عولمة من قاعدة الهرم … والوعي النسائي العربي١

خلال النصف الأخير من القرن العشرين كَسرت المرأة حواجز فكرية كثيرة، وناقشت قضايا لم يكن من الممكن النطق بها في بداية القرن. ربطت الباحثات والكاتبات العربيات بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، أزلْنَ الحواجز بين علم السياسة وعلم الاجتماع والفلسفة والدين والطب، والأدب والتاريخ.

لعل أهم مساهمة قدمها الخطاب النسائي العربي هو محاولة القضاء على الأحادية الفكرية التي ترى الأشياء بعينٍ واحدة (عين الرجل) أو تنكفئ على الذات دون رؤية الآخر، أو تلك الثنائية الفلسفية التي تفصل ما هو شخصي عما هو اجتماعي أو سياسي.

تجاوزت قضية المرأة العربية حدود الأحوال الشخصية أو الشئون الاجتماعية لتشمل الشئون السياسية، على رأسها تحرير الأرض والاقتصاد والتاريخ والعقل والجسم. كان أغلب المؤرخين رجالًا لم يرَوْا مساهمات النساء الفكرية منذ نشوء الحضارة، وكان للمرأة دور رائد فيها ليس كزوجة وأم فقط، وإنما كفيلسوفة وكاتبة وشاعرة وباحثة وطبيبة وقائدة سياسية، نذكر منهم «سخمت» المصرية، التي كانت نقيبة للأطباء في مصر القديمة، و«نيدابا» العراقية مكتشفة الحروف في الحضارة السومرية، ورئيسة القضاة «معات» إلهة العدل المصرية، وصاحبة الفكر الفلسفي «إيزيس» التي امتد أثرها من مصر إلى أوروبا، وعاش حتى القرن السادس الميلادي.

وقد ظهرت مؤرخات عربيات أعدن قراءة التاريخ، وكشفن النقاب عن أفكار النساء التي اندثرت تحت سطوة النظام الهرمي (الطبقي الأبوي) خلال الألفية الأولى والألفية الثانية حتى منتصف القرن العشرين.

(١) الاستشراق النسائي الجديد

منذ أيام قليلة وجهة إليَّ مذيعة أمريكية هذا السؤال: ألا يوجد في الإسلام ما يعوق تحرير المرأة؟ وجاءت إجابتي عليها بسؤال آخر: ألا يوجد في المسيحية ما يعوق تحرير المرأة؟

لم تعرف المذيعة الإجابة على سؤالي لأنه لم يخطر ببالها من قبل، ولأنها قرأت كثيرًا عن علاقة المرأة والإسلام، ولم تقرأ شيئًا عن علاقة المرأة والمسيحية.

لقد انتشرت في السنين الأخيرة ظاهرة انتشار الكتب عن المرأة العربية والإسلام بأقلام النساء الأمريكيات المستشرقات، وكلها باللغة الإنجليزية، أغلبها يحبس موضوع المرأة العربية داخل إطار الثقافة، أو الدين أو اللغة، دون أن يربطها بالاقتصاد أو السياسة الدولية أو المحلية.

يعتمد هذا الخطاب الاستشراقي الجديد على الفكر الليبرالي الرأسمالي الذي اشتهر في الثلث الأخير من القرن باسم ما بعد الحداثة، تبرز فيه أسماء أمريكية وفرنسية «ميشيل فوكو، جاك ديريدا، جوليا كريستيفا، صمويل هانتنجتون، فرانسيس فوكاياما وغيرهم».

ويقوم هذا الفكر على دعامتين أساسيتين هما:
  • (١)

    الفصل بين الثقافة والاقتصاد، وبين الشكل والجوهر، واعتبار أن الشكل هو الأساس (أو لا يوجد جوهر).

  • (٢)

    الصراعات الدولية والمحلية تقوم بسبب الاختلافات الثقافية والدينية والإثنية (وليس الاقتصاد والسياسة).

اشتد انتشار هذا الفكر في الغرب كرد فعل ضد الفكر الماركسي التقليدي الجامد الذي جعل الاقتصاد كل شيء وأهمل الثقافة، ومع سقوط حائط برلين والاتحاد السوفياتي خلال العقد الماضي طغى هذا الفكر على العالم، وعلى المفكرين في بلادنا العربية، سواء فيما يخص القضايا العامة أو قضية المرأة، إلى حد أن قامت حملة نشطة لترجمة هذه الكتب إلى اللغة العربية، ومنها كتب النساء الأمريكيات عن المرأة والإسلام.

(٢) خطاب الهيمنة الأمريكية

يتبنى الخطاب الاستشراقي النسائي الجديد الأفكار التي تشجع النساء العربيات على العودة إلى البيت والأمومة تحت اسم التمسك بالقيم الدينية أو الثقافية المحلية أو الهُوية الأصلية، وهو نفسه خطاب الهيمنة الأمريكية الذي رفع الشعارات الدينية في العالم كله (سواء الشعارات المسيحية أو الإسلامية أو الهندوكية أو اليهودية أو البوذية أو غيرها) كرمزٍ لمقاومة الغرب. هكذا تصورت أعدادٌ متزايدة من النساء في العالم أن مجرد تغيير الزي أو غطاء الرأس يجعل المرأة منهم مناضلة ضد الغرب والتغريب.

وهذه هي المقاومة الوهمية أو النضال الشكلي الذي وضع قواعده المفكرون في الغرب (من الرجال والنساء)، ووجدوا فيه القدرة المستمدة من الروحانيات الغامضة على تحويل المقاومة الشعبية من الجوهر إلى الشكل.

إن تصاعد التيارات الدينية في العالم (التي أُطلِقَ عليها اسم التيارات الأصولية) لم تكن إلا الوجه الآخر للفكر الليبرالي الرأسمالي الحديث وما بعد الحديث، وهو فكر الاستعمار الأمريكي الجديد؛ لهذا لم تنجح هذه التيارات الدينية الأصولية إلا في قتل الأبرياء من النساء والرجال، على حين انطلقت قوى الاستعمار العسكرية والاقتصادية تفتك بأرواح الشعوب ومواردهم، سواء بالحروب الواضحة السافرة، أو القوانين التِّجارية السرية أو المعلَنة داخل منظمة التجارة الدولية وغيرها من المؤسسات المسيطرة، بل أصبحت قيادات هذه التيارات الدينية جزءًا من هذه المؤسسات الاقتصادية، رغم غضبها الشديد على الغرب، ورغم نضالها تحت عباءة الدين، ولم تثمر عن شيء إلا المزيد من التبعية للتفوق الغربي والعولمة.

ربما كانت خطابات الإصلاح الديني في بداية القرن العشرين أكثر تقدُّمًا فيما يخص قضية المرأة عن الخطابات الدينية في نهاية القرن العشرين.

يكفي أن نقارن الأفغاني والشيخ محمد عبده بما نقرؤه اليوم لبعض المفكرين الدينيين، رغم ما يُقال عن أنها رغم اختلافها كانت جزءًا من الخطابات الاستشراقية التي تؤمن بالتفوق الغربي ولم تربط بين الثقافة والاقتصاد.

بالطبع ليس في العالم خطابٌ يقوم على النقاء الثقافي الخالي من الشوائب؛ لأن الثقافات الإنسانية كلها متداخلة مخلوطة رغم الحواجز الجغرافية والتاريخية، والمشكلة ليست في النقاء أو الاختلاط، أو ما يُسَمَّى الأصالة والحداثة، أو التغريب والتشويق، لكن المشكلة هي التناقض في الخطاب الاستشراقي الجديد، خاصةً الخطاب الاستشراقي النسائي الذي يحاول العودة بالمرأة العربية إلى الوراء تحت اسم احترام ثقافة الآخر.

حين كنت في لندن مؤخَّرًا فتحت جريدة الجارديان يوم ٢٥ نوفمبر ١٩٩٩م لأقرأ مقالًا لإحدى المناضلات البريطانيات لتحرير المرأة في الغرب، وهي جيرمان جرير، كتبتْ في مقالها تؤيد ختان البنات كجزء من الهُوية الأصيلة أو الثقافة المحلية التي يجب احترامها في عصر ما بعد الحداثة الذي يتميز بالتعددية الثقافية والخصوصية والاختلافات الدينية والإثنية.

لم يكن غريبًا أن العالم في ظل هذا العصر — ما بعد الحداثة — قد شهد حروبًا ومذابحَ في أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية، تحت اسم الصراعات الإثنية أو الدينية، رغم أن الصراع الحقيقي هو الصراع الاقتصادي الناتج عن تزايد الفقر والجوع مع تزايد الثراء في يد القلة القليلة التي تسيطر على السلاح والتجارة في العالم.

(٣) سقوط العمل السياسي التقليدي

كنت أستاذة زائرة في جامعة فلوريدا خلال الشهور الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، شاهدت وتابعت ما حدث في مدينة سياتل من مظاهرات شعبية ضد منظمة التجارة الدولية خلال اجتماعها في نهاية نوفمبر وبداية ديسمبر ١٩٩٩م. وقد اشتركتْ في المظاهرات بعضُ طالباتي في جامعة فلوريدا من الأمريكيات، اللائي سافرن إلى سياتل، كما اشتركت في المظاهرات أيضًا بعضُ النساء العربيات اللائي يعشن في مدينة سياتل أو المدن القريبة منها في ولاية كاليفورنيا، بعض طالباتي منذ عام ١٩٩٥م حين كنت أستاذة في جامعة واشنطن بمدينة سياتل. لقد ساعدتْ أجهزة الاتصال الحديثة وما بعد الحديثة (ومنها الإنترنت والويب) على سرعة الاتصال بين الناس، وأصبح العالم الضخم كأنما قرية صغيرة، وكنت أتلقى كلَّ ساعة تقريبًا الأخبار من سياتل كأنما أعيش في المدينة رغم أنني في فلوريدا، بل قبل قيام المظاهرات جاءتني رسائل الإنترنت والبريد الإلكتروني من النساء العربيات في سياتل اللائي اشتركن في التنظيم والتخطيط لهذه المظاهرات، بعضهن تركن العمل أو الدراسة وشاركن في غرفة العمليات متفرغات لهذا العمل الكبير أكثر من ثمانية شهور.

وقد نجحت مظاهرات سياتل ١٩٩٩م في أشياءَ متعددة، إلا أن أهم ما نجحت فيه هو كشفها للصراع الحقيقي في العالم، وأنه صراع ضد القوانين الاقتصادية والتجارية غير العادلة، ضد قوانين منظمة التجارة الدولية وغيرها من المؤسسات.

إنه صراع اقتصادي أساسًا وليس صراعًا ثقافيًّا أو دينيًّا أو إثنيًّا؛ لأن المظاهرات جمعت النساء والرجال والشباب والشابات من مختلف البلاد والثقافات واللغات والأديان والألوان، تجمعت كلها في مسيرة واحدة ضد عدو واحد هو النظام الاقتصادي العالمي أو العولمة من أعلى القمة حيث يتربع الفرد أو قلة من الأفراد، ينهبون عَرَق الملايين تحت اسم حرية السوق أو الديمقراطية أو الليبرالية الرأسمالية.

كانت نسبة النساء في المظاهرات تبلغ نسبة الرجال، ونسبة العمال تبلغ نسبة المهن الأخرى في مجالات العلم أو التعليم أو الثقافة، لم يتخلف عن هذه المظاهرات الشعبية الدولية إلا الأحزاب التقليدية التي فوجئت بما يحدث؛ فهي مظاهرة تكسر الحواجز التي جعلت الأحزاب السياسية التقليدية شبه معزولة عن الناس، ويجلس على قمتها الهرمية فرد واحد أو أفراد قلة، يتوارثون السلطة المطلقة (الأبوية الطبقية) في ظل انتخابات شكلية أو ديمقراطية زائفة، تحت اسم اليسار أو اليمين، تحمل اسم المعارضة مع أنها جزء من النظام، وتكاد لا تفعل شيئًا إلا الكلام تحت قبة البرلمان.

(٤) الوعي النسائي العربي

بعد عودتي إلى مصر في منتصف ديسمبر ١٩٩٩م جاءتني الدعوة من النساء العربيات الطالبات في جامعة كاليفورنيا (جامعة ديفيز)، جاءتني عبر شاشة الإنترنت، وقد أصبح لهن قناة خاصة في الويب/الإنترنت تحمل اسم تضامن النساء العربيات في أمريكا الشمالية. إنهن يُنظِّمن مؤتمرًا نسائيًّا عربيًّا في أبريل القادم سنة ٢٠٠٠م، يحرصن فيه على دعوة الباحثات والكاتبات العربيات اللائي يعشن في الوطن العربي ويكتبن باللغة العربية، ويعرفن الواقع والحقيقة التي تعيشها النساء في بلادنا أكثر من النساء المستشرقات الأمريكيات. في أحد هذه الرسائل تقول طالبة أردنية تدرس في سان فرانسيسكو: «كيف يمكن أن تكون مراجعنا عن المرأة العربية هي كتابات الباحثات الأمريكيات، لم أسمع عن امرأة عربية أو نساء عربيات أصبحن هن المرجع لحياة النساء الأمريكيات! أليس هذا هو المنطق الاستشراقي القديم يعود إلينا في ثوبٍ جديد تحت اسم الاستشراق النسائي؟»

لقد شاركتِ الشابَّاتُ العربيات في مظاهرات سياتل، وأدركن أن الشعوب المقهورة، نساءً ورجالًا، داخل أمريكا وأوروبا أو خارجهما في القارَّات الأخرى، قد بدأت تدرك أهمية الاتحاد والتضامن بصرف النظر عن الحدود التي تضعها القلة الحاكمة في كل مكان، بدأت الشعوب تكسر الحواجز المصنوعة بين البشر حسب اللون والعِرق والجنس والجنسية والعقيدة والإثنية وغيرها، بدأت تدرك أن هذه الفروق بين البشر مصيرها إلى الزوال، وسوف تبقى القيم الإنسانية الكبرى القائمة على العدالة والمساواة والحرية والوعي.

أصبح النضال العالمي أكثر نضجًا ووعيًا بأهمية التضامن رغم الاختلافات، وفي بلادنا العربية أيضًا هناك حركة نسائية ذات وعي جديد تتجمع وتتضامن، وتدرك أن التضامن العربي الشعبي جزء لا يتجزأ من التضامن العالمي الشعبي، ربما تحاول قوًى سلطوية متعددة ضرب هذا التضامن النسائي الشعبي، إلا أن التاريخ يعلمنا أن الفوز في النهاية لهؤلاء المدافعين والمدافعات عن الحرية والعدالة.

١  نُشر بجريدة الأهرام، ١٠ يناير ٢٠٠٠م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤