تعليق على مقال الدكتور يوسف إدريس

الكاتب المبدع والفصل بين السلطة والمسئولية١

في مقاله «ليس الفتور، ولكنه الغضب» (الأهرام، ١٢ يناير ١٩٨٧م) كتب الدكتور يوسف إدريس عن دور الكاتب في بلادنا. قال إن الكاتب يضع إصبعه على مكان الألم في جسم المجتمع، وإذا صرخ الناس في وجهه فهذا دليل على أنه كشف عن نوع ومكان المرض، مثل الطبيب الذي يعمل «المجسَّات» محاولًا تشخيص الداء. لكن دور الكاتب في رأيي أكبر بكثير من دور الطبيب المعملي أو طبيب الفحوص والاختبارات، بل هو أكبر من دور الطبيب الذي يعالِج؛ فالطب العلاجي لا يهتم إلا بالأعراض.

أمَّا أسباب الأمراض فنحن لم ندرسها في كلية الطب؛ لأن التعليم قائم على فصل الأسباب عن النتائج. إن كلمة «لماذا؟» من الكلمات المُحرَّمة في طفولتنا وشبابنا وكهولتنا، كلمة «لماذا» تَعني البحث العميق عن الأسباب الحقيقية لأي مشكلة؛ وهذا يعني العودة إلى التاريخ ودراسة الماضي، وهذا أمر يقتضي الكثير من الجهد والتعب والصبر، ويقتضي أيضًا تجاوز حرمة الماضي.

إن دراسة التاريخ عندنا شبه محرَّمة، ويُطلَق عليها نبش الماضي، كما أن التاريخ في جامعاتنا مفصول عن العلوم الأخرى. الذين يدرسون الأسباب لا يدرسون النتائج، والعكس صحيح.

ثُمَّ إن التاريخ الرسمي هو الذي يُدرس فحسب، وفي هذا التاريخ الرسمي تختفي الأسباب الحقيقية للأزمات والأمراض والهزائم، بل إن الهزيمة تتحول إلى نصر، وقرارات الملوك والرؤساء الخاطئة تتحول إلى قرارات صائبة شبه إلهية.

كتب الدكتور يوسف إدريس عن ظاهرة الوساطة والمحسوبية والكوسة وغياب العدل، لم يكتب لنا لماذا يغيب العدل؟ كتب عن عجز الدخول التقليدية عن مواجهة الأعباء وغلاء الأسعار، عن غياب استراتيجية متكاملة أو خطة شاملة للعمل السياسي والتعليمي والدفاعي والصحي والتطبيق الاشتراكي والديمقراطية، ولم يكتب لنا لماذا يغيب كل هذا؟ قال إن الأطباء الاجتماعيين التقليديين ينشغلون بمشاكل فرعية؛ مثل مشكلة الانفجار السكاني، التي لا تشغل بال إلا ١٪ من السكان في مصر … إلخ.

ولا ينسى الدكتور يوسف إدريس أن الأطباء الاجتماعيين التقليديين يركِّزون دائمًا على المشاكل التي يركز عليها رئيس الدولة في مصر، إذا تحدث رئيس الدولة في خطبته عن المشكلة السكانية اختفت كل المشاكل ولم نقرأ أو نسمع إلا عن المشكلة السكانية، إذا تحدث الرئيس عن الصحوة الكبرى تبارت الأقلام في الحديث عن الصحوة الكبرى … إلخ.

مَنْ ذلك الكاتب الذي يقول لرئيس الدولة في بلادنا: أنت أخطأت. يقولها في حياته وليس بعد موته؟ إن رئيس الشركة قد يحاسَب، والوزير قد يُحاسَب، ورئيس الوزراء أيضًا قد يُحاسَب على خطئه ويُعزل من منصبه، لكن رئيس الدولة عندنا لا يُحاسَب ولا يُعزَل إلا بالموت، مع أن الواجب هو أن المسئول الأول يحاسب أولًا، ورئيس الدولة عندنا هو المسئول الأول؛ لأنه يمسك في يده على السلطة، فهو ليس كالملِك يَملك ولا يَحكُم؛ إنه يحكُم كل شيء، ويُصدر جميع القرارات، ابتداءً من قرار الحرب إلى قرار نشر خبر في جريدة، أو إيقاف كاتب أو كاتبة عن النشر، وفي يده إصدار القوانين، ابتداءً من قانون الانتخاب إلى قانون الزواج والطلاق، إلى قوانين الاعتقال والسجن. رغم هذه السلطة شبه المطلقة، فهو لا يحاسَب؛ وبالتالي فهو غير مسئول عن الهزيمة العسكرية، مع أنها نتيجة قراره، وهو غير مسئول عن الديون أو التبعية للرأسمالية العالمية، مع أنها النتيجة الطبيعية لقراره الاقتصادي. إنه غير مسئول عن الشر، مع أن هذا الشر وقع بإرادته وقراره.

الرئيس عندنا مثل الإله مسئول عن الخير فقط، مَن المسئول إذن عن الشر؟ عن الخلل في ميزان المدفوعات؟ عن الفساد والكوسة والاختلاس؟ عن الردة وتعديل القوانين إلى الوراء؟ عن اعتقال الناس بلا جريمة؟!

المسئول ليس هو صاحب السلطة والقرار، وإنما شخص آخر أصغر، كبش فداء، لا يملك السلطة ولا القرار. يقدَّم إلينا على أنه الشيطان، يُطرَد أو يُلعَن، ويظل الإله فوق عرشه بعيدًا عن المساءلة، فوق الحساب، إلا أمام الله بعد الموت.

هذه هي الحقيقة التي لا يقول الدكتور يوسف إدريس إنها مطلوبة لحل مشاكلنا، ابتداءً من الاحتلال حتى مشكلة الديمقراطية والعدل وحقوق المرأة والطفل والديون والتبعية … إلخ.

هل يمكن الفصل بين مشاكلنا العامة والخاصة؟ هل يمكن الفصل بين الدولة والأسرة؟ هل يمكن أن يمارس الأب الدكتاتورية في بيته ثُمَّ يفتح الباب ويخرج فينقلب ديمقراطيًّا؟

إن أسس العدل والديمقراطية تقوم على عدم الفصل بين السلطة والمسئولية، لكن السلطة عندنا منفصلة عن المسئولية في الدولة وفي الأسرة، الأب في العائلة يملك السلطة لكنه غير مسئول إذا طلق زوجته بلا سبب أو تزوج أربع نساء بلا سبب إلا للنزوة الشخصية، والرئيس في الدولة يملك السلطة لكنه غير مسئول إلا بعد موته.

لماذا لم يقدم مجلس الشعب على عزل أحد الرؤساء في الدولة المصرية؟! ألم يتسبب واحد منهم في هزيمةٍ أو ديونٍ أو تبعية؟ لماذا يكون نقد الرئيس صعبًا؟ والأسهل منه نقد الناس والفقراء الذين لا يملكون إلا الفتور أو اليأس أو الغضب اليائس بلا فعل.

ويقول الدكتور يوسف إدريس: إن المصري أصبح يحارب المصري، وإن الأحقاد الشخصية تفصل بين الزميلين في حزبٍ واحد، وهؤلاء ظاهرة مرضية فعلًا، لكن لم يقل لنا لماذا يحدث ذلك؟

ثُمَّ ما الفرق بين الغضب والحقد؟ إذا كان صاحب الكفاءة الأدبية لا يستطيع النشر، والموظفون في الدولة يشغلون معظم الصفحات في الجرائد والمجلات، فهل إذا غضب صاحب الكفاءة من هؤلاء نقول إنه حاقد عليهم لأنهم يملكون الصحف وهو لا يملك؟ إذا امتلكَت امرأة عاطلة بلا عملٍ أربعَ سيارات وافتقدَت امرأة عاملة مقعدًا في الأتوبيس، فهل إذا غضبت المرأة الثانية نقول إنها حاقدة؟

إن الظلم يؤدي إلى الغضب، والغضب الكتوم بغير فعل يؤدي إلى الإحباط والشعور بالفشل، والإحباط إذا استمر طويلًا يؤدي إلى الحقد، وهذه كلها مشاعر إنسانية لها أسبابها. وقد يحقد كاتب فاشل بلا مواهب على كاتب ناجح موهوب، لكن إذا حقد الكاتب الموهوب على كاتب بلا موهبة يملك سلطة النشر أو عدم النشر، فهل يكون الحقد الأول مثل الحقد الثاني؟

إن المقاييس عندنا عكسية مزدوجة ومتناقضة، كلما ازداد الإنسان صدقًا وعمقًا في التفكير وموهبةً في الإبداع ازدادت المشاكل من حوله والمصاعب. النجاح في بلادنا لا يعتمد على العمل والجهد والخلق والصدق، وإنما يعتمد على الصلات بذوي السلطة وأصحاب الصحف.

النشر في الصحف سلطة، ويتبارى الناس للكتابة والنشر، لماذا يترك أساتذة الجامعات الطلبة والمحاضرات ويدورون على الصحف لنشر مقالاتهم؟ لأن النشر في الصحف سلطة تقرب الكاتب من السلطة، سواء السلطة في الحكومة أو السلطة في الحزب الحاكم أو الحزب المعارض؛ ولهذا لم يعد الناس يقرءون ما يُكتب في الصحف؛ فالكتابات مكرَّرة مملة، خالية من الأفكار الجديدة، خالية من الصدق والإبداع، كتابات هدفها السلطة وأصحاب النفوذ في الدولة أو الحزب.

ولهذا تختفي الكتابات الحقيقية المبدعة، سواء في صحف الحكومة أو المعارضة. إن الكتاب المبدِعين الحقيقيين لا ينشر لهم أحد، فلا أحد مستعد للتضحية بصِلاته الطيبة بأصحاب السلطة، فما بال إغضابهم؟!

إن دور الكاتب هو الإبداع وتقديم الفكر الجديد الذي يضيء الطريق للناس، دور الكاتب هو تفتيح عيون الناس على أسباب الظلم وغياب العدل. هذا الضوء هو السبيل الوحيد لتحويل الغضب أو الحقد أو اليأس إلى طاقة جديدة نحو العمل لإزالة أسباب الظلم. هنا يصبح للكلمة الصادقة دويٌّ يهز القلوب والعقول؛ فتسقط عنها الغشاوة والسحابة، وترى المشاكل في ضوءٍ جديد، وهذا لا يحدث في بلادنا، لماذا؟ وندور في الحلقة المفرغة.

١  هذا المقال أُرسل إلى جريدة الأهرام في ١٤ يناير ١٩٨٧م، لكنه لم يُنشَر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤