فدوى طوقان١

رحلة جبلية صعبة

منذ أيام قليلة، جمَعنا مكان واحد فوق الجبل في الضفة الشرقية، رأت بعينيها الأطفال يقيمون المتاريس ويواجهون رصاص العدو. كلهم أطفالي. هكذا قالت، ثُمَّ ضمَّت كفيها الصغيرتين فوق صدرها تحت الشال الصوفي الأخضر: ولي هنا طفلة اسمها «طروب» أجيء إليها عبر الحدود، وفي كل مرة أقف أمام شباك التصاريح، ولي عنها قصيدة في ديواني الأخير (تموز والشيء الآخر) مُهداة إلى «طروب»:

آهٍ يا غنوة حب عذبة، يا لحن مزهر،
اقرئيني في الغد الآتي وإذ تصبحين يا حلوة أكبر،
اقرئيني في الغد الآتي؛ فشعري
صورة من واقع جهم مكدر،
أمس يا حبة عيني
فاض بي شوق إلى مرآك، شوق لا يصوَّر.

وجهها وهي تنشد الشعر أضاء وتورَّد، وأصبح كوجه فتاة عاشقة في العشرين. توقفت عن الإنشاد فجأةً وصمتت؛ فهبط الحزن فوق ملامحها كالشيخوخة المفاجئة.

سبعون عامًا — ربما منذ وُلِدَت في «نابلس» — لا تعرف تاريخ ميلادها بالضبط. كانت أمها في «نابلس» (مثل جدتي في «كفر طحلة»)، تؤرخ الوقائع حسب تغيرات الجو أو الأحداث الكبيرة تقول مثلًا: جرى ذلك عام الثلجة الكبيرة أو عام الجراد أو عام الزلزال. وحين سألتْ أمها: متى وُلِدت؟ قالت: كنتُ يومها أطهي عكوب (بقلة شائكة تنبت في جبال نابلس في شهور فبراير ومارس وإبريل). هذه هي شهادة ميلادها الوحيدة، لكنها تذكر أنها خرجت إلى الدنيا والإمبراطورية العثمانية تلفظ آخر أنفاسها، وجيوش الحلفاء تواصل فتح الطريق لاستعمار غربي جديد (١٩١٧م). وفي سبتمبر تم احتلال باقي فلسطين، وفي نابلس ألقى الإنجليز القبض على أبيها ونفَوْه خارج وطنه. لم تفرح أمي بولادتي! تُرى هل ربطت مقدمي إلى العائلة بالنحس الذي طرأ عليها؟ أعني إبعاد الإنجليز لأبي منفيًّا؟!

وانفرجت شفتاها عن ابتسامة واهنة، وظل وجهها نحيلًا حزينًا، واشرَأبَّت أذناها مرهفتَيْن لأي صوت يحمله الهواء عبر الحدود، جسمها الصغير الضامر انتفض فوق الكنبة البيضاء: هذه طلقة رصاص، وطفل آخر يسقط، كلهم أطفالي في نابلس والضفة، وهنا لي طفلتي طروب. أهي ابنتك؟ لا، أكثر من ابنتي، بيتي في نابلس حيث وُلدت، وحيث كتبت الشعر، لم أهجر وطني أبدًا، ولم أهجر الشعر أبدًا، كان عليَّ أن أختار بين الزواج والشعر فاخترت الشعر، وأنجبت كل أطفال نابلس، وطروب أيضًا:

فاض بي شوق إلى مرآك، شوق لا يصوَّر؛
فتجهزت بتصريح لكي يأذن ضباط وعسكر،
بعبوري نهرنا العاني على حلم التحرر،
ولدى الشباك في الجسر انتظرت الدور في صمت وفي صبر.
حان دوري فتقدمت أحث الخطو جذلى،
ولتعسي رد لي الجندي تصريحي وأقصاني بعيدًا وتأمَّر:
«ارجعي من حيث أقبلْتِ.»
«لماذا؟»
«ارجعي من حيث أقبلْتِ.» وزمجر.
قلت: ما ذنبي؟ أنا لم أعصِ أمرًا ولا زعزعتُ أمنًا،
لا ولا حرضت أو شاغبت في دولة «قيصر»،
… خبروني … أين ألقى ضابط الجسر؛
عسى يشرح الضابط لي ما لم يفسر،
فأنا من فرط حرصي، وأنا من فرط حبي لبلادي وأرضي،
ولبيتي ولبستاني وجيراني وللأشجار والأطفال والأحجار،
«والدوار» والسوق وأصحاب الدكاكين،
ومن خوفي من الإبعاد والنفي الذي يقطع مثل خنجر،
لم أزل أحتمل الإذلال والقهر وأصبر.
صاح في حدَّته القصوى: «افهمي يا هذه ما قلتُ
هيا وارجعي من حيث أقبلت.» وأقصاني بعيدًا وتوتر …
فتراجعت بخطو يتعثر،
إي وربي لم أعد أفهم شيئًا،
غير كوني في زمان اليتم والحكم اليهودي المقدَّر،
ليس لي «معتصم» يأتي فيثأر،
لا ولا «خالد» في اليرموك يظهر …
عُدت أدراجي وجرح القلب يدمى وبعيني دموع تتحدر.
١  نُشر بجريدة الأهرام، ٢٤ فبراير ١٩٨٨م، ص١١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤