الفصل السادس عشر

جمع القرآن

يقتضينا الحديث عن جمع القرآن أن نعود بالذاكرة إلى غزوة اليمامة، فعلى أثرها بدأت فكرة هذا الجمع، ثم نفِّذت، واستغرق التنفيذ ما بقي بعد اليمامة من خلافة الصديق، وفي رواية أنه استغرق زمنًا من عهد عمر، وإنما أرجأنا الحديث في هذا الموضوع لئلا نقطع حديث الحرب والفتح، وليكون حديثنا عن جمع القرآن متصلًا حتى وفاة أبي بكر.

كانت غزوة اليمامة أعظم الغزوات في حروب الردة، كما كانت أجلَّها خطرًا وأبعدها أثرًا، قضى مقتل مسيلمة بن حبيب قضاء حاسمًا على المتنبئين في بلاد العرب، وآذن عود بني حنيفة إلى الإسلام بالقضاء على الردة بالبحرين، والقضاء على ردة البحرين هو الذي طوَّع للمثنى بن حارثة الشيباني أن يسير إلى مصب دجلة والفرات، وأن يكون الطليعة الميمونة لفتح العراق ولإقامة بناء الإمبراطورية الإسلامية. غزاة ذلك شأنها لم يخطئ خالد بن الوليد حين دفع إليها جيوش المسلمين يَقتلون ويُقتلون ويقضون على مسيلمة وأصحابه عند احتمائهم بحديقة الموت، ولم يبالغ المهاجرون والأنصار حين اندفعوا إلى وطيسها مستميتين يبتغون الشهادة. استشهد من المسلمين يومئذ مئتان وألف، بينهم تسعة وثلاثون من كبار الصحابة ومن حفاظ القرآن.

وقد جزع أهل المدينة لمن استشهد من المسلمين باليمامة، واشتد حزنهم، وإن اختلفت البواعث لهذا الحزن والجزع؛ فأواصر القربى وروابط الود والصداقة وتقدير ما كان لكبار الصحابة وحفاظ القرآن الذين استشهدوا من مكانة سامية عند الرسول (عليه السلام)، كل هذه دوافع تحز في النفوس. لقي عمر بن الخطاب ابنه عبد الله بعد أن أبلى في اليمامة أحسن البلاء، وكان عمر شديد الجزع لمقتل أخيه زيد بها، فكان أول ما واجه به ابنه ما أسلفنا ذكره من قوله: «ما جاء بك وقد هلك زيد! ألا واريت وجهك عني!» وكان جواب عبد الله: «سأل الله الشهادة فأعطيها، وجهدتُ أن تساق إليَّ فلم أعطها.»

على أن جزع ابن الخطاب لمقتل أخيه زيد وأصحابه الذين استشهدوا باليمامة لم يثنِهِ عن التفكير في أمر خطير، هو لا ريب أجلُّ الأمور في حياة الإسلام والمسلمين خطرًا، لقد استشهد من حفاظ القرآن في هذه الغزاة من استشهد، واليمامة ليست إلا واحدة من الغزوات التي واجهت المسلمين بعد وفاة الرسول، فما عسى أن يكون الأمر إذا تلاحقت الغزوات فقتل فيها من الحفاظ مثل من قتل باليمامة؟! فكر عمر في هذا وطال تفكيره، فلما استقر به الرأي ذهب إلى أبي بكر وهو بمجلسه من المسجد فقال له: «إن القتل قد استحرَّ يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحرَّ القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن.»١
لم يكن أبو بكر قد فكر في هذا الأمر، لذلك لم يلبث حين سمعه أن قال: «كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله !» عند ذلك دار بين الرجلين حوار طويل لم يورد المؤرخون تفصيله، واقتنع أبو بكر بعد هذا الحوار برأي عمر، فدعا زيد بن ثابت. جاء في البخاري عن زيد بن ثابت أنه قال:
«أرسل إليَّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل استحر يوم اليمامة بالناس، وإني لأخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن. قال أبو بكر فقلت لعمر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله؟! فقال: هو والله خير، فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري ورأيت الذي رأى عمر. قال زيد: وعنده عمر جالس لا يتكلم، فقال لي أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله ، فتتبعِ القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله ؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب.٢ وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ۖعَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، فلما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب، كنت أسمع رسول الله يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري الذي جعل رسول الله شهادته بشهادة رجلين: مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ فألحقتها في سورتها، فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.»

هذا حديث زيد بن ثابت فيما رواه البخاري، وقد أجمعت الروايات على صحته، وذكر القرطبي أن زيدًا جمع القرآن غير مرتب السور بعد تعب شديد، وأن الصحف حفظت بعد جمعها عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند حفصة أم المؤمنين.

وتذهب رواية إلى أن عمر بن الخطاب أول من جمع القرآن في المصحف.٣ ذلك أنه سأل يومًا عن آية من كتاب الله، فقيل كانت مع فلان فقُتل يوم اليمامة، فقال: إنا لله! وأمر بالقرآن فجُمع. وأصحاب الرواية المتواترة يردون هذا القول بأن عمر كان أول من رأى جمع القرآن؛ لأنه أشار على أبي بكر بذلك وأقنعه به، أما الجمع فتم في عهد الصديق، وهذا الرأي هو الصحيح، يؤيد ذلك ما روي عن علي بن أبي طالب أنه قال: «رحمة الله على أبي بكر! كان أعظم الناس أجرًا في جمع المصاحف، وهو أول من جمع المصاحف، وهو أول من جمع بين اللوحين.» وقد تواترت بذلك شهادة عدد كبير من أصحاب رسول الله.

والذين قالوا إن عمر أول من جمع القرآن يذكرون أنه حين أراد أن يجمعه قام في الناس فقال: «من كان تلقَّى من رسول الله شيئًا فيأتينا به.» وكانوا كتبوا ما تلقوه من ذلك في الصحف والألواح والعسب، وكان عمر لا يقبل من أحد شيئًا حتى يشهد عليه شاهدان، وقُتل وهو يجمع ذلك إليه؛ فقام عثمان بن عفان فقال ما قال عمر وصنع صنيعه، وعهد إلى زيد بن ثابت بجمع القرآن، وضم إليه نفرًا من الحفاظ وقال لهم: «إذا اختلفتم فاكتبوا لغة مضر؛ فإن القرآن نزل على رجل من مضر.»

أمَا والثابت المقطوع به أن أبا بكر هو الذي أمر بجمع القرآن بعد حواره مع ابن الخطاب، فيجمل بي قبل أن أفصِّل كيف كان هذا الجمع أن أقف عند قول الصديق: «كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله !» فقد نزل الوحي بالقرآن على رسول الله خلال ثلاث وعشرين سنة، منذ بعثه الله نبيًّا وهو بمكة إلى أن قبضه إليه وهو بالمدينة. وكان الوحي ينزل ببعض الآيات أحيانًا، وبالسورة كاملة أحيانًا أخرى، ولقد كان أول ما نزل من الوحي قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ، أما بقية هذه السورة على ما نتلوها اليوم في المصاحف فنزلت بعد ذلك، وبعد أن نزل غيرها من الوحي قبل نزولها. أفيعني قول أبي بكر وقول زيد بن ثابت من بعده: «كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله!» أن القرآن بقي إلى وفاة الرسول لم يجمع سورًا، ولم ينتظم كتابًا، فبقيت الآيات التي نزلت فرادى لم تضم إلى غيرها على الصورة التي نراها اليوم بها، فلما كان الجمع رتبت السور ونظمت في كتاب؟

هذا ما يقول به بعض المؤرخين، وترجحه طائفة من المستشرقين، بل لقد نسب إلى زيد بن ثابت أنه قال: «قُبض النبي ولم يكن القرآن جمع في شيء.» والمستشرق الإنجليزي سير وليم ميور يسوق هذا القول في مقدمة كتابه عن سيرة الرسول حجة من الحجج على الدقة والصدق في جمع القرآن، فيقول: «إن القرآن بمحتوياته ونظامه ينطق في قوة بدقة جمعه؛ فقد ضُمت الأجزاء المختلفة بعضها إلى بعض ببساطة تامة، لا تعمُّل ولا تكلُّف فيها، وهذا الجمع لا أثر فيه ليد تحاول المهارة أو التنسيق، وهو يشهد بإيمان الجامع وإخلاصه لما يجمع؛ فهو لم يجرؤ على أكثر مِن تناول هذه الآيات المقدسة ووضع بعضها إلى جانب بعض.» والمستشرقون المؤيدون لهذا الرأي يؤاخذون زيد بن ثابت والذين عاونوه في جمع القرآن بأنهم لم يراعوا في ترتيب القرآن أوقات نزوله، ولم يقدِّموا ما نزل منه بمكة على ما نزل منه بالمدينة، بل وضعوا آيات مدنية خلال السور المكية دون أن يقتضيهم المقام هذا الصنيع، ولو أنهم راعوا الدقة التاريخية في الترتيب لكان ذلك أدنى في نظر هؤلاء المستشرقين إلى التحقيق العلمي، وأجدى في كتابة السيرة وفي تتبع أحوال النبي العربي من يوم بعثه إلى يوم وفاته.

ويزيد المستشرقون أن جامعي القرآن لم يعنوا كذلك بتأليف آياته حسب موضوعاتها، فأنت ترى في السورة الواحدة شئونًا مختلفة من القصص والتاريخ، ومن الإيمان والعبادات، ومن الأحكام التشريعية، ومن قواعد الخلق، وأنت ترى الموضوع الواحد من هذه الشئون جميعًا مذكورًا في سورة مختلفة على صور تتقارب أو تتفاوت في اللفظ وفي قوة العبارة، أما وقد كان الجامعون أحرارًا في ترتيب الآيات في السور فهم جديرون، في رأي هؤلاء المستشرقون، بالتثريب عليهم من الناحية العلمية؛ لأنهم لم يراعوا الموضوعات، وكان حقًّا عليهم أن يراعوها، وبخاصة؛ لأنهم لم يتقيدوا بمواقيت الوحي ونزوله.

هذه ملاحظات يبديها المستشرقون على جمع القرآن مستندين فيها إلى قول أبي بكر: «كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله !» وهم مخطئون في تحميل عبارة أبي بكر هذا المعنى، وفي ظنهم أن الآيات ظلت مبعثرة منذ نزولها إلى أن جمعت في عهد الخليفة الأول، ثم في عهد عثمان، فالأمر الذي لا ريبة فيه أن الآيات قد جمعت سورًا في عهد رسول الله وبتوقيفه، ولقد كان مالك يقول: «إنما أُلِّف القرآن على ما كانوا يسمعونه من رسول الله »، وكان عبد الله بن مسعود يقول: «قرأت من في رسول الله بضعًا وسبعين سورة، وقرأت عليه من البقرة إلى قوله تعالى: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ. ولقد قرأ زيد بن ثابت القرآن كله على رسول الله.

وفي مسلم والبخاري عن أنس بن مالك أنه قال: «جَمع القرآن على عهد النبي أربعةٌ كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد.» وقول أنس لا يراد به أن هؤلاء الأربعة هم الذين حفظوا القرآن في عهد النبي دون سواهم، يقول القرطبي: «فقد ثبت بالطرق المتواترة أنه جمع القرآن عثمان، وعلي، وتميم الداري، وعبادة بن الصامت، وعبد الله بن عمرو بن العاص، فقول أنس: لم يجمع القرآن غير أربعة، يحتمل أنه لم يجمع القرآن وأخذه تلقينًا من رسول الله غير تلك الجماعة؛ فإن أكثرهم أخذ بعضه عنه وبعضه عن غيره، وقد تظاهرت الروايات بأن الأئمة الأربعة جمعوا القرآن على عهد النبي لأجل سبقهم إلى الإسلام، وإعظام الرسول لهم.»

وروايات السلف متواترة على أن رسول الله كان يعرض القرآن على جبريل في كل عام مرة، فلما كان العام الذي قبض فيه عرضه عليه مرتين، ومن هذا العرض في عام الوفاة عرف عبد الله بن عباس ما نُسخ من القرآن وما بُدل.

وما ورد في سيرة النبي يؤيد الروايات التي قدمنا، من ذلك ما روي عن إسلام عمر بن الخطاب بعد عشر سنين أو نحوها من بعث محمد، فقد هال عمر ما أحدثه الدين الجديد من فرقة بين أهل مكة اضطرت كثيرين منهم أن يهاجروا إلى الحبشة، فرأى أن يقتل محمدًا لتعود إلى قريش وحدتها، فلما ذكر له نعيم بن عبد الله أن فاطمة أخت عمر وزوجها سعيد بن زيد أسلما ذهب إليهما ودخل البيت عليهما، فسمع عندهما من يقرأ القرآن، فبطش بهما حتى شجَّ أخته، وندم لما صنع، وطلب إليها أن تعطيه الصحيفة التي كانوا يقرءون، فإذا بها سورة طه، فلما قرأها أخذه إعجازها وجلالها وسمو الدعوة التي تدعو إليها، فذهب إلى محمد فأسلم بين يديه.

لم تكن الصحيفة التي سجلت سورة إلا واحدة من صحف كثيرة كانت متداولة بين أيدي الذين أسلموا من أهل مكة سجلت سورًا أخرى من القرآن، ولقد ظل رسول الله بين المسلمين بمكة وبالمدينة ثلاث عشرة سنة بعد إسلام عمر، كان يقول خلالها لأصحابه: «لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن، فمن كتب عني شيئًا سوى القرآن فليمحه.» وكان طبيعيًّا أن يكتب الصحابة كل ما يستطيعون كتابته من القرآن لتلاوته في الصلاة، ولمعرفة أحكام الدين الذين يؤمنون به، وكان يكتبه الذين يوفدهم النبي إلى القبائل لتعليم أهلها القرآن وتفقيههم في الدين، وهم لم يكونوا يكتبونه آيات متقطعة، بل سورًا متصلة يمليها رسول الله.

ونصوص القرآن تؤيد ما سبق؛ من ذلك قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، وآيات المزمل هذه نزلت في الفترة الأولى من بعث الرسول، فمطالبة النبي فيها أن يقوم الليل يرتل القرآن ترجح أن الآيات لم تكن مبعثرة من غير ترتيب، وتؤكد ما قدمنا من أن ما كان يوحى إلى النبي متصلًا بوحي سبق إليه كان الوحي يلحقه به، وذلك قولهم إن جبريل قال للنبي حين أوحى إليه قوله تعالى وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ۖ ثُمَّ تُوَفَّىٰ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ: «يا محمد، ضعها في رأس ثمانين ومائتين من البقرة.»

ولقد تكرر في القرآن نعته بأنه الكتاب، وسورة البقرة أولى سور القرآن بعد الفاتحة تبدأ بقوله تعالى: الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وهذا المعنى وارد في مواضع كثيرة من سور مختلفة، والكتاب هو ما كتب منسقًا، وقد كتب القرآن في عهد النبي كما أسلفنا من قول أنس بن مالك وقول غيره من أصحاب رسول الله، بل إن زيد بن ثابت نفسه، وهو الذي قال كما قدمنا: «قبض النبي ولم يكن القرآن جمع في شيء» قد قال: «كنا عند رسول الله نؤلف القرآن من الرقاع.» يريد بذلك تأليف ما نزل من الآيات المتفرقة في سورها وجمعها فيها بإشارة رسول الله، وكثيرًا ما كان رسول الله يتلو في الصلاة وفي غير الصلاة سورًا كاملة؛ منها البقرة وآل عمران والنساء والأعراف والجن والنجم والرحمن والقمر وغيرها، وهذا كله صريح في الدلالة على أن ترتيب الآيات في السور قد تم بتوقيف النبي، وأنه قبض وهذا الجمع معروف للمسلمين، ثابت في صدور القراء والحفاظ.

ولقد رأيت كثيرين من الصحابة جمعوا القرآن على عهد النبي، منهم أربعة جمعوه بإملائه، واتفاق المؤرخين منعقد على أن ترتيب الآيات في السور كان واحدًا في كل المصاحف التي جمعت قبل وفاة الرسول، وفي المصاحف التي جمعت عقب وفاته وقبل أن يأمر أبو بكر بجمع القرآن، أما ترتيب السور والابتداء بالفاتحة فالبقرة فآل عمران فالنساء فالمائدة والانتهاء بالمعوذتين، فذلك ما اختلف فيه، وما قيل إن رسول الله تركه كله أو بعضه لأمته.

ماذا أراد أبو بكر إذن بقوله ردًّا على عمر حين أشار عليه أن يجمع القرآن: «كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول الله!» وما هي الحجج التي شرحت صدر أبي بكر ثم صدر زيد بن ثابت لجمع القرآن والأخذ برأي ابن الخطاب؟

لما تمت البيعة لأبي بكر لزم علي بن أبي طالب بيته، وتحدث الناس إلى أبي بكر في أمره، فأرسل إليه يقول: «أكَرِهتَ بيعتي فقعدت عني؟!» فكان جواب علي: «لا والله، ولكن رأيت كتاب الله يزاد فيه، فحدثت نفسي ألا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمعه.»٤

ولم يكن عليٌّ وحده هو الذي دأب على جمع القرآن بعد وفاة الرسول، بل دأب على ذلك كثيرون جعلوا يتلقونه عمن يطمئنون إليهم من أصحاب رسول الله، وكما حمد أبو بكر لعلي بن أبي طالب حديثه عن جمع القرآن حمد لغيره من المسلمين سعيهم في جمعه، ورأى في عملهم تأسيًا بالسابقين الأولين الذين جمعوه في عهد رسول الله، ولم يدُرْ بخاطره أن يصد أحدًا دون هذا العمل الجليل، مطمئنًّا إلى أن الله نزَّل الذكر وهو حافظه، وإلى أن المسلمين لن تحدِّث أحدًا منهم نفسُه بأن يُدخل عليه ما ليس منه، فإذا أقدم أحد على ما قاله علي بن أبي طالب من زيادة على القرآن رد الله كيده في نحره، ورد الصالحون من المسلمين كلام الله إلى مواضعه، وذلك كان سبب تردده حين عرض عليه عمر أن يجمع القرآن، فقد كانت سنته ألا يصنع إلا ما كان يصنع رسول الله، وألا يدع شيئًا كان رسول الله يصنعه، أما وقد ترك رسول الله كتابة القرآن للمسلمين، وقد كتب بعضهم القرآن بإملائه (عليه السلام)، ونقل آخرون عن هؤلاء الكاتبين وعمن وعت ذاكرتهم القرآن، فليجرِ الأمر في خلافته كما جرى في عهد الرسول، وليمسك خليفته فلا يقدم على ما لم يقم هو به.

كانت هذه حجة أبي بكر وحجة زيد بن ثابت، فلما راجع عمر الخليفة عدل عن رأيه، ولئن لم يورد المؤرخون تفصيل ما دار بين الرجلين من حوار، فإن فيما أورده الرواة عن تاريخ القرآن لما يفصح لنا عن حجة عمر وما يؤيدها ويجلو لنا اقتناع أبي بكر وزيد بن ثابت بها.

روى الترمذي قال: «لقي رسول جبريل فقال: يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أمية؛ منهم العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابًا قط. فقال لي: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف.»٥ وقد اختلف العلماء في المراد بالأحرف السبعة، وأوردوا فيها خمسة وثلاثين قولًا؛ من هذه الأقوال أنه رخص للمسلمين أول العهد بالإسلام أن يحلوا المترادف محل بعضه إلا أن يخلطوا آية رحمة بآية عذاب، أو آية عذاب بآية رحمة، وذلك في نحو هلمَّ وتعالَ وأقبِلْ وأسرِعْ وعجِّلْ. وعن أبي بن كعب أنه كان يقرأ «للذين آمنوا انظرونا»: «للذين آمنوا أمهلونا»، «للذين آمنوا أخرونا»، «للذين آمنوا ارقبونا». وكان يقرأ «كلما أضاء لهم مشوا فيه»: «مروا فيه»، «سعوا فيه»، ذلك أن أهل القبائل كان يعجزهم أن يأخذوا القرآن على غير لغاتهم، ولو راموا ذلك لم يتهيأ لهم إلا بمشقة عظيمة، فوسع لهم في اختلاف الألفاظ إذا كان المعنى متفقًا، فلما كثر اتصالهم برسول الله حفظوا القرآن بألفاظه ولم يسعهم أن يقرءوا بخلافها، وفي رأي أن الإباحة في هذا كانت مطلقة أول العهد ثم نسخت.

صحيح أن بعض الأقوال في تأويل نزول القرآن على سبعة أحرف تخالف هذا القول، فيذهب بعضها إلى أن في القرآن سبع لغات العرب كلها، وأن هذه اللغات متفرقة فيه، أو أن هذه اللغات السبع في مضر، ويذهب بعض آخر إلى أن سبعة الأحرف تتصل بوجوه الاختلاف في القراءة، أو تتصل بمعاني كتاب الله، لكن هذه الأقوال لا تنفي القول الأول على الأقل أول ما بدأ الإسلام ينتشر في القبائل، ويذكر بعضهم أن الأمر ظل كذلك سنين متعاقبة، أو إلى أن قبض النبي؛ لكنهم يقيدونه بأن ذلك كان بالوحي لا بالاختيار، يقول القرطبي: «إنما وقعت الإباحة في الحروف السبعة للنبي ليوسع بها على أمته، فأقرأ مرة لأُبي بما عارضه به جبريل، ومرة لابن مسعود بما عارضه به أيضًا … وعلى هذا يحمل قول أنس حين قرأ: «إن ناشئة الليل هي أشد وطئًا وأصوب قيلًا»، فقيل له إنما نقرأ «وأقوم قيلًا»، فقال أنس: «وأصوب قيلًا وأقوم قيلًا وأهيأ واحدٌ.» فإنما معنى هذا أنها مروية عن النبي ، وإلا فلو كان هذا لأحد من الناس أن يضعه لبطل معنى قوله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (الحجر: ٩)، روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عمر بن الخطاب أنه قال: «سمعت هشام بن حكيم يقرأ الفرقان على غير ما أقرؤها، وكان رسول الله أقرأنيها، فكدت أن أعجل عليه ثم أمهلته حتى انصرف ثم لببته بردائه، فجئت به رسول الله فقلت: يا رسول الله، إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على غير ما أقرأتنيها. فقال رسول الله : أرسله، اقرأ. فقرأ القراءة التي سمعته يقرأ؛ فقال رسول الله : هكذا أنزلت. ثم قال لي: اقرأ. فقرأت، فقال: هكذا أنزلت، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه.»

وأضاف القرطبي قصة أبي بن كعب إذ سمع رجلين بالمسجد يقرآن آيات بعينها في الصلاة، كلٌّ يقرأ غير قراءة صاحبه وغير قراءة أُبي، فذهب بهما إلى رسول الله فحسَّن النبي قراءتهم جميعًا. قال أبي: «فسقط في نفسي من التكذيب ولا إذ كنت في الجاهلية، فلما رأى النبي ما قد غشيني، ضرب في صدري ففضت عرقًا، وكأنما أنظر إلى الله تعالى فرِقًا، فقال: يا أبي، أُرسل إليَّ أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إليه أن هوِّن على أمتي، فرد إليَّ الثانية اقرأه على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي، فرد إليَّ الثالثة اقرأه على سبعة أحرف.»

نشأ عن ذلك خلاف في بعض الألفاظ مما دوِّن أو حُفظ في عهد رسول الله؛ روى ابن أبي داود في كتاب المصاحف أن عمر بن الخطاب كان يقرأ: «صراط من أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالين.» في حين يقرأ غيره: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، وأنه (رضي الله عنه) قرأ: «الم، الله لا إله إلا هو الحي القيام» بدل «القيوم». وكان علي بن أبي طالب يقرأ: «آمن الرسول بما أنزل إليه وآمن المؤمنون كل آمن بالله» بدل آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِالله.٦ وكان أبي بن كعب يقرأ: «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى فأتوهن أجورهن فريضة» بدل فَمَا اسْتَمْتَعْتُم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً،٧ وأثبت أبي بن كعب في جمعه القرآن نصوصًا تخالف في بعض لفظها مصحف عثمان، من ذلك: «فصيام ثلاثة أيام متتابعات» في كفارة اليمين بدل فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ.٨
وشأن عبد الله بن مسعود كشأن أبي بن كعب في قراءته وفي مصحفه؛ فقد روي أنه كان يقرأ: «والعصر، إن الإنسان لفي خسر، وإنه فيه إلى آخر الدهر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالصبر» فيضيف «وإنه فيه لآخر الدهر» ويحذف «وتواصوا بالحق» كما ثبت في مصحف عثمان. وكان يقرأ: «إن الله لا يظلم مثقال نملة» بدل إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ٩ وكان يقرأ: «وتزودوا وخير الزاد التقوى» بدل وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ١٠ وقد أورد ابن أبي داود تفصيل هذا الخلاف في الألفاظ ونسبه إلى أصحابه؛ ومنهم عائشة أم المؤمنين، فقد روى أنه كان مكتوبًا في مصحفها «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر» إلى ما في مصحف عثمان، وذكر عن ابن يونس مولى عائشة أنه قال: كتبت لعائشة مصحفًا فقالت: إذا مررت بآية الصلاة فلا تكتبها حتى أمليها عليك، فأملتها عليَّ «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر»، وقد وردت مثل هذه الرواية عن هذه الآية في مصحف حفصة وفي مصحف أم سلمة زوجي النبي، وقيل: بل أملت أم سلمة «حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر».

أنت لا ريب قد رأيت أن الاختلاف في القراءات وفي مصاحف الصحابة لم يتعد الألفاظ، وأنه لم يجعل من نهي أمرًا، ولا مِن أمرٍ نهيًا، ولا من آية رحمة آية عذاب، ولا من آية عذاب آية رحمة، والشأن كذلك في كل ما روي عن قراءات الصحابة وعن مصاحفهم ومصاحف التابعين، ولقد قدم المستشرق «أرثر جفري» لكتاب المصاحف لابن أبي داود، وأورد كل ما روي عن هذا الاختلاف في القراءات والمصاحف، فلم يزد الأمر على ما قدمت من الأمثلة، وعلة ذلك راجعة إلى ما ذكرنا عن الحديث: «أنزل القرآن على سبعة أحرف.»

وما كان الخلاف ليزيد على هذا في حياة الذين تلقوا القرآن عن رسول الله فكتبوه أو وعته صدورهم في تقديس لكلام الله وإيمان به يحولان دون الزيادة فيه أو النقص منه أو تحريفه، لكن هؤلاء القراء رجال كتب عليهم الموت كما كتب على الذين من قبلهم، ولقد استحر القتل في طائفة منهم في حياة النبي ببئر معونة، ثم استحر القتل فيهم في اليمامة، فإذا ذهب أكثرهم أو ذهبوا جميعًا لم يكن عجبًا أن يقوم من يزيد في القرآن أو ينقص منه، ومن يحرف كلام الله عن مواضعه، ثم لا عجب أن يختلف الناس على هذا، وأن ينتهي اختلافهم إلى الثورة يصلى المسلمون نارها ويصيب الإسلام منها ضر كبير.

كان لعمر ولأبي بكر ولزيد بن ثابت مما حدث في بلاد العرب نذير يعظهم أن يتقوا هذا اليوم، فقد ارتد في حياة الرسول بعض الذين أسلموا وكانوا يكتبون الوحي، ثم زعموا أنهم كانوا يزيفون ما يكتبون ويلقونه على المسلمين زائفًا، وروايات المنافقين وما كانوا يصنعون من ذلك ومن مثله واردة في كتب السيرة، وفي قصة مسيلمة بعض هذا النذير، فهو إنما استغلظ أمره بعد أن ذهب نهار الرحال بن عنفوة من قبل رسول الله إلى اليمامة يقرئ أهلها القرآن ويفقههم في الدين، فلم يلبث حين رأى السواد من أهل اليمامة يتبع مسيلمة أن أقر بنبوته، وشهد بأن محمدًا يقول: إن مسيلمة قد أشرك في الرسالة معه، وكان نهار فقيهًا يتلو على الملأ القرآن الذي أوحي إلى محمد ويقص عليهم تعاليمه ويفقههم في دينه، هذا وما حدث من مثله إثر وفاة الرسول إذ نجم النفاق واشرأبت الأعناق يشهد بما لحجة عمر في جمع القرآن بعد اليمامة من قوة تذهب بكل تردد.

وماذا بعد في جمع القرآن مما لم يصنعه رسول الله حتى يتردد أبو بكر أو يتردد زيد بن ثابت بسببه؟! لقد أمر (عليه السلام) أن يكتب الوحي وأن تكتب الآيات مرتبة في السور، وما منعه أن يأمر بجمع القرآن قبل أن يختاره الله إليه إلا أن الوحي كان يتتابع، وأن بعض الآيات كانت تنسخ، أما وقد قبض فانتهى نزول الوحي وتم كتاب الله وكمل دينه، فالخير في أن يجمع القرآن حتى لا يتعرض لما خشي علي بن أبي طالب أن يتعرض له من زيادة فيه أو نقص منه، وبخاصة بعد أن قتل من القراء باليمامة من قتل؛ ويخشى أن يقتل منهم آخرون في مواطن غير اليمامة.

أحسب هذه وأمثالها من الحجج هي ما ساقه عمر حين ناقش أبا بكر في جمع القرآن، وهي كما ترى حجج تحسم كل ريبة وتقطع بما في الجمع من خير للإسلام والمسلمين، لهذا اقتنع أبو بكر برأي عمر، ثم اقتنع به زيد بن ثابت.١١
ويجمل بي قبل أن أفصل ما حدث بعد اجتماع الصديق والفاروق وكاتب الوحي لرسول الله، أن أذكر أن ما حدث في عهد عثمان قد أيَّد ما رآه عمر من جمع القرآن، ودل على صدق نظره فيه، فقد اتسعت رقعة الفتح في عهد عمر وعثمان، وكان أصحاب رسول الله يقرءون القرآن ويعلمونه من أسلم من أهل البلاد المفتوحة؛ فاختلف الناس في القراءة وعظم اختلافهم وتشتتهم؛ حتى إن الرجل ليقول لصاحبه: إن قراءتي خير من قراءتك، وأفضل من قراءتك. وبلغ الأمر من ذلك حتى كاد يكون فتنة؛ اختلفوا وتنازعوا، وأظهر بعضهم إكفار بعض والبراءة منه، وتلاعنوا، ورأى حذيفة بن اليمان خلافهم إذ كان يقاتل مع المسلمين على إرمينية وأذربيجان، ففزع وكر راجعًا إلى المدينة ودخل على عثمان قبل أن يدخل إلى بيته، فقال له: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك. قال عثمان: فيماذا؟ قال: في كتاب الله، إني حضرت هذه الغزوة وقد جمعت ناسًا من العراق والشام والحجاز، ثم وصف له ما تقدم من اختلافهم في القراءة، وأردف: وإني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود والنصارى.١٢ ورأى عثمان الخطر، فجمع الناس فعرض عليهم الأمر، فسألوه رأيه فقال: الرأي عندي أن يجتمع الناس على قراءة؛ فإنكم إذا اختلفتم اليوم كان من بعدكم أشد اختلافًا. وأقره أهل الرأي، فأرسل إلى حفصة يسألها أن ترسل إليه مصحف أبي بكر لنسخه في المصاحف، وكان ذلك أول ما حدث في جمع مصاحف عثمان وتوحيد قراءة القرآن.
هذا الخلاف في عهد عثمان بالغ الدلالة على أن عمر كان صادق النظر حين أشار على أبي بكر بجمع القرآن، وقد اتخذ عثمان مصحف أبي بكر إمامًا لهم في توحيد القراءة، فلو أن أبا بكر لم يجمع القرآن لتفاقم الخلاف، ولأصاب المسلمين من ذلك شر أنجاهم عمل الصديق منه، من ثم لم يغلُ علي بن أبي طالب حين قال:

«أعظم الناس أجرًا في المصاحف أبو بكر، رحمة الله على أبي بكر، هو أول من جمع بين اللوحين.»

شرح الله صدر أبي بكر لجمع القرآن بعد حواره مع عمر، فعهد إلى زيد بن ثابت أن يتتبعه فيجمعه، روي أن عبد الله بن مسعود غضب لذلك وقال: يا معشر المسلمين! أعزل عن نسخ المصاحف ويتولاه رجل؟ والله لقد أسلمت وإنه لفي صلب رجل كافر! يريد زيد بن ثابت. وقد نسب هذا القول إلى ابن مسعود حين أمر عثمان زيدًا بجمع القرآن وأردفه بمن أردفه بهم من الصحابة، ولعل عبد الله غضب في المرتين لما ذكره القرطبي حين قال: «قال أبو بكر الأنباري: ولم يكن الاختيار لزيد من جهة أبي بكر وعثمان على عبد الله بن مسعود في جمع القرآن، وعبد الله أفضل من زيد وأقدم في الإسلام وأكثر سوابق وأعظم فضائل، إلا لأن زيدًا كان أحفظ للقرآن من عبد الله.» وهذه العبارة ترجح غضب ابن مسعود في المرتين.

وقد بلغ غضب ابن مسعود لهذا الأمر أمدًا بعيدًا، حتى كان يقول: «لقد قرأت من في رسول الله سبعين سورة، وإن لزيد بن ثابت ذؤابتين يلعب مع الصبيان.» بل لقد حرض أهل العراق في عهد عثمان على ألا يعاونوا في هذا العمل، وكان يقول لهم: «إني غالٌّ مصحفي، فمن استطاع منكم أن يغلَّ مصحفًا فليفعل؛ فإن الله يقول: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (آل عمران: ١٦١)»، وخطب الناس يومًا فقال: وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غلوا مصاحفكم، وكيف تأمروني أن أقرأ على قراءة زيد بن ثابت وقد قرأت من في رسول الله بضعًا وسبعين سورة وإن زيد بن ثابت ليأتي مع الغلمان له ذؤبتان، والله ما نزل القرآن إلا وأنا أعلم متى وفي أي شيء نزل، ما أحد أعلم بكتاب الله مني، وما أنا بخيركم، ولو أعلم أحدًا أعلم بكتاب الله مني تبلغنيه الإبل لأتيته.» كره رجال أفاضل من أصحاب النبي مقالة ابن مسعود، ورأوا فيها تحريضًا على الفتنة لا مسوغ له. روي عن أبي الدرداء أنه قال: «كنا نعد عبد الله حنانًا فما باله يُواثب الأمراء!» صحيح أن عبد الله بن مسعود بدري وزيد بن ثابت ليس بدريًّا، ولعبد الله سابقة في الإسلام على زيد وعلى أبيه ثابت بن زيد، وهو قد تلقى عن رسول الله نيفًا وسبعين سورة من القرآن، لكن زيدًا كان كاتب رسول الله، وقد تلقى عنه القرآن كله إلى وفاته، يقول القرطبي: «الشائع الذائع المتعالم عند أهل الرواية والنقل أن عبد الله بن مسعود تعلم بقية القرآن بعد وفاة رسول الله ، وقد قال بعض الأئمة: مات عبد الله بن مسعود قبل أن يختم القرآن.» وقد جاء مصحف ابن مسعود خلوًا من المعوذتين.

سقنا حديث عبد الله بن مسعود وغضبه حجةً على حسن اختيار أبي بكر زيد بن ثابت لجمع القرآن، وذلك قول الصديق لزيد بعد أن أقنعه برأي عمر: «إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله ، فتتبعِ القرآن فاجمعه.» ويضيف القرطبي على العبارة التي نقلناها في تفضيل زيد على عبد الله قول أبي بكر الأنباري: «إن زيدًا كان أحفظ للقرآن من عبد الله؛ إذ وعاه كله ورسول الله حي، والذي حفظ منه عبد الله في حياة رسول الله نيف وسبعون سورة، ثم تعلم الباقي بعد وفاة رسول الله ، فالذي ختم القرآن وحفظه ورسول الله حي أولى بجمع المصحف وأحق بالإيثار والاختيار.»

ولعل أبا بكر قد اختار زيدًا وآثره على غيره من أصحاب رسول الله لأنه شاب، فهو أقدر على العمل منهم، وهو لشبابه أقل تعصبًا لرأيه واعتزازًا بعلمه، وذلك يدعوه إلى الاستماع لكبار الصحابة من القراء والحفاظ، والتدقيق في الجمع دون إيثار لما حفظه هو، وإن كان المتواتر أنه حضر العرضة الأخيرة للقرآن حين عرضه رسول الله على جبريل للمرة الثانية في السنة التي كانت فيها وفاته.

شعر زيد بجسامة التبعة التي ألقاها الخليفة على عاتقه وقدرها قدرها؛ وذلك قوله: «فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليَّ مما أمرني به من جمع القرآن.» وكيف لا يشعر بجسامة التبعة وهو يعلم أن أبا بكر يحفظ القرآن، وعمر يحفظه، وعلي يحفظه، وعثمان يحفظه، وكبار الصحابة يحفظونه أو يحفظون منه أجزاء كثيرة، بل إن أربعة قد تلقوا القرآن عن رسول الله وكتبوه مرتب الآيات في السور، وكتب غيرهم، ومنهم عبد الله بن مسعود، مصاحف بعضها كامل وبعضها غير كامل، وهؤلاء جميعًا رقباء عليه يحاسبونه أدقَّ الحساب.

والرقابة الكبرى! رقابة صاحب القرآن مَن أوحاه إلى رسوله، أعظم من كل رقابة، وهي التي جعلت زيدًا يشعر بأن نقل جبل من الجبال أيسر مما كلَّفه الخليفة إياه، وإيمان زيد بن ثابت بأن الله رقيب عليه في جمع كلامه جل شأنه هو الذي سما به ليقدر ما لهذا الأمر من جلال، وليبذل فيه كل جهد ويستهين بكل مشقة، وألَّا يدخر وسعًا في جمع كل ما سُطر القرآن فيه من الرقاع والأكتاف واللخاف١٣ والعُسب ومن صدور الرجال، وفي موازنة ذلك كله بعضه ببعض، وموازنته بما حفظ هو عن رسول الله في السنة الأخيرة من حياته، والوصول من الجمع إلى الغاية التي يبتغيها خليفة رسول الله والتي ترضي الله ورسوله، بذلك صار هذا المصحف المجموع إمامًا استراح إليه المسلمون، فلما أراد عثمان توحيد القراءات جعله إمامه.

ولست في حاجة إلى القول بأن زيدًا لم يثبت القرآن في مصحفه على تاريخ نزوله بعد أن رُتبت الآيات في السور بأمر رسول الله، فوضع ما نزل منها بالمدينة في السور المكية، إنما تتبع زيد السور كما رتبها رسول الله، ثم نسخها في الورق أو في الأديم، فلما تم له نسخها كانت عند أبي بكر، ثم عند عمر، ثم عند حفصة.

أية طريقة اتَّبع زيد في الجمع؟ تستطيع أن تقول في غير تردد إنه اتبع طريقة التحقيق العلمي المألوفة في عهدنا الحاضر، وقد اتبع هذه الطريقة بدقة دونها كل دقة، فقد طلب أبو بكر إلى كل من عنده من القرآن شيء مكتوب أن يجيء به إلى زيد، وإلى كل من يحفظ القرآن أن يدلي إليه بما يحفظه، واجتمع لزيد من الرقاع والعظام وجريد النخل ورقيق الحجارة وكل ما كتب أصحاب رسول الله القرآن عليه الشيء الكثير، عند ذلك جعل يرتبه ويوازنه ويستشهد عليه، ولا يثبت آية إلا إذا اطمأن إلى إثباتها كما أوحيت إلى رسول الله، روي أن عمر بن الخطاب قرأ: «والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان»، برفع كلمة «الأنصار» ومن غير واو العطف بينها وبين «الذين»، فقال له زيد بن ثابت: «والذين اتبعوهم بإحسان»، واختلفا، فدعا عمر أبي بن كعب وسأله عن ذلك، فأقر قراءة زيد، وليزيل كل ريبة من نفس عمر قال: «والله، أقرأنيها رسول الله وأنت تبيع الحنطة.» فادكر عمر وقال: نعم! وتابع أبيًّا وأقر قراءة زيد، وكذلك كان يصنع زيد كلما خالفه من الصحابة أحد، وكلما وجد في المكتوب في الرقاع والعظام وغيرها خلافًا، يستشهد ويستقصي، ولا يمنعه من ذلك أنه يحفظ القرآن، وأنه حضر قراءة رسول الله إياه قبيل وفاته، وهذا الخلاف على حرف الواو في الآية السابقة يدلك على مبلغ هذه الدقة، ويشهد بأن زيدًا لم يضن بمجهود في القيام بالعمل العظيم الذي عهد فيه أبو بكر إليه.

وقد كانت هذه الدقة في جمع القرآن متصلة بإيمان زيد بالله، فالقرآن كلام الله جل شأنه، فكل تهاون في أمره أو إغفال للدقة في جمعه وزر ما كان أحرص زيدًا في حسن إسلامه وجميل صحبته لرسول الله أن يتنزه عنه، ولقد شهد المنصفون من المستشرقين جميعًا بهذه الدقة، حتى ليقول سير وليم ميور: «الأرجح أن العالم كله ليس فيه كتاب غير القرآن ظل اثني عشر قرنًا كاملًا بنص هذا مبلغ صفائه ودقته.»١٤
على أن زيدًا لم يأخذ مع الدقة في جمع السور مرتبة الآيات بتنسيق السور في المصحف واحدة تلو الأخرى، وإنما كان التنسيق على النحو الذي نعرفه اليوم في عهد عثمان، وقد اختلف فيما كان منه في عهد النبي؛ قال بعضهم: إنه تركه لأمته، وقال بعض: بل ذكر الرسول نظام التتابع لبعض السور وترك بعضها، وقال غيرهم: بل ذكر نظامها جميعًا، ذكر ابن وهب في جامعه قال: سمعت سليمان بن بلال يقول: سمعت ربيعة يسأل: لِمَ قدمت البقرة وآل عمران وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة، وإنما نزلتا بالمدينة؟ فقال ربيعة: «قد قدِّمتا وألِّف القرآن على علم ممن ألفه، وقد اجتمعوا على العلم بذلك، فهذا مما ننتهي إليه، ولا نسأل عنه.» وقال قوم من أهل العلم: إن تأليف سور القرآن على ما هو عليه في مصحفنا كان عن توقيف من النبي ، وأما ما روي من اختلاف مصحف أُبي وعلي وعبد الله، فإنما كان قبل العرض الأخير، وأن رسول الله رتب لهم تأليف السور بعد أن لم يكن فعل ذلك.١٥ يخالف بعضهم هذا الرأي، ويرى أن ترتيب السور لم يكن بتوقيف من رسول الله، ويحتج بأن علي بن أبي طالب لم يجمع مصحفه إلا بعد وفاته ، وكذلك فعل عبد الله بن عباس، فلو أن رسول الله قد رتب السور لكان علي وابن عباس أجدر بأن يصنعا ذلك وأن يرتباها كما أمر رسول الله، ولم يرتب زيد بن ثابت السور حين جمع القرآن في عهد أبي بكر، فترتيب السور قد كان كله أو بعضه اجتهادًا من الصحابة ولم يكن مما أمر به رسول الله.١٦
والرأي بأنه لم يرتب السور كلها أو بعضها، ووكل أمر ذلك إلى الأمة بعده يأخذ به كثيرون.١٧ روى ابن عباس أنه قال: «قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولًا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها؛ فقبض رسول الله ولم يبين لنا أنها منها، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتهما في السبع الطوال.»

لم يكن القول في ترتيب السور في المصحف مما يدخل في نطاق هذا الفصل، وإنما أدى إليه الاستطراد إيضاحًا لقول القرطبي عن زيد بن ثابت وجمعه القرآن في عهد أبي بكر: «جمعه غير مرتب السور، بعد تعب شديد، رضي الله عنه.» أأتم زيد جمع القرآن في عهد أبي بكر أم استغرق عمله هذا زمنًا من عهد عمر؟ ذلك أمر اختلف فيه، وقد رأينا في رواية البخاري أن الصحف التي جمع زيد فيها القرآن كانت عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر أم المؤمنين. وهذا القول يؤدي إلى أن الجمع تم في عهد أبي بكر، ويذهب بعض الرواة إلى أن الجمع استغرق زمنًا في عهد عمر، وليس يتيسر القطع بأي الروايتين أصح، وإن أمكن التوفيق بينهما بأن زيدًا أتم جانبًا كبيرًا من الجمع في عهد أبي بكر، وجعل صحف هذا الجانب عند الخليفة؛ وقبض الصديق فأخذ عمر ما كان عنده من هذه الصحف، فلما أتم زيد جمع ما بقي من القرآن وأضيفت صحفه إلى الصحف الأولى ثم كانت كلها عند عمر، وهذه الصحف هي التي كانت المصحف الإمام في عهد عثمان، وهي التي نتلوها اليوم، وسيتلوها من بعدنا من المسلمين وغير المسلمين حتى يوم الدين.

«رحمة الله على أبي بكر! كان أعظم الناس أجرًا في جمع المصاحف.» كذلك قال علي بن أبي طالب، وذلك ما يقوله كل مسلم. ولقد طالما سألت نفسي وأنا أكتب هذا الكتاب: أي أعمال الصديق أعظم: قضاؤه على الردة والمرتدين في بلاد العرب، أم فتحه العراق والشام وتمهيده بذلك للإمبراطورية الإسلامية العظيمة التي حملت عبء الحضارة الإنسانية قرونًا متعاقبة، أم جمعه القرآن كتاب الله إلى رسوله محمد النبي الأمي هدى ورحمة للعالمين؟ طالما سألت نفسي وفكرت أتلمس الجواب، ولم أتردد قط في الإجابة، فجمع القرآن أعظم أعمال أبي بكر لا ريب، وأكثرها بركة على الإسلام والمسلمين والناس أجمعين، لقد اضمحلت جزيرة العرب وتقلصت منها أسباب القوة والحياة بعد عهد بني أمية، وقد تداعت الإمبراطورية الإسلامية وخضع المسلمون في أرجاء الأرض لغير المسلمين ولسلطان حكمهم، ولقد نسي الناس هذه الإمبراطورية وكادوا ينسون بلاد العرب، ولولا مناسك الحج لضمت شبه الجزيرة إلى مجاهل الأرض فلا يصل إليها إلا المستكشفون، أما كتاب الله الكريم فإنه خالد باقٍ على الدهر، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من عزيز حكيم.

ولا يحسبن أحد أني بما أذكر من ذلك أهون من أمر حروب الردة أو من أمر الإمبراطورية الإسلامية، فكل من هذين الأمرين عظيم، وكل عمل منها كافٍ وحده ليخلد حياة من يقوم به، ولو أن أبا بكر وقف من خلافته عند القضاء على الردة لشهد الناس جميعًا له بعظمة ما قام به وبجلاله، ولو أنه لم يصنع أكثر من وضع القواعد للإمبراطورية الإسلامية لأقروا كلهم له بالعظمة وخلود الذكر على صفحات الدهر، فإذا حفل عهده بهذين الأمرين البالغين كل هذا الجلال وكل هذه العظمة، ثم كان فيه جمع القرآن، وهو أبقى منهما جميعًا وأعظم، فذلك الخلد الذي لا خلد بعده، والرضا من الله لا يؤتاه إلا الصديقون الذين سما إيمانهم فيسر الله لهم كل عظيم وهيأ لهم من أمرهم رشدًا.

رحم الله أبا بكر، وأجزل له الأجر، إنه كان من عباده المخلصين.

١  بين الروايات التي أوردت عبارة عمر خلاف في اللفظ ولكنها متفقة كلها في المعنى. ومن هذه الروايات أنه قال: «إن القتل قد استحر قراء القرآن يوم اليمامة، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن كلها فيذهب قرآن كثير، وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن.»
٢  العسب: جمع عسيب، وهو هنا: ما لم ينبت عليه الخوص من جريد النخل.
٣  راجع صفحة ٢٠ من كتاب المصاحف لابن أبي داود، وصفحة ٥٩ من كتاب الإتقان في علوم القرآن للسيوطي.
٤  قول علي «رأيت كتاب الله يزاد فيه» أورده السيوطي بإسناده في كتاب الإتقان. وقد اقتصر كثير من المؤلفين فيما رووا عن علي أنه قال: آليت ألا ألبس ردائي إلا لصلاة حتى أجمع القرآن. ورواية ابن أبي داود في كتاب المصاحف أن أبا بكر أرسل إلى علي بعد أيام يقول: أكرهت إمارتي يا أبا الحسن؟ قال: لا والله، إلا أني أقسمت ألا ارتدي بردائي إلا لجمعة، فبايعه ثم رجع. ويضيف ابن أبي داود: وإنما رووا: حتى أجمع القرآن. يعني أُتم حفظه، فإنه يقال للذي حفظ القرآن قد جمع القرآن.
٥  راجع الجامع لأحكام القرآن للقرطبي. جزء أول، ص٣٦ وما بعدها.
٦  س ٢ أ ٢٨٥.
٧  س ٤ أ ٢٤.
٨  س ٥ أ ٨٩.
٩  س ٤ أ ٤٠.
١٠  س ٢ أ ١٩٧.
١١  يذكر أبو عبد الله الزنجاني في كتابه تاريخ القرآن (طبع في مصر في سنة ١٩٣٥م) أن «التأمل الصادق والشواهد يعطي أن اقتراح عمر بجمع القرآن إنما كان لجمعه في الورق، حتى إن الصحابة لشدة احتياطهم وخضوعهم لرسول الله خافوا أن يكون ذلك من البدع».
١٢  وفي رواية أثبتها ابن أبي داود في كتاب المصاحف بإسناد مختلف أن عبد الله بن مسعود كان يقرأ في المسجد، فجاء حذيفة فقال: يقول أهل الكوفة قراءة عبد الله بن مسعود، ويقول أهل البصرة قراءة أبي موسى الأشعري. والله لئن قدمت على أمير المؤمنين لأمرته أن يغرقها. فرد عليه ابن مسعود: أما والله لئن فعلت ليغرقنك الله في غير ماء. ورُوي أن حذيفة قالها في حضرة عبد الله بن مسعود، ثم اجتمع عبد الله وحذيفة وأبو موسى فوق بيت أبي موسى فقال عبد الله لحذيفة: أما إنه قد بلغني أنك صاحب الحديث. يعني قوله أما والله أن لو قد أتيت أمير المؤمنين لقد أمرته بغرق هذه المصاحف. وأجابه حذيفة: أجل! كرهت أن يقال قراءة فلان وقراءة فلان فيختلفوا كما اختلف أهل الكتاب.
١٣  اللخاف: حجارة بيض عريضة رقاق.
١٤  طعن الرافضة على جمع القرآن واحتجوا بقول زيد بن ثابت: وجدت آيتين من سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ إلى آخر السورة، وبأنهم وجدوا آية من سورة الأحزاب «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه إلخ» مع خزيمة كذلك. وهذا الاعتراض ساقط؛ لأن زيد بن ثابت يحفظ هذه الآيات، وقد وافق الصحابة خزيمة على أنهم سمعوها من رسول الله. هذا على أنها من أسلوب القرآن ونسجه، وأنها متصلة تمام الاتصال بسياق القول. أما وهذه الأسانيد كلها متواترة مجتمعة فاعتراض الرافضة غير ناهض
١٥  راجع ص٥٢ من الجزء الأول من تفسير القرطبي «الجامع لأحكام القرآن».
١٦  راجع تاريخ القرآن لأبي عبد الله الزنجاني، ص٤٧–٥٨.
١٧  راجع الإتقان في علوم القرآن للسيوطي، ج١، ص٦٣-٦٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤