الصمت جريمة … ومعًا نكسر باب السجن١

قضيت ليلة الثلاثاء أول يوليو ١٩٩٧م جالسة في مقعد خلفي داخل الطائرة النفاثة، تجتاز المحيط الأطلسي، تمر الساعة وراء الساعة، اثنتا عشرة ساعة، رأسي يسقط فوق صدري حين يغلبني سلطان النوم، قدماي تتورمان، تؤلمانني، لا أستطيع أن أمدهما أمامي؛ فليس هناك مساحة. حين كنت شابة لم يكن السفر مرهقًا بل إنه المتعة، وإن ركبت فوق ظهر قطار، أو فوق ظهر سفينة أو حتى فوق الطائرة، وكان الأمل كبيرًا في تغيير العالم بحيث يختفي الظلم، ويصبح الناس سواسية كأسنان المشط، بصرف النظر عن اللون أو الجنس أو العرق أو العقيدة.

وأنا في العشرين من عمري تصورت أن الثورة ستقوم بعد أيام قليلة، وفي الثلاثين من العمر تصورت أنها ستأخذ عدة شهور، وفي الأربعين تصورت أنها تحتاج إلى بضع سنين، وبعد أن تجاوزت الستين عامًا أصبحت الثورة بعيدة تحتاج إلى قرن من الزمان أو قرون.

مع ذلك، أجد نفسي داخل الطائرة المتجهة إلى نيويورك؛ فقد وصلتني دعوةٌ للمشاركة في مظاهرة يقودها أطفال العالم؛ للاحتجاج على الظلم الواقع على ملايين الأطفال من الشعوب المقهورة (وعلى رأسها شعب العراق) المحاصرة اقتصاديًّا، لأسباب سياسية، يحكمها مبدأ واحد هو البطش بالضعفاء، وأولهم الأطفال وثانيهم الأمهات.

الإرهاق الجسدي يضاعف حالة اليأس من حدوث أي ثورة تغيِّر النظام العالمي الجديد القديم، فما بال ثورة أطفال؟

تحركتُ في مقعدي كأنما أفكُّ حزام المقعد، كأنما أهم بالنزول من الطائرة والعودة من حيث أتيت، لقد قبلت هذه الدعوة الطفولية في لحظةٍ طفولية من لحظات الأمل الخارق لطبقات اليأس؛ فالطفلة في أعماقي لم تَمُت بعد، قد تصحو فجأة وتدفع جسدي المرهق اليائس إلى الاندفاع نحو مجالات الأمل الجنونية، والتحليق في السماء حتى الهبوط فوق المريخ.

حينئذٍ أحبها رغم جنونها، هذه الطفلة العنيدة غير القابلة لمنطق الكهولة، وآلام العمود الفقري، فهي تأخذني بعيدًا (ولو مؤقَّتًا) عن العيون الذابلة والأجسام البطيئة الحركة والعقول الملفوفة بالحجاب أو الوجوه المغطاة بالمساحيق وأقنعة التنكر.

وصلت إلى نيويورك الساعة ١١:٣٠ صباحًا، مطار كيندي هو أفضل مكان يفقد الإنسان فيه نفسه، لا يكاد يلتقط أنفاسه حتى يجد نفسه داخل ما يُسَمَّى بالسيارة الصفراء تنطلق مثل نحلة مجنونة نُزع عنها ذنَبها، وكل شيء يلهث، وأنا ألهث وأقول للسائق الهندي: بسرعة جدًّا جدًّا إلى المظاهرة أرجوك؛ لأنها ستبدأ الساعة ١٢ ظهرًا، أمامَك نصف ساعة فقط تصل إلى تقاطع شارع ٤٧ مع الأفينيو الأول، رصيف أمام مبنى الأمم المتحدة، أرجوك أسرع إلى المظاهرة!

صوتي يلهث، يتهدج بالانفعال، يشتد الانفعال العاطفي والحماس الثوري حين يكون الجسد مرهقًا، والرجل الهندي ذو الوجه الناحل الشاحب رمقني بلا انفعال، مثل جميع سائقي التاكسي في نيويورك، صوت هادئ تمامًا، لا تهمه ثورة ولا تغيير العالم، وسمعته يقول بلكنة أمريكية هندية إنجليزية: «إيه؟ مظاهرة إيه؟!»

صوته بارد مثل دش الماء الصاقع ينزل فوق رأسي الساخنة الملتهبة بالتعب، وعدم النوم، الحماس الطفولي، الذي صوَّر لي مظاهرة الأطفال كأنما تشمل جميع أطفال العالم، بمن فيهم الأطفال الهنود الذين يعيشون في الهند وأمريكا وكل البلاد، تصورت أن شوارع نيويورك من مطار كينيدي حتى مبنى الأمم المتحدة سوف تمتلئ بالأطفال، يهتفون ضد الحصار الاقتصادي وضد الأمم المتحدة التي أصبحت خاضعة للولايات المتحدة الأمريكية، ونُطلِق عليها اليوم اسم «الأمم المتحدة الأمريكية».

إلا أن هذا السائق الهندي الأمريكي لم يسمع عن المظاهرة، ورمقني بإشفاق كمن يرمق شخصًا هبط من المريخ ولا يعرف شيئًا عن النظام العالمي الجديد فوق الكرة الأرضية. ودفعه الإشفاق إلى الإسراع بي إلى مكان المظاهرة، فوصلت في الساعة ١١:٣٠ ظهرًا قبل موعد المظاهرة بنصف ساعة. وكانت هناك مظاهرة أخرى من المهاجرين المقهورين في أمريكا وبعض الزنوج وبعض النساء وبعض الرجال والأطفال أيضًا؛ فهذا المكان فوق الرصيف أمام مبنى الأمم المتحدة هو ساحة المظاهرات الشعبية، وعلى كل فئة مقهورة أن تحجز المكان فوق الرصيف بالساعة أو الساعة والنصف، فإذا انقضى وقتها لمَّت عزالها من المنشورات والكراسي والمنصة والميكرفون وانصرفت لتُخلي المكان لمظاهرة أخرى. لا تكف المظاهرات الشعبية في أمريكا، يحرسها البوليس لإعطاء صورة ديمقراطية؛ فالمطلوب هو الصورة فقط، نحن نعيش في عالم من الصور، أمَّا العالم الحقيقي فهو يمضي في طريقه دون أن يهتزَّ له جفن.

(١) ونكسر معًا باب السجن

بدأت الوجوه العربية تتدفق على الساحة، نساء وأطفال ورجال، يحملون اللافتات ضد الحصار، بدأت أسترد الحماس والأمل، اللغة العربية تسري في أذني مثل الموسيقى، الأطفال يتجمعون على شكل صفوف حاملين اللافتات:
  • أنقذوا الأطفال من الموت.

  • اكسروا الحصار فهو جريمة.

  • أوقفوا بطش الولايات المتحدة الأمريكية بالشعب العراقي.

  • حرروا الأمم المتحدة من النفوذ الأمريكي.

ثُمَّ انطلق الأطفال يغنُّون فوق المنصة، والجميع يغني معهم، حتى المارة في الشوارع توقفوا يستمعون إلى الغناء، ثُمَّ انخرطوا في المظاهرة، رجال ونساء وأطفال، من مختلف الجنسيات والألوان واللهجات، يغنُّون بصوت واحد دون أن يفهموا الكلمات، لكن اللحن الموسيقي مفهوم بصرف النظر عن اللغات:

يد واحدة لا يمكن أن تكسر باب السجن،
يدان اثنتان لا يمكن أن تكسرا باب السجن،
لكن إذا جمعنا الاثنتين مع الاثنتين مع الخمسين،
أصبحنا الملايين،
وسوف يأتي هذا اليوم،
سوف نرى جميعًا هذا اليوم،
ونكسر معًا باب السجن.

فوق المنصة تعاقب المتحدثون من النساء والرجال والأطفال … كلمات قصيرة كلها قوية معبرة، شعارها واحد: الحصار جريمة لا بد أن تنتهي! أصوات مختلفة اللهجات، بعضها مصري، بعضها عراقي، بعضها ليبي، بعضها سوري، بعضها جزائري، لهجات البلاد العربية، بما فيها فلسطين. يدرك الفلسطينيون أكثر من غيرهم معنى الحصار، رأيت الوحدة العربية فوق الرصيف دون حاجة إلى الحكومات العربية، تتآلف الشعوب العربية رجالًا ونساءً وأطفالًا بعيدًا عن حكوماتهم، إذا ما جاءت الحكومات انفضَّت الوحدة وتلاشت.

بعد الكلمات فوق المنصة المنصوبة فوق الرصيف، بدأت المظاهرات تجوب شوارع نيويورك، يتقدمها موكب من عربة تجرها الخيول تحمل نعش الطفل المجهول، تمشي المظاهرات على إيقاع طبول اللحن الجنائزي، يتقدمها الأطفال من مختلف الجنسيات يهتفون ضد الحصار الذي يقتل الأطفال جوعًا في العراق وليبيا وكوبا والبوسنة وزائير ورواندا وغيرها من بلاد العالم.

نادَوا باعتبار الحصار جريمة في حق الشعوب: أوقِفوا الموت البطيء للأبرياء تحت اسم العقوبات.

هذه المظاهرة في أول يوليو توَّجت المظاهرات الشعبية في مِائة مدينة من بلاد العالم، وفي ٦٧ مدينة في الولايات المتحدة خلال الأسبوع الأخير من يونيو ١٩٩٧م، وهو أسبوع التضامن مع الشعب العراقي لرفع الحظر غير القانوني، والذي راح ضحيته حتى الآن ٤٥٠٠٠٠ طفل. نَقلت وسائل الإعلام الأمريكية أجزاء من هذه المسيرة في برامجها عبر محطات التليفزيون لأول مرة منذ ٧ سنوات، إلا أن شرطة نيويورك قبضت أثناء المظاهرة على بعض النساء والرجال والشباب. أحد الشباب رقد فوق أسفلت الشارع أمام سيارة البوليس ليوقف تحركها بالمعتقلين والمعتقلات، إنه شاب أمريكي اشترك في المظاهرة، وراح يهتف ضد الحكومة الأمريكية. ورجل عربي عجوز يتقدم نحو الشرطة ويقول لهم في غضب: اعتقلوني معهم يا مجرمون! يُمسكه رجال الشرطة ويحملونه في الهواء، ثُمَّ يلقون به داخل السيارة البوكس.

كل هذا رأيته بعيني وشهدته، أكذوبة الديمقراطية، وازدواجية المقاييس، وقد حصل المسئولون عن المظاهرة على تصريح من الأمن بعمل المظاهرة، إلا أن الأمن الأمريكي لم يأْبَه بهذا التصريح، واعتقل بعض النساء والرجال دون أن يَخرجوا عن حدود القانون.

في لقائنا مع الأمين العام المساعد للأمم المتحدة (كان الأمين العام خارج نيويورك) قدمنا احتجاجًا رسميًّا على هذا الاعتقال غير القانوني، والذي لم يحدث إلا لهذه المظاهرة دون غيرها من المظاهرات، لمجرد أنها مظاهرة عربية، يتصاعد العداء للعرب في الولايات المتحدة الأمريكية.

دام اللقاء مع الأمين العام المساعد حوالي الساعة، اسمه «إبراهيم فال»، وهو سنغالي، استمع جَيِّدًا لكل أعضاء وعضوات الوفد العالمي الذي قابله، كانت مطالبنا الأساسية للأمم المتحدة كالآتي:
  • أولًا: أن تتحمل الأمم المتحدة مسئوليتها أمام الشعوب التي أنشأتْها، وأن تمنع الدول الأعضاء فُرادَى أو مجتمعين من اتخاذ أي قرار لا يتفق مع ميثاق الأمم المتحدة أو الاتفاقات المودَعة في أمانتها؛ مثل اتفاقية جنيف وغيرها.
  • ثانيًا: على الأمم المتحدة أن تمنع استخدام الحصار كسلاح ضد الشعوب بسبب قرارات سياسية اتخذتها حكوماتهم، هذا الحصار جريمة، وخرق للقانون الدولي، لا يدفع ثمنه إلا الأبرياء من الشعوب، خاصةً الأطفال الذين لا يشاركون في أي قرار سياسي.
  • ثالثًا: اعتبار سلاح الحصار أحد أسلحة الدمار الشامل، ويجب حظره ومنع استخدامه تمامًا في أي بلد في المستقبل.

ضمن المشاركين في المظاهرات وزير العدل الأمريكي السابق «رامزي كلارك»، الذي تدخل لدى الشرطة الأمريكية للإفراج عن المعتقلين والمعتقلات أثناء المظاهرة، وفعلًا تم الإفراج عنهم في اليوم ذاته.

كانت إحدى المعتقلات امرأة مصرية كانت تمشي إلى جواري، رأيت ثلاثة من رجال الشرطة ينقضُّون عليها، أحدهم يضع ذراعيها خلف ظهرها ويكبل يديها بالحديد، ويدفعها زميلاه إلى سيارة البوكس.

مشهد همجي عنيف غليظ يعامل بالغلظة نفسها المرأة كالرجل والطفل والعجوز والعربي والأمريكي والهندي، لا فرق.

هذه هي المساواة الوحيدة التي شهدتُها في نيويورك في اليوم الأول من يوليو ١٩٩٧م، وقد هجم رجال الشرطة على شابة أمريكية، قيَّدوها بالحديد وألقَوْا بها في العربة إلى جوار زميلتها المصرية، وفعلوا ذلك بالشاب والعجوز والأسود والأبيض، هكذا تحققت المساواة تحت يد الشرطة الأمريكية.

لم يحدث في التاريخ البشري أن يجري قتل شعب كامل مثل الشعب العراقي بأطفاله ونسائه ورجاله، عن عَمْد وسَبْق إصرار، بحُجة تطبيق الشرعية الدولية التي تتذرع بها الأمم المتحدة على اقتراف هذه الجريمة منذ حرب الخليج عام ١٩٩٠م.

على حين تُداس هذه الشرعية الدولية كل يوم من جانب دول أخرى، على رأسها إسرائيل، والصمت هو اشتراك في الجريمة.

(٢) العودة إلى الوطن

عند عودتي إلى الوطن شهدتُ الصراع بين القيادات الفكرية والدينية والطبية حول موضوع ختان الإناث، وهذه جريمة أخرى تُرتكَب في حق النساء والبنات والأطفال الإناث، جريمة ارتُكبت في صمت كبير، على مدى سنين وقرون، كُتمت أصوات النساء خوفًا من الاتهام بالفساد أو انعدام الأخلاق أو انعدام الكرامة أو تأييد الغرب أو الولايات المتحدة الأمريكية. أغرب ما قرأت في الصحف هو التهديد الأمريكي بقطع المعونة عن مصر إن لم يصدر قانون يمنع ختان الإناث!

شر البلية ما يُضحك، إن الولايات المتحدة الأمريكية تتعاطف مع الأطفال البنات المصريات ضحايا الختان، لكنها لا تتعاطف مع الأطفال في بلادٍ أخرى الذين يموتون جوعًا بسبب الحصار الأمريكي لهم! تؤيد الولايات المتحدة الأمريكية سياسة إسرائيل التي تَسفِك الدماء في فلسطين كل يوم منذ تسعة وأربعين عامًا.

أمر مضحك مؤلم، لا يدفع ثمنه إلا الأطفال الذكور والبنات اللائي يتخلى عنهن الكبار لمجرد إثبات الوطنية أو الهُوية في ساحة الصراعات السياسية.

عالم السياسة لا تحكمه المبادئ أو القيم الإنسانية، بل تحكمه القوى المهيمنة والمصالح الآنية وغير الآنية، يروح ضحية هذه الصراعات الدولية والمحلية، الشرائح الضعيفة في المجتمع وعلى رأسهما الأطفال البنات.

إلا أن هؤلاء النساء والرجال الواثقين في وطنيتهم والواثقات في وطنيتهنَّ، لا يأبهون ولا يأبهن لهذه المناورات السياسية، ويرفضون الصمت؛ لأن الصمت اشتراك في الجريمة سواء كانت حصارًا اقتصاديًّا أم ختانًا جسديًّا أو عقليًّا.

١  الأهالي، ٢٧ / ٨ / ١٩٩٧م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤