أيهما نلوم: الكبار أم الصغار؟١

تلقت الوفد هذا المقال من الدكتورة نوال السعداوي، ولما كانت الكاتبة قد تعرضت فيه إلى شخصية دينية مرموقة هو فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي، فإنَّ الوفد تنشر المقال ومعه تعليق من الشيخ الشعراوي.

***

في الصفحة الأولى من جريدة الأهرام (١٧ / ٣ / ١٩٨٨م)، رأينا صورة كبيرة لرئيس الدولة وهو يُصافِح الشيخ متولي الشعراوي، وسلَّمه وسام الجمهورية من الطبقة الأولى، وفي اليوم نفسه والأيام الثلاثة السابقة كانت الصحف والمجلات تنشر علينا قصة تحطيم الآلات الموسيقية وضرب الطلبة المشاركين في الحفل الفني داخل جامعة أسيوط، وفي تصريح لوزير الداخلية (المصور، ١٨ / ٣ / ١٩٨٨م) قال: إن سلطات الأمن لم تدخل جامعة أسيوط إلا بناءً على طلب رئيس الجامعة الذي استنجد بالبوليس بعد أن اقتحمت جماعة من الإسلاميين الحرم الجامعي والصالة التي أُقيم بها الحفل الموسيقي ووصلت المعركة إلى حد إراقة الدماء.

ولا يزال الناس يتحدثون عن هذا الحادث، وقد راعهم أن تصل الأمور ببعض الجماعات الإسلامية إلى حد اعتبار الموسيقى حرامًا ومن فِعل الشيطان، وبدأ بعض الكُتَّاب والصحفيين يُعبِّرون عن غضبهم ويتساءلون: هل الموسيقى حلال أم حرام؟ (جريدة الأهرام، ١٦ / ٣ / ١٩٨٨م).

وتذكَّرت على الفور حديث الشيخ متولي الشعراوي الذي نُشر في جريدة اللواء الإسلامي (١٦ يوليو ١٩٨٧م)، وقال فيه بالحرف الواحد:

إن هؤلاء الذين ينامون على صوت موسيقى بيتهوفن وليس على ترتيل القرآن لا يعرفون الله.

وقال أيضًا في الحديث نفسه:

إن الفنانين والفنانات الذين تابوا على يديه واعتزلوا فن التمثيل لهم جنات النعيم؛ لأنَّهم تابوا إلى الحق بعد ضلال.

وكنت أتوقع أن تُثير مثل هذه الأفكار (البعيدة عن الإسلام الصحيح) أقلام الصحفيين والكُتَّاب في بلادنا، لكني لم أقرأ أيَّ رد؛ فكتبتُ مقالًا في هذا الشأن، وأرسلته إلى جريدة «الأهرام»، التي لم تنشره، وقيل لي إن الجريدة لا تنشر نقدًا يتعلق بالشيخ الشعراوي … ودُهشت، ولم أكن أعرف أن في بلادنا شخصًا فوق النقد ومناقشة أفكاره. ونُشر المقال في جريدة الأهالي (٥ أغسطس ١٩٨٧م)، وتلقيت بعد نشره عددًا من الرسائل والمكالمات التليفونية، بعضها يمدح شجاعتي الفكرية وعمق فهمي للإسلام (الذي يحترم الموسيقى والفنون)، والبعض الآخر يهدِّدني بالقتل، وأدركت لماذا لم يُعلِّق أحد على حديث الشيخ الشعراوي.

وكان لا بد ألا يمرَّ مثل هذا الحديث دون أن يُحدث جدلًا واسعًا بين المثقَّفين والمثقَّفات والكُتَّاب والكاتبات حول: هل الموسيقى حرام أم حلال؟! فإن مثل هذا الجدل والحوار الفكري هو الذي يُضيء الطريق أمام الشباب وطلاب الجامعات، ولا يتركهم فريسة للأفكار المتخلفة تحت شعارات دينية. أمَّا أن نسكت ونصمت تمامًا في الوقت الذي يجب فيه أن نتكلم، ثُمَّ نتكلم بل نصرخ بعد فوات الأوان، فهذا هو الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال.

وأكثر من ذلك هو ذلك الوسام من الطبقة الأولى الذي يحصل عليه واحد من أكبر الدعاة الإسلاميين في بلادنا، وهو الذي كتب في ١٦ يوليو ١٩٨٧م أن الموسيقى حرام، فهل نلوم الشباب أم نلوم أكبر الدعاة؟ وأيها نلوم أكثر: الذي يضع الفكرة الخاطئة في الرءوس أم اليد التي تنفذ الفكرة وتمسك بآلة الضرب أو القتل؟! وأيهما نلوم: الشيخ الكبير أم الشاب الصغير؟!

إن هذا التناقض الواضح الذي يدلُّ على التردد والخوف والتراجع هو الذي يُسهِّل للشباب المتطرف أن يقتحم ويضرب بالجنازير الحديدية والمطاوي وغيرها. ويُشجِّع بعض الدعاة على ركوب موجة الردة الحضارية وكسب نوع من الشعبية الزائفة على حساب الدين الصحيح والقيم الصحيحة والفنون الجميلة وعلى رأسها الموسيقى.

إن صمت الكُتَّاب والكاتبات أو ترددهم وتراجعهم يلعب دورًا كبيرًا في هذا المجال. وقد قرأت في الصُّحف أن رؤساء الجامعات قرروا (بعد حادثة جامعة أسيوط) أن يمنعوا الحفلات الموسيقية التي يقيمها الطلاب في نهاية العام. وإذا كان هذا الخبر صحيحًا، فإن مثل هذا التراجع والخوف من جانب المسئولين يؤدي في النهاية إلى مزيد من تلك الأحداث المؤلمة وتسهيل العنف والضرب تحت اسم الدين.

وفي بلادنا عدد قليل من المفكرين والكُتَّاب ذوي الشجاعة الأدبية والفكرية، ومنهم من يؤلف كتبًا عن الإسلام الصحيح غاية في الأهمية، إلا أن هؤلاء لا ينالون إلا الهجوم، أو التجاهل والصمت، وحين يجد الواحد منهم نفسه وحيدًا في المعركة فإنه ينسحب بهدوء، وقد يكف عن الكتابة تمامًا. وقد آنَ الأوان أن يكفَّ أصحاب الأقلام عن صمتهم، حين تكون الكلمة واجبة، وأن يكفَّ المسئولون عن تناقضهم وتراجعهم أمام هجمات الردة الحضارية، وأن يتكاتف كل من يهمه صالح هذا البلد من أجل الدفاع عن الحق والمنطق وحماية الإسلام من الدجل السياسي والتجارة باسم الدين.

إن أجهزة الإعلام — وعلى رأسها التليفزيون — أسلحة خطيرة يمكن أن تُستخدم لتنوير الناس، ولا أدري لماذا يُفسَح المجال بالساعات للشيخ محمد متولي الشعراوي دون أن يُفسَح المجال للآراء الأخرى التي ترد عليه؟ والغريب أن الحكومة تصرخ الآن بعد أحداث جامعة أسيوط، في حين أن أجهزة الإعلام الحكومية — وعلى رأسها التليفزيون — لا تزال تمنع أكثر الآراء استنارة من الوصول إلى الناس.

تعليق الشيخ الشعراوي

إن مجرد التعليق على كاتبة هذا المقال يرفعها كثيرًا، ولكن على أية حال هي وجهة نظر تُحترَم، ويكفيني أن يكون هذا الهجوم الذي نالني بالمقال ممهورًا بإمضاء صاحبته؛ فذلك أبلغ رد، لأن الكل يعرف لمن تعمل لحسابه، ويعلمون لمن يعمل الشيخ لحسابه، وشتان بين من في جانب حساب خالق، ومن في جانب رعونة مخلوق. وأنا أحمد الله، وأعتبر ما يُقال من هذا الصنف وسامًا آخر؛ لأني لو لم أُغضب هؤلاء أعتبر نفسي فاشلًا في مهمتي، فزيدوني حملات لأزداد بالله ثقات.

١  جريدة الوفد، ٢٢ / ٣ / ١٩٨٨م، العدد ٣٢٦، صفحة ٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤