حول جائزة نوبل١

لا يمكن لأحد أن يتجاهل القيمة الأدبية لبعض الأدباء الذين فازوا بجائزة نوبل أمثال نجيب محفوظ وبابلو نيرودا وجابريل جارسا ماركيز، إلا أن مثل هذه الاختيارات الصائبة أحيانًا لا تجعلنا ننسى أن هذه الجائزة تبتعد عن الصواب في معظم الأحيان؛ فهي مؤسسة يتحكم فيها مجموعة قليلة من الرجال لا يزيد عددهم عن مجموع أصابع اليد، وكلهم من بلد أوروبي صغير هو السويد، ولهم بالطبع ميولهم الخاصة التي تؤثر على اختياراتهم؛ ولهذا السبب لم ينل هذه الجائزة أعظم كتَّاب العالم أمثال ليو تولستوي وإميل زولا وأنطوان تشيكوف وجيمس جويس وبيرتولد بريخت ومارسيل بروست وتوماس هاردي وجراهام جرين، وغيرهم من قدموا أكثر الأعمال الأدبية قيمة إنسانية، لكن جائزة نوبل تجاهلتهم لأسباب سياسية مختلفة.

إن هذه القلة من الرجال التي تسيطر على جائزة نوبل داخل الأكاديمية السويدية لهم فلسفتهم ومِزاجهم السياسي في الحكم على الأدب. إنهم رجال؛ ولذلك لا يُقدِّرون إبداع النساء، إلا نادرًا. ولأسباب أغلبها سياسي ومنذ إنشاء جائزة نوبل (١٩٠١م) لم يفُز بها من الأديبات إلا كاتبات العالم الأول: هن من السويد والنرويج وإيطاليا وأمريكا وألمانيا، وفي عام ١٩٤٥م حصلت عليها الكاتبة التشيلية جابرييلا ميسترال، وفي عام ١٩٦٦م حصلت عليها كاتبة تعيش في السويد اسمها نيللي ساكسن، وشاركها الجائزة كاتب آخر اسمه أجنون المقيم بالقدس، وجاء في حيثيات منحهما الجائزة هذه العبارة: «إنهما يمثلان رسالة إسرائيل في عصرنا هذا.»

أول أديب عالمي رُشِّح لهذه الجائزة عام ١٩٠١م هو إميل زولا، لكن «ألفريد نوبل» لم يكن يحب إميل زولا، أو لم يفهمه، كان الأدب عند ألفريد نوبل (مخترع الديناميت) نوعًا من التحليق في الخيال والأحلام الرومانتيكية بعيدًا عن الواقع المادي الذي يعيشه الفقراء. كان ألفريد نوبل يعيش في مجتمع طبقي أبوي (رأسمالي)، ورث الفلسفة المثالية المغرقة في الخيال والغيبيات، تلك الفلسفة الموروثة عن فلاسفة اليونان القدامى الذين تصوروا العبودية والفقر نظامًا سماويًّا. ولهذا السبب لم يشعر ألفريد نوبل بآلام أبطال إميل زولا المادية، ولم يدرك إنسانية هذا الأديب الفرنسي العظيم، ومُنحت الجائزة إلى شاعر حالم مُحلِّق في سماء بلا أرض اسمه سولي برودوم. لقد اندثر اسم سولي برودوم ولم يعد أحد يذكره اليوم رغم أنه حصل على جائزة نوبل، لكن إميل زولا وأعماله لا تزال تعيش حتى يومنا هذا.

إن الأدب العظيم في غير حاجة إلى جائزة نوبل، بل إن جائزة نوبل هي التي في حاجة إلى أدب عظيم (من حين إلى حين) كي تبقى وتحافظ على كيانها.

وفي عام ١٩٠٢م، كان تولستوي مرشَّحًا للجائزة لكن لم يحصل عليها مثل إميل زولا، وحصل عليها في ذلك العام مؤرخ يُسَمَّى «مومسن» على كتابه «تاريخ روما».

هل يذكر أحد مِنَّا اسم مومسن؟

وفي ذلك العام خاض رئيس لجنة جائزة نوبل حربًا ضارية ضد تولستوي، ووصف أبطاله بأنهم منحطُّون ينتمون إلى الدرجات الدنيا في الحياة الاجتماعية.

وقد اشتهرت جائزة نوبل وأصبح لها قيمة كبيرة، وخاصةً في البلاد الرأسمالية الصناعية؛ فهي تؤكد فلسفة هذه البلاد، ومن خلفها تقف أموالها وسياستها تدعمها وتُكسِبها قوة عالمية.

وأغلب الذين حصلوا على الجائزة ينتمون إلى هذه البلاد (فيما يُسَمَّى اليوم بالعالم الأول)، أمَّا عالمنا الثالث فلا يحظى بها إلا القليل النادر ممن لا تتعارض أفكاره وفلسفته مع أفكارهم وفلسفتهم. وهذا أمر طبيعي، فهل يمكن أن تمنح أكاديمية سويدية جائزة أدبية لمن يعارضها ويختلف معها اختلافًا جذريًّا؟!

وهكذا فإن حصول نجيب محفوظ هذا العام (١٩٨٨م) على جائزة نوبل ليس مكسبًا له ولبلادنا بقدر ما هو مكسب للجائزة وللأكاديمية السويدية، ومحاولة لإضفاء نوع من العدل أو الموضوعية على حكمها.

ولهذا شعرت بالنفور من تلك المبالغة في الاحتفالات بفوز نجيب محفوظ بالجائزة، واعتبارها نصرًا باهرًا للأدب العربي وعبورًا لهذا الأدب من المحلية إلى العالمية.

إن الأدب العربي في غير حاجة إلى جائزة سويدية ليصبح عالميًّا، إننا نبالغ في تمجيد الجائزة السويدية بقدر ما نبالغ في تحقير أنفسنا. لم أسمع عن أديب سويدي يسعى إلى الفوز بجائزة عربية ليصبح عالميًّا! فلماذا نسعى إلى مثل هذه الجائزة لنصبح عالميين؟!

إن الأدب المحلي الصادق الجيد المعبر عن آلام الناس في الواقع هو أدب عالمي بالضرورة؛ لأن إنسانية الأدب هي عالميته.

في جريدة الأهرام يوم ٢٤ فبراير (١٩٩٩م) في الصفحة الأولى نُشرت هذه الفقرة تحت عنوان «شُبهات حول جائزة نوبل»، تقول الآتي:

كَشف مجلة ماريان الفرنسية للمرة الأولى عن أسرار من ملفات مؤسسة نوبل … ألفريد نوبل الذي تحمل الجائزةُ اسمه اقترح على الحكومة الفرنسية إنشاء المؤسسة لمساعدة المرضى (الميئوس من شفائهم) على الموت دون ألم، ولكن الحكومة رفضت الاقتراح؛ مما دفع نوبل إلى تخصيص جزء من ثروته لإنشاء الجائزة … اختيارات اللجنة للفائزين شابها بعض الغموض، فلم تُمنَح لعالم مثل «فرويد» أو الأديب «مارسيل بروست» … من أخطاء اللجنة منحها الجائزة للعالم ألبرت أينشتاين لملاحظاته عن الطاقة المحركة للكهرباء وليس على نظرية النسبية … وسرت شائعات بأن اللجنة لم تفهم فكر أينشتاين … والغريب أيضًا أن بعض العلماء حصلوا على الجائزة دون أن يكون لهم جهد في مجال الجائزة، مثل الجائزة التي مُنحت عام ١٩٢٣م لكل من فريدريك بانتينج وجون ماكليود لاكتشاف الأنسيولين، وظهر بعدها أن جون ماكليود لم يُشارك في التجارِب الأخيرة على الأنسيولين. (جريدة الأهرام، ٢٤ / ٢ / ١٩٩٩م، ص١)

١  القاهرة، في ١٩٨٨م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤