تأملات على شاطئ فلوريدا١

كان أبي يقول: للسفر فوائد لا يراها إلا المحرومون من السفر، كالصحة تاج فوق رءوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى. لهذا السبب أحببت السفر منذ الطفولة، كنت أحلم بالسفر منذ ولدتني أمي، في النوم أراني أطير بدون طائرة، أحرك ذراعيَّ فإذا بي أطير في الجو، وأندهش في الحلم من قدرتي على الطيران والسباحة في السماء مثل العصافير والحمام.

أكتب الآن وأنا أتمدد على شاطئ النخيل تحت شمس الخريف الذهبية في الجنوب الشرقي لولاية فلوريدا بأمريكا الشمالية. غادرت القاهرة في نهاية أغسطس وسط غارة صحفية قادها بعض المسئولين في وزارة الشئون الاجتماعية ضد الاجتماع التمهيدي الكبير الذي عُقد في ٢٢ أغسطس ١٩٩٩م للإعداد لتكوين الاتحاد النسائي المصري. ما الذي أفزع الحكومة فجأة من تكوين اتحاد نسائي؟! رغم أن وزيرة الشئون سبق أن تحمست وأيَّدَت، وأرسلت إلينا قائمة بأسماء وعناوين الجمعيات الأساسية التي تعمل في ميدان المرأة، عددها ٢٢ جمعية، وقالت إنه حسب القانون الجديد يكفي أن تتجمع عشر جمعيات عاملة في ميدان المرأة لتكوين اتحاد نسائي، يُطلَق عليه اسم اتحاد نوعي. حضر اجتماعنا مع الوزيرة وكيل وزارتها الأول، بالطبع لم يتكلم كثيرًا في حضور الوزيرة، إلا أنه لم يعترض على شيء، ولم يقل لنا أن ليس هناك شيء اسمه ميدان المرأة، ولم يقل لنا إن ٢٠٠ جمعية تعمل في ميدان المرأة تفكر في إنشاء اتحاد نسائي وبالتالي يستحيل علينا إنشاء اتحاد آخر. كان موافقًا على كل ما تقوله الوزيرة، وخرجنا إلى ساحة العمل والنشاط العملي وسط الجمعيات العاملة في ميدان النهوض بالمرأة والأسرة، وتحمس الجميع لإنشاء الاتحاد النسائي المصري من محافظة أسوان إلى الإسكندرية وبورسعيد، وتزايد عدد الجمعيات النسائية التي طالبت بالانضمام إلى الاتحاد النسائي إلى أكثر من سبع وعشرين جمعية في أقل من شهرين، ووصلتنا رسائل أخرى وفاكسات من هيئات وجمعيات تعمل في مجال المرأة تطلب الانضمام، ونشرت الصحف الحكومية وغير الحكومية أخبارًا عن تكوين الاتحاد النسائي المصري وعن الاجتماع الذي سيُعقَد يوم ٢٢ أغسطس ١٩٩٩م وتحضره مندوبات ومندوبو الجمعيات وأعضاء وعضوات اللجنة التحضيرية التي تشكَّلَت للإعداد لإنشاء هذا الاتحاد النسائي.

(١) خرق القانون

فجأة، قبل أن يحلَّ موعد الاجتماع ببضعة أيام قرأنا في الصحف (على لسان وكيل وزارة الشئون الأول عن لسان الوزيرة) تصريحات رسمية أشبه ما تكون بقرارات اتهام لهذا الاتحاد النسائي المزمع إنشاؤه، وهذا الاجتماع يوم ٢٢ أغسطس غير القانوني الذي تدعو له امرأة من عامة الشعب اسمها نوال السعداوي، ليس لها كيان ولا منصب ولا شيء، لها سجل تاريخي حافل بخرق القانون، وقد تسللت إلى مكتب الوزيرة مع شخصيات هامة، وقد استغلت الفترة الحرجة هذه الأيام لتنشر الفوضى في البلاد، وتحرِّض النساء على تكوين اتحاد نسائي غير شرعي وغير قانوني!

ثُمَّ دق جرس التليفون في بيتي وجاء صوت رجل يقول إنه أحد المسئولين الكبار في الحفاظ على أمن البلاد، وسألني عن اجتماع ٢٢ أغسطس. ثُمَّ دق جرس التليفون وجاءني صوت أحد المسئولين عن القاعة التي استأجرناها لنعقد فيها اجتماع ٢٢ أغسطس، وقال إنه اجتماع غير قانوني حسب ما قال له المسئولون عن الأمن. تكررت الأجراس المنذِرة بالخطر المتحدثة تارةً باسم الأمن وتارةً باسم عدم إثارة مشاكل، وتارةً باسم الصداقة. قالت لي إحدى الصحفيات الكبيرات بإحدى الصحف الحكومية الكبرى: ما دام الحكومة مش عاوزة اتحاد نسائي لا يمكن تقدروا تعملوا اتحاد! وقلت لها: لكن الحكومة كانت تعرف، وكانت متحمسة ومؤيدة، فما الذي حدث؟! ثُمَّ مَن قال إن الاتحاد النسائي لا بد أن يُنشأ بأمر الحكومة؟ ألا يمكن أن ينشأ الاتحاد النسائي بمبادرات شعبية؟! أليست هذه هي ألف باء الديمقراطية؟! أم أن الديمقراطية مجرد خُطب في الهواء وحبر على ورق؟!

(٢) مبادرة شعبية

من أجل الديمقراطية التي نسمع عنها كل يوم في الإذاعات قررنا أن اجتماع ٢٢ أغسطس هو اجتماع شرعي وقانوني رغم كل ما يحدث، وأن هذا الاجتماع لا بد أن ينعقد في المكان نفسه وفي الموعد نفسه الذي تقرر، وأننا لن نخضع أبدًا لهذا المنطق غير الديموقراطي، وإن أغلقت القاعة أبوابها أمامَنا فسوف نجتمع في الشارع. لم يكن هذا قراري وحدي، وإنما قرار ١٠٩ من النساء والرجال الذين حضروا الاجتماع يوم ٢٢ أغسطس ١٩٩٩م بقاعة النادي الثقافي المصري بمدينة القاهرة. حضر الاجتماع مِائة وتسعة من النساء والرجال، والمندوبات والمندوبين عن الجمعيات التي أرادت الانضمام إلى الاتحاد النسائي، جاء بعضهن من أسوان وأسيوط والمنيا وبني سويف والإسكندرية وبورسعيد وغيرها من المحافظات، دفعت بعضهن تذاكر السفر في قطار الصعيد وبحثت بعضهن عن أماكن للمبيت في القاهرة بعد انتهاء الاجتماع، طالبت بعضهن بعمل مظاهرة في الشارع ضد وزارة الشئون، كان الاجتماع أشبه ما يكون بمظاهرة تأييد لتكوين اتحاد نسائي مصري بمبادرة شعبية وليس اتِّحادًا نسائيًّا حكوميًّا.

نشرت بعض الصحف ما حدث في اجتماع ٢٢ أغسطس ١٩٩٩م بأمانة وصدق، بعض الصحف تجاهلت الحدث تمامًا، بعض الصحف نشرت أن الاجتماع كان فوضى ولم يحضره إلا قلة منحرفة لا تزيد عن خمسين شخصًا.

أستعيد هذه الذكريات وأنا أسبح في المحيط الأطلسي تحت الأشعة الذهبية في جنوب ولاية فلوريدا، نحن في شهر أكتوبر، أجمل شهر في السنة؛ فهو الربيع في نظري وليس الخريف، أشعر في شهر أكتوبر بنشاط جديد لا يحدث في أي شهر آخر، هل لأنني وُلِدت في هذا الشهر؟ أم لأن حرارة الصيف تذهب وبرد الشتاء لم يأتِ بعد؟ أنا أحب هذا الدفء الناعم الرقيق، ورائحة الماء تشبه بحر الإسكندرية، وطفلة تصرخ بالفرح تذكِّرني بطفولتي على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وكُنَّا نسميه في طفولتنا البحر المالح.

(٣) العودة للجذور

أحرك ذراعي وقدمي في الماء وأسبح كالسمكة، أستعيد الفرحة بالعودة إلى الجذور الأولى للبشرية حين كُنَّا نعيش في البحر، كيف تحولنا إلى كائنات برمائية تستلقي فوق الشاطئ تحت الشمس، ثُمَّ كيف فقدنا الزعانف وأصبحنا كائنات أرضية لا تعيش إلا فوق الأرض الصلبة.

حين وصلت إلى فلوريدا في ٢٥ أغسطس ١٩٩٩م كان الناس يتحدثون عن الهوريكين القادمة في شهر سبتمبر، يسمُّونها هوريكين «فلويد»، الخطر الغامض كالشيطان القادم من المحيط. الناس يعيشون في فزع كأنما ينتظرون عزرائيل الموت. قلت لنفسي: ربما كانت القاهرة أكثر أمانًا، بدت الكوارث السياسية والاجتماعية أقل خطرًا من الكوارث الطبيعية كالهوريكين والبراكين والزلازل. على شاشة التليفزيون الأمريكي أشهد كل يوم أشلاء الجثث تحت ركام الزلازل والفيضانات وما يسمُّونه هنا في جنوب فلوريدا «غضب الله».

حين كنت في الهند منذ أكثر من عشرين عامًا رأيت الناس يؤدون صلاة الاستسقاء، يطلبون من الإله شيفا أو الإلهة برافاتي أن تُسقط عليهم الأمطار وتنقذهم من الجفاف. هنا في أمريكا في خريف عام ١٩٩٩م رأيت الناس يؤدون الصلاة لابن «المسيح» لينقذهم من الهوريكين فلويد. أمَّا جنوب فلوريدا — حيث أكون الآن — فهي المنطقة التي تدخل ضمن ما يُسَمَّى «البايبل بيلت» أو «حزام الكتاب المقدس»، إنها تخضع للقوى الدينية السياسية التي تصاعدت في أمريكا منذ حكم رونالد ريجان وجورج بوش، يسمُّونها «الجبهة المسيحية»، تجمع تحت لوائها الأثرياء ورجال الأعمال وكبار الرأسماليين الذين يُطلَق عليهم سياسيًّا اسم «اليمين الأمريكي»، يتزعمهم بعض القساوسة ورجال الدين.

بعد أن لامست الهوريكين فلويد شاطئ فلوريدا من بعيد دون أن تمسه بسوء أعلن حاكم جنوب فلوريدا في العاصمة ميامي (اسمه أليكس بينلاس) على شاشة التليفزيون «أن الذي أنقذ فلوريدا من الهوريكين هو الله؛ فالله في سمائه العليا هو المايسترو الأكبر للطقس الجوي، ويجب على أهل فلوريدا أن يشكروا الله في صلواتهم لأنه أبعد عنهم الهوريكين فلويد وأرسلها إلى البشر الآخرين في ولاية نورث كارولينا.»

سمعت هذه الكلمات بأذني على شاشة التليفزيون، ورأيت وجه حاكم فلوريدا، وقلت له — وأنا جالسة في بيتي في بوكاراتون: «لكن لماذا يغضب الله يا سيدي على الناس في ولاية نورث كارولينا؟!» إن لي أصدقاء وصديقات في ولاية نورث كارولينا حيث عشت أربع سنوات أقوم بتدريس مادة الإبداع والتمرد في جامعة ديوك.

طلبتُ إحدى الصديقات في نورث كارولينا أطمئن عليها، وقالت لي عبر أسلاك التليفون: «ماذا نفعل مع الهوريكين، مصيرنا في يد الله، ولا شيء أمامنا إلَّا الصلاة.»

(٤) تعصب أعمى

كانت أنباء الهوريكين فلويد في العالم كله، لا بد أنها وصلت بلادنا في أفريقيا والشرق الأوسط، الذي كان يُسَمَّى «العالم العربي» أيام الوحدة العربية أو الحلم بالوحدة العربية. أصابتني غفوة وأنا جالسة أمام شاشة التليفزيون، ووجدتني أمشي في مظاهرة كبيرة في شوارع القاهرة تهتف بالوحدة العربية، ثُمَّ أفقت على صوت المذيع في التليفزيون يتحدث باللهجة الإنجليزية الأمريكية الجنوبية، تخرج بعض الكلمات من الأنف: نحن الآن أيها المشاهدون والمشاهدات مع الزعيم المسيحي لولاية فلوريدا. وظهر أمامي وجه رجل غريب الشكل، له أنف مُقوَّس يشبه المرأة، شفتاه رفيعتان مشدودتان، صوته أخنف، يقول عن نفسه «المندوب السماوي على الأرض»، يرفع يديه نحو السماوات العليا، بين يديه الكتاب المقدس: «يا إله السماوات، لا تجعل الهوريكين فلويد تحطم أسقف بيوتنا أو تقطع عَنَّا مياه الشرب أو تزود الحزب الديموقراطي بقصة جديدة يكذبون بها على الناس، لكن يا رب إذا شئتَ أن تُنزل غضبك علينا فأرجو أن تبث الرعب في قلوب الكفرة من اليهود والمسلمين والبوذيين والهندوكيين حتى يعرفوا الله ويؤمنوا بالمسيح.»

وضحكت زميلتي «جين» الأستاذة في جامعة فلوريدا وقالت: هذا الرجل يخرف، لكن يتبعه الآلاف هنا في الجنوب، معهم أموال طائلة، يدفعون الملايين من الدولارات لكسب الحملة الانتخابية وإنجاح مندوبيهم من اليمين الأمريكي، أليس مضحكًا أن إله السماء الذي يؤمنون به قد قرر أن يُغرِق سكان ولاية نورث كارولينا؟! لماذا هُم يغرقون وليس نَحن؟! ربما هو اختبار إلهي عشوائي حسب المزاج مثل دار النشر في ميامي، رفضوا نشر كتابي ووافقوا على كتاب سوزان كلارك؛ زميلتنا في الجامعة، كم هي غبية ولا تعرف شيئًا عن الكتابة، لكن رئيس دار النشر هو الإله الذي يقرر، أو ربما كان الإله هو رئيس فريق كرة في فلوريدا الذي قرر تأجيل المباراة في ميامي، ولماذا يعاقب الإله سكان ولاية كارولينا؟ ربما لأنهم يزرعون الدخان ويصنعون السجائر، وهذا شيء معقول إلى حد ما، إلا أن أغلب سكان ولاية كارولينا لا علاقة لهم بمصانع الدخان؛ فقد أغرقت الهوريكين الفقراء منهم فقط، أمَّا أصحاب مصانع الدخان الأثرياء فقد نجَوْا جميعًا لأن بيوتهم قوية مبنية بالأسمنت المسلح والحديد السميك الذي لا تقدر عليه الهوريكين فلويد! لسوء الحظ أن العقلية هنا لا تختلف عن عقلية المرحوم جدي الأكبر أبو جدي الأصغر والد أبي، الذي كان يؤمن أن المطر لا يهبط من السماء إلا بقرار من الإله، وأن النهر لا يفيض إلا بمنشور إلهي.

وإذا كان الأمر كذلك فإن الزلزال في تركيا قرار إلهي أراد الله به أن يعاقب الأتراك، والقتلى في تيمور الشرقية قُتلوا بأمر إلهي، وملايين الأطفال الذين يموتون من الجوع في أفريقيا وآسيا إنما هو أمر إلهي أيضًا، وإذا أغرقتنا الهوريكين فلويد، فإن رجال الدين هؤلاء سوف يقولون: «لأن الله يعاقبنا لأننا لا نواظب على الذهاب إلى الكنيسة في أيام الأحد، ولأننا آثمون، وقد أراد الله أن يعاقبنا لأننا تمنينا أن تذهب الهوريكين عنا وتتجه شمالًا نحو ولاية كارولينا.» آه، كم يشعر أهل فلوريدا بالذنب لأنهم فرحوا بالنجاة من الهوريكين على حين كان إخوانهم في ولاية كارولينا يغرقون تحت مياه المحيط!

تنهدت الزميلة الدكتورة جين وقالت: إنها شيزوفرينيا! وهل يمكن أن تشتغل الآلهة في السماوات على هذا النحو الشيزوفريني؟! ربما لهذا السبب اكتشف الناس العلم ودرسوا الفيزياء والذرة والكون والطب والهندسة وغيرها من العلوم، لكن القساوسة في جنوب فلوريدا يريدون العودة بنا إلى الوراء، أتعرفين أن بعض المدارس هنا أدخلت «الدين» كمادة إجبارية، وفرضت الصلاة على التلاميذ، ومنعت تدريس نظرية «داروين» عن تطور الإنسان لأنها تتعارض مع نظرية الخلق الواردة في الكتاب المقدس! وسألتني جين قائلةً: خطأ من هذا؟ قلت لها: خطؤنا نحن؛ لأننا نجلس أمام شاشة التليفزيون، هيا بنا إلى الشاطئ نسبح في المحيط تحت الأشعة الذهبية قبل أن تغرب الشمس.

١  ولاية فلوريدا، أكتوبر ١٩٩٩م.
نُشر بالأهالي، ١٧ نوفمبر ١٩٩٩م تحت عنوان «قبل أن تغرب الشمس».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤