تأملات على بحيرة مارينا١

دعتني إحدى الصديقات القديمات لزيارتها في الفيلا التي تطل على بحيرة «مارينا» على الساحل الشمالي، كانت المرة الأولى التي أذهب إلى هذا المكان الجديد الذي يرتبط في خيال الكثيرين بالطبقة الجديدة صاحبة الملايين أو البلايين. أخذت معي المايوه لأسبح في البحيرة، وكتابًا أقرأ فيه إن شعرت بالملل؛ فأنا أعرف صديقتي منذ الدراسة في كلية الطب، وأعرف لماذا تدعوني بكل هذا الإصرار رغم فتور العلاقة بيننا منذ الانفتاح، فجأة انقلب زوجها من الحديث عن الاشتراكية والقطاع العام إلى الحديث عن الرأسمالية والقطاع الخاص.

تذكَّر أن خاله الباشا مات بالذبحة الصدرية بعد أن فرض عليه جمال عبد الناصر الحراسة، والأرض التي ملكتها العائلة الكريمة أخذتها الدولة، ولم يبقَ إلا الشقة الكبيرة في الزمالك والعمارة في المعادي، لكن الله فتح عليه منذ أيام الانفتاح الأولى؛ فهو يعرف دنيا المال والاستثمار، ويسافر إلى باريس ولندن وجنيف ونيويورك، ويتكلم ثلاث لغات، ينحني حين يصافحني قائلًا: «أهلًا نوال هانم.» كلمة هانم تخرج من بين شفتيه الرقيقتين مع دخان السيجار الفاخر.

كان اليوم مشرقًا، الشمس تتألق فوق المياه الرقراقة تلامس الشاطئ في موجات صغيرة ناعمة ناعسة. ارتديت المايوه، وأسرعت لألقي نفسي في البحيرة كالطفلة، كنت أنجذب إلى المياه الزرقاء الصافية أكثر من التحف الفاخرة التي كدستها صديقتي في الفيلا، والشبْكة الثمينة المرصَّعة بالفصوص المشعة التي انشبكت بها ابنتها لأحد كبار التجار أو رجال الأعمال. نطقت كلمة «الأعمال» كأنها هي إحدى المقدسات الجديدة. وأسألها: ما هي هذه الأعمال؟ فترد بكلمة إنجليزية أكثر غموضًا هي «البزنس».

تمددت بالمايوه على الرمال تحت أشعة الشمس، تركتني صديقتي وراحت تُشرف على أمور الفيلا ووليمة الغداء. تحلو القراءة على الشاطئ وهواء البحر واليود والأكسجين يملأ الرئتين. فتحت الكتاب وبدأت أقرأ، عيناي تتركان الصفحة وترمقان الوجوه والأجسام التي تتمشى على الرمال، بنات رشيقات بالمايوه المكشوف أعلى الفخذين، وبنات سمينات مترهلات داخل الفساتين الواسعة الطويلة، رءوسهن ملفوفة بالحجاب، يتصببن بالعرق، يرمقن البنات السابحات في المياه بحسد، يختفي الحسد تحت نظرة ازدراء أو حركة امتعاض بالشفتين الممطوطتين.

لمحت وجه فتاة تلف رأسها بإيشارب أحمر، يتدلى من أذنيها قرط ضخم يلمع تحت الشمس، بشرتها بيضاء مدهونة بالأصباغ والمساحيق، شفتاها مصبوغتان بلون أحمر قانٍ، تتعثر في ذيل فستانها الحريري الطويل، يتأرجح جسمها المربع الممتلئ فوق كعبين عاليين ينغرزان في الرمل، إلى جوارها تمشي أمها، تكاد تشبهها، إلا أنها أكبر سنًّا، تلف رأسها بطرحة بيضاء مثل العائدات من الحج. ابتسمت الأم حين لمحتني وقالت: إزيك يا دكتورة … تذكرت ملامحها، كانت تجلس في دكانة البقالة بالقرب من بيتي في الجيزة، كنت أشتري منها الجبنة البيضاء والبيض والبسطرمة، زوجها البقال اسمه محمد، مربع سمين أبيض يكاد يشبه زوجته، كان يرتدي جلبابًا، فجأة تغير البقال محمد في أيام الانفتاح، بدأت أرفف جديدة تملأ الدكان، تتكدس عليها زجاجات المياه المعدِنية المستوردة، وسفن أب، وشويبس، واللبان الأمريكي تشوجام. وارتدى محمد بدلة وحذاءً جلديًّا أسود، بدت عليه سمات الأفندية، يحرك بين يديه سبحة صفراء، ويغير الدولارات في السوق السوداء. اتسع دكانه واشترى قطعة الأرض المجاورة، بنى عليها عمارة عالية، في الدور الأرض أقام معرضًا كبيرًا للسيارات، أصبح يأتي إلى الدكان داخل سيارة مرسيدس، تحول الدكان إلى سوبر ماركت. كانت ابنته طفلة، لا بد أنها الفتاة التي تمشي إلى جوار أمها، سمعتها تقول لي: «شفناكي في الدش يا دكتورة مع واحد شيخ مش فاكرة اسمه، كان عصبي شوية، لكن ليه يا دكتورة مش لابسة الحجاب؟ مش حرام كدة المايوه؟!»

جلست الأم وابنتها معي بعض دقائق، دار الحوار على الحرام والحلال، ترهف البنت أذنيها المثقلين بالقرط الضخم، ربما تستمع لأول مرة في حياتها إلى أن المايوه ليس حرامًا فوق شاطئ البحر؛ فالمفروض أن البحر للسباحة، والسباحة رياضة ممتعة من حق النساء والرجال وليس الرجال فقط.

جاء البقال محمد، الذي أصبح برونزي اللون، يرتدي «مايوه ملون»، جسده سمين مترهل، له كرش قبيح المنظر، إلا أنه يشمخ بأنفه بكبرياء ونوع من الغطرسة، قال: «أهلًا يا دكتورة.» بطرف لسانه، ربما لم يعجبه أن تجلس ابنته وزوجته مع امرأة ترتدي المايوه، يتحدث إليها بلهجة خشنة، يأمرها بالعودة إلى الفيلا، نطق كلمة الفيلا بالفاء، رنت في أذني «الفلة»، مثل سدادة الزجاجة من الفلين.

أصبحت جالسة وحدي على الرمال، لم أعد قادرة على القراءة، أريد أن أتابع هذه الطبقة الجديدة التي تتحرك منذ الانفتاح، منهم من أطلق عليهم اسم «القطط السمان». رأيتهم يتمشون على الشاطئ بأجسامهم السمينة القصيرة يشبهون القطط المستأنسة في البيوت، أردافهم متهدلة، إلا أن عيونهم تلمع كعيون القطط، سيقانهم رفيعة مشدودة، حركتها سريعة متوترة، يدخلون بها مسرعين إلى البنك المركزي، ومنه ينطلقون إلى مكاتب أصحاب النفوذ، في مجالات الاستثمار أو التنمية والاستيراد والتصدير، في الغرفة التِّجارية، وفي الغرفة المظلمة حيث يعدون أوراق البنكنوت، ولا يمكن لهم أن يدفعوا ضرائب؛ فالمفروض أنهم لا يملكون شيئًا، الأموال كلها ليس لها مكان، لا يمكن لأحد أن يُمسكها، إلا إذا بدأ القط السمين يلعب بذيله، يتحرش بالقطط الكبار، أو يتمادى ويتجاوز الحدود المرسومة، حينئذٍ يعلقون الجرس في عنقه، يظهر مانشيت في الصحف بالحبر الأحمر: اضبط القط السمين قبل أن يهرب خارج البلاد، أو اضبط القطة السمينة التي هربت!

لمحت أحد الصحفيين المعروفين يتمشى الهُوَيْنَى على شاطئ البحيرة، يدخن البايب، عيناه شاردتان في الأفق، إنه ضيف دائم على موائد الوزراء، يتشمم الأخبار وراء البحار، يرقب حركة القطط السمينة من الذكور والإناث، قلمه يُطل من جيبه العلوي، له غطاء من ذهب، كل كلمة منه توزن بالدولار أو الدينار أو الإسترليني، يأتيه الشيك فوق مكتبه قبل أن يكتب عنوان المقال، قد يتحول القط السمين فجأة إلى بطل قومي، وقد ينقلب البطل القومي فجأةً إلى قط سمين؛ إنها صاحبة الجلالة الصحافة.

لمحني الصحفي المشهور وقال: «أهلًا يا دكتورة.» ثُمَّ ابتعد مسرعًا يتطلع نحو السماء، رأيت ثلاث طائرات هليكوبتر ملونة تتسابق في الفضاء قرب الشاطئ، داخلها رءوس شباب يلعبون في الجو، ربما يمتلك الواحد منهم طائرة هليكوبتر أو سيارة مائية تمشي فوق الرمال أو فوق البحر، ربما يكون ابن هذا الصحفي الشهير داخل إحدى هذه الطائرات. يملكها أبوه أو صديق أبيه من كبار القطط السمينة، وكلهم يعشقون الصحافة وأضواء الإعلام، يتنافسون على الظهور أمام الرأي العام، يحركون السبحة بين أصابعهم علامة التقوى والإيمان، تفوح أنفاسهم برائحة الخمر والنساء والمخدرات.

ثُمَّ لمحتها تمشي بجسمها الطويل الممشوق داخل مايوه أسود مُزيَّن عند البطن بفصوص من اللؤلؤ أو الترتر، تهز جسمها برشاقة الراقصات، وهي معروفة وسط راقصات البطن، يمشي إلى جوارها زوجها، يرتدي مايوهًا من النوع الديني المحتشم يغطي ركبتيه، ربما هو سعودي أو كويتي أو من الدوحة، يملك مسجدًا وعددًا من العمارات أو المحلات، ربما هو في السلك الدبلوماسي أيضًا؛ فهو يحمل في يده التليفون «المحمول»، يشتري في الصحف المساحات للإعلان عن البضائع في محلاته، سيارات أو تليفزيونات أو كمبيوترات. يشتري من جامعة كاليفورنيا درجة الدكتوراه، يشتري أيضًا لنفسه حراسة خاصة وبودي جارد، إن مات فجأة برصاصة مكتومة الصوت أو سم تضعه له زوجته في الشراب يظهر نعيه في أكبر الصحف في صفحة كاملة أو نصف صفحة بالبنط العريض، ولا يمضي على موته أيام حتى ترقص زوجته الفنانة في إحدى حفلات الزفاف بالقاعة الواسعة في فندق الخمس نجوم، ثُمَّ تتزوج في السر أحد الأمراء في بلد من بلاد الخليج.

كنت جالسة على شاطئ بحيرة مارينا، في يوم من أيام يوليو ١٩٩٨م، أستمتع بالفرجة على أنواع الرجال والنساء من الطبقة الجديدة، وجاءت صديقتي القديمة تدعوني إلى وليمة الغداء، مائدة طويلة رُصَّت عليها الصحون، أطباق لا أعرف اسمها تنطقها بالفرنسية، وأطباق أعرفها مثل الفول المدمس والطعمية والعدس أبو جبَّة، وفخدة خروف مشوية. صديقتي تتفاخر بكل ما تملك، وأنا أفقد شهيتي، تملأ الصحنَ أمامي بالطعام، لم أعد آكل اللحم الضأن. ليه يا نوال؟ شرحت لها أن لحم الضأن يحتوي على كميات من الدهون، سألتني بدهشة: «عاملة ريجيم يا نوال؟ مش معقول» …

رمقَتْ جسمها السمين المترهل بنظرة من طرف عينها وقالت: خلاص عجِّزنا يا نوال، ومافيش متعة في حياتنا إلا الأكل!

حين عُدت إلى بيتي أحسست أن جسمي خفيف، رشيق، وضعت نفسي تحت الدش، غسلت رمال شاطئ مارينا، وصور الأجساد فوقه، شعرت بسعادة!

١  جريدة الأهالي، ١٩ / ٨ / ١٩٩٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤