تقديم

بقلم  محمد  حسين هيكل

يؤرخ العالم الإسلامي كله بهجرة النبي العربي من مكة إلى المدينة، والسر في اختيار هذا الحادث العظيم مبدأ للتاريخ الإسلامي أنه مبدأ نصر الله رسوله على الذين حاربوا دعوته في البلد الحرام ثم مكروا به ليقتلوه، وكان الصديق أبو بكر هو وحده صاحب رسول الله في هذه الهجرة، ولما مرض رسول الله مرضه الأخير، فلم يَقْوَ على الصلاة بالمسلمين، أمر أبا بكر أن يقوم في الصلاة بهم مقامه، ولم يرضَ أن يقوم عمر بن الخطاب هذا المقام.

وإنما اختار النبي أبا بكر ليصحبه في الهجرة، وليصلي بالمسلمين مكانه؛ لأن أبا بكر كان أول المسلمين إيمانًا بالله ورسوله، وأكثرهم في سبيل إيمانه تضحيةً، ولأنه حرص منذ أسلم على معاونة النبي في الدعوة لدين الله وفي الدفاع عن المسلمين، ولأنه كان يؤثر النبي على نفسه، ويقف إلى جانبه في كل موقف؛ ثم إنه كان، إلى قوة إيمانه، من أدنى الناس إلى كمال الخلق، ومن أحب الناس إلى الناس وأكثرهم إلفًا لهم ومودة.

لا عجب، وذلك بعض شأنه، أن يبايعه المسلمون خليفة لرسول الله، ولا عجب، وتلك مواقفه، أن ينصر الإسلام وينشر ظل الله في الأرض، فيكون التأريخ له مبدأ التأريخ للإمبراطورية الإسلامية التي امتدت من بعدُ في الشرق وفي الغرب، إلى الهند والصين في آسيا، وإلى مراكش والأندلس في إفريقية وأوربا، والتي وجهت الحضارة الإنسانية وجهة لا يزال العالم متأثرًا بها إلى اليوم.

ولقد جال بخاطري، منذ فرغت من كتابي «حياة محمد» و«في منزل الوحي»، أن أقوم بدراسات في تاريخ هذه الإمبراطورية الإسلامية، وفي أسباب عظمتها وانحلالها، وإنما أغراني بالتفكير في هذا الأمر أن الإمبراطورية الإسلامية كانت أثرًا لتعاليم النبي العربي وسنته، أما وقد درست حياته ، ورأيت نتائج هذه الدراسة جديرة بأن تهدي الإنسانية طريقها إلى الحضارة التي تنشدها، فإن دراسة هذه الإمبراطورية وأطوارها ما يزيدنا قدرًا للتأسي بالرسول وتعاليمه، وما ييسر لنا حظًّا جديدًا من العلم بهذه الحياة الباهرة الجلال يزيد العلماء اقتناعًا بما دعوت إليه من إمعان البحث فيما تنطوي عليه من حقائق نفسية، وأخرى روحية، ما يزال العلم يقف بوسائله حائرًا دونها، لا يستطيع أن يثبتها بأدلته، ولا يستطيع مع ذلك أن ينفيها، وهي من بعد قوام سعادة الإنسان في الحياة ومقوم سلوكه فيها.

وأغراني بهذا التفكير كذلك ما أعتقده من أن معرفة الماضي هي وحدها التي تطوع لنا تطوير المستقبل وتوجيه جهودنا أثناءه إلى الغاية الجديرة بالإنسانية؛ فالماضي والحاضر والمستقبل وحده لا سبيل إلى انفصامها، ومعرفة الماضي هي وسيلتنا لتشخيص الحاضر، ولتنظيم المستقبل؛ كما أن معرفة الطبيب ماضي مريضه خير وسائل التشخيص والعلاج.

والحاضر الذي تمخضت عنه الإمبراطورية الإسلامية يتناول بنوع خاص كل الشعوب التي تتكلم العربية، وتؤمن لذلك بأنها تَمُت لأهل شبه الجزيرة بصلة ونسب، ومصر مركز الدائرة من هذه الشعوب؛ تمتد حولها فلسطين وسوريا والعراق إلى الشرق، وطرابلس وتونس والجزائر ومراكش إلى الغرب، ويتناول هذا الحاضر بنوع عام جميع الشعوب التي تدين بالإسلام في آسيا وإفريقية وأوربا، لا جرم وماضي الإمبراطورية الإسلامية يربط على الزمان هذه الأمم والشعوب كافة أن تكون دراسته موضع عنايتها جميعًا، وأن يرى كل منها صورته إلى أربعمائة وألف سنة خلت ماثلة في هذه الدراسة، وأن يتعرف من طريقها الأسباب التي أدت إلى ما أصاب هذه الصورة من شوهٍ أو فساد، وأن يلتمس الوسيلة من طريق هذا التعرف لرد الصورة إلى جلالها الأول وبهائها المضيء.

وإني لأفكر في هذه الأمور وفيما يتصل بها إذ رغب إليَّ جماعة ممن أبدوا الرضا عن «حياة محمد» أن أتناول حياة خلفائه الأولين بالبحث، وأن أفرد لطائفة من أبطال المسلمين في العهد الأول تراجم مستفيضة، أسجل في كل واحدة منها سيرة واحد من هؤلاء الأبطال، ولئن أرضى مطلب هؤلاء الأصحاب نفسي وتملق رضاي عنها لقد أشفقت عليها مما طلبوا؛ فهو أمر يقصر دون إتمامه الجهد، وتنوء بإحسانه جماعة متضافرة.

وكانت الترجمة لعمر بن الخطاب مما أكثر الحديث فيه قوم رأوا سيرة الفاروق غرة في جبين التاريخ الإسلامي، قلت عند ذلك في نفسي: وما لي لا أبدأ بسيرة الصديق فأدرسها وأعرضها على النحو الذي عرضت به «حياة محمد»! لقد كان أبو بكر صفي محمد وخليله، وكان أكثر أصحابه اتصالًا به، وكان لذلك أكثرهم تتبعًا لتعاليمه وامتثالًا إياها، وهو بعد رجل رقيق الخلق، رضي النفس، وإليه ينتسب عشرات الألوف ومئاتها من المسلمين المنتشرين في أنحاء الأرض، ثم إنه، إلى رفقه ورقته، هو الخليفة الأول، وهو الذي أقر الإسلام حين حاول المرتدون من العرب أن يقوضوا ركنه أو يثلموا متنه، كما أنه هو الذي مهد للفتح وللإمبراطورية، فلعلي، إذا وفقت لتدوين سيرته على النحو الذي أرجو أكون قد عبدت الطريق لكتابة تاريخ هذه الإمبراطورية كله أو بعضه، فأبلغ بذلك ما يريد الله أن أبلغه من هذا الغرض العظيم، وأمهد السبيل لمن شاء أن يتمه أو يأخذ فيه من جديد على نحو أدنى إلى الكمال.

ولو أني قر بي الجهد عند سيرة أبي بكر لكفاني ذلك ولاغتبطت به، وحسبك أن تتلو ما حدث في عهد الخليفة الأول لتسكن إليه وتستقر عنده، إن فيما رواه المؤرخون من وقائع هذا العهد لما ينطوي على عظمة نفسية تثير الدهشة، بل الإعجاب، بل الإكبار والإجلال، وأخشى أن أقول إنها تدعو إلى التقديس، أنت لا ترى هذه المعاني مصورة في أي من الكتب الأولى؛ لكن روايتها للحوادث تبرزها وإن لم تنطق بها، وتجلوها بينة واضحة وإن لم تذكرها ولم تحدِّث عنها.

فهذا الرجل الوديع السمح الأسيف، السريع إلى التأثر وإلى المشاركة، البائس في بؤسه، والضعيف في ضعفه، تنطوي نفسه على قوة هائلة لا تعرف التردد ولا الإحجام، وعلى قدرة ممتازة في بناء الرجال، وفي إبراز ملكاتهم ومواهبهم، وفي دفعهم إلى ميادين الخير العام ينفقون فيها كل ما آتاهم الله من قوة ومقدرة.

أين كانت هذه العبقرية التي انطوت عليها نفس أبي بكر أثناء حياة الرسول؟

عدت بالذاكرة إلى سيرة أبي بكر قبل خلافته، واستحضرت مواقفه من رسول الله، فبدت لي في ثوب جديد من الجلال تحيط بها هالة من عظمة تواضعت إلى جانب عظمة الرسول وجلاله؛ لكنها برزت أمامي بكل بهائها وجلالها حين قرنت صاحبها إلى سائر أصحاب رسول الله ومن اتبعه من المسلمين، فأين مواقفهم، على جلالها وعظمتها، من مواقفه أول الرسالة، وحين كانت قريش تنال رسول الله بالإساءة والأذى، وحين كان حديث الإسراء، وأول الهجرة، وفي مكافحة دسائس اليهود بيثرب؟!! إن كل موقف من هذه المواقف لكفيل وحده بأن يؤرخ لرجل وأن يثبت اسمه في كتاب الخلود، وعظمة أبي بكر مع ذلك هي العظمة الصامتة التي تأبى أن تتحدث عن نفسها؛ لأنها عظمة الروح وعظمة الإيمان الحق بالله وبما أوحى إلى رسوله .

ثم ماذا؟ ثم إن رواية الحوادث في عهد أبي بكر تشهد له بحسن الرأي وبعد النظر، فهو حين فكر في غزو الفرس وفي غزو الروم لأول ما اطمأن إلى موقف المسلمين من حروب الردة في بلاد العرب، قد رأى في مبدأ المساواة الذي جاء الإسلام به قوة جديدة لا تستطيع فارس ولا تستطيع بزنطية أن تواجهها، فهذا المبدأ جدير بأن تهوي إليه نفوس الناس جميعًا في هاتين الإمبراطوريتين اللتين قامتا على حكم الفرد وعلى نظام الطوائف وعلى التفاوت بين الناس، ليكن لكل من الإمبراطوريتين ما تشاء من عدد وعدة؛ فإن فكرة المساواة والعدل أقوى من كل قوة، والحكم القائم على أساس هذه الفكرة جدير بأن يكسب الناس إليه ما كان الإنصاف أساسه، لذلك لم يصد أبا بكر عن غزو العراق وغزو الشام ما كان من اختلاف طائفة من كبار الصحابة معه في الرأي، بل أمر بهذا الغزو مطمئنًا إلى أن الله معينه وناصره، ولذلك نصح إلى من بعثهم على رأس هذا الغزو أن يتمسكوا بالمساواة وبالإنصاف والعدل لا يحيدون عنها قيد أنملة.

تتجلى هذه المعاني واضحة كل الوضوح من خلال الحوادث التي رواها المؤرخون الأولون عن هذا العهد القصير العظيم الذي تولى الصديق فيه أمر المسلمين؛ ويزيد ما كتبه المستشرقون بعض هذه المعاني وضوحًا بما أوردته كتبهم من ملاحظات، وما حاولت أن تفسر به بعض الحوادث.

وهذه المعاني هي التي تجعل هذا العهد القصير خليقًا أن يفرد له سفر مستقل يصور ذاتيته الخاصة وتكوينه التام.

وأنا أقصد ما أقول حين أذكر أن عهد الصديق له ذاتيته الخاصة وتكوينه التام، فهو على اتصاله بعهد الرسول قبله وبعهد عمر بعده، يمتاز بطابع يشخصه، فعهد الرسول كان عهد وحي من عند الله، أكمل الله به للناس دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينًا، وعهد عمر كان عهد تنظيم للحكم الذي استقرت قواعده، وللإمبراطورية التي تفتحت أبوابها، أما عهد أبي بكر فكان فترة الانتقال العصيبة الدقيقة التي تربط بين هذين العهدين، وتتميز مع ذلك عن كل منهما، بل تتميز عن كل عهد عرفه الناس في تاريخ الحكم واستقراره، وفي تاريخ الأديان وانتشارها.

في هذه الفترة الدقيقة صادفت أبا بكر صعاب بلغت من الشدة أن أثارت مخاوف المسلمين جميعًا في أول عهده، فلما تغلب بفضل إيمانه عليها، وأمده الله بالتوفيق والنصر فيما تلاها، تولى عمر بن الخطاب سياسة المسلمين، فدبر أمورهم، وأقام بينهم عدلًا وطد قواعد ملكهم، وجعل دول العالم تدين طائعة لسلطانهم.

أثارت الصعاب التي صادفت أبا بكر مخاوف المسلمين؛ ذلك لأن الوحدة العربية التي تمت في عهد الرسول لم تلبث أن اضطربت حين وفاته، بل لقد بدأت نذر هذا الاضطراب قبل أن يختار الله رسوله إليه، تنبأ مسيلمة بن حبيب باليمامة وبعث رسله إلى النبي بالمدينة يقولون له: إن مسيلمة نبي مثله، «وإن لنا نصف الأرض ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشًا قوم لا يعدلون»، وتنبأ الأسود العنسي باليمن وادعى السحر، وجعل يدعو الناس إليه خفية، حتى إذا عظم أمره سار من الجنوب وطرد عمال محمد، وتقدم إلى نجران ونشر في ذلك الأصقاع سلطانه، وبعث محمد إلى أعماله باليمن كي يحيطوا بالأسود أو يقتلوه، هذا إلى أن العرب الذين آمنوا بالتوحيد ونبذوا عبادة الأوثان لم يدر بخاطر أحدهم أن تعقب وحدتهم الدينية وحدة سياسية؛ بل إن كثيرًا منهم راجعهم الحنين إلى عقائدهم الأولى، فلم يلبثوا حين علموا بوفاة رسول الله أن ارتدوا عن دين الله، وأن أعلن أكثر القبائل عدم الإذعان لسلطان المدينة، وعدوا الزكاة إتاوة مفروضة فامتنعوا من أدائها.

استطارت هذه الثورة عقب وفاة الرسول في بلاد العرب جميعًا بسرعة مروعة كما تستطير النار في الهشيم، وبلغت أنباؤها أهل المدينة ممن حول أبي بكر بعد أن بايعوه، فتولاهم الدهش واختلفوا ما يصنعون، وكان رأي قوم، بينهم عمر بن الخطاب، ألا يقاتلوا الذين منعوا الزكاة ما داموا يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، ولعلهم أرادوا بذلك ألا يزيدوا عدد عدوهم فيتغلب عليهم، ولم يعدهم الله ما وعد رسوله من النصر، وليس ينزل الوحي على أحد منهم بعد أن اختار الله إليه خاتم الأنبياء والمرسلين، لكن أبا بكر أصر على قتال من منعوا الزكاة كما أصر على قتال من ارتدوا، فكانت حروب الردة التي استطالت عامًا وبعض عام.

ولم تكن حروب الردة غزوات اشتبك فيها بضع مئين من جيش الخليفة وبضع مئين من خصومه، بل كانت بعضها طاحنة اشترك فيها عشرات الألوف من كل جانب، وقتل فيها المئات بل الألوف من هؤلاء ومن أولئك، ثم كان لها في تاريخ الإسلام أثر حاسم، ولو أن أبا بكر نزل على رأي من لم يريدوا هذه الحروب لساد الاضطراب بلاد العرب، ولما قامت الإمبراطورية الإسلامية، ولو أن جيوش أبي بكر لم تنتصر في هذه الحروب لكانت العاقبة أدهى وأمر، ولتغير في الحالين مجرى التاريخ في العالم كله، لذلك لا يكون غاليًا من يقول: إن أبا بكر، بموقفه من ردة العرب وبانتصاره فيها، قد وجه تاريخ العالم، وكان يد الله في بعث الحضارة الإنسانية خلقًا جديدًا.

فلولا انتصار أبي بكر في حروب الردة لما بدأ غزو العراق وغزو الشام، ولما سارت جيوش المسلمين مظفرة تفتح الإمبراطوريتين الرومية والفارسية لتقيم الإمبراطورية الإسلامية على أنقاضهما، ولتحل الحضارة الإسلامية محل حضارتهما، ولولا حروب الردة، واستشهاد من استشهد من الصحابة لإحراز النصر فيها، لخيف ألا يسارع عمر فيشير على أبي بكر بجمع القرآن، وهذا الجمع هو الذي أدى إلى توحيد القراءة بلغة مضر في عهد عثمان، فظل كتاب الله الكريم أساسًا ثابتًا لكلمة الحق، ودعامة متينة للحضارة الإسلامية، ولولا نصر الله المسلمين في حروب الردة لخيف ألا يقر أبو بكر نظام الحكم في المدينة ليقيمه عمر من بعده على أساس من الشورى، سداه العدل والرحمة، ولحمته البر والتقوى.

هذه أحداث جليلة تمت في فترة قصيرة لم تعد سبعة وعشرين شهرًا، ولعل قصر هذه الفترة هو الذي دعا بعضهم أن يتخطاها إلى عهد عمر، ظنًّا منهم أن أشهرًا معدودات لا تتسع لعظائم تغير وجه العالم، ولو أن هؤلاء ذكروا أن الثورات التي نقلت الإنسانية أطوارًا تمت كلها في مثل هذه الفترة، وأن العالم جعل يمتثل مبادئ هذه الثورات بعد ذلك شيئًا فشيئًا ويفيد منها لرقي الإنسانية في توجهها إلى الكمال، لما سارعوا إلى الانتقال من عهد الثورة الروحية التي أعلنها رسول الله في العالم كله إلى الإمبراطورية المترامية الأطراف التي دانت لهذه الثورة، دون أن يقفوا مليًّا عند هذه الفترة التي يحاول العرب فيها أن يقوموا برد الفعل في وجه ما جاء محمد به، شأنهم في ذلك شأن الناس في كل زمان ومكان؛ إذ يحاربون المبادئ الجديدة يحاولون إطفاء نورها، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.

كيف استطاع أبو بكر أن يواجه الصعاب التي استفتحت عهده، وأن يثبت لها ويتغلب عليها، وأن يبدأ التمهيد للفتح وللإمبراطورية وهذه الصعاب قائمة؟ لقد كانت لصفاته الذاتية أثر كبير في ذلك لا ريب، لكن هذه الصفات وحدها ما كانت لتبلغ به ما بلغ لولا صحبته الرسول عشرين سنة كاملة؛ ولذا يجمع المؤرخون على أن عظمة الصديق في خلافته تتصل بعظمته في صحبة الرسول أوثق اتصال، فهو قد أشرب أثناء الصحبة روح الدين الذي جاء به محمد، وأدرك مقاصده وأغراضه كاملة إدراك إلهام لا يتطرق إليه الخطأ ولا الريب، ومما أشربه وأدركه بإلهامه أن الإيمان قوة لا يغلبها غالب ما تنزه المؤمن عن كل غرض إلا ابتغاء الحق لوجه الحق وحده، هذه حقيقة روحية أدركها كثيرون من عصور شتى، لكنهم أدركوها بعقولهم، أما أبو بكر فأدركها بقلبه، ورآها بعينه ماثلة في رسول الله وفي عمله.

وهذا الإيمان الصادق بالحق هو الذي دفعه ليخالف أصحابه في أمر المرتدين، ويصر على قتالهم وإن خرج إليهم وحده، وما له لا يفعل وقد رأى النبي يقف وحيدًا يدعو إلى الله بمكة فيخالفه أهل مكة جميعًا، ثم يغرونه بالمال والملك وعظمة الجاه، ثم يحاربونه يبتغون بذلك أن يصدوه عن الحق الذي يدعو إليه، فلا يفتر عن أن يقول: «والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه، ما تركته!»

وما له لا يفعل وقد رأى النبي في أعقاب أحد، وبعد أن انتصرت قريش على جيوش المسلمين ممن شهدا أحدًا، ويتعقب قريشًا، وينزل حمراء الأسد ويقيم بها ثلاثة أيام، يوقد النار طول ليله، حتى تزعزعت همة قريش وانصرفت إلى مكة، وقد استرد المسلمون من مكانتهم ما زعزعته أحد!

ثم ما له لا يفعل وقد رأى النبي يقف صبح حنين في عدد قليل من أصحابه ينادي في جيش المسلمين إذ يولون الأدبار: «أين أيها الناس، أين!» وهذه الألوف المؤلفة تفر تولاها الفزع، فلما عرف الناس موقف النبي وسمعوا نداء العباس: «يا معشر الأنصار الذين آووا ونصروا، يا معشر المهاجرين الذين بايعوا تحت الشجرة، إن محمدًا حي فهلموا.» تصايحوا من كل جانب: «لبيك، لبيك»، وارتدوا إلى المعركة مستبسلين!

أي تأسٍّ كهذا التأسي يلهم المرء أن الإيمان قوة لا يغلبها غالب ما تنزه المؤمن عن كل غرض إلا ابتغاء الحق لوجه الحق وحده!! وأي رجل له من الإيمان ما لأبي بكر لا يضاعف تأسيه بالرسول قوة نفسه فيجعله من عناصر الوجود الحاسمة القاهرة! هذه هي القوة الروحية التي لا سلطان لشيء في الحياة عليها، والتي لا تعرف الضعف ولا التردد، ولا يغلبها لذلك غالب!

وهذه الأسوة الروحية التي التمسها أبو بكر في رسول الله، والتي جعلت للمسلمين الغلب على المرتدين من سائر العرب، قد دفعت إلى نفوس المسلمين جميعًا حمية سمت بهم إلى إيمان بأنهم لا غالب لهم من دون الله، وحببت إليهم الاستشهاد في سبيل الحق، وجعلتهم يرون هذا الاستشهاد نصرًا دونه كل نصر، وأنت ستقرأ في هذا الكتاب من آيات ذلك ما قل في التاريخ نظيره، لقد كان المسلمون في عهد رسول الله مطمئنين إلى النصر؛ لأن الله وعد به رسوله، فكان يمده بالملائكة، وكان يوحي إليه ما يحقق وعده جل ثناؤه، أما في عهد أبي بكر، وقد انتهى الوحي باختيار الله إليه رسوله، فقد أصبح الإيمان وحده، وأصبح التأسي برسول الله وبخليفته في السمو بهذا الإيمان إلى ما فوق كل اعتبار في هذه الحياة الدنيا، وأصبح الاستشهاد في سبيل هذا الإيمان، سر القوة، وسر النصر، وسر الرقي بما تنطوي عليه نفوسنا من معان إنسانية رفيعة إلى غاية الكمال الإنساني.

هذه حقيقة روحية استلهمها الصديق من تأسيه بالنبي، فجلتها لنا أعمال المسلمين في خلافته وبتوجيهه على نحو من الوضوح يجعلنا نلمسها وكأنها أمر مادي تقع عليه الحواس بمقدار ما تمتثله الروح، ونحن نلمس هذه الحقيقة الروحية في حروب الردة كما نلمسها في فتح العراق وفي فتح الشام، فلولا هذا الإيمان ما استطاع المسلمون، على قلتهم، أن يتموا في عهد الخليفة الأول ما تم من جلائل الأعمال، وما مهد للإمبراطورية الإسلامية العظيمة.

وقد استلهم أبو بكر من تأسيه بالرسول، إلى جانب هذه الحقيقة الروحية، حقيقة اجتماعية بعيدة الأثر في حياة الأمم، فكل أمة تعتز بنفسها، وتطمئن إلى قوتها، وتشعر بأن عليها رسالة واجبة الأداء للعالم، وبأن العالم يجب أن يسمع لهذا الرسالة — مثل هذه الأمة التي لا يقف في سبيلها سلطان وإن عظم، ولا تصدها عن أداء رسالتها قوة من القوى.

وتضافر هاتين الحقيقتين، الروحية والاجتماعية، قد كان في كل العصور والأمم أساسًا لفوز الشعوب التي تندفع متأثرة بسلطانهما ولنجاح الرسالة التي تدعو هذه الشعوب لها.

والأمر كذلك بخاصة إذا قامت هذه الرسالة على أساس من الدعوة إلى نبذ العلم، والحرص على عدل قوامه المساواة الصحيحة بين الناس، ولطالما قامت إمبراطوريات على هذه الأساس في مختلف حقب التاريخ، ولطالما تداعت إمبراطوريات بعد قيامها؛ لأنها حادت عن هذه الطريق، فاتخذ خصومها انحرافًا عنها وسيلة لمناوأتها ومقاومتها.

والمساواة سدى الإسلام، وهو لذلك إمبراطوري اللحمة، هذه حقيقة ندركها اليوم بعقولنا كما أدركها كثير ممن سبقونا بعقولهم، ثم لم يستطيعوا ولم نستطع أن نحتفظ بالإمبراطورية الإسلامية في العالم لظروف خاصة بنا أو خارجة عن إرادتنا، أما أبو بكر فأدركها بإلهامه وآمن بها عن يقين، فدفع المسلمين لتنفيذها، فأقروها في العالم فاستقرت أجيالًا وقرونًا.

أدرك أبو بكر بإلهامه أن الإسلام في صفاء جوهره دين مساواة بين الناس جميعًا، فالدعوة به لم توجه إلى قوم بعينهم، وإنما وجهت إلى الناس كافة، وقد اصطفى رسول الله في حياته موالي رفعهن إلى أعز مكانة وأسماها، كما أقر جماعة من العجم على حكم العرب، فسلمان الفارسي كان من خاصته المقربين، وزيد بن ثابت، مولاه الذي اشترته خديجة ثم وهبته له فأعتقه وتبناه، كان القائد في غزوة مؤتة، كما كان على رأس أعمال كثيرة قبلها، وأسامة ابنه هو الذي عقد له الرسول قبل مرضه الأخير لواء جيش يضم جلة المهاجرين والأنصار، ومن بينهم أبو بكر؛ وقد أقر بازان الفارسي على حكم اليمن، ولم يكن الناس يتفاوتون عند رسول الله لعروبتهم ولا لمكانة قبائلهم، وإنما كانوا يتفاوتون بأعمالهم، وكان من أصحاب مشورة رسول الله ومن أولي الرأي بين المسلمين شبان أبرزهم إلى الصف الأول حسن إيمانهم وجميل بلائهم في سبيل الله، وكانت سيرة رسول الله هذه بعض ما أمر الله به في كتابه؛ إذ فاضل بين الناس بالتقوى، وإذ جعل جزاءهم رهنًا بعملهم، وإذ رفع بعضهم فوق بعض درجات بهذا العمل وهذه التقوى، لا جرم، وتلك سنة رسول الله، أن يخفف العرب من غلواء نعرتهم الجنسية، وإن أقاموا على اعتزازهم بها، وإن جعلوا اصطفاء الله نبيه من بينهم حجتهم على سمو مكانتها، ولا جرم أن يتخذ أبو بكر من هذه المساواة الإسلامية بين الناس وبين الأجناس سنته، فتكون القوة التي تنهزم أمامها جيوش الفرس وجيوش الروم.

وأدرك أبو بكر بإلهامه أن الإسلام إمبراطوري في جوهره، فالدعوة إليه لم تنحصر في العرب، بل هي دعوة إلى الحق موجهة إلى الناس كافة في مشارق الأرض ومغاربها، أما وذلك مداها، وقد وجه النبي رسله إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى دين الله، فحق على كل من آمن بهذا الدين أن يدعو إليه، وأن ينشر كلمته هدى للناس ورحمة، ولكل مسلم في رسول الله أسوة حسنة، لقد أذاع رسول الله الدعوة في الناس على اختلاف أجناسهم، فلينشر خلفاؤه هذه الدعوة في أنحاء الأرض جميعًا، وليجاهدوا في سبيل حريتها، لا يستكرهون أحدًا ولا يقبلون من أحد أن يصدهم عن الحق الذي اهتدوا إليه، وليجعلوا العالم كله ميدان دعوته إلى هذا الحق وإن أصابهم في سبيل الله ما أصابهم؛ فإن استشهدوا فلهم عند الله جزاء الشهداء.

هذه المبادئ الجوهرية التي قامت دعوة النبي العربي على أساسها، والتي أدركها أبو بكر أدق الإدراك بإلهامه لما كان من صحبته رسول الله وتشبعه بتعاليمه، هي التي طوعت للصديق أن يذلل ما استفتح عهده من صعاب وأن يتغلب عليها، وهي التي أسرعت بالإمبراطورية الإسلامية إلى أنحاء العالم وأظلت أممًا كثيرة منه بلوائها، ولقد ظلت هذه الأمم أجيالًا متعاقبة ناهضة بعبء الحضارة في العالم، ثم أدركها الهرم الذي يدرك الأمم والإمبراطوريات، ثم تولتها السِّنة الطويلة التي تقابل موت الأفراد.

أفيرجع هذا الهرم ثم هذه السنة الطويلة إلى أن المبادئ الجوهرية تبين فسادها، أم يرجعان إلى أن الأمم التي انحلت عن الإمبراطورية الإسلامية جحدت هذه المبادئ وأخذت بنقيضها فأصابها الهرم والاضمحلال بصنيعها؟! ذلك كل تاريخ الإمبراطورية الإسلامية في قيامها وعظمتها وتدهورها، وهو تاريخ جدير بأن يدور على طريقة من البحث العلمي الوثيق الذي لا يعرف التعصيب ولا يرضاه، والذي يرمي إلى تحليل الحوادث وردها إلى أسبابها تحليلًا يقره العقل ويتفق لذلك وما ركب في الطبيعة الإنسانية من نزوع روحي إلى الكمال، ومن تشبث مع ذلك بأهداب هذه الحياة الدنيا تدعونا إليه أهواؤنا وشهواتنا، فتحول بيننا وبين إدراك الغاية التي نبغي من هذا الكمال.

لا أراني في حاجة إلى أن أقول إن هذا الهرم وهذه السِّنة يرجعان إلى جحود الأمم التي انحلت عن الإمبراطورية الإسلامية للمبادئ الجوهرية التي قامت هذه الإمبراطورية على أساسها، مبادئ الإسلام في صفاء جوهره، ذلك أمر يلمسه المحقق المنصف لتاريخ هذه الإمبراطورية، ويراه في أطواره المتصلة منذ بدأ الخلاف بين المسلمين من أهل شبه الجزيرة إلى أن جسمت الفرقة بين العرب والعجم شقة هذا الخلاف، وفتحت به الأبواب واسعة للتدهور والانحلال.

ليس يتسع هذا التقديم لتفصيل هذا الأمر ولا لإجماله، فحسبي هذه الإشارة إليه، ولأقف هنا في حدود العهد القصير العظيم، عهد الصديق أبي بكر، ولأسجل ما كنت أشعر به من فيض المسرة حين تأريخي له، وأكبر رجائي أن أكون فيما كتبت عنه قد أرضيت في نفسي حب الحق، وبلغت بعض ما أردت من رسم الصورة التي حاولتها دقيقة، فيها من الحياة ما يبعث الماضي مجلوًّا على صفحة الحاضر، وأقول بعض ما أردت؛ لأنني كنت أحس دائمًا أن هذه الصورة ينقصها شيء غير قليل من الكمال لم يتسن لي أن أصل إليه لأسباب مختلفة.

وإنني لتضاعف غبطتي لو أن كتابي هذا نقل إلى نفس قارئه صورة واضحة من عهد الصديق خليل النبي العربي وصفيه، قد يشوب مطمعي هذا بعض الغلو، فلعهد الصديق — كما قدمت — صورة خاصة تامة التكوين يستشفها الإنسان من خلال ما كتب عنه ويتصورها في كمال بهائها، لكن البلوغ بصورة ما حد الكمال محتاج إلى جهد متصل يتعاقب على الأجيال، ويتناوله التمحيص من نواحيه المختلفة، ولم يبذل من الجهد في أمر الصديق وعهده ما يدني من هذا الكمال؛ فهو لا يزال مفتقرًا إلى جهود جديدة يتضافر فيها البحث والتمحيص مع الموازنة بالعصر الذي عاش الصديق فيه، وبحياة الأمم صاحبة الأثر في هذا العصر، ولست في ريب من أن هذه الجهود ستبذل عما قريب، وستعاون على تمام الصورة التي تظهر هذا العهد واضحًا، مجلوة بينة تفاصيله.

وعهد الصديق أحوج إلى هذا الجهد من غيره من العهود، فالمراجع العربية القديمة التي تتحدث عنه يشوبها اضطراب يجعل تتبع الحوادث المروية فيها عسيرًا في بعض الأحيان كل العسر، ثم إنها كثيرًا ما تثبت روايات هي أدنى إلى الخرافة منها إلى التاريخ، وقد يجد الإنسان في موازنة بعض هذه المراجع ببعض ما يعينه على تمحيص الحوادث، لكنها تتواتر روايتها أحيانًا لحوادث يقف الإنسان منها موقف الحيرة، فلا يسعه أن يثبتها مع الإشارة إلى ما يخالجه من الريبة فيها.

وإني لأجد للمؤرخين الأولين أبلغ العذر عما شاب رواياتهم من اضطراب كان له أثره في جهود من بعدهم إلى عصرنا الحاضر، فهذه الفترة التي تولى الصديق فيها أمر المسلمين كانت فترة جهاد أي جهاد، حمل فيها كل من آمن بالله ورسوله عبئًا عظيمًا لتأييد الدعوة إلى دين الله وما جاء به رسوله من عنده، اندفع هؤلاء جميعًا إلى ميادين النضال، يجاهدون في سبيل الله، يَقتُلونَ ويُقتَلون، مستهينين بالحياة ونعمائها، مؤثرين البأساء، صابرين على الضراء، واهبين أنفسهم لله، لا يبتغون عن جهادهم أجرًا إلا مثوبته جل شأنه، لم يكن يوم من أيامهم ينقضي في طمأنينة أو أمن، ولم يكن أحد منهم يفكر في أمسه؛ لأن غده يطالبه بأكثر مما عمل في ذلك الأمس، لذلك لم يفرغ أحد لتدوين ما حوته هذه الفترة من جسام الحوادث تدوينًا منظمًا؛ وإنما تناقل الناس من بعدُ أنباءها يرويها بعضهم لبعض، ويتناقلها عن بعض، ثم لا يروونها ويتناقلونها بمثل ما يروون به ما حدث في عهد الرسول من تقديس وإجلال، وكيف يفعلون وقد كانوا في شغل متصل بالفتح وتنظيم الإمبراطورية التي تزداد كل يوم فسحة وسعة!! لذلك كان لا بد لمؤرخ هذا العهد من تقليب الروايات وموازنتها واقتناص الحقيقة من خلالها، وهذا جهد شاق حاوله الأقدمون على طريقتهم، ومع تقديرنا لجهدهم وإكبارنا لشأنهم، فإنهم لم يبرزوا عهد الصديق وحكمه في صورة يجلو وضوحها ما انطوى عليه من قوة تقف النظر وتبهر اللب وتثير في النفس غاية الإعجاب.

وحسبك أن ترجع إلى سجل المراجع التي أخذنا عنها هذا الكتاب، وأن تتلو فصوله لتقدر مبلغ الدقة فيما نقوله عن المتقدم منها، فبعض هذه المراجع لا يتعرض — إلا لمامًا — لأمور جليلة الخطر ترويها المراجع الأخرى مفصلة أدق التفصيل، فالطبري وابن الأثير والبلاذري لا يكادون يتعرضون لجمع القرآن؛ وجمع القرآن من جلائل الأعمال التي ازدان بها عهد الصديق إن لم يكن أجلها، وما يتعرض له هؤلاء المؤرخون من رواية الحوادث عن حروب الردة وعن فتح العراق ثم فتح الشام يقع عليه الخلاف بينهم، بل ترد الروايات المختلفة في أمره في الكتاب الواحد من كتبهم، حتى ليحار الإنسان أي الروايات يأخذ وأيها يدع، والخلاف على الزمن الذي حدثت فيه الوقائع لا يقل عن الخلاف في تصوير الوقائع جسامة، وكثيرًا ما يكون تحديد التاريخ لبعض هذه الوقائع مغامرة لا تستند إلى أساس يمكن الاعتماد عليه في شيء من الدقة، ونسبة بعض الحوادث إلى بعض محير كذلك، فالطبري يروي أن حروب الردة وقعت في السنة الحادية عشرة للهجرة، وأن فتح العراق تم في السنة الثانية عشرة، وأن فتح الشام تم في السنة الثالثة عشرة، وأنت تكاد تظن إذ تقرأ هذا التعاقب الزمني أن فتح العراق لم يبدأ إلا بعد الفراغ من حروب الردة، وأن فتح الشام لم يبدأ إلا بعد أن استقر الأمر في العراق، لكن شيئًا من التدقيق في مراجعة الحوادث ووقوعها لا يلبث أن يحملك على الريبة في هذا التعاقب، فإذا زدت في التدقيق تبينت أن فتح العراق بدأ وحروب الردة لا تزال قائمة، وأن فتح الشام بدأ في أعقاب حروب الردة وجيوش خالد بن الوليد لا تزال تعالج إقرار السكينة في العراق وتتوقع غزوات فيه جديدة.

ولا يقف مثار الحيرة عند هذا، فكثيرًا ما يتعذر تتبع الحوادث في تسلسلها الجغرافي، بل إن بعض الروايات ليتنافى مع هذا التسلسل، دع عنك تغير أسماء الأماكن وما في تشابه بعضها من مثار جديد للحيرة، ولقد طبع بعض المستشرقين خرائط الإدريسي القديمة كما رسمها، وشفعوها بخرائط رسموها على النحو المألوف لنا، فسهل ذلك علينا معرفة الأماكن ومواقع بعضها من بعض، ولئن يسر ذلك لنا أن نحقق ما كان عسيرًا تحقيقه فيما مضى، لقد أثار الريب في بعض الروايات حتى ليتعذر تصديقها، لذلك وقف بعض المؤرخين لعهد أبي بكر مترددين لا يكادون يصدقون ما يقرءون، وكأنما صرف ذلك كله غير واحد ممن أرادوا التأريخ للإسلام عن التصدي لهذه الأمور، فاكتفوا من عهد أبي بكر بإلمامات لا تصوره صورة كاملة تبرز كل ما لهذا العهد من جلال، وما له من تاريخ الإسلام وفي قيام الإمبراطورية الإسلامية من أثر حاسم.

أضف إلى هذا الاضطراب في المراجع أنها لا تتحدث عن الصديق أيام خلافته ما تتحدث عن خالد بن الوليد وعن القواد الذين دخلوا الشام وأقاموا به حتى جاءهم خالد من العراق ففتح وإياهم دمشق وهدم بعبقريته الحربية كل قوة معنوية للروم، وأنت إذ تقرأ هذه المراجع يكاد يخيل إليك أن أبا بكر قد أقام بالمدينة لا يشغله أمر عن العبادة، وهذا خطأ فاحش، فكل ما تم في عهد الصديق كان الصديق روحه ومصدره. أشرنا إلى ما كان بينه وبين عمر وطائفة من المسلمين من خلاف على قتال المرتدين ومن منعوا الزكاة، وإلى أنه تشبث بقتالهم ولو خرج إلى هذا القتال وحده، وسترى حين تتلو فصول هذا الكتاب أنه هو الذي دفع خالد بن الوليد ليسير إلى العراق يعزز قوات المثنى بن حارثة الشيباني، وأنه هو الذي دعا العرب في أنحاء شبه الجزيرة إلى فتح الشام، فلما أبطأ أبو عبيدة ومن معه من القواد عن التقدم فيه أمدهم هو بخالد بن الوليد، وفي أثناء ذلك كان هو الذي ينظم بيت المال، ويقسم الفيء بين المسلمين، ويولي العمال ويهيمن على أعمالهم، وقد بلغ به هذا التفرغ لشئون الدولة أن انقطع عن التفكير في كل شيء سواها من أموره الخاصة ومن أمور أهله وعياله، وهذا التفرغ التام لشئون الدولة، دقيقها وجليلها، هو الذي طوع له أن يتم في فترة وجيزة ما لا يتمه غيره في سنوات، بل ما قل أن يتمه غيره، ولعل سببًا آخر كان ذا أثر فيما قدمنا عن موقف الرواة والمؤرخين من أبي بكر وعهده؛ فهم قد حسبوا أن صحبته الرسول عشرين سنة كاملة، واصطفاءه إياه حتى ليقول: «لو كنت متخذًا من العباد خليلًا لاتخذت أبا بكر خليلًا.» — حسبوا أن هذا وذاك أجل من كل ما تم في خلافته، ولا مرية في أن مكان الصديق من رسول الله لها في تقديرنا جميعًا أجل أثر وأعظم مقام، لكن خلافة الصديق كانت حلقة أتمت هذا الأثر الجليل وتوجته.

لم يكن عمل الصديق في خلافته أقل جلالًا من صحبته رسول الله، بل إنه كان في عهد الرسول ثاني اثنين، أولهما صفي الله لنبوته ومن خصه الله برسالته وأوحى إليه كتابه بينات من الهدى والفرقان، فالعبء الذي حمله أبو بكر أيام الرسالة كان عبء التابع المؤمن الذي لم تتلجلج قوة إيمانه بالله ورسوله، أما العبء الذي حمله بعد أن اختار الله رسوله إليه فحمله على أنه أول رجل في المسلمين وخليفة رسول الله بينهم، لم يكن فيه تابعًا يدلي بالمشورة، بل كان متبوعًا يشير أصحابه عليه، كما كان يشير هو ومن معه على رسول الله، وقد حمل هذا العبء بإيمان وأمانة وصدق، جزاه الله وجزى المسلمين عنه أحسن الجزاء، فإذا كان صدق أبي بكر في صحبة رسول الله من أسمى مظاهر العظمة الإنسانية القائمة على دعامة متينة من الإيمان السليم، فتجرد أبي بكر في خلافته للدفاع عن دين الله وللدعوة إليه ولإقامة الإمبراطورية الإسلامية لا يقل في جلال سموه عن صحبته الرسول وإيمانه الصادق به وبكل ما أوحاه الله إليه، وتاريخ خلافته جدير لذلك بأن يفصل أدق التفصيل.

هذا الاضطراب في المراجع، وهذا التأثر في تصوير عهد الخليفة الأول بعوامل لا يقر النقد التاريخي الكثير منها، قد كان له ما رأيت من أثر في كتب المتقدمين، ثم كان له أثره فيما تلاه ذلك من جهود من أخذوا عنهم وحاولوا أن يستنبطوا صورة الحقيقة كاملة من كتبهم، ولقد بلغ هذا التأثر ببعض المتأخرين أن جعلهم لا يقفون عند عهد أبي بكر إلا لمامًا ثم يتخطونه إلى عهد عمر فيطيلون الوقوف عنده، بل لقد بلغ الأمر ببعضهم أن يوازن بين عهد أبي بكر وعهد عمر ليفاضل بينهما، وهذه مفاضلة لا موضع لها بين رجلين بلغ كل منهما من مراتب العظمة ما قل أن يبلغه سياسي أو حاكم لأمة في تاريخ العالم كله، ولقد كان عهد عمر من أعظم عهود الإسلام لا ريب، فيه استقرت قواعد الإمبراطورية، واستتب نظام الحكم، ورف لواء الإسلام على مصر وغير مصر من البلاد التي اعتز بها الروم واعتز بها الفرس، لكن هذا العهد الفاروقي العظيم مدين لعهد الصديق ومتم له كدين خلافة الصديق لعهد الرسول وإتمامها له.

على أن الدراسات التي تمت والكتب التي وضعت عن أبي بكر وعهده في العصور الأخيرة كانت أدنى إلى الدقة والإنصاف، ومن الحق عليَّ أن أشيد بما كان للمستشرقين من فضل السبق إلى هذه الدقة وإلى هذا الإنصاف، على تحيز بعضهم تحيزًا دفعت إليه العاطفة الدينية، فقد صنف «الأب ماريني» كتابه عن «خلفاء محمد» في القرن الثامن عشر؛ وصنف «كوسان دبرسفال» مؤلفه «رسالة في تاريخ العرب» في أوائل القرن التاسع عشر؛ وكتاب «السير وليم ميور» عن «الخلافة الأولى» يرجع إلى سنة ١٨٨٣، وفي أثناء ذلك، وإلى وقتنا الحاضر، لم يبرح المستشرقون في ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا وفرنسا وغيرها من الدول يمحصون العهود الإسلامية المختلفة تمحيصهم غيرها من عصور التاريخ في مختلف أنحاء العالم.

أما وقد ذكرت جهود المستشرقين، فمن الحق عليَّ أيضًا أن أذكر جهود المؤرخين المسلمين والعرب، وما كان من إنصافهم عهد الصديق ومحاولتهم الدقة في أمره.

أرخ السيد رفيق العظم لهذا العهد منذ بضع عشرات من السنين في الجزء الأول من كتابه «أشهر مشاهير الإسلام»: وكان متأثرًا بطريقة الأقدمين في كثير من مواقفه، وتحدث المرحوم «الشيخ محمد الخضري بك» فقال في ختام محاضرته له: «إنا نقول في ذلك قولًا صريحًا: لولا أبو بكر وعزيمته القوية، بعد معونة الله وتأييده، ما كان تاريخ المسلمين يسير سيره الذي عرف، حصل ذلك في وقت استولى فيه الذهول على أفئدة المسلمين كافة حتى أقواهم شكيمة وأشدهم قلبًا.»

وأفرد الأستاذ «عمر أبو النصر» الجزء الأول من كتابه «خلفاء محمد» للصديق وعهده، كذلك تحدث المرحوم «الشيخ عبد الوهاب النجار» وغيره من المؤرخين عن هذا العهد حديثًا جديرًا بالتقدير.

والآن، وقد وفقني الله لوضع هذا الكتاب، فهل تتيح لي الأقدار أن أردفه بآخر عن عهد عمر، وبثالث وبرابع حتى أتم ما دار بخاطري أن أقوم به من دراسات في تاريخ الإمبراطورية الإسلامية؟ ذلك أمر علمه عند ربي، لقد استقر مني العزم أن أدون لعهد عمر، لكن بين العزم والتنفيذ مدى أرجو الله أن ييسره لي، مع صدق يقيني بقوله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا * إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ ۚ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (الكهف: ٢٣، ٢٤).

وأختم هذا التقديم بالضراعة إلى الله أن يوفق العلماء والباحثين لمتابعة البحث في حياة الصديق وفي عهد خلافته، حتى تتم ببحوثهم الصورة التي حاولت أن أجلوها في هذا الكتاب، وأحمد الله لما صادفني من التوفيق فيما حاولت. من الله الهدى، وبه التوفيق، وإليه يرجع الأمر كله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤