ حيزومًا شراسيفها الضفرا
تراها إذا صام النهار كأنما
تُسامي فنيقًا أو تخالسه خطرا
وإن أعرضت زوراء أو شمَّرت بها
فلاة ترى منها مخارمها غبرا
تعادين عن صهب الحصى وكأنما
طحنَّ به من كل رضراضة جمرا
على ظهر عاديٍّ كأن متونه
ظهور لأًى تضحي قياقيُّه حمرا
يؤم بها الموماة من لن ترى له
إلى ابن أبي سفيان جاهًا ولا عذرا
وحضنين من ظلماء ليل سريته
بأغيد قد كان النعاس له سكرا
رماه الكرى في الرأس حتى كأنه
أمير جلاميد تركن به وقرا
جررنا وفدَّيناه حتى كأنما
يرى بهوادي الصبح قَنبلةً شقرا
من السير والإسآد حتى كأنما
سقاه الكرى في كل منزلة خمرا
فلا تعجلاني صاحبيَّ فربما
سبقت بورد الماء غادية كدرا

وقال يمدح سليمان بن عبد الملك لما قام ولم يكن أتى خليفة قبله:

لوى ابن أبي الرقراق عينيه بعدما
دنا من أعالي إيلياء وغوَّرا
رجا أن يرى ما أهله يبصرونه
سهيلًا فحالت دونه أرض حميرا
فكنا نرى النجم اليماني عندنا
سهيلًا فقد واراه أجبالُ أعفرا
وكنا به مستأنسين كأنه
أخ أو خليط عن خليط تغيَّرا
بكى إن تغنت فوق ساق حمامة
شآمية هاجت له فتذكَّرا
وأضحى الغواني لا يردن وصاله
وبينا تراه كالغياية أدبرا
مخابر حب من حميدة لم يزل
به سقم من حبها قد تأزَّرا
فلو كان لي بالشام مثل الذي جبت
ثقيف بأمصار العراق وأكثرا
فقيل: أْته لم آته الدهر ما دعا
حمام على ساق هديلًا فقرقرا
تركت بني حرب وكانوا أئمة
ومروان لا آتيه والمتحيرا
أباكٍ وقد كان الوليد أرادني
ليعمل خيرًا أو ليؤمن أو جرا
فما كنت عن نفسي لأرحل طائعًا
إلى الشام حتى كنتَ أنت المؤمَّرا
فلما أتاني أنها ثبتت له
بأوتاد قرم من أمية أزهرا
نهضت بأكناف الجناحين نهضة
إلى خير أهل الأرض فرعًا وعنصرا
فحبك أغشاني بلادًا بغيضة
إليَّ وروميًّا بعمان أقترا
فلو كنت ذا نفسين إن حلَّ مقبلًا
بإحداهما من دونك الموت أحمرا
حييت بأخرى بعدها إذ تجرَّمت
مداها عست نفسي بها أن تعمرا
إذًا لتغالت بالفلاة ركابنا
إليك بنا يخدين مشيًا عشنزرا

وقال:

فهل يغلبنِّي شاعر رمحه استه
أعدَّ ليوم الروع درجًا ومحبرا
وما بي أن لا توجدوا لوليدة
تحثُّ بكفَّيها الذيار المذيرا
ترى عبس الأطباء فوق بنانها
وعرق النسا من ساقها قد تحيرا
ترد العراقي والسوية بظرها
كلون القدامى بعدما كان أحمرا
ترد بأخراب المزادة أنفه
إذا ما الروايا أرقصت كل أوعرا
تمنى ابن مسعود لقائي سفاهة
لقد قال مَيْنًا يوم ذاك ومنكرا
متى تلقَ منا عصبة يا ابن خالد
ربيئة جيش أو يقودون منسرا
تكن هدَرًا إن أدركتك رماحنا
وتترك في غم الغبار مقطَّرا
منت لك منا أن تلاقي عصبة
حمام منايا قدن حينًا مقدرا
على أعوجيات كأن صدورها
قنا سيسجان ماؤه قد تحسَّرا
ذوابل تُبرى حولها لفحولها
تراهن من قود المقانب ضمرا
إذا سمعت قرع المساحل نازعت
أيامِنُهمْ شزرًا من القدِّ أيسرا
يذود شداد القوم بين فحولها
بأشطانها من رهبة أن تكسَّرا

وقال يمدح عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي:

فداك من الأقوام كل مزند
قصير يد السربال مسترق الشبر
من المدلهمِّين الذين كأنهم
إذا احتضر القوم الخوان على وتر
فأنت ابن بطحاوي قريش وأن تشأ
تنل من ثقيف سيل ذي جدب غمر
وأنت ابن فرعٍ ماجد لعقيلة
تلقَّت له الشمس المضيئة بالبدر

كتب يزيد بن المهلب إلى بعض بني عُيينة أن يعطي الفرزدق أربعة آلاف درهم يتجهَّز بها إليه، ويخبره أنه إذا قدم عليه أعطاه مائة ألف درهم، وذلك قبل أن يمدحهم بعدما هجاهم، فأخذ الفرزدق المال ومضى إلى الكوفة؛ فلم يزل يزيد يُنزل الفرزدق المنازل حتى قال في الكوفة:

دعاني إلى جرجان والرَّيُّ دونه
أبو خالد إني إذن لزَءور
لآتيَ من آل المهلب ثائرًا
بأعراضها والدائرات تدور
سآبَى وتأبى لي تميم وربما
أبيت فلم يقدر عليَّ أمير
كأني ورحلي والفيافي ترتمي
بنا بجنوب الشيِّطَين حمير

وقال:

يختلف الناس ما لم نجتمع لهم
ولا اختلاف إذا ما استجمعت مضر
منا الكواهل والأعناق تقدمها
والرأس منا وفيه السمع والبصر
ولا نحالف إلا الله من أحد
غير السيوف إذا ما اغرورق النظر
ومن يَملْ يُملِ المأثور ذروته
حيث التقى من حفافي رأسه الشعر
أما العدو فإنَّا لا نلين لهم
حتى يلين لضرس الماضغ الحجر

وقال:

ضيَّع أولادَ الجُعَيدة مالك
خناطيل منها رازم وحسير
ستعلم ما تغْني رواقيد أُسْنِدَت
لها عند أطناب البيوت هدير
عن الإبْل إذ جاءت حَدابير رُزَّحًا
إذا لم يُبَع بزرٌ لها وعصير

وقال يهجو مسكين بن عامر أحد بني عبد الله بن درام:

أمسكين أبكى الله عينك إنما
جرى في ضلال دمعها إذ تحدَّرا
أتبكي امرأً من أهل ميسان كافرًا
ككسرى على عدَّانه أو كقيصرا

لما مات وكيع بن أبي مسور المقراني منع عدي بن أرطاة الفزاري — أمير البصرة إذ ذاك — أن يُناح عليه، فقال قومه: والله لا يُحمَل حتى يجيء الفرزدق؛ فجاء وعليه قميصٌ أسود مشقوق والناس قيام حول وكيع فأخذ الفرزدق بقائمة السرير ونهض به وأنشد:

ليَبكِ وكيعًا خيل حرب مُغيرةٌ
تساقي المنايا بالرُّدينية السمر
لقوا مثلهم فاستهزموهم بدعوة
دعوها وكيعًا والجياد بهم تجري
وبين الذي نادى وكيعًا وبينهم
مسيرة شهر للمقصَّصة البتر
وكم هدَّت الأيام من جبل لنا
وسابغة زغف وأبيض ذي أثر
وما كان كالموتى وكيع فيمنعوا
نوائح لا رثَّ السلاح ولا غمر
فإن الذي نادى وكيعًا فناله
تناول صدِّيق النبي أبا بكر
فمات ولم يوتر وما من قبيلة
من الناس إلا قد أبات على وقر
فلو أن ميْتًا لا يموت لعزة
على قومه ما مات صاحب ذا القبر
أصيبت به عمرو وسعد ومالك
وضبَّة عمُّوا بالعظيم من الأمر

قيل إن الفرزدق مرَّ بأبي الشحماء من ولد عبادة بن مرثد بن عمرو بن مرثد أحد بني قيس بن ثعلبة فغدَّاه وسقاه، فقال في ذلك:

سألنا عن أبي الشحماء حتى
أتينا خير مطروق لساري
فقلنا يا أبا الشحماء إنَّا
وجدنا الأزد أبعد من نزار
فقام يجر من عجل إلينا
أسابيَّ النعاس مع الإزار
وقال إلى سلافة مسلحبٍّ
وثيم الأنف مربوب بقار
تُمال عليهمُ والقدر تغلي
بأبيض من سديف الشول واري
كأن تطلُّع الترعيب فيها
عذارى يطَّلعن إلى عَذار

وقال:

لقد علمت يوم القبيبات نهشل
وجردانها أنْ قد منوا بعسير
عشية قالوا إن أحواضكم لنا
فلاقوا جواز الماء غير يسير
فما كان إلا ساعة ثم أدبرت
فقيم بأعضاد ربت وظهور
وقلت له: استمسك سعار فإنها
أمور دنت أحناؤها لأمور
لعمر أبيك الخير ما رغم نهشل
عليَّ ولا جردانها بكبير

وقال يهجو جريرًا:

وضيابة السعدين حولي قرومها
ومن مالك تلقى عليَّ الشراشر
فليسوا بقوم المستميت مذلة
ولكن لنا بادٍ عزيز وحاضر
وكم من رئيس قد أقادت رماحنا
ومن ملك قد توَّجته الأكابر
بمن حين تلقى مالكًا تتقي العصا
وما لك إلا قاصِعاءَك ناصر
فإن تنتفق يأخذ برأسك حية
وإن تنجحر مني تنلك المحافر
أتسألني أن أخفض الحرب بعدما
غضبت وشالت بي قرومٌ هوادر
هزبر تَفادى الأسد من وثباته
له مربض عنه يحيد المسافر
إذا ما رأته العين غُيِّر لونها
له واقشعرَّت من عراه الدوائر
ونحن إذا ما الحي شُلَّ سوامهم
وجالت بأطراف الذيول المعاصر
نشنُّ جياد البيض فوق رءوسنا
وكل دِلاص سكُّها متظاهر
وتحمي وراء الحي منا عصابة
كرام إذا احمرَّ العوالي مساعر
ولو كنت حر العرض أو ذا حفيظة
جريت ولكن لم تلدك الحرائر
ولكنما أنت ابن حمراءَ فخَّة
لها ذَنَب فوق العجان وحافر

وقال يهجو أبا سعيد المهلب بن أبي صفرة:

وجدنا الأَزد من بصل وثوم
وأدنى الناس من دنس وعار
صَرارِّيين ينضح في لحاهم
نفيُّ الماء من خشب وقار
كان خصاهمُ إذ صرروها
بخوص النخل من أدرٍ كبار
إذا جدَفوا السفين خصى تيوس
من الجبلي ذي الشعر القصار
وكائن للملهب من نسيب
ترى بلبانه أثر الزيار
نجارك لم يقد فرسًا ولكن
يقود الساج بالمسد المغار
من المتنطقين على لحاهم
دليلي الليل في اللجج الغمار
يُنبئ بالرياح وما أتته
على دَقَل السفينة كالصوار
ولو رُدَّ المهلب حيث ضمَّت
عليه الغاف أرض أبي صفار
إلى أم المهلب حيث أعطت
بثدي اللؤم فاه مع الصغار
تبيَّن أنه نبطي بحر
وأن له اللئيمَ من الديار
بلاد لا يعد بها غلام
له أبوان معزلة الجواري
وكيف ولم يقُدْ فرسًا أبوكم
ولم يحمل بنيه إلى الدواري؟
ولم يعبد يغوث ولم يشاهد
لحمير ما تدين ولا نزار
وما لله تسجد أزد بصرى
ولكن يسجدون لكل نار

وقال يعتذر إلى قومه:

يا قوم إني لم أكن لأسبَّكم
وذو البرء محقوق بأن يتعذَّرا
إذا قال غاوٍ من معدٍّ قصيدة
بها جَرَبٌ كانت عليَّ بزوبرا
تناهوا فإني لو أردت هجاءكم
بدا وهو معروف أغر مشهرا
أينطقها غيري وأُرْمَى بدائها
فهذا كتاب حقُّه أن يُغيَّرا

وقال يرثي بشير بن مروان، وزعم أنه عقر فرسه على قبره:

أعينيَّ إن لا تسعداني أَلُمْكُمَا
وما بعد بشر من عزاء ولا صبر
وقلَّ جداءً عَبْرةٌ تسفحانها
على أنها تشفي الحرارة في الصدر
ولو أن قومًا قاتلوا الموت قبلنا
بشيء لقاتلت المنية عن بشر
ولكن فُجعنا والرزية مثلة
بأبيضَ ميمونٍ النقيبة والأمر
على ملك كاد النجوم لفقده
يقعن وزال الراسيات من الصخر
ألم تر أن الأرض هدَّت جبالها
وأن نجوم الليل بعدك لا تسري
وما أحد ذو فاقة كان مثلنا
إليه ولكن لا بقية للدهر
وإن لا تكن هند بكته فقد بكت
عليه الثريَّا في كواكبها الزهر
أغر أبو العاصي أبوه كأنما
تفرجت الأبواب عن قمر بدر
نمته الروابي من قريش ولم يكن
له ذات قربى في كليب ولا صهر
سيأتي أمير المؤمنين نعِيُّه
وينمي إلى عبد العزيز إلى مصر
بأن أبا مروان بشرًا أخاكما
ثوى غير متبوع بعجز ولا غدر
وقد كان حيات العراق يخفنه
وحيات ما بين اليمامة والفهر
وكانت يدا بشر يدًا تمطر الندى
وأخرى تقيم الديم قسرًا على قسر
أقول لمحبوك السراة كأنه
من الخيل مجنوب الإطافة والخصر
أغرَّ صريحيٍّ أبوه وأمه
طويل أمرَّته الجياد على شزر
أتصهل عندي بعد بشر ولم تذق
ذكورة قطاع الضريبة ذي أثر
غضبت ولم أملك لبشر بصارم
على فرس عند الجنازة والقبر
حلفتُ له لا يتبع الخيل بعدها
صحيح الشوى حتى تكوس من العقر
ألستُ شحيحًا إن ركبتُك بعده
ليوم رهان أو غدوتَ معي تجرى
وكنَّا ببشر قد أَمِنَّا عدونا
من الخوف واستغنى الفقير عن الفقر

حرف السين

خرج الفرزدق من الكوفة في نفر يريد يزيد بن المهلب وهو بجرجان، فلمَّا صار بالقرينين عرض له ذئب فقراه بمسلوخة كانت معه؛ فأكلها وولَّى عنه، فقال:

وليلة بتنا بالقرينين ضافنا
على الزاد ممشوق الذراعين أطلس
تلمَّسَنا حتى أتانا ولم يزل
لدنْ فَطَمَتْهُ أمه يتلمَّس
ولو أنه إذ جاءنا كان دانيًا
لألبسته لو أنه كان يلبس
ولكن تنحَّى جنبة بعدما دنا
فكان كقيد الرمح أو هو أنفس
فقاسمته نصفَين بيني وبينه
بقية زادي والركائب نُعَّس
وكان ابن ليلى إذ قَرَى الذئبَ زادَه
على طارق الظلماء لا يتعبَّس

حرف العين

قال يمدح عبد الرحمن بن عبد الله بن شيبة الثقفي وأمه أم الحكم ابنة أبي سفيان:

أهاج لك الشوق القديم خياله
منازل بين المنتضى فالمصانع
عفت بعد أسراب الخليط وقد نرى
بها بقرًا حورًا حسان المدامع
يُرين الصبا أصحابه في خلابة
ويأبَين أن يسقينهم بالشرائع
إذا ما أتاهن الحبيب رشفنه
كرشف الهجان الأُدم ماء الوقائع
يكن أحاديث الفؤاد نهاره
ويطرقن بالأقوال عند المضاجع
إليك ابنَ عبد الله حملت حاجتي
على ضُمر الأحقاب خُوص المدامع
نواعج كلفن الذميل فلم تزل
مقلصة أنضاؤها كالشراجع
ترى الحاديَ العجلان يرقص خلفها
وهنَّ كحفَّان النعام الخواضع
إذا نكبت خرقًا من الأرض قابلت
وقد زال عنها رأس آخر تابع
بدأن به خدل العظام فأدخلت
عليهنَّ أيام العتاق النزائع
جهيض فلاة أعجلته تمامه
هيوع الضحى خطَّارة أم رابع
تظلُّ عتاق الطير تنفي هجينها
جنوحًا على جثمان آخر ناصع
وما ساقها من حاجة أجحفت بها
إليك ولا من قِلَّة في مجاشع
ولكنما اختارت بلادك رغبةً
على ما سواها من ثنايا المطالع
أتيناك زوَّارا ووفدًا وشامة
لخالك خال الصدق مجد ونافع
إلى خير مسئولين يُرْجى نداهما
إذا اختير بالأفواه قبل الأصابع

حرق القاف

قال يمدح حمزة بن الزبير:

أصبحت قد نزلتْ بحمزة حاجتي
إن المنوَّه باسمه الموثوقُ
بأبي عمارة خير من وطئ الحصى
وجرت له في الصالحين عروق
بين الحواريِّ الأغرِّ وهاشم
ثم الخليفة بعدُ والصدِّيق

جاء يومًا عريف ومنكب يداعبانه فقالا: أجب الأمير الجراح؛ فخاف وهرب منهما وترك معهما رداءه بعد أن انشقَّ، فقال في ذلك:

سأَثْأَر إن عرضاكما أوفيا به
ردائي إذ جاذبتما فتمزَّقا
لشر عريف في معدٍّ ومَنكِب
ضرار اسْتها والعنبريِّ بن أحوقا
وإن حرًا دلَّى ضرارًا زَحيرُه
ولم يتحطَّم زَوره غير أرتقا
وما كنت لو فرَّقتماني كلاكما
بأُمَّيْكما عريانتَين لأفرقا
ولكنما فرقتماني بضيغم
إذا ما رأى قرنًا أبنَّ ودقدقا

وقال:

إذا مت فانعَيني بما أنا أهله
فكل جميل قلتِ فهو مُصدَّق

حرف الكاف

قال:

أقول لنفس لا يُجاد بمثلها
ألا ليت شعري ما لها عند مالك
لها عنده أن ترجع اليوم روحها
إليها وتنجو من حذار المهالك
وأنت ابن جبارَي ربيعة حلَّقت
بك الشمس والخضراء ذات الحبائك

حرف اللام

قال يرثي أباه غالبًا وأم غالب ليلى بنت حابس بن مجاشع:

نَعائي ابنَ ليلى للسماح وللندى
وأيدي شَمَال باردات الأنامل
يَعَضُّون أطراف العصيِّ تلفُّهم
من الشام حمراء السرى والأصائل
سروا يركبون الليل حتى تفرَّجت
دجاهُ لهم عن واضح غير خامل
يجاوز ساري الليل مَنْ كان دونه
إليه ولا يمضيه ليل بنازل
وقد خمدت نار الندى بعد غالب
وقصَّر عن معروفه كل فاعل
ألا أيها الركبان إن قِراكمُ
مقيم بشرقي المقر المقابل
به فانزلوا فابكوا عليه فإنكم
ومِقراه كالناعي أباه المزايل
فإنَّا سنبكي غالبًا إن بكيتمُ
لحاجتكم للمعضلات الأساقل
على المطعِم المقرور في ليلة الصَّبا
دفوع عن المولى بنصر ونائل
وما نحن نبكى غالبًا ليس غيرنا
ولكنْ سيبكي غالبًا كل عائل
ليبكِ ابنَ ليلى عاطش سار شقَّة
وحبلان حبلَا مستجيرٍ وسائل
فليت المنايا كنَّ مُوِّتْنَ قبله
وعاش ابن ليلى للندى والأرامل

وقال يمدح سعيد بن العاص ويستجير به من زياد ابن أبيه؛ لأنه كان هجا بني فقيم فطلبه زياد ليقتله؛ فهرب للمدينة المنورة ونزل على واليها سعيد بن العاص، وقال فيه:

وكُومٍ تنعم الأضياف عينًا
وتصبح في مباركها ثقالا
حواسات العشاء خُبَعْثَنات
إذا النكباء راوحت الشَّمالا
كأن فِصالها حبش جعاد
تخال على مباركها جفالا
لأكلف أمه دهماء منها
كأن عليه من جلد جلالا
أرِقت فلم أنَمْ ليلًا طويلًا
أراقب هل أرى النسرَين زالا؟
فأرَّقني نوائب من هموم
عليَّ ولم يكن أمري عيالا
وكان قِرى الهموم إذا اعترتني
زماعًا لا أريد به بدالا
فعادلت المسالك نصف حول
وحولًا بعده حتى أحالا
فقال لي الذي يعنيه شأني
نصيحة قوله شرًّا وقالا
عليك بني أمية فاستجرْهم
وخذ منهم لما تخشى حيالا
فإن بني أمية في قريش
بنوا لبيوتهم عمدًا طوالا
فروَّحت القلوص إلى سعيد
إذا ما الشاة في الأرطاة قالا
تخطي الحرة الرجلاء ليلًا
وتقطع في مخارمها نعالا
حلفتُ بمن أتى كنفَي حراء
ومَنْ وافى تحجته أَلالا
إذا دفعوا سمعتَ لهم عجيجًا
عجيج مُحلِّئٍ نعمًا نهالا
ومن سمك السماء له فقامت
وسخَّر لابن داود الشمالا
ومن نجَّى من الغمرات نوحًا
وأرسى في مواضعها الجبالا
لئن عافيتَني ونظرت حلمي
لأعتنَّنْ إنِ الحدثان آلا
إليك فررتُ منك ومن زياد
ولم أجعل دمي لكما حلالا
ولكني هجوتُ وقد هجتني
معاشر قد رضختُ لهم سجالا
فإن يكن الهجاء أحلَّ قتلي
فقد قلنا لشاعرهم وقالا
وإن تَكُ في الهجاء تريد قتلي
فلم تدرك لمنتصر مقالا
ترى الشم الجحاجح من قريش
إذا ما الأمر في الحدثان عالا
قيامًا ينظرون إلى سعيد
كأنهمُ يرون به هلالا
ضروب للقوانس غير هدٍّ
إذا خطرت مسوَّمة رعالا
بني عم الرسول ورهط عمرو
وعثمان الذين علَوْا فِعالا

وقال يهجو بني كعب بن ربيعة:

فإن تفخر بنا فلرُبَّ قوم
رفعنا جدهم بعد السفال
دنوا من فيئنا أو كان فينا
لهم ضخم الدسيعة في الجبال
وما في الناس من أحد يساوي
زرارة أن ينال بني عقال
فأيكمُ بني كعب إذا ما
مددنا الحبل يصبر للنصال
أجعديٌّ أسكُّ من المخازي
أم العجلان رائدة الرئال
أم البرص الفقاح بني عقيل
وليسوا بالنساء ولا الرجال
ولكن هم مفركة خناثي
يبلنَّ الرحيبات المبال
فضحن نساء صعصعة بن سعد
بأحراح كأحراح البغال
سبقن ختانهنَّ جويريات
بتنزاء على كمر الرجال
مسامحة ببطن الغيل منهم
قبور غير طيبة الخصال
ألا يا خير أخت بني قشير
ألست ركية الكمر الثقال
ألم ترني قشرت بني قشير
كقشر عصا المنقِّح من معال
وما شيء بأضيع من قشير
ولا ضان تريع إلى خيال

وقال يهجو الجندل بن الراعي:

أجندل لولا خُلَّتان أناختا
إليك لقد لامتك أمك جندل
حمامة قلب لا يقيمك عقله
وإن نميرًا ودُّها لا يبدَّل
ولولا نمير أنني لا أسبُّها
وودُّ نمير ما مشت لا يُحوَّل
لكلَّفتك الشأو الذي لست نائلًا
وحتى ترى أي الذَّنُوبين أثقل؟
أخندف أمْ قيس إذا ما التقى بهم
إلى موقف الهدي المطيُّ المُنعَّل

وقال:

كم للملاءة من أطلال منزلة
بالعنبرية مثل المهرق البالي
وقفتُ فيها فعيَّت ما تكلمني
وما سؤالك رسمًا بعد أحوال
غزالة الشمس لا يصحو الفؤاد بها
حتى تروَّحتُ لأْيًا بعد إيصال
كأنما طرفت عينيَّ داخلة
في الدار من سَرِبٍ غالٍ ومسبال
كعبيةٌ من بني كعب تناولني
منها الذي قال من أسماء أمثالي
أو كابن عجلان إذ كانت له تلفا
هند الهنود بمقدار وآجال
ترمي القلوب ولا يصطادها أحد
بسهم قانصة للقوم قَتَّال
غرثى الوشاح ولكن النطاق بها
يلاث حول رمال ذات أكفال
ما أم خشف بروضات الذهاب لها
مرعًى فرود من الآلاف مطفال
أدماء ينفض روقاها إذا ادَّلجت
عنها الأراك وأغصانًا من الضال
ولا مكللة راح السماك لها
في ناحرات سرار قبل إهلال
تجلو بقادمتي لمياء عن برد
حو اللثات وجيد غير معطال
لا توقد النار إلا أن تُثقِّبها
بالعود في مفضل الخزية الغالي
وما أرى وركوب الخيل يعجبني
كمركب بين دملوج وخلخال
ألذ للفارس المجرى إذا انتهرت
أنفاس أمثالها تجري بأمثالي
من الملاءة أو من مثلها أنفًا
قفرًا من الناس كانت غير محلال

وقال مخاطبًا جريرًا:

أبي الشيخ ذو البول الكثير مجاشع
نماني وعبد الله عمي ونهشل
ثلاثة أسلاف فجئني بمثلهم
فكلٌّ له يا ابن المراغة أول
بني الخطَفَى لا تحملُنِّي عليكمُ
فما أحد مني على القرن أثقل
تركتُ لكم ليَّان كل قصيدة
شرودٍ إذا عارت بمن يتمثل
إذا خرجت منى ترى كل شاعر
يدبُّ ويستخذي لها حين ترسل
أذود وأحمي عن ذمار مجاشع
كما ذاد عن حوضَي أبيه المخبَّل

وقال يهجو زهدما الفقيمي صاحب شرطة زياد بن أبيه:

أُنبِئتُ أن العبد أمس بن زهدم
يطوف ويبغيني له كل تنبال
فإن بُغائي إن أردت بُغايتي
عراض الصحارى لا اختباء بأدغال
أتيتَ ابنة المرَّار تهتك سترها
ولا يبتغي تحت الحويات أمثالي
فإنك لو لاقيتني يا ابن زهدم
رجعت شفاعيًّا على شر تمثال

وقال:

إذا كنت جار النهشلي فلا يزل
لبيتك دون النهشلي كفيل
يُقصِّر باع النهشلي عن العُلَى
ولكن قتب النهشلي طويل

وقال يمدح أسد بن عبد الله القسري:

لفلج وصحراواه لو سرت فيهما
أحبُّ إلينا من دجيل وأفضل
وراحلة قد عوَّدوني ركوبها
وما كنت رَكَّابًا لها حين ترحل
قوائمها أيدي الرجال إذا انتحت
وتحمل مَنْ فيها قعودًا وتحمل
إذا ما تلقَّتها الأواذيُّ شقَّها
لها جؤجؤ لا يستريح وكلكل
إذا رفعوا فيها الشراع كأنها
قلوص نعام أو ظليمٌ شمردل
تريد ابن عبد الله إياه يممت
يقول إذا قال الصواب ويفصل
إذا مائة زادوا عليها رهانهم
يجيء إلى غاياتها وهو أول
لعمري لَإحياءُ النفوس التي دنت
إلى الموت من إعطاء نابَيْنِ أفضل
تداركني من هوَّة قد تقاذفت
برجليَّ ما في جولها مترجَّل
ألا كل شيء في يد الله بالغ
له أجل عن يومه لا يُحوَّل
وإن الذي يغترُّ بالله ضائع
ولكن سينجي الله مَنْ يتوكل
تُبيِّن ما يخفى على الناس غيبه
ليالٍ وأيام على الناس دُوَّل
يُبِين لك الشيءَ الذي أنت جاهل
بذلك علَّامٌ به حين تسأل
ألا كل نفس سوف يأتي وراءها
إلى يوم يلقاها الكتاب المؤجل

حرف الميم

قال:

من كل أبلج كالدينار غُرَّته
من آل حنظلة البيض المطاعيم
يا ليت شعري على قيل الوشاة لنا
أصرَّمت حبلنا أم غير مصروم
أم تنشحنَّ على الحرب التي جَرَمت
مني فؤاد امرئ حرَّانَ مهيوم
أهلي فداؤك من جار على عرض
مُودَّع لفراق الغير ملموم
يوم العناقة إذ تبدي نصيحتها
سرًّا بمضطمر الحاجات مكتوم
تقول والعيس قد كانت سوالفها
دون الموارك قد عجَّت بتقويم
ألا نرى القوم مما في صدورهمُ
كأن أوجههم تُطْلَى بتنُّوم
إذا رأوك أطال الله عَبرتهم
عضُّوا من الغيظ أطراف الأباهيم
إني بها وبرأس العين محضرها
وأنت ناءٍ بجنبي رعن مقروم
لا كيف إلا على غلباءَ دوسرة
تأوي إلى عيدة للرحل ملموم
صهباء قد أخلفت عامين بازلها
تلُطُّ عن جاذب الأخلاف معقوم
إحدى اللواتي إذا الحادي تناولها
مدَّت لها شطن القود العياهيم
حتى يرى وهو محزوم كأن به
حمى المدينة أو داء من الموم
صيداء سامية حرف كمشترف
إلى الشخاص من التضغان محجوم
أو أخدري فلاة ظل مرتبئًا
على صريمة أمر غير مقسوم
جون يؤجل عانات ويجمعها
حول الجدادة أمثال الأناعيم
رعى بها أشهرًا يفرو الخلاء بها
معانقًا للهوادي غير مظلوم
شهرَي ربيع يلسُّ الروض مونقة
إلى جمادى بزهر النَّور معموم
بالدَّحل كل ظلام لا تزال له
حشرجةٌ أو سحيل بعد تدويم
حتى إذا نفض البهمي وكان له
من ناصل من سفاها كالمخاذيم
تذكَّر الورد وانضمَّت ثميلته
في بارح من نهار النجم مسموم
أرنَّ وانتظرتْه أين يعدلها
مكدَّحًا بجبين غير مهشوم
غاشي المخارم ما ينفك مغتصبا
زوجات آخر في كره وترغيم
وظل يعدل أي الموردين لها
أدنى بمنخرق القيعان مسئوم
أضارجًا أم مياه السيف يقربها
كضارب بقداح القسم مأموم
حتى إذا جنَّ داجي الليل هيَّجها
ثبت الجنان وثوب للجراثيم
ويلُمِّها مُقرِبًا لولا شكاسته
ينفي الجحاش ويزري بالمقاميم
حتى تلاقي بها في مسي ثالثة
عينًا لدى مشربٍ منهنَّ معلوم
خاف عليها بحيرا قد أعدَّ لها
في غامض من تراب الأرض مدموم
نابي الفراش طري اللحم مطعمه
كأن ألواحه ألواح محصوم
عاري الأشاجع مشعور أخو قنص
فما ينام بحير غير تهويم
حتى إذا أيقنت أن لا أنيس بها
إلا نئيم كأصوات التراجيم
توردت وهي مزورٌّ فرائصها
إلى الشرائع بالقود المقاديم
واستروَحتْ ترهب الأبصار أن لها
على القصيبة منه ليل مشؤم
حتى إذا غمر الحومات أكرعها
وعانقت مستنيمات العلاجيم
وساروته بألحيها ومال بها
برد يخالط أجواف الحلاقيم
تكاد آذنها في الماء تقصفها
بيض الملاغيم أمثال الخواتيم
وقد تحرف حتى قال قد فعلت
واستوضحت صفحات القرَّح الهيم
ثم انتحى بشديد العير يحفزه
جد امرئ في الهوادي غير محروم
فمرَّ من تحت ألحيها وكان لها
واقٍ إلى قدر لا بد محموم
فأنفرت في سواد الليل يعصبها
بوابل من عمود الشدِّ مشهوم
فآب رامي بني الحرماز ملتهفًا
يمشي بفوقَين من عريان محطوم
فظلَّ من أسف أن كان أخطأها
في بيت جوع قصير السَّمْك مهدوم
محكانُ شر فحول الناس كلهمُ
وشر والدة أم الفزاذيم
ما كنتَ أول عبد سبَّ سادته
مولَّع بين تجديع وتصليم
تُبنى بيوت بني سعد وبيتكمُ
على ذليل من المخزاة مهدوم
فاهجر ديار بني سعد فإنهمُ
قوم على هَوَج فيهم وتهشيم
من كل أقعس كالراقود حجزته
مملوءة من عتيق التمر والثوم
فحلان لم يُلقَ شرٌّ منهما ولدا
ممن ترى مرَّ بين الهند والروم
يا مرُّ يا ابن سحيم كيف يشتمني
عبد لعبد لئيم الخال مكروم
إذا تعشى عتيق التمر قام له
تحت الخميل عصار ذو أضاميم

وقال يمدح بني شيبان وعبد الله بن الأعلى بن أبي عمرة الشيباني الشاعر:

ألِمَّا على أطلال سعدى نسلِّم
دوارس لما استُنطقت لم تكلم
وقوفًا بها صحبي عليَّ وإنما
عرفت رسوم الدار بعد التوهُّم
يقولان لا تهلك أسًى ولقد بدت
لهم عبرات المستهام المتيَّم
فقلت لهم لا تعذلوني فإنها
منازل كانت من نوار بمعلم
أتاني من الأنباء بعد الذي مضى
لشيبان من عاديِّ مجد مقدم
غداة قروا كسرى وحد جنوده
ببطحاء ذي قارٍ قرًى لم يعتم
أباحوا حمًى قد كان قدمًا محرَّمًا
فأضحى على شيبان غير محرَّم
من ابنَي نزار واليمانين بعدهم
أيادي سبا والعقل للمتفهِّم
فخُصَّت به شيبان من دون قومها
على راضيات من أنوف ورغَّم
فصارت لذهل دون شيبان أنهم
ذوو العز عند المنتمى والتكرم
فآلت لهمام ففازوا بصفوها
ومن يُعطِ أثمان المكارم يعظم
فأبلغ أبا عبد المليك رسالة
يمين وفاء لم تُنطَّف بمأثم
ستأتيك مني كل عام قصيدة
مُحبَّرة نوفيكها كل موسم
فهذي ثلاث قد أتتك وبعدها
قصائد إن لم أُودَ لا تتصرَّم
جزاء بما أوليتني إذ حبوتني
بجابية الجولان ذات المجرم
وإن أكُ قد عاتبت بكرًا فإنني
رهين لبكر بالرضى والتكرم

قيل: لما هرب الفرزدق من زياد بن أبيه نزل بالروحاء على بكر بن وائل، ثم انتقل عنهم إلى المدينة، فقال:

تصرَّم عني ودُّ بكر بن وائل
وما كاد عني ودهم يتصرَّم
قوارص تأتيني ويحتقرونها
وقد يملأ القطر الآتيَّ فيفعم

وقال أيضًا يعاتبهم:

وما عن قِلًى عاتبتُ بكر بن وائل
ولا عن تجنِّي الصارم المتجرم
ولكنني أولى بهم من حليفهم
لدى مغرم إن ناب أو عند مغنم
وهيَّجني ضنِّي ببكر على الذي
نطقتُ وما غيبي لبكر بمتْهَم
وقد علموا أني أنا الشاعر الذي
يراعي لبكر كلها كل محرم
وإني لِمَن عادَوا عدوٌّ وإنني
لهم شاكر ما حالفت ريقتي فمي
همُ منعوني إذ زياد يكيدني
بجاحم جمر ذي لظًى متضرم
وهم بذلوا دوني التلاد وغرَّروا
بأنفسهم إذ كان فيهم مرغَّمي
فقالوا استغث بالقبر أو أسمع ابنه
دعاءك يرجع ريق فيك إلى الفم
فأقسم لا يختار حيًّا بهالك
ولو كان في لحدٍ من الأرض مظلم
دعا بين آرام المقر بن غالب
وعاذ بقبر تحته خير أَعظُم
فقلت له أقريك عن قبر غالب
هنيدة إذ كانت شفاء من الدم
ينام الطريد بعدها نومة الضحى
ويرضى بها ذو الإحنة المتجرم
فقام عن القبر الذي كان عائذًا
به إذ أطافت عيطها حول مسلم
ولو كان زيان العليميُّ جارها
وآل أبي العاصي غدت لم تُقسَّم
وفيم ابن بحر من قلاص أشدها
بسيفين أغشى رأسه لم يعمم
ولم أرَ مدعوين أسرع جابة
وأكفى لداعٍ من عبيد وأسلم
أهيبا بها يا ابنَي جبير فإنها
جلت عنكما أعناقها لون عظلم
دفعتُ إلى أيديهما فتقبلا
عصا مائة مثل الفسيل المكمم
فراحًا بجرجور كأن أفالها
فسيل دنا قنوانه من محلَّم
ألا يا اخبروني أيها الناس إنما
سألت ومن يسأل عن العلم يعلم
سؤال امرئ لم يُغفِل العلمَ صدرُه
وما العالم الواعي الأحاديث كالعمي
ألا هل علمتم ميتًا قبل غالب
قرى مائة ضيفًا ولم يتكلم
أبي صاحب القبر الذي يستعذ به
يُجره من الغرم الذي جرَّ والدم
وقد علم الساعي إلى قبر غالب
من السيف يسعى أنه غير مسلم
وإذ نحبت كلب على الناس أيهم
أحق بتاج الماجد المتكرِّم
على نفر هم من نزار ذؤابة
وأهل الجراثيم التي لم تهدَّم
على أيهم أعطى ولم يدرِ من همُ
أحل لهم تعقيل ألف مصتَّم
فلم يجلُ عن أحسابهم غير غالب
جرى بعنانَي كل أبلج خضرم
ولو قبلت سيدان منى خليقتي
شفيت بها ما يدَّعي آل ضمضم
لأعطيت ما أرضى هبيرة قائمًا
من المعلن البادي لنا والمجمجم
وكنت كمسئول بأحداث قومه
ليصلحها من ليس فيها بمحرم
ولكن إذا ما الناصحون عصاهمُ
وليٌّ فما للنصح من متقدَّم

عدا أبو الليل الضبي وصاحب له على مالك بن المنتفق الضبي، فأرادوا أخذ دراهم كانت معه، فامتنع منهما، فلكزه أحدهما فقتله، فهربا؛ فأُخذ أحدهما فقُتِلَ، وأخذ الآخر بعد الحرم وقُتِلَ، فقال الفرزدق في ذلك:

لا أسعد الله اليمين التي سقت
أبا الليل تحت الليل سجْلًا من الدم
جلَت حممًا عنها صُباحٌ فأصبحت
لها النصف من أحدوثتي كل موسم
هم القوم إلا حيث سلُّوا سيوفهم
وضحَّوا بلحم من محلٍّ محرم
همُ فرقوا قبريهما بعد مالك
ومن يحتمل داء العشيرة يندم
غدت من هلال ذات بعل سمينة
فآبت بثديٍ باهل الزوج أيِّم

وقال:

لو أن حدراء تجزيني كما زعمت
أن سوف تفعل من بذل وإكرام
لكنت أطوع من ذي حلقة جعلت
في الأنف ذل بتقواد وترسام
عقيلة من بني شيبان يرفعها
دعائمٌ للعُلى من آل همام
من آل مرة بين المستضاء بهم
من رهط صيدٍ مصاليتٍ وحكام
بين الأحاوص من كلب مركَّبها
وبين قيس بن مسعود وبسطام

وقال يمدح قيس بن الهيثم:

إني كتبت إليك ألتمس الغنى
بيديك أو بيدي أبيك الهيثم
أيدٍ سبقن إلى المنادي بالقِرى
والبأس في سبل العجاج الأقتم
الشاعبات إذا الأمور تفاقمت
والمطعِمات إذا يد لم تطعم
والمصلحات بما لهنَّ ذوي الفتى
والخاضبات قنا الأسنة بالدم
إني حلفتُ برافعين أكفَّهم
بين الحطيم وبين حوضي زمزم
فلتأتينَّك مدحةٌ مشهورة
غراء يعرفها رفاق الموسم

وقال:

تبكِّي على المقتول بكر بن وائل
وتنهى عن ابنَي مسمع مَن بكاهما
قتيلَين تجتاز الرياح عليهما
مجاوز نهرَي واسط جسداهما
ولو أصبحا من غير بكر بن وائل
لكان على الجاني ثقيلًا دماهما
غلامان نالا مثل ما نال مسمع
وما صلبت عند النبات لحاهما
ولو كان حيًّا مالك وابن مالك
لقد أوقدا نارَين عالٍ سناهما
ولو غير أيدي الأزد نالت ذراهما
ولكن بأيدي الأزد حزَّت طلاهما

وقال:

إذا ذخرت قيس وخندف والْتقى
صميماهما إذ طاح كل صميم
وكيف يسير الناس قيس وراءهم
وقد سدَّ ما قدَّامهم بتميم
ولا والذي تلقى خزيمة منهمُ
بني أم بذاخين غير عقيم
فما أحد من غيرهم بسبيلهم
وما الناس إلا منهمُ بمقيم
إذا مضر الحمراء حولي تعطَّفت
عليَّ وقد دق اللجام شكيمي
أبوا أن أسوم الناس إلا ظلامة
وكنت ابن مرغام العدو ظلوم

وقال يرثي ابنين له:

بفي الشامتين الصخرُ إن كان مسَّني
رزية شبلَي مُخدِر في الضراغم
هزبرٌ إذا أشباله سرْن حوله
تشظَّت سباع الأرض من ذي النحائم
أرى كل حي لا يزال طليعة
عليه المنايا من فروج المخارم
وما أحد كان المنايا وراءه
ولو عاش أيامًا طوالًا بسالم
فلست ولو شقَّت حيازيمَ نفسها
من الوجد بعد ابنَي نوارِ بلائم
على حزن بعد اللَّذَين تتابعا
لها والمنايا قاطعات التمائم
يُذكِّرني ابنيَّ السِّماكان موهنًا
إذا ارتفعا بين النجوم التوائم
فقد رُزئ الأقوام قبلي بنيهمُ
وإخوانهم فاقني حياء الكرائم
ومن قبلُ مات الأقرعان وحاجب
وعمرو ومات المرء قيس بن عاصم
ومات أبي والمنذران كلاهما
وعمرو بن كلثوم شهاب الأراقم
وقد مات خيراهم فلم يهلكاهمُ
عشية بانا رهط كعب وحاتم
وقد مات بسطام بن قيس وعامر
ومات أبو غسان شيخ اللهازم
فما ابناكِ إلا ابنٌ من الناس فاصبري
فلن يُرجع الموتى حنينُ المآتم

وقال يذكر هدم الوليد بن عبد الملك بيعة دمشق وجعلها مسجدًا:

إني لينفعني بأسي فيصرفني
إذا أتى دون شيء مرَّة الوذم
والشيب شرُّ جديدٍ أنت لابسه
ولن ترى خلقًا شرًّا من الهرم
ما من أب حملته الأرض نعلمه
خيرٌ بنين ولا خير من الحكم
الحكم بن أبي العاصي الذين همُ
غيث البلاد ونور الناس في الظُّلَم
منهم خلائف يُستسقى الغمام بهم
والمقحمون على الأبطال في القتم
رأت قريش أبا العاصي أحقَّهمُ
باثنين بالخاتم الميمون والقلم
تخيَّروا قبل هذا الناس إذ خلقوا
من الخلائق أخلاقًا من الكرم
ملء الجفان من الشيزى مكلَّلة
والضرب عند احمرار الموت للبهم
ما مات بعد ابن عفان الذي قتلوا
وبعد مروان للإسلام والحرم
مثل ابن مروان والآجال لاقية
بحتفها كل مَنْ يمشي على قدم
إن ترجعوا قد فرغتم من جنازته
لما حملتم على الأعواد من أمم
خليفة كان يُستسقى الغمام به
خير الذين بقوا في غابر الأمم
قالوا ادفنوه فكاد الطود يرجفه
إذ حركوا نعشه الراسي من العلم
أما الوليد فإن الله أورثه
بعلمه فيه ملكًا ثابت الدعم
خلافة لم تكن غصبًا مشورتها
أرسى قواعدها الرحمن ذو النعم
كانت لعثمان لم يظلم خلافتها
فانتهك الناس منه أعظم الحرم
دمًا حرامًا وأَيمانًا مُغلَّظة
أيام يوضع قمل القوم باللمم
فرَّقت بين النصارى في كنائسهم
والعابدين مع الأسحار والعتم
وهم معًا فى مصلاهم وأوجههم
شتى إذا سجدوا لله والصنم
وكيف يجتمع الناقوس يضربه
أهل الصليب مع القراء لم تنم
فهمت تحويلها عنهم كما فهما
إذ يحكمان لهم في الحرث والغنم
داود والملك المهدي إذ حكما
أولادها واجتزاز الصوف بالجلم
فهمك الله تحويلًا لبيعتهم
عن مسجد فيه يُتلى طيب الكلم
عست فروغ دلائي أن يصادفها
بعض الفوائض من أنهارك العظم
أما من النيل إذ وارى جزائره
وطمَّ فوق منار الماء والأكم
أو من فرات أبي العاصي إذا التطمت
أثباجه بمكان واسع الثلم
تظل أركان عانات تقاتله
عن سورها وهو مثل الفالج القطم
يخشون من شرفات السور سورته
وهم على مثل فحل الطود من خيم
القاتل القرن والأبطال كالحة
والجوع بالشحم يوم القطقط الشبم

ودخل الفرزدق يومًا المربد فلقي رجلًا يُقال له حمام من موالي باهلة ومعه نحي من سمن يبيعه فسامه إياه، فقال له: أدفعه إليك وتهب لي أعراض قومي؟ فقال يهب له أعراض قومه ويهجو إبليس:

إذا شئت هاجتني ديار محيلة
ومربط أفلاء أمام خيام
بحيث تلاقي الحمض والدو هاجتا
لعينيَّ أغرابًا ذوات سجام
فلم يبقَ منها غير أثلم خاشع
وغير ثلاث للرماد رئام
ألم ترني عاهدتُ ربي فإنني
لبين رتاج قائم ومقام
على قسم لا أشتم الدهر مسلمًا
ولا خارجًا من فيِّ سوء كلام
ألم ترني والشعر أصبح بيننا
دروء من الإسلام ذات حرام
بهنَّ شفى الرحمن صدري وقد جلا
عشا بصري منهن ضوء ظلام
فأصبحتُ أسعى في فكاك قلادة
رهينة أوزار عليَّ عظام
أحاذر أن أُدعى وحوضي محلِّق
إذا كان يوم الورد يوم خصام
ولم أنتبه حتى أحاطت خطيئتي
ورائي ودقَّت للهوان عظامي
ألا بشِّرا مَنْ كان لا يملك استه
ومَن قومه بالليل غير نيام
يخافون مني أن يصك أنوفهم
وأقفاءهم إحدى بنات صمام
لعمري لنعم النِّحى كان لقومه
عشية عب البيع نحي حمام
بتوبة عبد قد أناب فؤاده
وما كان يعطي الناس غير ظلام
أطعتك يا إبليس سبعين حجة
فلما انتهى شيبي وتمَّ تمامي
فررتُ إلى ربي وأيقنتُ أنني
ملاقٍ لأيام المنون حمامي
ولما دنا رأس التي كنت خائفًا
وكنت أرى فيها لقاء لزام
حلفت على نفسي لأجتهدنَّها
على حالها من صحة وسقام
ألا طالما قد بتُّ يوضِع ناقتي
أبو الجن إبليس بغير خطام
يظلُّ يمنِّيني على الرَّحل واركًا
يكون ورائي مرة وأمامي
يبشرني أن لن أموت وأنه
سيُخلِدني في جنة وسلام
فقلتُ له: هلا أُخيَّك أخرجت
يمينك من خضر البحور طوامي
رميت به في اليمِّ لما رأيته
كفرقة طودَي يذبل وشمام
فلما تلاقى فوقه الموج طاميًا
نكصتَ ولم تحتل له بمرام
ألم تأتِ أهل الحجر والحجر أهله
بأنعم عيش في بيوت رخام
فقلتَ اعقروا هذي اللَّقوح فإنها
لكم أو تنيخوها لقوح غرام
فلما أناخوها تبرَّأتَ منهم
وكنتَ نكوصًا عند كل ذمام
وآدم قد أخرجتَه وهو ساكن
وزوجته من خير دار مقام
وأقسمتَ يا إبليس أنك ناصح
له ولها أقسام غير أثام
فظلا يخيطان الوراق عليهما
بأيديهما من أكل شرِّ طعام
وكم من قرون قد أطاعوك أصبحوا
أحاديث كانوا في ظلال غمام
وما أنت يا إبليس بالمرء أبتغي
رضاه ولا يقتادني بزمام
سأجزيك من سوءات ما كنت سقتَني
إليه جروحًا فيك ذات كلام
تعيرها في النار والنار تلتقي
عليك بزقوم لها وضرام
وإن ابن إبليس وإبليس ألبنا
لهم بعذاب الناس كل غلام
هما تفلا في فيَّ من فمويهما
على النابح العاوي أشدَّ رجام

وقال:

رأتني معدٌّ مصحرًا فتناذرت
بديهة مخشيِّ الجزيرة عارم
وما جرَّب الأقوام مني أناثة
لدنْ عجموني بالضروس العواجم
يرى العجمُ أقوامًا فرقَّت عظامهم
وأبدى صقالي وقعُ أبيض صارم
أتاني وعيد من زياد فلم أنمْ
وسيل اللوى دوني وهضب التهائم
فبتُّ كأني مشعر خيبرية
سَرَت في عظامي أو دماء الأراقم
زياد بن حرب لو أظنك تاركي
وذا الضغن قد جشَّمْته غير ظالم
لقد كافحت مني العراق قصيدة
رجوم مع الماضي رءوس المخارم
خفيفة أفواه الرواة ثقيلة
على قرنها نزَّالة بالمواسم
رأيتك مَن تغضب عليه من امرئ
ولو كان ذا رهط يبتْ غير نائم
أغرُّ إذا اغبرَّ اللئام تخايلتْ
يداه بسيل المفعَم المتراكم
نمتك العرانينُ الطوال ولا أرى
لسعيك إلا حامدًا غير لائم
ألم يأته أنِّي تجلل ناقتي
بنعمان أطراف الأراك النواعم
مقيَّدة ترعى البرير ورحلها
بمكة ملقًى عائذٌ بالمحارم
فإن لا تَداركني من الله نعمة
ومن آل حرب ألقَ طير الأشائم
فدعني أكن ما كنت حيًّا حمامة
من القاطنات البيت غير الروائم

وقال يمدح عبد الله بن عبد الأعلى الشيباني:

إني وإن كانت تميم عمارتي
وكنت إلى القدموس منها القماقم
لمُثْنٍ على أفناء بكر بن وائل
ثناء يوافي ركْبهم بالمواسم
همُ يوم ذي قار أناخوا فصادموا
برأس به تُرمى صفاة المصادم
أناخوا لكسرى حين جاءت جنوده
وبهراء إذ جاءت وجمع الأراقم
إذا فرغوا من جانب مال جانب
عليهم فذادوهم زياد الحوائم
بمأثورةٍ شهبٍ إذا هي صادفت
ذُرى البيض أبدت عن فراخ الجماجم
فما برحوا حتى تهادت نساؤهم
ببطحاء ذي قار عياب اللطائم
كفى بهمُ قوم امرئ ينصرونه
إذا عصبت أيديهم بالقوائم
أناس إذا ما الكلب أنكر أهله
أناخوا فعاذوا بالسيوف الصوارم

وقال يهجو باهلة:

أباهل لو أن الأنام تنافروا
على أيهم شر قديمًا وأَلأَم
لَفَاز لكم سهما لئيم عليهمُ
ولو كانت العجلان فيهم وجرهم
فأيكما يا ابنَي دخان إذا دعا
إلى اللؤم داعٍ منكما يتقدَّم
فما منكما إلا ووفَّى رهانه
بألأمَ مَنْ يمشي ومَنْ يتكلم

وقال:

ألا كيف البقاء لباهلي
هوى بين الفرزدق والجحيم
ألستَ أصمَّ أبكم باهليًّا
مسيل قرارة الحسب اللئيم
ألست إذا نُسبت لباهلي
لألأم مَن ُركَّض في المشيم
وهل يُنجي ابن نخبة حين يعوي
تناول ذي السلاح من النجوم
ألم نترك هوازن حيث هبَّت
عليهم ريحنا مثل الهشيم
عشية لا قتيبة من نزار
إلى عدد ولا نسب كريم
عشية زيَّلت عنه المنايا
دماء الملزقين من الصميم
فمن يكُ تاركًا ما كان شيئًا
فإني لا أُضيع بني تميم
أنا الحامي المضمَّن كل أمر
جَنَوه من الحديث مع القديم
فإني قد ضمنت على المنايا
نوائب كل ذي حدثٍ عظيم
وقد علمت معدُّ الفضل أنَّا
ذوو الحسب المكمَّل والحلوم
وإن رماحنا تأبى وتحمي
على ما بين عالية وروم
حلفت بشُحَّب الأجسام شُعث
قيام بين زمزم والحطيم
لقد ركبت هوازن من هجائي
على حدباء يابسة العقوم
نُصِرْنَا يوم لاقونا عليهم
بريح في مساكنهم عقيم
لقد ولد اللئام بني دخان
صحيحات البظور من الكلوم
وهل يسطيع أبكمُ باهليٌّ
زحام الهاديات من القروم
فلا يأتِ المساجدَ باهلي
وكيف صلاة مرجوسٍ رجيم
وهل يأتي الصلاة إذا أقيمت
هرابذة … ذوو فدوم

وقال لحامية بن نصر ولزر ولمازن بن سمرة:

ألا أبلغ لديك بني فقيم
ثلاثة آنف منهم دوام
فمنهم مازن والعبد زر
وحامية بن ناحتة البرام

بينما الفرزدق يمشي في مقبرة بني حصين إذ تلقَّاه مكار يكري الحمر في المقبرة يُقال له «باب» فقال له: يا هلمَّ، فجاءه فأنشده هذا البيت المفرد:

كم من حرٍ يا باب ضخم حملتَه
على الرَّحل فوق الأخدري المكدَّم

فقال له باب: إي والله بأبي كثيرًا ما حملت النوار، فقال له ابنه لبطة: ها، ما جنيت علينا يا أبه.

وقال يمدح بني عجل:

تعجل بالمغبوط عجل من القِرى
وتخضب أطراف العوالي من الدم
هما من كرام المأثرات اصطفاهما
على الناس في إشراك دين ومسلم

وقال لأمية بن خالد بن عبد الله:

لو كنتَ صلب العود أو كابن معمر
لخضتَ حياض الموت والليل مظلم
ولكن أبى قلب أُطيرت بناته
وعرقٌ لئيمٌ حالك اللون أدهم

وقال في زياد لما مات:

أبلغ زيادًا إذ لاقيت جيفته
أن الحمامة قد طارت من الحرم
طارت فما زال ينميها قوادمها
حتى استغاثت إلى الصحراء والأجم

وقال في ابنه سلم بن زياد بن أبيه:

دعي مغلق الأبواب دون فعالهم
ولكن تمشي بي — هُبلتِ — إلى السلم
إلى مَنْ يرى المعروف سهلًا سبيله
ويعقل أخلاق الرجال التي تنمي

وقال في عبد الله بن حازم السلمي ثم الحرامي:

لله يربوع ألما تكن لها
صريمة أمر في قتيل ابن خازم
تمشي حرام بالبقيع كأنها
حبالى وفي أثوابها دم سالم

وقال:

إذا كنتَ في دار تخاف بها الرَّدى
فصمِّم كتصميم الغداني سالم
سخا طلبًا للوتر نفسًا بموته
فمات كريمًا عائفًا للملائم
نقي ثياب الذكر من دنس الخنا
يناجي ضميرًا مستدف العزائم
إذ همَّ أفرى ما به همَّ ماضيًا
على الهول طلَّاعًا ثنايا العظائم
ولما رأى السلطان لا ينصفونه
قضى بين أيديهم بأبيضَ صارم
ولم يتأرَّ العاقبات ولم ينم
وليس أخو الوتر الغشوم بنائم

وقال في رجل من بني مخزوم:

ما أنتم في مثل أسرة هاشم
فاذهب إليك ولا بني العوام
قوم لهم شرف البطاح وأنتمُ
وَضَرُ البلاد مواطئ الأقدام

وقال في ابن عبيدة بن عمار بن ياسر وكان من سبايا العرب من عبس وولاؤه لبني مخزوم، وكان مع عمر بن عبد العزيز قبل أن يُستخلف، فاستشفعه الفرزدق في حاجة فأبى؛ فقضاها له عمر:

أمر الأمير بحاجتي وقضائها
وأبو عبيدة عندنا مذموم
مثل الحمار إذا شددتَ بسرجه
والى الضراط وعضه الإبزيم
أبت الموالي أن تكون صميمها
ونفتك عن أحسابها مخزوم

كانت عمرو بن تميم عسكرت أيام يزيد بن المهلب في ناحية المربد، فبعث إليهم يزيد مولًى له يُقال له دارس في قوم من أصحابه، فانهزمت عمرو بن تميم، فقال الفرزدق:

تصدعت الجعراء إذ صاح دارس
ولم يصبروا عند السيوف الصوارم
جزى الله قيسًا عن عدي ملامة
وخص بها الأدنَين أهل الملاوم
همُ خذلوا مولاهمُ وأميرهمْ
ولم يصبروا للموت عند الملاحم

وقال يرثي وكيع بن أبي سود ومحرز بن عمران جد بشر بن جبهان المنقري:

أفي طرفَي عام وكيع ومحرز
وأنَّى لنا مثلاهما لتميم
سماكان كانا يرفعان بناءنا
ومردى حروب جمَّةٍ وخصوم

وقال:

يا أخت ناجية بن سامة إنني
أخشى عليكِ بنيَّ إن طلبوا دمي
لن يقبلوا دِيَة وليسوا أو يروا
مني الوفاء ولن يروه بنوَّم
فالموت أَروَح من حياةٍ هكذا
إن أنت منك بنائل لم تُنعِمي
هل أنت راجعة وأنت صحيحة
لبنيَّ شلو أبيهم المتقسِّم؟
ولقد ضنيتُ من النساء ولا أرى
كضنًي بنفسي منكِ أمَّ الهيثم
كيف السلامة بعدما تيَّمتني
وتركتِ قلبي مثل قلب الأيهم؟
قطَّعتِ نفسي ما تجيء سريحة
وتركتِني دنفًا عُراق الأعظُم
ولقد رميتِ إليَّ رمية قاتل
من مقلتَيكِ وعارضَيكِ بأسهم
فأصبتِ من كبدي حشاشة عاشق
وقتلتِني بسلاح من لم يُكلَم
فإذا حلفتُ هناك أنكِ من دمي
لبريئة فتحلَّلي لا تأثمي
ولئن حلفتُ على يديك لأحلفنْ
بيمين أصدق من يمينك مُقسِم
بالله رب الرافعين أكفهم
بين الحطيم وبين حوضَي زمزم
فلأنت من خلل الحجال قتلتني
إذ نحن بالحدق الذوارف نرتمي
إذ أنت مقبلة بعينَي جؤذر
وبجيد أُمِّ أَغنَّ ليس بتوءم
وبواضح رتل تشف غروبه
عذب وأذلف طيب المتشمَّم
وكأن فارة تاجر هندية
سبقت إليَّ حديث فيك من الفم
ما فرثت كبدي من امرأة لها
عينان من عرب ولا من أعجم
مثل التي عرضت لنفسي حتفها
منها بنظرة حُرَّتين ومعصم
ناجيَّة كرم أبوها تبتني
من غالب قبب البناء الأعظم
فلئن هي احتسبت عليَّ لقد رأت
عيناي صرعة ميت لم يسقم
هل أنتِ بائعتي دمي بغلائه
إن أنتِ زفرة عاشق لم ترحمي
ما كنتِ غير رهينةٍ محبوسة
بدم لأخت بني كنانة مسلم
يا ويح أخت بني كنانة إنها
لبخيلة بشفاء من لم يجرم
فلئن سفكتِ دمًا بغير جريرة
لتخلدِنَّ مع العذاب الآلم
ولئن حملتِ دمي عليك لتحملِن
ثقلًا يكون عليكِ مثل يلملم
والنفس إن وجبت عليك وجدتها
عبأً يكون عليك أثقل مغرم
لو كنت في كبد السماء لحاولت
كفَّاي مُطَّلَعًا إليك بسُلَّم
فلأكتمنَّ لكِ الذي استودعتِني
والسرُّ منتشر إذا لم يكتم
هل تذكرين إذا الركاب مناخة
برحالها لرواح أهل الموسم؟
إذ نحن نسترق الكلام وفوقنا
مثل الضباب من العجاج الأقتم
إذ نحن نخبر بالحواجب بيننا
ما في النفوس ونحن لم نتكلم
ولقد رأيتُكِ في المنام ضجيعتي
ولثمت من شفتيك أطيب ملثم
وغدٌ وبعد غدٍ كلا يومَيْهما
يُبدي لك الخبر الذي لم تعلمي
والخيل تعلم أننا فرسانها
والعاطفون بها وراء المسلم
أسلاب يوم قراقر كانت لنا
تهدى وكل تراث أبيض خضرم
تطأ الكماة بنا وهنَّ عوابس
وطء الحصاد وهنَّ لسن بصوَّم
نعصي إذا كسر الطعان رماحنا
في المعلمَين بكل أبيض مخذم
وإذا الحديد على الحديد لبسنه
أخرجن نائمة الفراخ الجثم

وقال يهجو هشام بن عبد الملك:

لبئس أمير المؤمنين أميركم
وبئس أمير المؤمنين هشام
تنايك عيناه إذا ما لقيته
تبيَّن فيه الشؤم وهو غلام

وقال يهجو بني الأهتم وكان رجل من ولد أبي بكرة ناداه من غرفة عبد الله بن صفوان أخي خالد بن صفوان فقال: يا فرزدق أنا عبد الله بن صفوان، فقال الفرزدق:

هل الهتم إلا أعبد جاحظو الخصى
بنو أمة كانت لقيس بن عاصم
يقارع عنهم بالقداح إذا شتوا
ويقضون من ورق البكار المفاحم
إذا شئت أن تلقى على الباب منهمُ
أسيود حباقًا قصير القوائم
عليكم بأستاه الإماء فإنكم
بنوهنَّ إذ لم تلحقوا بالكرائم
فلا يرج عبد الله راجٍ فإنما
أمانيُّ عبد الله أضغاث حالم
إذا قال لم يفعل وإن قال أبكأت
أنامله مناك أحلام نائم

وقال يمدح بني أبان بن دارم ويشكر لهم حمالتهم للأبيض أحد بني الأبيض بن مجاشع:

تذكَّرت أين الجابرون قناتنا
فقلتُ بني عمي أبان بن دارم
ومَنْ لي برحلي إذ أنخت إليهمُ
بعجم الأوابي واللقاح الروائم
لهم عدد في قومهم شافع الحصى
ودثر من الأنعام غير الأصارم
تجاوزت أقوامًا كثيرًا وإنهم
ليدعونني فاخترتكم للعظائم
وكنتم أناسًا كان يُشْفَى بمالكم
وأحلامكم عند الثأي المتفاقم
وإن مناخي فيكمُ سوف يلتقي
به الركب من نجد وأهل المواسم
وأين مناخي بعدكم إن نبوتمُ
عليَّ وهل تنبو صدور الصوارم؟

قيل للمفضل الضبي: الفرزدق أشعر أم جرير؟ فقال: الفرزدق، فقيل له: ولِمَ؟ قال: لأنه قال بيتًا هجا به قبيلتين ومدح قبيلتين وأحسن في ذلك فقال:

عجبت لعجل إذ تهاجى عبيدها
كما آل يربوع هجوا آل دارم
أولئك أحلاسي فجئني بمثلهم
وأعبد إن أهجوا كليبًا بدارم

لمَّا حجَّ هشام بن عبد الملك في أيام أبيه طاف بالبيت، وجهد أن يصل إلى الحجر الأسود ليستلمه؛ فلم يقدر على ذلك لكثرة الزحام، فنُصِبَ له كرسي وجلس عليه ينظر إلى الناس ومعه جماعة من أعيان أهل الشام، فبينما هو كذلك إذ أقبل زين العابدين علي بن الحسين بن علي — رضي الله عنهم — وكان من أجمل الناس وجهًا وأطيبهم أرجًا، فطاف بالبيت فلما انتهى إلى الحجر تنحَّى له الناس حتى استلم الحجر، فقال رجل من أهل الشام لهشام: مَنْ هذا الذي هابه الناس هذه الهيبة؟ فقال هشام: لا أعرفه؛ مخافة أن يرغب فيه أهل الشام. وكان الفرزدق حاضرًا فقال: أنا أعرفه، فقال الشامي: مَنْ هو يا أبا فراس؟ فقال:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته
والبيت يعرفه والحلُّ والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهمُ
هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنتَ جاهله
بجَدِّه أنبياء الله قد خُتِموا
وليس قولك مَن هذا بضائره
العرب تعرف مَنْ أنكرْتَ والعجم
كلتا يديه غياث عمَّ نفعهما
يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليقة لا تُخشى بوادره
يزينه اثنان حسن الخَلْق والشيم
حمَّال أثقال أقوام إذا اقترحوا
حلو الشمائل يحلو عنده نعم
ما قال لا قط إلا في تشهُّده
لولا التشهُّد كانت لاؤه نعم
عمَّ البرية بالإحسان فانقشعت
عنها الغيابة والإملاق والعدم
إذا رأته قريش قال قائلها
إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يُغضي حياء ويغضَى من مهابته
فما يُكَلَّم إلا حين يبتسم
بكفه خيزران ريحها عبق
من كف أروع في عرنينه شمم
يكاد يمسكه عرفان راحته
ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
الله شرَّفه قدمًا وعظَّمه
جرى بذاك له في لوحه القلم
أي الخلائق ليست في رقابهمُ
لأوَّلية هذا أو له نعم
من يشكر الله يشكر أولية ذا
فالدين من بيت هذا ناله الأمم
ينمي إلى ذروة الدين التي قصرت
عنها الأكف وعن إدراكها القدم
من جدِّه دان فضل الأنبياء له
وفضل أمته دانت له الأمم
مشتقة من رسول الله نبعته
طابت مغارسه والخيم والشيم
ينشقُّ ثوب الدجى عن نور غُرَّته
كالشمس تنجاب عن إشراقها الظُّلَم
من معشر حبهم دين وبغضهمو
كفر وقربهمو منجًى ومعتصم
مُقدَّم بعد ذكر الله ذكرهمو
في كل بدءٍ ومختوم به الكلم
إن عُدَّ أهل التقى كانوا أئمتهم
أو قيل: مَنْ خير أهل الأرض؟ قيل همو
لا يستطيع جواد بعد جودهمُ
ولا يدانيهمو قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمةٌ أَزِمتْ
والأُسْد أُسْد الشرى والبأس محتدم
لا ينقض العسر بسطًا من أكفِّهمُ
سيَّانِ ذلك إن أثروا وإن عدموا
يُستدفَع الشر والبلوى بحبهمُ
ويسترب به الإحسان والنعم

فغضب هشام فحبسه بين مكة والمدينة، فقال:

أتحبسني بين المدينة والتي
إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يقلب رأسًا لم يكن رأس سيد
وعينًا له حولاء بادٍ عيوبها

حرف النون

قال للخيار بن سبرة المجاشعي:

أأسلمتَني للموت أمُّك هابل
وأنت دَلَنظى المنكبين سمين
خميص من الود المقرَّب بيننا
من الشن رابي القصريين بطين
فإن كنت قد سالمت دوني فلا تقم
بدار بها بين الذليل يكون
ولا تأمنن الحرب إن استعارها
كضبة إذ قال الحديث شجون

خرج الفرزدق في نفر من الكوفة يريد يزيد بن المهلب، فلما عرَّسوا من آخر الليل عند القرينين وعلى بعير لهم شاةٌ مسلوخة كان اجتزرها ثم أعجله المسير فسار بها، فجاء الذئب فحرَّكها وهي مربوطة على البعير فذعرت الإبل وجفلت الركاب منه، وثار الفرزدق فأبصر الذئب ينهشها فقطع رِجْل الشاة ورمى بها إليه فأخذها وتنحَّى، ثم عاد فقطع اليد فلما أصبح القوم خبَّرهم الفرزدق بما كان وأنشأ يقول فيه:

وأطلسَ عسال وما كان صاحبًا
دعوت بناري موهنًا فأتاني
فلمَّا دنا قلتُ ادن دونك إنني
وإياك في زادي لمشتركان
فبتُّ أسوِّي الزاد بيني وبينه
على ضوء نار مرة ودخان
فقلت له لما تكشر ضاحكًا
وقائم سيفي من يدي بمكان
تعشَّ فإن واثقتني لا تخونني
نكن مثل مَنْ يا ذئب يصطحبان
وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما
أُخيَّين كانا أُرْضِعا بلبان
ولو غيرنا نبهت تلتمس القِرى
أتاك بسهم أو شباة سنان
وكل رفيقَيْ كلِّ رحلٍ وإن هما
تعاطا القنا يومًا هما أخوان
فهل يُرجعنَّ الله نفسًا تشعَّبت
على أثر الغادين كل مكان
فأصبحت لا أدري أأتبع ظاعنًا
أم الشوق مني للمقيم دعاني؟
وما منهما إلا تولى بشقة
من القلب فالعينان تبتدران
ولو سألت عني نوار وقومها
إذا لم توارِ الناجذَ الشفتان
لعمري لقد رقَّقْتني قبل رقَّتي
وأشعلت فيَّ الشيب قبل زماني
وأمضحت عرضي في الحياة وشنته
وأوقدتَ لي نارًا بكل مكان
فلولا عقابيل الفؤاد الذي به
لقد خرجت ثنتان تزدحمان
ولكن نسيبًا لا يزال يشلني
إليك كأني مغلق برهان
سواء قرين السوء في سرع البلى
على المرء والعصران يختلفان
تميم إذا تمَّت عليك رأيتها
كلَيلٍ وبحر حين يلتقيان
همُ دون من أخشى وإني لدونهم
إذا نبح العاوي يدي ولساني
فلا أنا مختار الحياة عليهم
وهم إن يبيعوني لفضل رهان
متى يقذفوني في فم الشر يكفهم
إذا أسلم الحامي الذمار مكاني
فلا لامرئ بي حين يسند قومه
إليَّ ولا بالأكثرين يدان
وإنا لترعى الوحش آمنة بنا
ويَرهبنا إن نغضب الثقلان
فضلنا بثنتين المعاشر كلهم
بأعظم أحلام لنا وجفان
جبال إذا شدوا الحبى من ورائهم
وجُنَّ إذا طاروا بكل عنان
وخرقٍ كفرج الغول يُخرَس ركبه
مخافة أعداء وهول جِنان
قطعتُ بخرقاء اليدين كأنها
إذا اضطرب النسعان شاة أران
وماءٍ سدًى من آخر الليل أرزمت
لعرفانه من آجنٍ ودفان
ودار حفاظ قد حللنا وغيرها
أحب إلى الترعية الشنآن
نزلنا بها والثغر يخشى انخراقه
بشعث على شعث وكل حصان
نُهينُ بها النيب السِّمان وضيفنا
بها مُكرَمٌ في البيت غير مهان
فعمن نحامي بعد كل مدجج
كريم وغراء الجبين حصان
حرائر أحصنَّ البنين وأحصنت
حجور لها أدَّت لكل هجان
تصعَّدن في فرعَي تميم إلى العلى
كبيض أداحٍ عانق وعوان
ومنا الذي سلَّ السيوف وشامها
عشية باب القصر من فرغان
عشية لم تمنع بنيها قبيلة
بعزٍّ عراقيٍّ ولا بيمان
عشية ما ودَّ ابن غراء أنه
له من سوانا إذ دعا أبوان
عشية ودَّ الناس أنهمُ لنا
عبيد إذا الجمعان يضطربان
عشية لم تستر هوازن عامر
ولا غطفان عورة ابن دخان
رأوا جبلًا دق الجبال إذا التقت
رءوس كبيرَيْهن ينتطحان
رجالًا على الإسلام إذ جاء جالدوا
ذوي النكث حتى أودحوا بهوان
وحتى سعى في سور كل مدينة
منادٍ ينادى فوقها بأذان
سيجزي وكيعًا بالجماعة إذ دعا
إليها بسيفٍ صارم وسنان
خبير بأعمال الرجال كما جزى
ببدر وباليرموك فيء حنان
لعمري لنعم القوم قومي إذا دعا
أخوهم على جلٍّ من الحدثان
إذا رفدوا لم يبلغ الناس رفدهم
لضيف عبيط أو لضيف طعان
فإن تبلهم عني تجدني عليهمُ
كغرَّة أبناء لهم وبنان

وقال:

لا بارك الله في قوم ولا شربوا
إلا أجاجًا أتونا من سجستانا
منافقين استحلوا كل فاحشة
كانوا على غير تقوى الله أعوانًا
ألم يكن مؤمن فيهم فينذرهم
عذاب قوم أتوا لله عصيانًا
وكم عصى اللهَ من قوم فأهلكهم
بالريح أو غرقًا بالماء طوفانا
وما لقوم عديُّ الله قائدهم
يستفتحون إذا لاقوا بهميانا
ألَّا يعذِّبهم ربي ويجعلهم
للناس موعظة يا أم حسانا
ترى سرابيلهم في البأس محكمة
من نسج داود أعطاها سليمانا
تقيهم البأس يوم البأس إذ ركبوا
سوابغٌ لاصقت بيضًا وأبدانا

وقال:

كيف تقول وجد بني تميم
عليَّ إذا لهم ناعٍ نعاني
أليسوا هم حماة الحرب لما
أناخوا بالثنية للعوان؟
وكم من مرهق قد جئت أجري
كررت عليه نصري إذ دعاني
بني عبد المدان فإن تضلوا
فما ضلَّت حلوم بني قنان
يلاقون العدو بأُسْد غيل
وأحلام مراجيح رزان
إذا هزوا العوالي أنهلوها
وهشُّوا للضراب وللطعان
وما تلقى العبيد بنو زياد
بسيف للقاء ولا سنان
ذليل من يعزُّ بنو زياد
وهم كانوا أذلَّ من السوان
عبيد بني الحصين توارثوهم
لعمر الماضيات من الزمان
همُ أربابكم ولهم عليكم
فضول السابقات من الرهان

وقال يرثي محمد بن موسى بن طلحة وكان شبيب قتله بالأهواز:

نام الخليُّ وما أُغمِّض ساعة
أرقًا وهاج الشوق لي أحزاني
وإذا ذكرتكَ يا ابن موسى أسبلت
عيني بدمع دائم الهملان
ما كنتُ أبكي الهالكين لفقدهم
ولقد بكيتُ وعزَّ ما أبكاني
كسفت له شمس النهار فأصبحت
شمس النهار كأنها بدخان
لا حيَّ بعدك يا ابن موسى فيهمُ
يرجونه لنوائب الحدَثان
كانوا ليالي كنتَ فيهم أمة
يرجى لها زمن من الأزمان
فالناس بعدك يا ابن موسى أصبحوا
كقناة حرب غير ذات سنان
متشابهين بيوتهم بمجازة
للسيل بين سباسب ومتان
أودى ابن موسى والمكارم والندى
والعز عند تحفُّظ السلطان
جمع ابن موسى والمكارم والندى
في القبر بين سبائب الأكفان
ما مات فيهم بعد طلحة مثله
للسائلين ولا ليوم طعان
ولئن جيادك يا ابن موسى أصبحت
ملس المتون تجول في الأشطان
لبما تُقاد إلى العدو ضوامرًا
جردًا مُجنَّبة مع الركبان
من كل سابحة وأجردَ سابح
كالسيد يوم تغيم ودخان
كان ابن موسى قد بنى ذا هيبة
صعب الذرى مُتمنِّع الأركان
فثوى وغادر فيكمُ بصنيعه
خير البيوت وأحسن البنيان

وقال:

أما بنوه فلم تقبل شفاعتهم
وشُفِّعت بنت منظور بن زبانا
ليس الشفيع الذي يأتيك مؤتزرًا
مثل الشفيع الذي يأتيك عُريانا

حرف الهاء

قال في النوار:

لعمري لقد أردى نوار وساقها
إلى الغور أحلامٌ قليلٌ عقولها
معارضة الركبان في شهر ناجر
على قتبٍ يعلو الفلاة دليلها
وما خفتها إذ أنكحتني وأشهدت
على نفسها بالغدر زال زويلها
أبعد نوار آمَننَّ ظعينة
على الغدر ما نادى الحمام هديلها
ألا ليت شعري عن نوار إذا خلت
بحاجتها هل تُبصرنَّ سبيلها
أطاعت بني أم النسير فأصبحت
على شارفٍ ورقاءَ صعبٍ ذلولها
إذا ارتحلتْ شقت عليها وإن تنُخْ
يكن من غرام الله عنها نزولها
وقد سخطت مني نوار الذي ارتضت
به قبلها الأزواج خاب رحيلها
ومنسوبة الأجداد غير لئيمة
شفَتْ لي فؤادي واشتفى بي غليلها
فلا زال يُسْقَى يا مُفدَّاة نحوه
أهاضيب مستنِّ الصبا ومسيلها
فما فارقتنا رغبة عن جماعنا
ولكنما غالت مُفدَّاة غولها
تُذكِّرني أرواحها نفحة الصَّبا
وريح الخزامى طلها وبليلها
فإن امرأ أمسى يُخبِّب زوجتي
كساعٍ إلى أُسْد الشرى يستبيلها
ترى مثل أنضاء السيوف من السرى
جراشعة الأجواز ينحو رعيلها
ومن دون إيواء الأسود بسالة
وأيدٍ طوال يمنع الضيمَ طولها
فإني كما قالت نوار إن اجتلت
على رجل ما سدَّ كفي خليلها
وإن لم تكن لي في الذي قلت مرة
فدليت في غبراء ينهال جولها
فما أنا بالنائي فتنفي قرابتي
ولا باطل حقي الذي لا أقيلها
ولكنني المولى الذي ليس دونه
وليٌّ ومولى عقدة من يجيلها
فدونكها يا ابن الزبير فإنها
مولَّعة يوهي الحجارة قيلها
إذا قعدت عند الإمام كأنها
ترى رفقة من ساعة تستحيلها
وما خاصم الأقوام من ذي خصومة
كورهاء مشنوء إليها حليلها
فإن أبا بكر أمامك عالم
بتأويل ما وصَّى العبادَ رسولها
وظلماء من جرَّا نوار سريتها
وهاجرة دَوِّيَّة ما أُقيلها
جعلنا علينا دونها من ثيابنا
تظاليل حتى زال عنها أصيلها
ترى من تلظِّيها الظباء كأنها
موقَّفة تغشى القرون وعولها
نصبت لها وجهي وحرفًا كأنها
أتان فلاة خفَّ عنها ثميلها
إذا عسفت أنفاسها في تنوفة
تقطَّع دون المحسنات سحيلها

وقال يهجو بني منقر:

أرى إبلي حنَّت طروقًا وهاجها
على الشوق جار لا يزال يسوقها
سروقٌ إذا الظلماء كانت كأنها
عباية مستورين سدَّت خروقها
فسيري فأُمِّي أرضَ قومك إنني
أرى عقبة خرقاء جمًّا فنوقها
وأثني على سعد بما هي أهله
وخير أحاديث الغريب صدوقها
عظام المقاري يأمن الجار فجعها
إذا ما الثريا أخلفتها بروقها
خلا أن أعراف الكوادن منقرا
قبيلة سوء بار في الناس سوقها
تحمل باني منقر عن مقاعس
من اللؤم أعباءً ثقالًا وسوقها
إوزَّى بها لا يأطر الحمل متنه
ويعجز عن حمل العلى لا يطيقها
ألم تعلموا يا آل طوعة أنما
يهيج حليلات الأمور دقيقها
وملتفَّة الحاذين مرتجَّة الصلا
سنانية قد بات تحتي فليقها
خلوت بها في الحرمل السهل تنتجي
وأعيب ساعات النجيِّ طروقها
فما زال تحتي نصفها قد قسمتها
فريقَين حتى جاء جون يسوقها
وكلَّفتها ليلًا طويلًا فأصبحت
قريبًا وقد باتت شديدًا وسيقها
وأهون عير المنقرية أنها
شديد ببطن الحنظلي لصوقها
رأت منقرًا سودًا قصارًا وأبصرت
فتًى دارميًّا كالهلال يروقها
فما أنا هجت المنقرية للصبا
ولكنها استعصت عليها عروقها
تنابلة سود الوجوه كأنهم
حمير بني غيلان إذ ثار صيقها

وقال يمدح سليمان بن عبد الملك ويهجو الحجاج بن يوسف الثقفي:

وكيف بنفس كلما قُلتُ أشرفت
على البرء من حوصاء هيض اندمالها
تهاض بدار قد تقادم عهدها
وإما بأموات ألمَّ خيالها
وما كنت ما دامت لأهلي حمولة
وما حملتهم يوم ظعن جمالها
وما سكنت عني نوار فلم تقل
علام ابن ليلى وهي غير عيالها
تقيم بدار قد تغيَّر جلدها
وطال ونيران العذاب اشتعالها
لأقرب أرض الشام والناس لم يقم
لهم خيرهم ما بلَّ عينًا بلالها
ألست ترى من حول بيتك عائذًا
بقدرك قد أعيا عليه احتيالها
فكيف تريد الخفض بعد الذي ترى
نساء بنجد عيل ورجالها؟
وبالمسجد الأقصى الإمام الذي اهتدى
به من قلوب الممترين ضلالها
به كشف الله البلاء وأشرقت
له الأرض والآفاق نحس هلالها
فلما استهلَّ الغيث للناس وانجلت
عن الناس أزماتٌ كواسف بالها
شددنا رحال الميس وهي شج بها
كواهلها ما تطمئن رحالها
رحالًا وضعناها ثلاثين حجة
غنًى وانتظارًا أين تُصرَف حالها
فأصبحت الحاجات عندك تنتهي
وكل عفرناةٍ إليك كلالها
حلفت لئن لم أشتعب عن ظهورها
لينتفينْ مخَّ العظام انتقالها
إلى مطلق الأسرى سليمان تلتقي
خذاريف بين الراجعات نعالها
كأن نعامات يُنتِّفن خضرة
بصحراءَ ممراحٍ كثيرٍ محالها
يبادرن جنح الليل بيضًا وغبرةً
ذُعرْن بها والعيس يُخشى كلالها
كأنَّ أخا الهم الذي قد أصابه
به من عقابيل القطيف ملالها
وقلت لأهل المشرقَين: ألم تكن
عليكم غيوم وهي حمر ظلالها؟
فبدَّلتمُ جود الربيع وحوِّلت
رحًى عنكمُ كانت ملحًّا ثفالها
ألا تشكرون الله إذ فكَّ عنكمُ
أداهم بالمهدي صمًّا ثقالها
وشيمت به عنكم سيوف عليكمُ
صباح مساء بالعراق استلالها
وإذ أنتم مَنْ لم يقل أنا كافر
تردَّى نهارًا عثرة لا يُقالها
وفارق أم الرأس منه بضربة
سريع لبين المنكبين ذيالها
وإن كان قد صلَّى ثمانين حجة
وصام وأهدى البدن بيضًا خلالها
لئن نَفَرُ الحجاجِ آل مُعتِّب
لقوا دولة كان العدو يدالها
لقد أصبح الأحياء منهم أذلَّة
وفي النار موتاهم كلوحًا سبالها
وكانوا يرون الدائرات بغيرهم
فصار عليهم بالعذاب انفتالها
وكان إذا قيل: اتقِ الله شمَّرت
به عزة لا يُستطاع جدالها
ألكني إلى مَنْ كان بالصين أورمت
به الهند ألواح عليها جلالها
هلمَّ إلى الإسلام والعدل عندنا
فقد مات عن أرض العراق خبالها
فما أصبحت في الأرض نفسٌ فقيرة
ولا غيرها إلا سليمان مالها
يمينك في الإيمان فاضلة لها
وخير شمال عند خير شمالها
فأصبحتَ خير الناس والمهتدى به
إلى القصد والوثقى الشديد حبالها
يداك يد الأسرى التي أطلَقَتْهمُ
وأخرى هي الغيث المغيث نوالها
وكم أطلقت كفاك من قيد بائس
ومن عقدة ما كان يُرْجَى انحلالها
كثيرًا من الأسرى التي قد تكنَّعت
فككتَ وأعناقًا عليها غلالها
وجدنا بني مروان أوتاد ديننا
كما الأرض أوتاد عليها جبالها
فأنتم لهذا الدين كالقِبْلة التي
بها أن يضلَّ الناس يُهدى ضلالها
وسوداء من أهدام كلين أقبلت
إلينا بهم تمشي وعنا سؤالها
على عانقيها اثنان منهم وإنها
لترعد قد كادت يقصُّ هزالها
ومن خلفها ثنتان كلتاهما لها
تَعلَّق بالأهدام والشر حالها
وفي حجرها محزومة من ورائها
شعيثاء لم يتمم لحول فصالها
فخرَّت وألْقتْهم إلينا كأنها
نعامة محل جانبتها رئالها
إلى حجرة كم من خباء وقبَّة
إليها وهُلَّاك كثير عيالها
هنأناهمُ حتى أعان عليهمُ
من الدلو أو عَوَّا السماك سجالها
إذا ما العذارى بالدخان تلفَّعت
ولم ينتظر نصب القدور امتلالها
نحرنا وأبرزنا القدور وضمنت
عبيط المَتالي الكُوم غرًّا محالها
إذا اعتركت في راحتي كل مجمد
مسوَّمة لا زرق إلا خصالها
مرينا لهم بالقضب من قمع الذرى
إذا الشول لم ترزم لدر فصالها
بقرنا عن الأفلاذ بالسيف بطنها
وبالساق من دون القيام خبالها
عجلنا على الغلي القِرى من سنامها
لأضيافنا والناب ورد عقالها
لهم أو تموت الريح وهي ذميمة
إذا اعتزَّ أرواح الشتاء شمالها
وصارخةٍ يسعى بنوها وراءها
على ظهر عري زلَّ عنها جلالها
تلوِّي بكفيها عناصي ذروة
وقد لحقت خيل تثوب رعالها
مقابلة في الحي في أكرميهمُ
أبوها هو ابن العم لحًّا وخالها
إذا التفتت سدَّ السماء وراءها
عبيط وجمهور تعادى فحالها
أناخت بها وسط البيوت نساؤنا
وقد أُعجِلت شد الرحال اكتفالها
أنخنا فأقبلنا الرماح وراءها
رماحًا تساقي بالمنايا نهالها
بنو دارم قومي ترى حجزاتهم
عتاقًا حواشيها رقاقًا نعالها
يجرُّون هدَّاب اليماني كأنهم
سيوف جلا الأطباع عنها صقالها

وقال يمدح سليمان بن عبد الملك:

ترى كل منشق القميص كأنما
عليه به سلخ تطير رعابله
سقاه الكرى الإدلاج حتى أماله
عن الرحل عينا رأسه ومفاصله
وناديت مغلوبين هل من معاون
على ميت يدنو من الأرض مائله
فما رفع العينين حتى أقامه
وعيد كأني بالسلاح أقاتله
أقمت له الميل الذي في نخاعه
بتفديتي والليل داجٍ غياطله
قد استبطأت مني نوار صريمتي
وقد كاد همي ينفذ القلب داخله
رأت أينقًا عرَّيت عامًا ظهورها
وما كان همي تستريح رواحله
حراجيج لم يترك لهن بقية
غدوَّ نهارٍ دائمٍ وأصائله
يقاتلن عن أصلاب لاصقة الذرى
من الطير غربانًا عليها نوازله
فإن تصحبينا يا نوار تناصفي
صلاتك في فيفٍ تكر حواجله
مواقع أطلاح على ركباتها
أُنيخت ولون الصبح وردٌ شواكله
وتختمري عجلى على ظهر رسلة
لها ثبجٌ عاري المعدين كاهله
وما طمعت بالأرض رائحة بنا
إلى الغد حتى ينقل الظلَّ ناقله
تسوم المطايا الضيم يحفدن خلفها
إذا زاحم الأحقاب بالقرض جائله
ولما رأت ما كان يأوي وراءها
وقدَّامها قد أمعرته هزائله
كباب من الأخطار كان مراحه
عليها فأودى الظلف منه وجامله
بكت خشية الإعطاب بالشام إن رمى
إليه بنا دهر شديد تلاتله
فلا تجزعي إني سأجعل رحلتي
إلى الله والباني له وهو عامله
سليمان غيث الممحلين ومن به
عن البائس المسكين حلَّت سلاسله
وما قام مذ مات النبي محمد
وعثمان فوق الأرض راعٍ يعادله
أرى كل بحر غير بحرك أصبحت
تشقق عن يبس المعين سواحله
كأن الفرات الجون يجري حبابه
مفجرة بين البيوت جداوله
وقد علموا أنَّى يميل بك الهوى
وما قلتَ من شيء فإنك فاعله
وما يبتغي الأقوام شيئًا وإن غلا
من الخير إلا في يديك نوافله
أرى الله في تسعين عامًا مضت له
وست مع التسعين عادت فواضله
علينا ولا بلوى كما قد أصابنا
لدهر علينا قد ألحَّت كلاكله
تخير خير الناس للناس رحمة
وبيتًا إذا العاديُّ عدَّت أوائله
وكان الذي سماه باسم نبيه
سليمان أن الله ذا العرش جاعله
على الناس أمنًا واجتماع جماعة
وغيث حيا للناس ينبت وابله
فأحييت من أدركت منا بسُنَّة
أتت لم يخالطها مع الحق باطله
كشفْتَ عن الأبصار كل عشابها
وكل قضاءٍ جائرٍ أنت عادله
وقد علم الظلم الذي سلَّ سيفه
على الناس بالعدوان أنك قاتله
وليس بمحيي الناس مَنْ ليس قاضيًا
بحق ولم يُبسَط على الناس نائله
فأصبح صلب الدين بعد التوائه
على الناس بالمهديِّ قُوِّم مائله
حملت الذي لم تحمل الأرض والتي
عليها فأدَّيت الذي أنت حامله
إلى الله من حمل الأمانة بعدما
أُضيعت وغال الدين عنا غوائله
جعلت مكان الجَوْر في الأرض مثله
من العدل إذ صارت إليك محاصله
وما قمتَ حتى استسلم الناس والْتقى
عليهم فم الدهر العَضوض بوازله
وحتى رأوا من يعبد النار آمنًا
له جاره والبيت قد خاف داخله
فأضحوا بإذن الله بعد سقامهم
كذي النتف عادت بعد ذاك نواصله
رأيت ابن ذبيانٍ يزيدَ رمى به
إلى الشام يوم العنز والله شاغله
بعذراء لم تَنكح حليلًا ومن تلج
ذراعيه تخذل ساعديه أنامله
وثقْتُ له بالخزي لما رأيته
على البغل معدولًا ثقالًا فرازله

كان الأقعس بن ضمضم أراد أن يثأر بابنه مزاد من عوف؛ فأتاه ليلًا، فهاب عوفًا أن يقدم عليه؛ فرماه بسهم من بعيد، فسمع عوف حفيف السهم فاتَّقاه بساقه ورجع الأقعس أدراجه، فقال الفرزدق:

ضيع أمري الأقعسان فأصبحا
على ندب يدمي الوريدين غاربه
ولو أخذا أسباب أمري لألجآ
إلى أشِبِ العيصان أنور جانبه
منيع بنو سفيان تحت لوائه
إذا ثَوَّب الداعي وجاءت حلائبه
ستذكر أفناء الرفاق إذا التقت
مزادًا وتُرسى كيف أحدث طالبه
حسبتَ أبا قيس حمار شريعة
فعدتَ له والصبح قد لاح حاجبه
فلو كنت بالمعلوب سيف ابن ظالم
ضربتَ لزارت قبرَ عوف قرائبه
ولكن وجدت السهم أهون فوقه
عليك فقد أوْدى دم أنت طالبه
فإن أنتما لم تجعلا بأخيكما
صدًى بين أكماع السباق يجاوبه
فليتكما يا ابنَي سفينة كنتما
دمًا بين حاذيها أُسيلَ سبايبه

لما وفد الأحنف بن قيس والحتات بن يزيد المجاشعي على معاوية؛ أمر للأحنف بأربعين ألف درهم واستكتمه، وأمر للحتات بعشرة آلاف درهم، فلما خرجا من عنده متوجِّهَين للعراق سأل الحتاتُ الأحنفَ عن صلته، فأخبره؛ فكرَّ راجعًا إلى معاوية فقال: يا أمير المؤمنين، تعطي الأحنف، ورأيه رأيه، أربعين ألف درهم، وتعطيني عشرة آلاف درهم! فقال: يا حتات إنما اشتريت بها دين الأحنف، فقال: اشترِ ديني أيضًا؛ فأمر له بثلاثين ألفًا تمام الأربعين، فلم يخرج من دمشق حتى مات؛ فرُدَّ المال إلى بيت المال، فبلغ الفرزدق ذلك؛ فأتى معاوية فقال:

أتأكل ميراث الحتات ظلامة
وميراث حرب جامد لك ذائبة؟
ولو كان إذ كنا رقى الكف بسطة
لصمَّم عضب فيك ماضٍ مساربه
وقد رُمتَ أمرًا يا معاوي دونه
خياطف علوز صعاب مراتبه
وما كنت أعطي النصف عن غير قدرة
سواك ولو مالت عليَّ كتائبه
أنا ابن الجبال الشمِّ في عدد الحصى
وعرق الندى عرقي فمَنْ ذا يحاسبه
وكم من أب لي يا معاوي لم يزل
أغرَّ يُباري الريح ما ازورَّ جانبه
نمته فروع المالكين ولم يكن
أبوك الذي من عبد شمس يخاطبه
تراه كنصل السيف يهتزُّ للندى
جوادًا يلاقي المجد مذ طرَّ شاربه
أبوك وعمي يا معاوي أورثا
تراثًا فيحتاز التراث أقاربه
فلو كان هذا الدين في جاهلية
عرفت مَن المولى القليل حلائبه
ولو كان هذا الأمر في غير ملككم
لأبديته أو غصَّ بالماء شاربه
وكم من أب لي يا معاوي لم يكن
أبوك الذي من عبد شمس يقاربه

كان عبد الله بن مسلم الباهلي أعطى الفرزدق جعالته وحمله على دابة وأمر له بألف درهم، فقال له عمرو بن عفراء: ما يصنع الفرزدق بهذا الذي أعطيته إنما يكفيه ثلاثون درهمًا؟ فقال الفرزدق:

ستعلم يا عمرو بن عفرا من الذي
يُلام إذا ما الأمر غبَّت عواقبه
نهيت ابن عفرا أن يعفر أمه
كحجر السلا إذ عفَّرته ثعالبه
فلو كنت ضبيًا صفحت ولو سرت
على قدمي حياته وعقاربه
ولو قطعوا يمنى يديَّ غفرتها
لهم والذي يحصي السرائرَ كاتبه
ولكن ديافيٌّ أبوه وأمه
بحوران يعصرن السليط أقاربه
ولما رأى الدهنا رمته جبالها
وقالت ديافيٌّ مع الشام جانبه
فإن تغضب الدهنا عليك فما بها
طريق لزياتٍ تُقاد ركائبه
ليثمر مال الباهلي كأنما
تهر على المال الذي أنت كاسبه
فإن امرأً يغتابني لم أطأ له
حريمًا ولا تنهاه عني أقاربه
كمحتطب ليلًا أساود هضبة
أتاه بها في ظلمة الليل حاطبه
أحين التقى ناباي وابيضَّ مسحلي
وأطرق إطراق الكرى من أُحاربه

ولمَّا حجَّ هشام بن عبد الملك صَحِبه الفرزدق من المدينة حتى حجَّ ورجع فأمر له بخمسمائة درهم، فقال:

يرددني بين المدينة والتي
إليها قلوب الناس يهوي منيبها
يُقلِّب عينًا لم تكن لخليفة
مشوَّهة حولاء بادٍ عيوبها

وقال:

وكان يجير الناس من سيف مالك
فأصبح يبغي نفسه من يجيرها
فكان كعنز السوء قامت بظلفها
إلى مدية وسط التراب تثيرها
ستعلم عبد القيس إن زال ملكها
على أي حال يستمر مريرها

وقال يمدح قيس عيلان:

ألم تر قيسًا قيس عيلان شمَّرت
لنصري وحاطتني هناك قرومها
فقد حالفت قيس على الناس كلهم
تميمًا فهم منها ومنها تميمها
وعادت عدوي إن قيسًا لأسرتي
وقومي إذا ما الناس عُدَّ قديمها
لنا المنبر الغربي والناس كلهم
يدين لنا جُهَّالها وحليمها

وقال يصف عقوبة الحجاج:

ألم تر ما قالت نوار ودونها
من الهم لي مستضمر أنا كاتمه
تقول وعيناها تفيضان هل ترى
مكانك ممن لا أراك تخاصمه
تنحَّ عن الحجَّاج إن زحامه
شديد إذا أغضى على مَنْ يزاحمه
ومن يأمن الحجاج والجن تتقي
عقوبته إلا ضعيف عزائمه

وقال حين هرب من زياد فمرَّ ببني سليم برجل من بني بهز من سليم، فحمله على ناقة له فقال:

أتاني بها والليل نصفان قد مضى
أمامي ونصف قد تولَّت توائمه
فقال تعلَّم إنها أرحبيَّة
وإن لك الليل الذي أنت جاشمه
نصيحته بعد اللباب التي اشترى
بألفين لم تحجا عليها دراهمه
فإنك إن يقدر عليك يكن له
لسانك أو تغلق عليك أداهمه
كفاني بها البهزيُّ حملان من أبي
من الناس والجاني تُخاف جرائمه
فتي الجود عيسى ذو المكارم والندى
إذا المال لم ترفع بخيلًا كرائمه
تخطَّى رءوس الحارسين مخاطرًا
مخافة سلطان شديد شكائمه
فمرَّت على أهل الحفير كأنها
ظليم تبارى جنح ليل نعائمه
كأن شراعًا فيه مثنى زمامها
من الساج لولا خطمها وبلاعمه
كأن فئوسًا رُكِّبت في محالها
إلى دأي مغبور نبيل محازمه
وأصبحت والمُلقى ورائي وحنبل
وما صدرت حتى تلا الليل عاتمه
رأت بين عينَيها روية وانجلى
لها الصبح عن صعلٍ أسيل مخاطمه
إذا ما أتى دوني الفريَّان فاسلمي
وأعرض من فلج ورائي مخارمه

وقال يهجو الطرماح:

كأن الطرماح بن ثقبة إذ عوى
كأشقى ثمود حين حنَّ فصيلها
وما طيئ إلا مجوس كأنهم
بهائم تعلو الأمهاتِ فحولها
وما تلكمُ إلا مجوس نساؤهم
بناتهمُ آباؤهن بعولها
فحلوا بأعلى تلعة أجئية
تبول العناق فوقها فتسيلها
ألسنا بأرباب لقوم وأمة
خلائقها منها ومنها رسولها

وقال:

ألا حبذا البيت الذي أنت هائبه
تزور بيوتًا حوله وتُجانبه
تجانبه من غير هجر لأهله
ولكن حذارًا من عدو تراقبه
أرى الدهر أيام المشيب أمرُّه
علينا وأيام الشباب أطايبه
وفي الشيب لذات وقرة أعين
ومن قبله عيش تعلل جادبه
إذا نازل الشيب الشباب فأصلتا
بسيفيهما فالشيب لا بد غالبه
فيا خير مهزوم ويا شر هازم
إذا الشيب راقت للشباب كتائبه
وليس شباب بعد شيب براجع
يد الدهر حتى يرجع الدَّرَّ حالبه
ومن يتخمط بالمظالم قومه
ولو كرمت فيهم وعزَّت مضاربه
يُخدَّش بأظفار العشيرة خده
وتجرح ركوبًا صفحتاه وغاربه
وإن ابن عم المرء عزَّ ابن عمه
متى ما يَهجْ لا يحلُ للقوم جانبه
ورُبَّ ابن عم حاضر الشر خيره
مع النجم من حيث استقلَّت كواكبه
فلا ما نأى منه من الشر نازح
ولا ما دنا منه من الخير جالبه
فما المرء منفوعًا بتجريب واعظ
إذا لم تعظْهُ نفسه وتجاربه
ولا خير ما لم ينفع الغصنُ أصله
وإن مات لم تحزن عليه أقاربه

وقال يمدح أسد بن عبد الله القسري:

تزوَّد فما نفس بعاملة لها
ولا ما أتاها بالمنايا حديدها
فتوشك نفسك أن تكون حياتها
وإن مسَّها موت طويلًا خلودها
وسوف ترى النفسُ التي اكتدحَتْ لها
إذا النفس لم تنطق ومات وريدها
وكم لأبي الأشبال من فضل نعمة
بكفَّيه عندي أطلقتني سعودها
فأصبحتُ أمشي فوق رِجْليَّ قائمًا
عليها وقد كانت طويلًا قعودها
فكم يا ابن عبد الله من فضل نعمة
بكفَّيك عندي لم تغيب شهودها
وكم لكمُ من قبة قد بنيتمُ
يطول عماد المبتنين عمودها
بنتها بأيديها بجيلة خالد
ونال بها أعلى السماء يزيدها
وجدتكمُ تعلون كل قبيلة
إذا اعتزَّ أقران الأمور شديدها
وكانت إذا لاقت بجيلة غارة
فمنكم محاميها ومنكم عميدها
وكنتم إذا عالى النساء ذيولها
ليسعين في خوف فمنكم أسودها
وما أصبحت يومًا بجبيلة خالد
ألا لكم أو منكمُ من يقودها
إذا هي ماست في الدروع وأقبلت
إلى البأس مشيًا لم تجد من يذودها
لعمري لئن كانت بجيلة أصبحت
قد اهتضمت أهل الجدود جدودها
لقد تدلق الغارات يوم لقائها
وقد كان ضرابي الجماجم صيدها
معاقل أيديها لمن جاء عائدًا
إذا ما التقت حمر المنايا وسودها
وكانت إذا لاقت بجيلة بالقنا
وبالهندوانيات يفري حديدها
فما خلقت أيدٍ لقوم عطاؤها
يكون إلى أيدي بجيلة جودها

وقال يُعيِّر بني نهشل بن دارم بالأشهب بن رميلة ويهجو يزيد بن مسعود سيد بني نهشل:

لعمري لقد كان ابن ثور لنهشل
غرورًا كما غرَّ السليم تمائمه
فدلاهمُ حتى إذا ما تذبذبوا
بمهواة نيق أسلمته سلالمه
فأصبح من تحمي رميلة وابنها
مباحًا حماه مستحَلًّا محارمه
ومثلك قد أبطرتُه قدر ذرعه
إذا نظر الأقوام كيف أراجمه
فمن يزدجر طير اليمين فإنما
جرت لابن مسعود يزيد أشائمه
تسمَّعْ وأنْصِتْ يا يزيد مقالتي
وهل أنت إن أفهمتك الحق فاهمه؟
أُنبِّيك ما قد يعلم الناس كلهم
وما جاهل شيئًا كمن هو عالمه
ألم تر أنَّا نحن أفضل منكمُ
قديمًا كما خير الجناح قوادمه
وما زال باني العز منا وبيته
وفي الناس باني بيت عز وهادمه
قديمًا ورثناه على عهد تُبَّع
طوالًا سواريه شديدًا دعائمه
وكم من أسير قد فككنا ومن دم
حملنا إذا ما ضجَّ بالثقل غارمه
بني نهشل إن تدركوا بسبابكم
نوافذ قولي حين غبت عوارمه
متى تكُ ضيف النهشلي إذا شتا
تجدْ ناقص المقرى خبيثًا مطاعمه
ألم تعلما يا ابنَي رقاش بأنني
إذا اختار حربي مثلُكم لا أسالمه
غنمنا فقيمًا إذ فقيم غنيمة
ألا كل مَنْ عادى الفقيميَّ غانمه
فجئنا به من أرض بكر بن وائل
نسوق قصير الأنف حردًا قوائمه
أنا الشاعر الحامي حقيقة قومه
ومثلي كفى الشر الذي هو جارمه
وكنتُ إذا عاديت قومًا حملتهم
على الجمر حتى يحسم الداء حاسمه
وجيش ربعناه كأن زهاءه
شماريخ طودٍ مُشمخرٍّ مخارمه
كثير الحصى جم الوغى بالغ العدا
يصم السميع رَزُّه وهماهمه
لهام تظلُّ الطير تؤخذ وسطه
تُقاد إلى أرض العدو سواهمه
مطونا به حتى كأن جيادنا
نوًى خلقته بالضروس عواجمه
قبائله شتى ويجمع بيننا
من الأمر ما تلقى إلينا خزائمه
إذا ما غدا من منزل سهلت له
سنابكه صم الصوى ومناسمه
إذا ورد الماء الرواء تظامأت
أوائله حتى يُماح عيالمه
دهمنا بهم بكرًا فأصبح سبيهم
تقسم بالأنهاب فينا مغانمه
غزونا به أرض العدو ومولت
صعاليكنا أنفاله ومقاسمه
وعند رسول الله إذ شدَّ قبضة
وملِّئ من أسرى تميم أداهمه
فرجنا عن الأسرى الأداهم بعدما
تخمَّط واشتدت عليهم شكائمه
فتلك مساعينا قديمًا وسعينا
كريم وخير السعي قدمًا أكارمه
مساعيَ لم تدرك فقيم خيارها
ولا نهشل أحجازه وتهائمه

وقال يمدح عمر بن عبد العزيز بمكة:

لأسماء إذ أهلي لأهلك جيرة
وإذ كل موعود لها أنت آمله
تسوف خزامى الميث كل عشية
بأزهر كالدينار حوَّ مكاحله
لها نَفَس بعد الكرى من رقادها
كأن فغام المسك بالليل شامله
فإن تسأليني كيف نومي فإنني
أرى الهم أجفاني عن النوم داخله
وقوم أبوه غالب أنا مالهم
وعام تمشَّى بالعراء أرامله
ومجد أذود الناس أن يلحقوا به
وما أحد أو يبلغ الشمس نائله
أنا الخندفي الحنظلي الذي له
إذا جمعت ركبان جمع منازله
على الناس ما لا يدفعون خراجه
وقرم يدق الهام والصخر بازله
أرى كل قوم ودَّ أكرمهم أبًا
إذا ما انتمى لو كان منا أوائله
فخرنا فصُدِّقنا على الناس كلهم
وشر مساعي الناس والفخر باطله
ألمَّا يئنْ للناس أن يتبيَّنوا
فيُزجَر غاوٍ أو يرى الحق عاقله
وكل أناس يغضبون على الذي
لهم غيرنا إذ يجعل الخير جاعله
إليك ابن ليلى يا ابن ليلى تجوَّزت
فلاة وداويًّا دفانًا مناهله
تجيل دلاء القوم فيه غثاءه
إجالة حم المستذيبة جامله
لها صاحبا قفر عليها وصادع
بها البيد عادي ضحول مناقله
تريد مع الحج ابن ليلى كلاهما
لصاحبه خير تُرجَّى فواضله
زيارة بيت الله وابن خليفة
تحلِّب كفَّاه الندى وأنامله
وكان بمصر اثنان ما خاف أهلها
عدوًّا ولا جدبًا تخاف هزائله
لدن جاور النيل ابن ليلى فإنه
يفيض على أيدي المساكين نائله
فأصبح أهل النيل قد ساء ظنهم
به واطمأنت بعدُ فيض سواحله
أرى الناس إذ خلَّى ابن ليلى مكانه
يطوفون للغيث الذي مات وابله
كما طاف أيتام بأمٍّ حفيَّةٍ
بهم وأبٍ قد فارقتهم شمائله
فقل لليتامى والأرامل والذي
يريد به أرض ابن ليلى رواحله
يؤمُّ ابنَ ليلى خائفًا من ورائه
ويأمل من تُرْجَى لديه نوافله
فإن لهم منه وفاء رهينة
بأخلاقه الجلَّى تفيض جداوله
أغرُّ نمى الفاروق كفَّيه للعُلى
وآل أبي العاصي طوال محامله
أراد ابن عشر أن ينال التي علت
على الشِّيب من مجد تسامى أطاوله
فودَّع توديع الجياد عنانه
فما جاء حتى ساور الشمس قائله
ألم تر أن النيل نُضِّب ماؤه
ومات الندى بعد ابن ليلى وفاعله
ومرتهن بالموت غالٍ فداؤه
تُبيَّن عنه يا ابن ليلى سلاسله
وما ضُمِّنت مثل ابن ليلى ضريحة
وما كان حيٌّ وهو حي يعادله

وقال:

ألا مَنْ لشوق أنت بالليل ذاكره
وإنسان عين ما يُغمَّض عائره
وربع كجثمان الحمامة أدرجت
عليه الصبا حتى تنكَّر دائره
به كل ذيال العشي كأنه
هجانٌ دعته للجفور فوادره
خلا بعد حي صالحين وحله
نعام الحمى بعد الجميع وباقره
بما قد نرى ليلى وليلى مقيمة
به في خليط لا تنافي حرائره
فغيَّر ليلى الكاشحون فأصبحت
لها نظر دوني مريبٌ تشازره
أراني إذا ما زُرت ليلى وبعلها
تلوَّى من البغضاء دوني مشافره
وإن زرتها يومًا فليس بمخلفي
رقيب يراني أو عدو أحاذره
كأن على ذي الظن عينًا بصيرة
بمقعده أو منظر هو ناظره
يُحاذِر حتى يحسب الناس كلهم
من الخوف لا تخفى عليهم سرائره
غدا الحي من بين الأعيلام بعدما
جرى جدب البهمى وهاجت أعاصره
دعاهم لسيف البحر أو بطن حائل
هوى من نوى حي أُمرَّت مرائره
غدون برهن من فؤادي وقد غدت
به قبل أتراب الجنوب تماضره
تذكرتُ أتراب الجنوب ودونها
مقاطع أنهار دنت وقناطره
حوارية بين الفراتين دارها
لها مقعدٌ عالٍ برود هواجره
تساقط نفسي إثرهنَّ وقد بدا
من الوجد ما أخفي وصدري مخامره
إذا عبرة ورَّعتها فتكفكفت
قليلًا جرت أخرى بدمع تبادره
فلو أن عينًا من بكاءٍ تحدَّرت
دمًا كان دمعي إذ ردائي ساتره
متى ما يمت عانيك يا ليل تعلمي
مصابة ما يُسدي لعانيك نائره
ترى خطأً مما ائتمرت وتضمني
جريرة مولى لا يُغمِّض ثائره
فلم يبقَ من عانيك إلا بقية
شفا كجناح النسر مُرِّط سائره
ألا هل لليلى في الفداء فإنني
أرى رهن ليلى لا تبالي أواصره
لعمري لئن أصبحت في السير قاصدًا
لقد كان يَحْلَوْلَى لعيني حائره
وجونٍ عليه الجصُّ فيه مريضة
تطلَّع منه النفس والموت حاضره
حليلة ذي إلفين شيخ يرى لها
كثير الذي يعطي قليلًا يحاقره
نهى أهله عنها الذي يعلمونه
إليها وزالت عن رجاها ضرائره
أتيت لها من نحتلٍ كنت أدَّري
به الوحش ما تخشى عليَّ عوافره
فما زلتُ حتى أصعدتني حبالها
إليها وليلي قد تخامص آخره
فلما اجتمعنا في العلاليِّ بيننا
ذكيٌّ أتى من أهل دارين تاجره
نقعت غليل النفس إلا لبانة
أبتْ من فؤادي لم ترمْها ضمائره
فلم أرَ منزولًا به بعد هجعة
ألذَّ قرًى لولا الذي أنا حاذره
أحاذر بوَّابَين قد وُكِّلَا بها
وأسمر من ساج تئط مسامره
فقلت لها كيف النزول فإنني
أرى الليل قد ولَّى وصوَّت طائره؟
فقالت أقاليد الرتاجين عنده
وطهمانُ بالأبواب كيف تساوره؟
أبالسيف أم كيف التسني لموثَق
عليك رقيبٌ دائب الليل ساهره
فقلت ابتغي من غير ذاك محالة
وللأمر هيئات تُصاب مصادره
لعل الذي أصعدتِني أن يردني
إلى الأرض إن لم يَقدِر الحَيْن قادره
فجاءت بأسبابٍ طوال وأشرفت
قسيمة ذي زَوْر مخوف تراتره
أخذت بأطراف الحبال وإنما
على الله من عوص الأمور مياسره
فقلت اقعدا إن القيام مزلة
وشُدَّا معًا بالحبل إني مخاصره
إذا قلتُ قد نلت البلاط تذبذبت
حِباليَ في نيقٍ مخوفٍ مخاصره
منيفٍ ترى العقبان تقصر دونه
ودون كبيدات السماء مناظره
فلما استوت رجلاي في الأرض نادتا
أحيٌّ يرجَّى أم قتيل نحاذره؟
فقلت: ارفعا الأسباب لا يشعروا بنا
وولَّيت في أعجاز ليل أبادره
هما دلتاني من ثمانين قامة
كما انقضَّ باز أقتم الريش كاسره
فأصبحتُ في القوم الجلوس وأصبحت
مغلَّقة دوني عليها دساكره
وباتت كدوداة الجواري وبعلها
كثير دواعي بطنه وقراقره
ويحسبها باتت حصانًا وقد جرت
لنا برتاها بالذي أنا شاكره

وقال الفرزدق لزيد بن مسروق أخي مسلمة بن مسروق وهم من بني ثعلبة بن يربوع وكانوا يتَّجرون في الطعام؛ وذلك أن زيدًا أحضر كردم الفزاري جد حمران بن مكروه، وقد أمر للفرزدق بصلةٍ كثيرة فأخبره أنه يرضى بالقليل، وكان كردم عاملًا لعمر بن هبيرة على كور دجلة فانكسر عليه الخراج فقال: ادعوا لي السؤَّال لنقسم فيهم شيئًا أمر به الأمير عمر، فجمعوهم فاجتمعوا في دار قبيصة — وهي موضع المجذومين بالبصرة — فأمر بحبسهم حتى صالحوه على مال فأدَّوه في الخراج؛ فخرجوا وهم يقولون: هركس بارك فيه وكردم لا تبارك فيه، فقال الفرزدق:

أزيد بن مسروق ألم تنهك التي
رأيت بأقوام عظامًا كلومها
سينهاك عني عاصم أو ستنتهي
بدامغة يوهي العظام أميمها
أما كان في أيدي فزارة مانع
لأموالها حتى اعترضتَ تلومها
وما أَمَة سوداء تخرج سوءة
فتنسبها إلا وزيد حميمها

وقال:

أفاطم ما أنسى نعاس ولا سرى
عقابيل يلقانا مرارًا غرامها
لعينيك والثغر الذي خِلْتُ أنه
تحدَّر من غرَّاءَ بيض غمامها
وذكَّرنيها أن سمعتُ حمامة
تَبكَّى لها فوق الغصون حمامها
نئوم عن الفحشاء لا تنطق الخنا
قليل سوى تخبيلها القوم ذامها
أفاطم ما يدريك ما في جوانحي
من الوجد والعين الكثير سجامها
فلو بعتني نفسي التي قد تركتها
تَساقطُ تترى لافتداها سوامها
لأعطيتُ منها ما احتكمتِ ومثله
ولو كان ملء الأرض يُحدى احتكامها
فهل لك في نفسي فتقتحمي بها
عقابًا تدلَّى للحياة اقتحامها
لقد ضربت لو أنه كان مُبقيًا
حياة على أشلاء قلبي سهامها
قد اقتسمت عيناكِ يوم لقيتنا
حشاشة نفس لا يحلُّ اقتسامها
فكيف بمن عيناه في مقلتيهما
شفاء لنفس فيهما وسقامها
إذا هِي نأت عني جننتُ وإن دَنَتْ
فأبعد من بيض الأنوق كلامها
وتمنع عيني وهي يقظى شفاءها
ويبذل لي عند المنام حرامها
وكائن منعت القوم من نوم ليلة
وقد ميَّلتْ أعناقَها لا أنامها
لأدنوَ من أرض لأرضك إن دَنَت
بها بيدها موصولة وإكامها
ألا ليتنا نمنا ثمانين حجة
تنام معي عريانة وأنامها
ضجيعين مستورين والأرض تحتنا
يكون طعامي شمها والتزامها
وعنوان مختوم عليها صحيفة
إليكِ على عينيكِ مني سلامها
أفاطم ما من عاشق هو ميت
من الناس إن لم يُردِ نفسي هيامها
لقد دلهتني عن صلاتي وإنه
ليدعو إلى الخير الكثير إقامها
أيحيا مريض بعد ما ميَّثت له
سواد التي تحت الفؤاد قيامها
أيقتل مخضوب البنان مبرقع
بميتٍ خِفاتًا لم تصبه كِلامها
فهل أنت إلا نخلة غير أنني
أراها لغيري ظلها وصرامها؟
وما زادني نأيي سُلوًّا ولا قرًى
من الشام قد كادت ينور أنامها
إذ أحرقت منهم قلوب ونفذت
من القوم أكباد أصيب انتظامها
كما نحرة يوم الأضاحي ببلدة
من الهدي خرت للجنوب قيامها
ألا ليت شعري هل تغير بعدنا
أديعاص أنقاء الحمى وسنامها
كأن لم ترفع بالأكيمة خيمة
عليها نهارًا بالقنيِّ ثمامها
أقامت بها شهرين حتى إذا جرى
عليهنَّ من سافي الرياح هيامها
أتاهنَّ طرادون كل طوالة
عليها من النَّيِّ المُذاب لحامها
عليهنَّ راحولات كل قطيفة
من الخز أو من قيصران علامها
إليك أقمنا الحاملات رحالنا
ومضمر حاجات إليك انصرامها
فرعن وفرَّعن الهموم التي صمت
إليك بنا لما أتاك سمامها
وكائنْ أنخنا من ذراعَي شملَّة
إليك وقد كلَّت وكَلَّ بغامها
وقد دأبت عشرين يومًا وليلة
يشدُّ برسغيها إليك خدامها
ولا يدرك الحاجات بعد ذهابها
من العيس بالركبان إلا نعامها
لعمري لئن لاقت هشامًا لطالما
تمنَّت هشامًا أن يكون استقامها
إليه ولو كان المنهَّتُ دونه
ومن عرض أجبال عليها قتامها
وقوم يعضُّون الأكفَّ صدورهم
عليَّ وغارى غير مُرضًى رغامها
نمتك مناف ذروتاها إلى العلى
ومن آل مخزوم نماك عظامها
أليس امرؤ مروان أدنى جدوده
له من بطاحيي لؤي كرامها
أحق بني حواء أن يدرك التي
عليهم له لا يستطاع مرامها
أبت لهشام عادة يستعيدها
وكفُّ جواد لا يُسَدُّ انثلامها
كما انثملت من غمرِ أكدر مفعم
فراتيَّة يعلو الصراة التطامها
هشام فتى الناس الذي تنتهي المنى
إليه وإن كانت رغابًا جسامها
وإنَّا لنستحييك ممن وراءنا
من الجهد والآرام تبلى سلامها
فدونك دلوي إنها حين تستقي
بفرغ شديد للدلاء اقتحامها
وقد كان متراعًا لها وهي في يدي
أبوك إذا الأوراد طال أوامها
وإن تميمًا منك حيث توجَّهت
على السِّلم أو سلَّ السيوفَ خصامها
هم الإخوة الأدنَون والكاهل الفتى
به مضر عند الكظاظ ازدحامها
هشام خيار الله للناس والذي
به ينجلي عن كل أرض ظلامها
وأنت لهذا الناس بعد نبيهم
سماء يُرَجَّى للمحول غمامها
وأنت الذي تلوي الجنود رءوسها
إليك وللأيتام أنت طعامها
إليك انتهى الحاجات وانقطع المنى
ومعروفها في راحتيك تمامها

وقال:

لي كل يوم من ذؤاله
ضغث يزيد على إباله
فلأحشأنك مشقصًا
أوسا أويس من الهباله

وقال يرثي محمد ابن أخيه هميم المعروف بالأخطل، وكان قد مات بالشام:

سقى أريحاءَ الغيث وهي بغيضة
إليَّ ولكن كي ليسقاه هامها
من العين منحلُّ العزالى تسوقه
جنوب بأنضاء يسجُّ ركامها
إذا أفلعت عنها سماء ملحة
تبعَّج من أخرى عليك غمامها
فبتُّ بدَيرَي أريحاء بليلة
خدارية يزداد طولًا تمامها
أكابد فيها نفس أقرب من مشى
أبوه لنفسي مات عني نيامها
وكان إذا أرض رأته تزيَّلت
لرؤيته صحراؤها وأكامها
ترى مزق السربال فوق سميدع
يداه لأيتام الشتاء طعامها
على مثل نصل السيف مزق غمده
مضارب منه لا يُفَلُّ حسامها
وكانت حياة الهالكين يمينه
وللنيب والأبطال فيها سمامها
وكانت يداه المرزمين وقدره
طويلًا بأفناء البيوت صيامها
تفرَّقُ عنها النار والناب ترتمي
بأعضائها أرجاؤها واهتزامها
جماع يؤدي الليل من كل جانب
إليها إذا وارى الجبال ظلامها
يتامى على آثار سود كأنها
رئال دعاها للمبيت نعامها
لمن أخطأته أريحاء لقد رمت
فتًى كان حلَّال الروابي سهامها
لئن خرمت عني المنايا محمدًا
لقد كان أفنى الأولين اخترامها
فتًى كان لا يبلي الإزار وسيفه
به للموالي في التراب انتقامها
فتًى لم يكن يدعى فتًى ليس مثله
إذا الريح ساق الشَّوْل شلًّا جهامها
فتًى كشهاب الليل يرفع ناره
إذا النار أخباها لسارٍ ضرامها
وكنا نرى من غالب في محمد
خلائق يعلو الفاعلين جسامها
ولكن به عما يعيَّر والقِرى
إذا السنة الحمراء جلَّح عامها
وكان حيا للممحلين وعصمة
إذا السنة الشهباء حلَّ حرامها
وقد كان متعاب المطي على الوجا
وبالسيف زاد المرملين اعتيامها
وما من فتًى كنا نبيع محمدًا
به حين تعتز الأمور عظامها
إذا ما شتاء المحل أمسى قد ارتدى
بمثل سحيق الأرجوان قتامها
أقول إذا قالوا وكم من قبيلة
حواليك لم يترك عليها سنامها
أبى ذكر سورات إذا حلت الحبى
وعند القِرى والأرض بال ثمامها
سأبكيك ما كانت بنفسي حشاشة
وما دبَّ فوق الأرض يمشي أنامها
وما لاح نجم في السماء وما دعا
حمامة أيك فوق ساق حمامها
فهل ترجع النفس التي قد تفرَّقت
حياة صدًى تحت القبور عظامها
وليس بمحبوس عن النفس مُرسَل
إليها إذا نفس أتاها حمامها
لعمري لقد سلمت لو أن جثوة
على حدث رد السلام كلامها
فهوَّن وجدي أن كل أب امرئ
سيُثكل أو يلقاه منها لزامها
لعمري لقد راحوا برحل محمد
حلاء ومذعان مطوًّى زمامها
وقد خان ما بيني وبين محمد
ليال وأيام تناءى التيامها
كما خان دلو القوم إذ يُستقى بها
من الماء من متن الرشاء انجذامها
وقد ترك الأيام لي بعد صاحبي
إذا أظلمت عينًا طويلًا سجامها
كأن دلوحًا ترتقي في صعودها
يصيب مسيلَي مقلتَيَّ سلامها
على حرِّ خدي من يدَي ثقفيَّة
تناثر من إنسان عيني نظامها
لعمري لقد عورتُ فوق محمد
قليبًا به عنا طويلًا مقامها
شآمية غبراء لا غول غيرها
إليها من الدنيا الغرور انصرامها
فلله ما استودعتم قعر هوة
ومن دونه أرجاؤها وهيامها
وقد حلَّ دارًا عن بنيه محمد
بطيئًا لمن يرجو اللقاء لمامها
وما من فراق غير حيث ركابنا
على القبر محبوس علينا قيامها
نناديه نرجو أن يجيب وقد أتى
من الأرض أنضاد عليه سلامها
وقد كان مما في خليلي محمد
شمائل لا يُخشى على الجار ذامها

حرف الياء

قال:

لعمرك ما تجزي مُفدَّاة شقتي
وأخطار نفس الكاشحين وما ليا
وسيري إذا ما الطرْمِساء تطخْطخَت
على الركب حتى يحسبوا القف واديا
وقيلي لأصحابي ألمَّا تبينوا
هوى النفس قد يبدو لكم من أماميا
فما روضةٌ وسميةٌ رجبية
خلت وتحامتها الرياح تحاميا
بأطيب نشرًا من مفدَّاة موهنًا
إذا ما أرادت للضجيع تعاطيا
يلوذ بعطفيها وقد بذلت له
فراتًا كبيوت الوقيعة صافيا
فلما عرفت البذل منها وفرتها
على خلس يشفين مَنْ كان صاديا
ومنتجعٍ دار العدو كأنه
نشاص الثريا يستظل العواليا
كثير وغى الأصوات تسمع وسطه
وئيدًا إذا جنَّ الظلام وحاديا
وإن حان منه منزل الليل خِلْته
حراجًا ترى ما بينه متدانيا
وإن شذَّ منه الألف لم يفتقد له
ولو سار في دار العدو لياليا
نزلنا له إنَّا إذا مثله انتهى
إلينا مريناه الوشيج المواضيا
فلما التقينا فاءلتهم نحوسهم
ضرابًا ترى ما بينه متنائيا
وأخبرت أعمامي بني الفزر أصبحوا
يودون لو أزجوا إليَّ الأفاعيا
فإن تلتمسني في تميم تلاقني
برابية علياء تعلو الروابيا
تجدني وعمرو دون بيتي ومالك
يُدرُّون للنوكى العروق العواصيا
بكل ردينيٍّ حديد شباته
أولئك دوَّخنا بهنَّ الأعاديا
ومستنبح والليل بيني بينه
يراعي بعينيه النجوم التواليا
سرى إذ تغشَّى الليل تحمل صوته
إليَّ الصبا قد ظل بالأمس طاويا
دعا دعوة كاليأس لما تحمَّقت
به البيد واعرورى المتان القياقيا
فقلت لأهلي صوت صاحب قفرة
دعا أوصدي نادى الفراخ الزواقيا
فلما رأيت الريح تخلج نبحه
وقد هوَّد الليل السماك اليمانيا
حلفتُ لهم إن لم تجبه كلابنا
لأستوقدنْ نارًا تُجيب المناديا
عظيمًا سناها للعفاة رفيعة
تسامي أنوف الموفدين فنائيا
وقلت لعبديَّ اسعراها فإنه
كفى بسناها لابن إنسك داعيًا
فما خمدت حتى أضاء وقودها
أخا قفرة يزجي المطية حافيًا
فقمت إلى البرك الهجود ولم يكن
سلاحي يُوقِّي المربعات المتاليا
فخضتُّ إلى الأثناء منها وقد ترى
ذوات البقايا المعسنات مكانيا
وما ذاك إلا أنني اخترت للقرى
ثناء المخاض والجذاع الأوابيا
فمكنت سيفي من ذوات رماحها
غشاشًا ولم أحفل بكاء رعائيا
وقمنا إلى دهماء ضامنة القِرى
غضوب إذا ما استحملوها الأثافيا
جهولٍ كجوف الفيل لم يُرَ مثلها
ترى الزور فيها كالغثاءة طافيا
أنخنا إليها من حضيض عنيزة
ثلاثًا كذود الهاجريِّ رواسيا
فلما حططناها عليهنَّ أرزمت
هدوًّا وألقت فوقهنَّ البوانيا
ركود كأن الغلي فيها مغيرة
رأت نَعَمًا قد جنَّه الليل دانيا
إذا استحمشوها بالوقود تغيظت
على اللحم حتى تترك العظم باديا
كأن نهيم الغلي في حجراتها
تماري خصوم عاقلين النواصيا
لها هزم وسط البيوت كأنه
صريحية لا تحرم اللحم جاديا
ذليلة أطراف العظام رقيقة
تلقم أوصال الجزور كما هيا
فما قعد العبدان حتى قريته
حليبًا وشحمًا من ذرى الشول واريا

وقال يمدح يزيد بن عبد الملك وأمه عاتكة بنت يزيد بن معاوية:

لعمري لقد نبَّهتِ يا هند ميتًا
قتيل كرًى من حيث أصبحتُ نائيا
وليلة بتنا بالجبوب تخيَّلت
لنا أو رأيناها لمامًا تماريا
أطافت بأطلاح وطلح كأنما
لقوا في حياض الموت للقوم ساقيا
فلما أطافت بالرحال ونبهت
بريح الخزامى هاجع العين وانيا
تخطَّت إلينا سير شهر لساعة
من الليل خاضتها إلينا الصحاريا
أتت بالغضا من عالج هاجعًا هوى
إلى ركبتي هوجاء تغشى الفيافيا
فباتت بنا ضيفًا دخيلًا ولا أرى
سوى حُلمٍ جاءت به الريح ساريا
وكانت إذا ما الريح جاءت بنشرها
إليَّ شفتني ثم عادت بدائيا
وإني وإياها كمن ليس واحدًا
سواها لما قد أنطفته مداويا
وأصبح رأسي بعد جعد كأنه
عناقيد كرْم لا يريد الغواليا
كأني به استبدلت بيضة دارع
ترى بحِفافي جانبيه العناصيا
وقد كان أحيانًا إذا ما رأيته
يروع كما راع الغناء العذاريا
أتيناك زوَّارًا وسمعًا وطاعة
فلبيك يا خير البرية داعيا
فلو أنني بالصين ثم دعوتني
ولو لم أجد ظهرًا أتيتك ساعيا
وما لي لا أسعى إليك مشمِّرًا
وأمشي على جهد وأنت رجائيا
وكفَّاك بعد الله في راحتيهما
لمن تحت هاذي فوقنا الرزق وافيا
وأنت غِيَاث الأرض والناس كلهم
بك الله قد أحيا الذي كان باليا
وما وجد الإسلام بعد محمد
وأصحابه للدين مثلك راعيا
يقود أبو العاصي وحرب لحوضه
فُراتين قد غَمَّا البحور الجواريا
إذا اجتمعا في حوضه فاض منهما
على الناس فيض يعلوان الروابيا
فلم يُلفَ حوض مثل حوض هماله
ولا مثل آذيٍّ فراتَيه ساقيا
وما ظلم الملك ابن عاتكة التي
لها كل بدر قد أضاء اللياليا
أرى الله بالإسلام والنصر جاعلًا
على كعب من ناواك كعبك عاليًا
سبقتُ بنفسي بالجريض مخاطرًا
إليك على نضوي الأسود العواديا
وكنت أرى أن قد سمعت ولو نأت
على أثَري إذ يُجمِرون ندائيا
بخير أبٍ واسم ينادي لروعة
سوى الله قد كادت تشيب النواصيا
يزيد أمير المؤمنين وليتَها
أتتك بأهلي إذ تنادي وما ليا
بمدَّرعين الليل مما وراءهم
بأنفس قوم قد بلغن التراقيا
إليك أكلنا كل خفٍّ وغارب
ودوٍّ وجاءت بالحريض مناقيا
ترامين من يبرين أو من ورائها
إليك على الشهر الحرام تراميا
ومنتكثٍ عللتُ ملتاثه به
وقد كفَّن الليل الخروق الحواليا
لألقاك إني إن لقيتك سالمًا
فتلك التي أُنهي إليها الأمانيا
لقد علم الفسَّاق يوم لقيتَهم
يزيد وحواك البرود اليمانيا
وجاءوا بمثل الشاء غلفًا قلوبهم
وقد منَّياهم بالضلال الأمانيا
ضربتَ بسيفٍ كان لاقى محمدٌ
به أهلَ بدر عاقدين النواصيا
فلما التقت أيدٍ وأيدٍ وهزَّتا
عوالي لاقت للطعان عواليا
أراهم بنو مروان يوم لقوهمُ
ببابل يومًا أُخْرج النجم باديا
بكوا بسيوف الله للدين إذ رأوا
مع السود والحمران بالعقر طاغيا
أناخوا بأيدي طاعة وسيوفهم
على أمهات الهام ضربًا شآميا
فما تركَتْ بالمشرقَين سيوفكم
نكوبًا عن الإسلام ممن ورائيا
سعى الناس مذ سبعون عامًا ليقلعوا
بآل أبي العاصي الجبال الرواسيا
فما وجدوا للحق أقرب منهمُ
ولا مثل وادي آل مروان واديا
(تم ديوان الفرزدق.)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤