الإبداع والتمرد في حياة المصرية

مقدمة

أكتب هذه الورقة للمؤتمر الذي يُعقَد بالقاهرة من ٢٣-٢٤ أكتوبر ١٩٩٩م، تحت عنوان: «مائة عام على تحرير المرأة»، أكتبها هنا في بيتي في ولاية فلوريدا، إصبع صغير من الأرض محدود في جوف المحيط الأطلنطي وبحر المكسيك شمال جزيرة كوبا، تبعد عن الوطن عشرين ألف ميل، واليوم الثلاثاء ١٣ سبتمبر ١٩٩٩م، إجازة في الجامعة، وكل المدارس والمحلات مغلقة، وآلاف الناس تركوا بيوتهم هربًا من العاصفة المسماة «هوريكين فلويد» القادمة من المحيط بقوةٍ لم تحدث منذ ثلاثين عامًا، تهدد بتحطيم البيوت والأشجار، لم أعرف إلى أين أذهب، بقيت في البيت وحدي أتابع أخبار الهوريكين على شاشة التِّليفزيون وعيناي تتابعان حركة الرِّياح خارج النافذة تضرب الأشجار، تخيلت أنَّ الشجرة الضَّخمة المجاورة للنافذة سوف تسقط على البيت تهدمه، وأموت تحت الأطلال.

بدت الكوارث السياسية والاجتماعية في الوطن أقلَّ خطرًا من الكوارث الطبيعية في أمريكا الشمالية، عجز العلم والتكنولوجيا الحديثة عن التصدي للهوريكين أو التورنيدو وغيرها من العواصف القادمة من المحيط الأطلنطي، المذيعون والمذيعات في القناة رقم «٢» المحلية يُذيعون لحظة بلحظة اقتراب الهوريكين من شاطئ فلوريدا، يبدو الرعب على وجوههم، صور السيارات المتزاحمة على الطريق تحمل الرِّجال والنِّساء والأطفال بعيدًا عن الشاطئ، يسمُّونه بالإنجليزية «بالم بيتش»، إنه الشاطئ الذي أسكن فيه، شاطئ بديع تُظلله أشجار النخيل، كان هادئًا منذ أيام قليلة، مشيت حافية فوق الرمال، وسبحت في المياه الدافئة تحت أشعة الشمس، وسمعت إلى جواري صوتًا يقول: «أتكون الجنة أجمل من هذا؟»

أطرد من رأسي فكرة الموت بالهوريكين في ولاية فلوريدا، أفكر في الورقة التي أكتبها لمؤتمر المرأة في القاهرة، إذا كان الموت يقترب لحظة بعد لحظة، فلماذا أُسرع بكتابة الورقة بعنوان التمرد والإبداع في حياة المرأة المصرية؟

لكن فكرة الموت تطرد الأفكار الأخرى من رأسي، لا أكاد أذكر إلا أنَّني جئت إلى هنا منذ عشرين يومًا فقط، غادرت القاهرة فجر يوم ١٤ أغسطس ١٩٩٩م، حلقت في الجو أربعًا وعشرين ساعة داخل ثلاث طائرات، هبطت الأولى في فرانكفورت، والثانية هبطت في شيكاغو، والطائرة الثالثة حملتني جنوبًا إلى مطار ميامي، ثُمَّ حملتني السيارة السوداء الطويلة الليموزين إلى بيتي على شاطئ النخيل، تُشبه السيارة التي يركبها رؤساء الدول، من الداخل الصَّالون الأنيق، بار صغير من البلور، تُطل منه زجاجات وكئوس صحون صغيرة بها أنواع من المكسرات والبندق واللوز والفستق وأشياء أخرى لا أعرفها، موسيقى حالمة تنبعث من سقف السيارة، أتمدد فوق الأريكة الناعمة الوثيرة، أذنيَّ مسدودتان بفعل الضغط الجوي داخل الطائرة النفاثة، السائقة امرأة أنيقة تبدو كأنَّها أستاذة بالجامعة، قالت لي: «ويلكام (يعني أهلًا) بروفوسير إل ساداوي.»

انتهيت إلى صوت المذيع في التليفزيون يقول: إذا ضربت العاصفة نوافذكم الزجاجية ابتعدوا بسرعة وادخلوا الحمَّام، أعِدُّوا من الآن البطاطين داخلَ البانيو حتى لا يصيبَكم الزجاج المكسور بأذًى، ربما تخلع العاصفة سقف البيت، حينئذٍ اخرجوا من البيت، اتركوا باب البيت مفتوحًا، احملوا معكم زجاجات ماء وطعامًا وبطاطين، ربما تنقطع الكهرباء عن المدينة عدة أيام بعد العاصفة، ولا بُدَّ أن يكون معكم طعام وماء وأدوية للمرضى أو العجائز، خذوا أيضًا لُعب الأطفال ليلعبوا بها.

ضحكت وقلت: لُعب أطفال؟ تذكرت طفولتي وطفولة الناس في قريتي التي خلَتْ من لُعب الأطفال، لكننا كنا نركب الحَمِير، ونجد متعة كبيرة في القفز على ظهر الحِمارة، نضرب بطن الحِمارة بأقدامنا فتنطلق بنا تسابق الريح على شاطئ النِّيل، بدت طفولتي أجمل طفولة في العالم، لا بد أن موتي أيضًا سيكون أجمل موت في العالم، سأموت على شاطئ النخيل، أجمل شاطئ في العالم، يضعونني في صندوق منقوش عليه الاسم واللقب العظيم «بروفسير إل ساداوي!» لم يعد اللقب يُبهرني ولا الاسم ولا أيُّ شيء، لا أرغب إلا في شيء واحد، أن أعود طفلة في السابعة من العمر، تجري في الحقول الخضراء الواسعة وراء الفراشات الملونة، الطفولة هي عمري الذهبي، هي النهر الذي تتدفق منه كل أفكاري، هي منبع الإلهام والإبداع في حياتي كلها حتى اللحظة التي سوف تضرب فيها الهوريكين سقف البيت وأموت تحت الشجرة وفي يدي لُعبتي.

بين أصابعي في تلك اللحظة كان القلم، يتحرك فوق الورقة بأشكال غريبة ورسوم أطفال، أشجار نخيل ساقطة على الأرض، البيوت بلا سقوف ولا نوافذ ولا جدران، الأطفال يلعبون خارج البيوت، تذكرت أنَّني كرهت البيوت في طفولتي، والجدران الأربعة والسقف، وكنت أحلم بأنَّ الجدران سقطتْ والسقف انخلع وخرجتُ لألعب مع الأطفال، كنت أبكي داخل الجدران، أُطل من بين قضبان النافذة على الأطفال وهم يلعبون ومنهم أخي.

لماذا يخرج أخي ليلعب خارج البيت مع الأطفال وأنا أبقى مع أمي لأطبخ وأنظف المرحاض؟! وبدا هذا السؤال مناسبًا لأبدأ به ورقتي عن التمرد والإبداع في حياة المرأة المصرية.

(١) الأسئلة الطفولية

في طفولتي دارت في رأسي أسئلة طبيعية ترِد لكل الأطفال الذكور والإناث، كُنَّا نتطلع إلى السماء في الليل يبهرنا ضوء النجوم، ونسأل بالفطرة والطبيعة: مين خلق النجوم دي كلها؟ ويأتي الجواب: ربنا خلق النجوم، ويأتي السؤال الطفولي طبيعيًّا بعد ذلك: «ومين خلق ربنا؟» لكن هذا السؤال يبدو للأهل كأنَّما هو غير وارد، أو المفروض ألا يَرِد، ولا بد من سد الطريق على عقل الطفل أو الطفلة حتى لا يسأل مزيدًا من الأسئلة قد تمس المحَرَّمات.

تحت اسم المحَرَّمات يتوقف عقل الأطفال عن طرح الأسئلة الطبيعية، وإن كان الطفل أنثى فإن المحَرَّمات تكون مضاعفة؛ لأن القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية التي تحكم الذكور ليست هي القيم التي تحكم الإناث؛ بسبب هذه الازدواجية يتوقف عقل البنت عن التفكير في أشياء قد يُفكِّر فيها أخوها الولد، قد يحلم الولد أن يكون طيَّارًا يحارب الأعداء، لكن أحلام البنت تختلف، قد تحلم البنت بالزواج وولادة الأطفال دون أن تشعر بإثم اللذة الجنسية.

يرتبط الإبداع في حياة الإنسان بالحُلم الطفولي: ماذا أريد أن أكون في حياتي؟! السؤال الأول الذي يُبنى عليه الحُلم. قالت إحدى البنات لأبيها وهي في السابعة من العمر: «عاوزة أكون طيَّارة أضرب الإنجليز بالقنابل من الجو.» كان الأب يحكي لأطفاله عن الأعداء الإنجليز، وكيف ضربونا بالقنابل من الجو؟ وكان من الطبيعي لفتاة طبيعية أن تحلم بركوب الطائرة وتضرب الإنجليز كما ضربونا، كان أبوها يقول: الضارب يُضرَب، والقاتل يُقتَل، والعين بالعين والسِّن بالسِّن والبادي أظلم.

وقالت طفلة أخرى في السابعة من عمرها لأمها: «عاوزة أكون كاتبة زي بابا.» كان الأب كاتبًا يُمسك القلم ويكتب أشياءَ تثير خيال الطفلة، لكن الأم كانت في المطبخ معظم الوقت تقشر البصل والثوم، ولم تكن الطفلة تحلم أن تكون مثل أمها.

وماذا تفعل البنت بأحلامها الطفولية غير المقبولة من أمها وأبيها أو المجتمع من حولها؟! ولماذا يحلم أخوها بأن يكون كاتبًا مثل أبيه وعليها هي أن تحلم أن تكون مثل أمها؟! ويأتي الرد الشائع الذي تصمت بعده البنات: لأنكِ بنت وهو ولد، وإن سألت البنت سؤالًا آخر يقولون: ربنا قال كدة! ما إن تسمع البنت كلمة «ربنا» حتى تصمتَ تمامًا، ويكفَّ عقلها عن التفكير في الأمر، إن ما يقوله الله تعالى هو الحق، والله لا يُسأَل عن شيء، وتكف الطفلة تمامًا عن الأسئلة وترضى بالمصير الذي أراده الله لها.

ومَنْ هي الطفلة التي يمكن أن تتمرد على إرادة الله وتختار لنفسها مصيرًا آخر؟! يحتاج الأمر إلى شجاعة وثقة بالنفس حتى تتحدى إرادة الله وتحلم بمصير آخر غير مصير البنات مثيلاتها، يحتاج الحُلم إلى خيال وأمل وإصرار على تحقيق الحلم، لكن الإنسان لا يمكن أن يتخيل شيئًا لا يعرفه، وإن لم تعرف الطفلة أن لها عقلًا مثل أخيها الولد وأنها يمكن أن تكون كاتبة مثله أو مثل أبيها فإنها سوف تعجِز عن الحُلم بما لا تعرف، فكيف تعرف الطفلة أن لها عقلًا مثل أخيها الولد؟!

إن هذه المعرفة تُولَد مع الإنسان أو الإنسانة، يدرك بالفطرة أنَّه إنسان مثل الآخرين، أو إنها إنسانة قادرة على التفكير مثلهم. حين ذهبت إلى المدرسة وأنا طفلة أدركتُ أنني أفهم مثل أخي وزملائه الأولاد، بل أتفوق عليهم، لماذا لا أحلم إذن بأن أكون أستاذة أو كاتبة أو دكتورة أو طيارة أو فنانة في السينما أو المسرح أو أي شيء آخر أحبه.

تحتاج الطفلة في أول حياتها إلى مَنْ يساندها في حلمها في البيت أو في المدرسة أو أي مكان آخر، كالنبت الأخضر الصغير يحتاج إلى سند يحميه من الرياح التي يمكن أن تقضي عليه، إن حُرِمَت الطفلة هذا السند، إن لم تجد أحدًا يشجِّعها، فسوف يموت الحلم وتنشأ كما يريدون لها أن تكون.

لكن الحلم لا يموت تمامًا طالما هي تعيش، إنها تدفنه في جزء عميق من عقلها، كالصندوق المغلق تخفي فيه أحلام الطفولة والأسئلة الطفولية، تدفن فيه الوعي الطفولي الذي وُلِدَت به، الوعي الفطري الذي يُشكِّل الأنا الحقيقية وماذا تريد أن تكون، ربما يظل الصندوق مغلقًا طوال حياتها، تتزوج وتنجب وتعيش وتموت دون أن تفتح الصندوق، قد تتسرب من الصندوق أشياء أثناء نومها تراها في الأحلام ثُمَّ تنساها حين تصحو وتصحو معها الأنا الاجتماعية المصنوعة غير الطبيعية.

هذه الأنا الاجتماعية المزيفة أصبحت تحمل في العلم والطب النفسي لقبًا رفيعًا هو «الأنا العليا» أو «الأنا الواعية» أو «الوعي»، وأصبحت الأنا الحقيقية حبيسة الصندوق المغلق هي الأنا الدنيا أو الأنا غير الواعية أو «اللاوعي».

انقلبت الأوضاع في العلم والطب النفسي، وأصبحت الأنا المزيفة هي الأنا العليا الواعية، والأنا الحقيقية هي الأنا الدنيا غير الواهية، وتسعى وسائل التربية والتعليم (منذ نشوء العبودية) إلى تثبيت هذا الوضع المقلوب وفرضه على النِّساء والعبيد، باعتباره الوضع الطبيعي أو القانون الإلهي.

أقدَمَ العبيد والأُجَراء على ثورات امتدت في التاريخ البشري حتى يومنا هذا، إلا أن ثورة النساء لم تحدث بعدُ في أي بلد من بلاد العالم، إن الثورة تبدأ بالتمرد، وقد أصبح التمرد صفة ذكورية قد تنطوي على ميزات الرجل ذي الرجولة الصحية القائمة على القوة والشجاعة والإقدام والتمرد والثورة، قد يصبح الرجل المتمرد أو الثائر بطلًا شعبيًّا يحترمه الناس، لكن المرأة الثائرة المتمردة تبدو للناس غير طبيعية أو ناقصة الأنوثة.

وهذه إشكالية لا يفطن إليها الرجال الثوار أو الأحزاب السياسية التقدمية التي تحارب الظلم أو العبودية أو الاستعمار القديم أو الجديد، وكذلك أطباء النفس ونُقَّاد الأدب.

(٢) تحطيم الأنا العليا المزيفة

ترتبط صفات الأنوثة منذ نشوء العبودية بالخضوع والطاعة والاستسلام للمصير الأنثوي الذي فرضه الله والمجتمع، منذ الولادة تدرك الطفلة بالوعي الطبيعي الفطري أنها لا تقبل الخضوع ولن تستسلم للظلم، منذ الطفولة الأولى تدرك البنت القيود التي تُفرَض عليها، وهي تقاومها على نحو طبيعي تلقائي، إنها تتمرد على القيود بالوعي الذي وُلِدَت به، ولكن هذا التمرُّد سُرعان ما يتوقَّف حين يختفي الوعي الطبيعي تحت طبقات الوعي المزيَّف مع نمو الأنا العليا الاجتماعية المزيفة، المضلَّلة بالقيم الأنثوية السائدة والقيم الأخلاقية التي يؤمن بها المجتمع، تتحول الطفلة إلى زوجة خاضعة يحكمها قانون الطاعة، وإلى أم مثالية مُضحِّية من أجل أطفالها وأسرتها، تملأ الرفوف في بيتها بالمساحيق والكتب التي تشيد بالأنوثة الكاملة والأمومة العظيمة، تردد ما تقوله أمها والنساء من حولها، قد تفوز بجائزة الأم المثالية أو الطبيبة المثالية أو الأديبة المثالية، وكلها جوائز تؤكد بها أنوثتها وأمومتها وقدرتها على الخضوع للقيم التي يحترمها الناس في المجتمع.

في الحُلم قد تتضخم الأنا الاجتماعية المزيفة وتصبح عملاقًا كبيرًا يشبه الصنم الضخم أو الإله المعبود تحمله فوق رأسها كالتاج، يتحول في الحُلم إلى حيوان مفترس أو ثعبان يهبط من رأسها ويلتف حول عنقها، تصحو من الحلم مذعورة ثُمَّ تنام وفي الصَّباح تنسى الحلم، إن لم تَنْسَهُ وحكَتْه لأحد أطباء النفس يُفسِّر لها الحُلم على الطريقة الفرويدية الحديثة، هذا الثُّعبان هو اللاوعي أو الأنا الدنيا أو «الإد» غير الواعي، حيث تكمن غريزة الحياة أو شهوات الجنس، ينصحها الطبيب النفسي أن ترقى بنفسها إلى القيم العليا أو الأنا العليا لتكون امرأة مثالية مُحترَمَة من الجميع ولا يتهمها أحد بالتمرد أو عدم التكيف مع المجتمع، وتقول لها جدتها: هذا الثعبان في الحلم هو عدوك؛ فاقتليه قبل أن يقتلَك. وتنسى الفتاة أحلامها وكلام جدتها؛ لأنَّها تخاف من الثعبان، ولا تعرف كيف تقتله.

النسيان هو المقبرة الذي يُدفَن فيه الإبداع أو الوعي الحقيقي الطفولي الذي أصبح يحمل اسمًا علميًّا لا يدل عليه، وهو «اللاوعي»، والذي أصبح يشتمل على غريزة الحياة ومعها غريزة الجنس والشهوات وكل ما يبعث على الخزي والعار في حياة المرأة المثالية ذات الأنا العليا المتضخمة.

هذا التناقض هو أساس الفكر العبودي السائد في العالم حتى اليوم، إن غريزة الحياة التي هي أقدس شيء في الحياة تحافظ على حياة الإنسان هي نفسها شهوة الجنس أحط شيء في نظر الناس، خاصةً بالنسبة للمرأة، هذا التناقض نفسه موجود في العلم والطب النفسي، إن أقدس شيء في الحياة (غريزة الحياة أو شهوة الجنس) يكمن في اللاوعي أو ما يسمونه اللاوعي أو الأنا الأدنى أو الشيطان محطم الإنسان. والحقيقة أن الأنا الأعلى هي التي تقتل في الإنسان أقدس ما لديه؛ وهو حياته وعقله وإبداعه الفطري الطبيعي.

وأصبح على الإنسان (امرأة أو رجل) أن يحطم هذه الأنا الأعلى المزيفة من أجل أن يكون مُبدعًا، أصبح على المرأة المبدعة أن تحطم هذا الصنم المزيف المصنوع اجتماعيًّا منذ الطفولة حتى الموت.

إنها عملية صعبة، قد تبدو مستحيلة في حياة النساء؛ لهذا تعيش وتموت أغلب النساء دون أن يُسهِمن في الأعمال الإبداعية، ويتساءل نقاد الأدب: «لماذا يزيد عدد الأدباء المبدعين عن عدد النساء؟! لماذا يزيد عدد العباقرة من الرجال عن عدد النساء؟!» لا يدرسون التاريخ منذ نشوء العبودية، لا يعرفون شيئًا عن القيم الطبقية الأبوية السائدة حتى اليوم، لا يعرفون شيئًا خارج تخصصهم (النقد الأدبي) ويردون على أنفسهم قائلين: «العبقرية صفة ذكورية.»

إن أفلتت امرأة من القيود وحطمت الأنا الأعلى المزيفة ومعها القيم الطبقية الأبوية السائدة وأبدعت شيئًا في مجال العلم أو الأدب، فإنهم لا يفهمونه، يبدو لهم إبداعها نوعًا من الخروج عن القيم، يحكمون عليه حُكمًا أخلاقيًّا أو سياسيًّا دون أن يفهموه، وكم تُدفَن الأعمال الإبداعية للنساء لهذا السبب! يتم تجاهلها باعتبارها غير أخلاقية أو غير وطنية مؤمنة بالدين، وقد يشخصها أطباء النفس بأنها غير معقولة أو غير عاقلة ومكانها الصحيح هو المستشفى النفسي.

(٣) عملية الكبت «المكبوت منذ الطفولة»

يسعى الوعي أو الأنا العليا الاجتماعية المزيفة (خاصةً في حياة النساء) أن تجعل نفسها غير واعية بشهوة الحياة أو غريزة الجنس أو غيرها من الرغبات القوية في حياة الإنسان، بمعنى آخر تصبح الأنا العليا غير واعية بالقوة الإنسانية المبدعة في أعماقنا التي تحافظ على حياتنا، تصبح الأنا العليا غير الواعية بالنهر المتدفق في أعماقنا منذ الطفولة، ويمكن لهذه الأنا العليا أن تؤلف العديد من الكتب والمقالات التي يهلل لها النقاد وتحظى بالجوائز، إلا أنها تظل أعمالًا خاليةً من الإبداع لا تمس وجدان الناس، أو لا تصل إلى النهر المتدفق داخل الإنسان المكبوت منذ الطفولة.

إن هذا النهر الطُّفولي المبدع موجود لدى كل إنسان امرأة أو رجل، إنه منبع الإبداع يتدفق مع صحوة الذاكرة، إنه ليس صفة يحظى بها فقط العباقرة، إنه ليس إلهامًا يسقط علينا من السماء، إنه موجود داخل صدورنا وعقولنا منذ وُلِدنا من بطون أمهاتنا، إنه حقيقة لا يعرفها العلماء والأطباء الذين يُطلِقون عليه اسم اللاوعي أو الأنا الأدنى.

إنه حقيقة لا يعترف بها أصحاب وصاحبات الأنا العليا المتضخمة اجتماعيًّا، أو الناجحة سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا؛ لأنها تتعارض مع إحساسهم بالتميز أو العبقرية.

عملية الكبت تحدث في حياة جميع الأطفال، ذكورًا وإناثًا، لكنها تحدث بدرجة أشد في حياة البنات؛ فالبنت تشعر بالعار وإن كانت ضحية اعتداء أو اغتصاب، البنت تشعر بالإثم وإن كانت طفلة لا تعرف ما هو الإثم، تحاول البنت التكفير عن ذنوبها بمزيد من الطاعة والصلاة والخضوع. منذ السابعة من عمري وأنا أركع وأصلي وأطلب من الله أن يغفر لي ذنوبي، ثُمَّ بدأت أدرك أنني بريئة ولم أقترف ذنبًا، كنت أتصور أن ما يحدث في أعماقي جريمة، وما يدور في رأسي من أفكار وما يظهر على جسدي كلها آثام تستوجب دخول النار، ثُمَّ تحررت من الإثم حين سمعت أمي تقول: «مافيش نار ولا حاجة.» لقد فتحت هذه العبارة الصغيرة الطريق أمامي، تحررت من الخوف من نار الآخرة وبدأت أفكر في حياتي التي أعيشها في الدنيا.

ما درجنا على تسميته اللاوعي هو الوعي الأعلى، منبع الإبداع، ما درجنا على تسميتها الغرائز الدنيا هي غريزة الحياة العليا، هي نهر الوعي الغزير الذي نسد عليه الطريق تحت الضغوط الاجتماعية، تبدأ عملية الإبداع بالكف عن عملية الكبت، بإزالة الأحجار التي سددنا بها مجرى النهر.

الإبداع هو اكتشاف هذا النهر وفتح الطريق أمامه، نحن لا نخلق هذا النهر، إنه موجود في أعماقنا منذ الطفولة.

الإبداع ليس إلا اكتشاف ما هو موجود، وإعادة اكتشافه في ضوء جديد، الإبداع هو العودة إلى المعرفة الفطرية التي عرفناها في الطفولة.

أدركت مؤخَّرًا وبعد أن تجاوزت الستين من عمري أنني لم أكتب شيئًا لم يكن كامنًا في صدري منذ الطفولة، همست بهذه الحقيقة في أذن أحد الشعراء في جنوب أفريقيا؛ فصاح قائلًا: «كنت أظن أنني الوحيد الذي أشعر بهذا.»

يحتاج الأمر إلى شجاعة لطرح السؤال الطفولي الأول من نوع: «من خلق ربنا؟» هذا السؤال الطفولي المكبوت هو الذي قاد إلى أعظم الاكتشافات في عالمنا الحديث ومنها الكمبيوتر والإلكترون والكويكر وعلم الكون الجديد، منذ أدركنا أن الأرض كروية وليست مسطحة، وأنها تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون لم يُخلَق في ستة أيام بل في ملايين السنين، وأن المرأة لها عقل وذكاء مثل الرجل؛ وبالتالي لا يحق له أن يسيطر عليها أو يحبسها في البيت لتطبخ له، أو يفرض عليها الحجاب والعزلة بعيدًا عن الحياة العامة.

إلا أنَّ المؤسسات السياسية والدينية في المجتمع تقاوم هذه الأفكار المتدفقة من المخزون الطفولي القديم، وإلا لانهارَ النظام الطبقي الأبوي، وتحررت الأغلبية الساحقة من البشر من قمع الطبقة الحاكمة أو الأقلية التي تملك النفوذ والمال. وكيف يمكن للأقلية أن تسيطر على الأغلبية الساحقة وتسرق قوتهم وعرقهم؟! كيف يمكن للرجال أن يسيطروا على النساء ويسرقوا منهن الشرف بالإضافة إلى العرق والجهد؟! كيف يمكن أن تستغل الحكومات شعوبها، وكيف يمكن أن يسيطر منطق القوة المسلحة على الحق في السياسات الدولية والمحلية؟! كيف يتحقق ذلك دون تخويف الأغلبية الساحقة من النساء والرجال بالقوة المقدسة في السماء والقادرة على البطش بالمتمردين والمتمردات الذين يرفعون راية العصيان ضد إرادة الله والوطن والملك.

في طفولتنا في المدارس كنا ننشد كل صباح في الطابور قبل الدخول إلى الفصول: الله، الوطن، الملك، ننطق الثلاثة في نفس واحد، كأنما الثلاثة شيء واحد، ومن يعصِ أحدَهم فقد عصَى الآخر، أو من يهتف بسقوط أحدهم فقد هتف بسقوط الآخر.

بعد سقوط الملك عام ١٩٥٢م خطر لي السؤال الطفولي: أيسقط معه الاثنان الآخران؟ وظل السؤال مكبوتًا في المخزون الواعي العميق المُسَمَّى باللاوعي حتى بلغت الخمسين عامًا ودخلت السجن حيث أدركت أن الملك لم يسقط؛ فقد تغير اسمه.

(٤) الإبداع والشيطان

مع تصاعد القوى السياسية الدينية في بلادنا منذ السبعينيات من القرن العشرين اشتدت القيود على النساء والفقراء. لقد زاد الفقراء فقرًا، وحُرمت الأغلبية الساحقة من الضرورات المادية، ولا بد من قمعهم بالوسائل الروحانية ومزيد من المواعظ الدينية، انتشرت ظاهرة التدين بين الرجال وظاهرة الحجاب بين النساء، اشتدت عمليات التخويف من عذاب القبر والحرق في نار جهنم الحمراء، وتعليق المرأة من شعرها يوم القيامة إن خالفت الله أو الأب أو الزوج. تختلف القيم التي تحكم الذكور عنها عند الإناث، يهتف الذكور: الله، الوطن، الملك. لكن الإناث يهتفن: الله، الأب، الزوج.

في ندوة بإحدى كليات جامعة القاهرة عام ١٩٩٢م وقفت إحدى الأستاذات الكبيرات تعارض ما قلته عن العلاقة بين التمرُّد والإبداع، كانت تلف رأسها بحجاب سميك، وهتفت بغضب: طاعة الزوج من طاعة الله! ثُمَّ أضافت أن ما أقوله ينتمي إلى الشيطان.

وتساءلت: لماذا ارتبط الإبداع بالشيطان؟ لماذا نقول مثلًا شيطان الفن أو شيطان الشِّعر؟ ولماذا نشعر بلذة حين نقرأ قصيدة من الشعر، أو حين نسمع قطعة موسيقية، أو نرى لوحة فنية، أو نقرأ رواية، أو نشهد رقصة بديعة؟

إن ارتباط الشيطان بهذه اللذة الفنية لا يمنعنا من الإحساس بها، وبالمثل إن ارتباط الشيطان باللذة الجنسية لا يمنعنا من الإحساس بها، فهل توجد علاقة بين لذة الإبداع ولذة الجنس؟!

حاول العلم أو الطب النفسي حل هذه الإشكالية أو هذا التناقض، بالنظرية القائلة إن منبع هذه اللذة هو اللاوعي أو الأنا الأدنى، حيث تكمن الشهوات الشيطانية والغرائز (منها غريزة الحياة)، ولا بد أن منبع الإبداع هو هذا اللاوعي؛ ومن هنا ارتبط الإبداع بالشيطان.

كيف إذن نشجع أطفالنا من الذكور والإناث على الإبداع وهو يرتبط بالشيطان؟! كيف نصور لهم أن لذة الجنس آثمة وفاسدة مع أنها غريزة الحياة الواعية القادرة على حمايتنا؟

لولا غريزة الحياة القوية المبدعة لاندثرت الحياة من فوق الأرض، لولا الإبداع الإنساني المستمر ضد الموت والقيود والقمع لاندثرت الحياة فوق الأرض؛ لهذا يبدو الرجل المبدع متمرِّدًا ثائرًا ضد كل القيود التي يمكن أن تضعف وعيه وإبداعه، ومنها القيود الجنسية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية. وقد يغفر المجتمع للرجال المبدعين لأنهم رجال، ولأن الرجل لا يعيبه إلا جيبه، أمَّا النساء أو الفقراء من الرجال المبدعين، فإن المجتمع لا يغفر لهم شيئًا، بل إن حسناتهم قد تنقلب إلى سيئات، ويحظى بالجوائز قلة من الرجال يحملون لقب عباقرة، يضربون مثلًا شائعًا للإبداع بأنه الفوضى وعدم المسئولية والتعددية الجنسية. وكم اشْتَهر هذا الشاعر الكبير بأنه زير نساء، أو اشْتَهر هذا الأديب الكبير بأنه يشرب الخمر أو مدمن على الفساد، ولا يحافظ على مواعيده أو وعوده، ولا يكاد يُفيق من غيبوبة الإبداع أو اللاوعي.

إلا أن هذه الغيبوبة وهذه الفوضى أو اللامسئولية لا تحدث له مع أصحاب النفوذ والسلطة؛ إذ سرعان ما يُفيق هذا العبقري الكبير ويصل قبل موعده المحدد مع الوزير أو الرئيس، نحن نعيش هذه الازدواجية في القيم كلَّ يوم أن ندركها، لكنها تمر علينا، نتقبلها صاغرين لأنها القيم السائدة، قد يعتبرها بعض المفكرين الكبار جزءًا من هُويتنا الوطنية الأصيلة يجب الحفاظ عليها كما نحافظ على ختان الإناث وفرض الحجاب عليهن حفاظًا على الفضيلة والعفة والأخلاق.

حقيقة الأمر أنَّ الإبداع لا يعني الفوضى واللامسئولية والعربدة في حانات الليل أو الانتقال من امرأة إلى امرأة أو من رجل إلى رجل، إن صفة «الدون جوانية» نقيض الإبداع في الرجال والنساء، إن هذا الأديب الكبير الدون جوان لم يعرف لذة الجنس ولا لذة الإبداع؛ وبالتالي فهو دائم البحث عنهما دون جدوى، كالمعدة المريضة لا يزيدها الماء إلى ظمئًا. قد تظهر لنا صورة هذا الأديب (أو الأديبة) في الصحف كل يوم أو كل أسبوع، قد يكتب الآلاف من المقالات والمئات من الكتب، قد يمارس الجنس مع نساء العالم، قد يحظى بالجوائز الكبرى والصغرى، إلا أنَّه يظل دائمًا كالمعدة المريضة لا يزيده الماء إلا عطشًا.

إن انتشار هذه الصورة عن الشخص المبدع لا تعني أنها الحقيقة، إن انتشار القيم المزدوجة في بلادنا لا تعني أنها القيم الإنسانية الصحية؛ لأن الازدواجية في حد ذاتها مناقضة للأخلاق. إنها تعني الكذب وتعني الظلم، والسبب في انتشارها آلاف السنين واستمرارها حتى اليوم (ومنذ نشوء العبودية) ليس لأنها صحيحة وعادلة، بل لأنها تُفرَض بالحديد والنار على الأغلبية الساحقة، بقوة البطش السياسي والديني معًا، وقد يكون هذا البطش خفيًّا مستترًا وراء كلمات جميلة من نوع الطاعة والفضيلة والإيمان والمثالية والوطنية والشرف والأخلاق والأمومة والأنوثة … إلخ.

(٥) لذة الإبداع

ترتبط قوة الإبداع باللذة الكبيرة المصاحِبة لعملية الإبداع ذاتها بصرف النظر عن العواقب أو النتائج، وهي تشبه قوة غريزة الحياة، بل إنها هي قوة غريزة الحياة ذاتها، إنها الوعي الأعلى الإنساني الذي تم تجهيله وتأثيمه وتسميته اللاوعي.

هذه اللذة يحسها الأطفال في بداية الطفولة الأولى، يلعبون، ينتفض كيانهم بلذة طاغية تشمل الجسد والعقل والروح في كيان كلي لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر. هذه اللذة تفوق اللذة الجنسية ولذة الأكل ولذة النوم، ويعرف المبدعون والمبدعات هذه اللذة، التي تجعل الواحدة أو الواحد منهم ينسى الأكل والنوم والجنس، ويستغرق في الكتابة أو الرسم أو أي عمل آخر.

هذه اللذة الطاغية تتضاءل إلى جوارها ملذَّات الدنيا والآخرة، هذه اللذة الطاغية قادرة على تحويل أي خسارة إلى مكسب، وأي يأس إلى أمل، وأي ضعف إلى قوة.

هذه اللذة تصاحب العمل الإبداعي وتنتهي بانتهائه، وهي التي تجعل المبدعة أو المبدع يبدأ ويعمل من جديد، لا يتوقف عن الإبداع حتى الموت، يتلاشى الماضي والحاضر والمستقبل في لحظة واحدة هي لحظة الإبداع، هي اللحظة الحاضرة الممدودة إلى الأبد، هنا والآن.

«أنا أكتب رواية»، تنطقها الكاتبة الأديبة بلذة أكبر من أن تقول «أنا كتبت رواية»، إن الفعل في الحاضر هو اللذة وهو الإبداع، وليس هو الفعل الماضي.

ألهذا السبب يبدو كل عمل إبداعي ناقصًا لا يكتمل أبدًا، إن العمل الإبداعي ما هو إلا إشارة إلا عمل إبداعي آخر أكثر إبداعًا.

إذا ركزنا على العملية الإبداعية ذاتها أثناء حدوثها هنا والآن فإنها تبدو موحية أكثر، تصبح مغامرة ممتعة في المجهول وليست إنتاجًا من الأعمال أو الكتب أو اللوحات التي تبدو ناقصة عقيمة.

إن لذة الإبداع مثل لذة الحياة تبلغ ذروتها هنا والآن.

نَوَال السعداوي
بوكاراتون، فلوريدا، ١٣ / ٩ / ١٩٩٩م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤