التخويف والترغيب والجوائز١

كم نستمتع حين نشهد عملًا بارعًا من إبداع الجسم الممشوق أو العقل الرشيق، لا يقل استمتاعنا بقراءة رواية جميلة عن مشاهدتنا لإحدى الألعاب الرياضية يتبدى فيها إبداع الجسم الإنساني.

لكن كيف ينقلب الجمال إلى قبح حين تتحول هذه الإبداعات الإنسانية إلى ساحات للمنافسة مثل القتال في الحرب، وينشغل الناس بالجوائز والميداليات عن الإبداع ذاته.

كنت أسمع أبي منذ طفولتي يقول: الجائزة كالهدية نوع مستتر من الرشوة، ألهذا لم يحمل في حياته هدية ولم يُهنئ أحدًا بجائزة؟!

هذه الفكرة تراودني دائمًا حين أشهد مواكب المهنئين بالجوائز أو حاملي الهدايا، وحين أشهد مباريات كرة القدم وأتابع أخبار الفائزين أو الخاسرين في الدورات الأوليمبية أو مهرجانات السينما أو المسرح أو القصة أو الأدب وجوائز الدولة وغيرها.

يُدهشني دائمًا هذا الاهتمام المبالَغ فيه بمثل هذا التنافس إلى حد نشوب معارك لفظية أو عضلية بين الفرق المتصارعة في الساحة الرياضية أو الثقافية. أهي محاولة لتحويل طاقات البشر عن الصراع الحقيقي في حياتهم الواقعية؟! أم أن الإنسان لا يبدع جسمًا وعقلًا دون ترغيب في مكافأة أو ترهيب بالعقاب.

كان أبي من رواد التعليم في الأربعينيات والخمسينيات، وكنت أسمعه يقول: إنَّ فلسفة الترغيب والترهيب لا تُؤدِّي إلى الإبداع في شيء؛ لأنَّ العمل المبدع هو جائزة الإنسان لنفسه، منبعه الثِّقة بالنفس إلى حد القدرة على الاختلاف مع الآخرين؛ وبالتالي عدم الحصول على رضاهم أو جوائزهم.

زُرت بعض المدارس الابتدائية الجديدة في أوروبا وأمريكا خلال السنين الماضية، هناك محاولات متعددة لإلغاء الامتحانات أو المسابقات أو السُّقوط أو النجاح، بحيث يتربى الطفل أو الطفلة على إتقان العمل الإبداعي لذاته وليس طمعًا في النجاح أو خوفًا من الفشل. لقد اتَّضح أنَّ فلسفة الترغيب والتخويف لا تنتج مبدعين حقيقيين، وإنَّما أصحاب مهن تجارية أو أكاديمية أو فنية، يكسبون أو يخسرون في ساحات المنافسة الجوائز المادية أو الأدبية.

إن الإبداع الحقيقي مثل الإيمان الحقيقي، يحدث للإنسان بلا طمع في شيء أو خوف من شيء. وأصدق من عبَّرت عن ذلك هي رابعة العدوية في إبداعها الإيماني دون طمع في الجنة أو خوف من نار الجحيم.

إن فلسفة الترغيب أو الترهيب تُؤدِّي في كثير من الأحيان إلى تشويه الإنسان، وكم رأيت تلاميذ وتلميذات تشوَّهوا بسبب الخوف من الامتحانات أو الجري وراء الجوائز. وفي دورة أتلانتا الأوليمبية الأخيرة رأيت شبابًا وشابَّات ضمرت أجسامهم وعقولهم من جراء ذلك التنافس المجنون على الجوائز، بعضهم لا يعيش الحياة الطبيعية الصحية بل انحرافًا ومبالغةً في الحرمان من الطعام أو النوم إلى حد ابتلاع الأقراص المهدئة.

إحدى الفتيات الفائزات بجائزة ذهبية قالت بعد أن صفَّق لها الملايين: عُدت إلى بيتي وحيدة أشعر بالضعف والحزن. هذه الفتاة لم تحزن لأنها لم تجد العريس كما تصور بعض الناس، أو لأن الرياضة الجسمية أفقدتها الأنوثة أو الأمومة أو القدرة على الحمل أو سهولة الولادة أيضًا، بل إن آلام الولادة أصبحت تتلاشى تمامًا بالرياضة الجسمية والعقلية الصحيحة، أصبح هذا معروفًا في علم الطب الحديث.

وقد أصبح أطباء الجسم والنفس في العالم اليوم يقاومون هذه الظاهرة التنافسية الخطيرة الكامنة في المدارس التعليمية، والظاهرة في المباريات الرياضية، ونحن في أشد الحاجة إلى إعادة النظر أو نقد هذه السياسة القديمة القائمة على التخويف والترغيب. وقد أثبتت الدراسات العلمية النفسية عن الإبداع أن التربية القائمة على الخوف لا تنتج شيئًا مفيدًا، كذلك أيضًا التربية القائمة على الترغيب في المكافأة، إلا أن الأمر طويل وشاق، يحتاج إلى جهود كثيرة في جميع المجالات التربوية والتعليمية والثقافية والإعلامية.

كلما شهدت مباراة من مباريات كرة القدم على شاشة التليفزيون أقول لنفسي: كم تتحول هذه اللعبة الجميلة إلى معركة قبيحة، إلا أن المشكلة ليست في المباريات الرياضية فحسب، ولكنها أيضًا في المباريات الأخرى في أي مجال منذ نولد حتى نموت.

١  القاهرة، الأهرام، ٢٤ / ٨ / ١٩٩٦ م، ص١٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤