الفصل الخامس

قتال من منعوا الزكاة

بينما كان أسامة في طريقه إلى تخوم الروم، كان النبأ بوفاة النبي يدفع العرب إلى الثورة بسلطان المدينة. زادت ثورة اليمن ضرامًا على من قتل العنسي. وبدأ مسليمة في بني حنيفة وطليحة في بني أسد يدعوان الناس إلى التصديق بنبوتهما ويلقيان من النجاح ما جعل عيينة بن حصن يقول عن طليحة: «نبي من الحليفين — يعني أسدًا وغطفان — أحب إلينا من نبي من قريش، وقد مات محمد وطليحة حي.»

جاءت الرسل بهذه الأنباء وبما هو شر منها لأبي بكر أول ما استخلف، فلما بسطوا أمامه الأمر قال لهم: «لا تبرحوا حتى تجيء رسل أمرائكم وغيرهم بأدهى مما وصفتم وأمرّ من انتقاض الأمور.» ولم يلبثوا أن قدمت كتب أمراء النبي في الأنحاء المختلفة من شبه الجزيرة بانتقاض عام أو بانتقاض خاص، ولم تُخف هذه الكتب ما كان من اعتداء المنتقضين على من بقي على إسلامه بين أظهرهم، وكذلك تضرمت الأرض حول أبي بكر نارًا؛ فكان لا بد له من معالجة هذه الحال التي لم ير المسلمون مثلها مذ فُتحت مكة وأسلمت ثقيف.

وكان هذا الاضطراب الذي أصاب العرب قد انتهى بقوم إلى أن يرتدوا عن الإسلام، في حين بقي آخرون على إسلامهم ثم أبوا أداء الزكاة لأبي بكر، وسواء أكان إباؤهم أداءها راجعًا إلى حرص الناس على المال وتحايلهم على التحلل من بذله كتحايلهم على اقتناصه وإمساكه، وذهابهم في هذا وفي ذاك إلى حد التضحية بالحياة في سبيله، أم كان راجعًا إلى عدهم إياها إتاوة لم يبق بعد وفاة رسول الله ما يسوغ دفعها لمن اختاره أهل المدينة أميرًا عليهم، فإنهم أضربوا عن أدائها وأعلنوا أنهم لن ينزلوا على حكم أبي بكر في أمرها.

كان ذلك شأن القريبين من المدينة من قبائل عبس وذبيان بنوع خاص، فماذا عسى أن يصنع المسلمون معهم؟ ليس من اليسير مقاتلتهم بعد أن أنفذ أبو بكر بعث أسامة فلم يبق بالمدينة جيش يدفع عنها، أيرضون منهم أن يمنعوا الزكاة، وبذلك يستميلونهم إليهم لعلهم يجدون منهم عونًا على الذين نكثوا أيمانهم وارتدوا عن إسلامهم؟ أم يحاربونهم فيزيدون بذلك عدد عدوهم، وقد لا يكون لهم في غيبة الجيش بحربهم قِبلٌ؟

جمع أبو بكر كبار الصحابة يستشيرهم في قتال الذين منعوا الزكاة، وكان رأي عمر بن الخطاب وطائفة من المسلمين معه ألا يقاتلوا قومًا يؤمنون بالله ورسوله، وأن يستعينوا بهم على عدوهم، ولعل أصحاب هذا الرأي كانوا كثرة الحاضرين في حين كان الذين أشاروا بالقتال هم القلة، وأغلب الظن أن المجادلة بين القوم في هذا الأمر البالغ الخطر طالت واحتدمت أيما احتدام، فقد اضطر أبو بكر أن يتدخل بنفسه فيها يؤيد القلة؛ ولقد اشتد في تأييد رأيه في ذلك المقام، يدل على ذلك قوله: «والله لو منعوني عقالًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله لقاتلتهم على منعه.» ولم يثن هذا المقال عمر عن أن يرى ما في القتال من تعريض المسلمين لخطر تخشى مغبته، فقال في شيء من الحدة: «كيف نقاتل الناس وقد قال رسول الله : «أُمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، فمن قالها عصم مني ماله ودمه إلا بحقها وحسابهم على الله».»

لم يتريث أبو بكر ولم يتردد في إجابة عمر فقال: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، وقد قال: «إلا بحقها».» ويتم الرواة هذا الحديث بأن عمر قال من بعد: «فوالله ما هو إلا أن رأيت الله شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق.»

يذكرنا هذا الحديث بما دار بين رسول الله ووفد ثقيف حين أقبلوا من الطائف يعلنون استعدادهم للإسلام ويطلبون إليه أن يعفيهم من الصلاة؛ فقد أبى محمد يومئذ أن يجيبهم إلى ما طلبوا من ذلك وقال: «إنه لا خير في دين لا صلاة فيه.» ولعل أبا بكر قصد إلى مثل ذلك حين قال: «والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة.»

بعثت عبس وذبيان ومن انضم إليهم من بني كنانة ومن غطفان وفزارة جموعًا منهم أقامت على مقربة من المدينة، ثم إن هذه الجموع انشطرت فرقتين، أقامت إحداهما بالأبرق من الرَّبذة، وسارت الأخرى إلى ذي القَصَّة أقرب محلة من المدينة على طريق نجد، وأرسل رؤساء هذه الجموع وفودًا منهم إلى المدينة نزلوا على وجوه الناس وتحملوا بهم على أبي بكر على أن يقيموا الصلاة وألا يؤتوا الزكاة، فكان جواب أبي بكر ما رأيت: «والله لو منعوني عقالًا لجاهدتهم عليه.»

ورجعت هذه الوفود إلى من بعثوهم بعدما اطلعوا على عورة المدينة وعرفوا أنها مكشوفة ليس بها من يدافع عنها، وأدرك أبو بكر منهم ذلك، فجمع الناس وقال لهم: «إن الأرض كافرة، وقد رأى وفدهم منكم قلة، وإنكم لا تدرون أليلًا تؤتون أو نهارًا، وأدناهم منكم على بريد، وقد كان القوم يأملون أن نقبل منهم ونوادعهم، وقد أبينا عليهم ونبذنا عهدهم، فاستعدوا وأعدوا.» ثم إنه دعا إليه عليًّا والزبير وطلحة وعبد الله بن مسعود وجعلهم على مداخل المدينة، وأمر سائر الناس أن يكونوا بالمسجد في عُدة القتال.

ولم يخطئ أبا بكر حدسه، فلم يلبث أهل المدينة إلا ثلاثًا، حتى زحف عليهم مانعو الزكاة يريدون أن يضعضعوا من عزيمتهم للقتال، فيتجاوز الخليفة عن هذا الفرض من فروض الإسلام، وأحس العسس المقيمون على مداخل المدينة مأتى القوم، فنبهوا عليًّا والزبير وطلحة وابن مسعود ومن معهم من الرجال، وأرسل هؤلاء إلى أبي بكر بالخبر، فأجابهم أن الزموا أماكنكم، وخرج في أهل المسجد على الإبل حتى بلغهم، ثم خرجوا جميعًا يواجهون هؤلاء يريدون أن يلبسوا الليل للغدر بهم، ولم يكن يدور بخواطر أهل هذه القبائل أن سيقاومهم أحد بعد الذي عرفوا من أمر المدينة وأهلها، فلما فاجأهم أبو بكر ومن معه أخذوا فولوا الأدبار، فاتبعهم المسلمون حتى ذا حُسًا؛ وكانت القبائل قد تركت في هذه المحلة مددًا من الرجال لعلهم يحتاجون إليهم، وشعر هذا المدد بمجيء القوم منهزمين وباتباع المسلمين إياهم، فوقف دون هؤلاء وأولئك، ودار بين الفريقين في غسق الليل قتال لم يتكشف لأحد منهم أثره، وكان الذين أقاموا بذي حُسًا من أهل القبائل قد جاءوا بأنحاء١ نفخوها وربطوها بالحبال وضربوها بأرجلهم في وجوه الإبل التي امتطاها رجال المدينة، ولم تكن هذه الإبل إبل حرب ألفت مكايد القتال؛ ولذلك نفرت براكبيها مرتدة حتى دخلت بهم المدينة.

فرحت عبس وذبيان ومن ناصرهم بفرار المسلمين وظنوا بهم الوهن، وبعثوا إلى من بذي القصة ينبئونهم بما حدث، وأقبل أهل ذي القصة عليهم وتبادلوا وإياهم الرأي ألا يذروا المدينة حتى يوادعهم أبو بكر على ما أرادوا، أما أبو بكر والمسلمون معه فلم يغمض لهم تلك الليلة جفن، بل بات يتهيأ ويعبئهم، فلما كان الثلث الأخير من الليل خرج يمشي على رأسهم، وقد جعل لهم ميمنة وميسرة وساقة، وأغذوا جميعًا السير، فما طلع الفجر حتى كانوا مع العدو في صعيد واحد، دون أن يسمع العدو لهم همسًا ولا حسًّا، وكيف يسمع وقد اطمأن إلى انتصاره وبات ناعم الجفن بنوم هانئ، ووضع المسلمون السيوف في القوم، فهبوا فزعين يقاتلون، ولكن هيهات! لقد أمعن رجال أبي بكر فيهم قتلًا وهم في عماية الصبح يضطرب حابلهم بنابلهم، وذر قرن الشمس وهم يولون الأدبار منهزمين لا يلوون على شيء، واتبعهم أبو بكر حتى نزل بذي القصة وهم يفرون أمامه فرار النعام، عند ذلك تركهم ونزل بعسكره في منازلهم من هذه المحلة، ثم جعل بها النعمان بن مقرن صاحب ميمنته وجعل معه عددًا يدفع الذين أرادوا على الصديق نصرًا فخذلوا، وعزًّا فذلوا.

هنا يقف الإنسان خاشعًا مَلَكه الإعجاب بأبي بكر وبإيمانه وثباته وحزمه فذلك موقف يذكرنا بمواقف الرسول (عليه السلام)، وإن لهذه الغزوة الأولى من غزوات أبي بكر لجلالًا ما أشبهه بجلال غزوة بدر، وقف المسلمون يوم بدر ومحمد على رأسهم وعددهم لا يزيد على ثلاثمائة يقاتلون المشركين من أهل مكة وعددهم يزيد على ألف، وهنا وقف أهل المدينة، ومنهم المقاتل ومنهم غير المقاتل، وأبو بكر على رأسهم، وهم قلة أمام هذه الجموع الغفيرة من عبس وذبيان وغطفان وغيرهم من القبائل، ويومئذ تحصن محمد بإيمانه وإيمان أصحابه، وبنصر الله إياهم على المشركين، وهنا تحصن أبو بكر بإيمانه وإيمان أصحابه، فانتصر كما انتصر الرسول، ثم كان لنصره الأثر البالغ في حياة المسلمين.

على أن ما يملك الإنسان من الإعجاب بأبي بكر في هذا الموقف لا يشوبه من العجب شيء، فقد آلى الصديق على نفسه منذ اللحظة الأولى ألا يدع شيئًا كان يصنعه رسول الله إلا صنعه، أما وذلك عزمه الذي لا يحيد عنه، فلا عجب أن يأبى المساومة في أمر يتصل بما فرض الله في كتابه، وأن يذكر كلما طلب إليه أحد أن ينزل عن شيء لم يكن رسول الله ليرضى أن ينزل عنه، هذه الكلمة الخالدة على الزمن من كلمات رسول الله: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته.» هذا ما صنع أبو بكر حين تحدث إليه أصحابه في العدول عن بعث أسامة، وهذا كان موقفه حين تحدثوا إليه فيما يطلب العرب من منع الزكاة، وذلك الإيمان الصادق الذي لا يغلبه في الحياة غالب؛ لأنه يستهين بالموت ويسمو لذلك على كل ما في الحياة.

وهذا الإيمان الصادق الذي لا يغلبه الموت ولا يغلبه زخرف هذه الحياة الدنيا، هو الذي حفظ الإسلام في صفائه وكماله في ذلك الوقت الدقيق الذي كان يومئذ يتخطاه.

وإنك لفي حل أن تسأل نفسك: ترى ما كان عسى أن يئول إليه أمر المسلمين لو أن أبا بكر قبل مشورة عمر وأصحابه في شأن الذين طلبوا منع الزكاة، ووادع هؤلاء الطالبين على ذلك؟ ولا إخالني في حاجة إلى أن أدلك على الجواب، فأنت تعرفه كما أعرفه، كانت قبائل كثيرة من العرب إلى ذلك الوقت ما تزال قريبة عهد بالجاهلية وبالوثنية، فلو أن أبا بكر رضي النزول عن فرض من فروض الدين لاتصلت المساومات، ولوجد طليحة ومسيلمة وغيرهما من المتنبئين الوسيلة للتشكيك فيما جاء محمد به من عند ربه، ثم لوجدوا من هذه القبائل القريبة العهد بالجاهلية مصدقًا لهم ومطيعًا، بل مؤمنًا بهم يموت في سبيلهم وينصرهم على دين الحق.

وأنت تستطيع أن تقدر ما كان لحزم أبي بكر ثم لانتصاره بذي القصّة من أثر حين تعلم أن المشركين من بني ذبيان وعبس وثبوا على من فيهم من المسلمين فقتلوهم كل قتلة، هذه الظاهرة التي دفع إليها الغضب والشعور بالذلة والانتقام الوضيع قد زادت انتصار المسلمين جلالًا وزادت المسلمين ثباتًا على دينهم في كل قبيلة، وجعلتهم يهرعون بالزكاة يؤدونها إلى خليفة رسول الله، لقد رأوا أبا بكر يغلب هؤلاء المرتدين بقوة إيمانه، في حين كان جيشه مع أسامة على تخوم الروم، فأيقنوا أن الغلب لدين الحق والإيمان به، وأن الانتقام الوضيع الذي لجأت القبائل إليه لن يمحو عنها عار هزيمتها، وأنها ستدفع ثمن هذا الانتقام غاليًا.

وكيف لهم أن يرتابوا وقد حلف أبو بكر ليقتلن في كل قبيلة من المشركين بمن قتلوا من المسلمين وزيادة، وهو لا محالة فاعل متى عاد أسامة وآن لجيش المسلمين أن يأخذ هؤلاء الآثمين بذنوبهم.

هرع المسلمون من كل قبيلة يؤدون الزكاة إلى خليفة رسول الله على أثر انتصاره بذي القصة، وكان أول الذين يؤدون الزكاة صفوان والزبرقان من رؤساء بني تميم، وعدي بن حاتم الطائي عن قومه من طيء، واستقبل الناس هؤلاء السفراء عن عشائرهم في بشر أي بشر، وكان الناس يقول بعضهم لبعض إذا طلع أحدهم: هذا نذير، فيقول أبو بكر: «بل هو بشير، وهو حامٍ ليس بوانٍ.» ويجيب الناس أبا بكر يقولون: «طالما بشرت بالخير!»

لم يكن أبو بكر غالبًا إذ دعا هؤلاء حماة ومبشرين بالخير، فقد كان المسلمون بالمدينة وفيما جاورها في حاجة يومئذ إلى سند يشد أزرهم بعد الذي رأوا من خطر يوشك أن يهدد كيانهم، رُوي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: «لقد قمنا بعد رسول الله مقامًا كدنا نهلك فيه لولا أن الله مَنَّ علينا بأبي بكر أجمعنا على ألا نقاتل على ابنة مخاض وابنة لبون، وأن نعبد الله حتى يأتينا اليقين، فعزم الله لأبي بكر على قتالهم، فوالله ما رضي منهم إلا بالخطة المخزية أو الحرب المجلية، فأما الخطة المخزية فأن يقروا بأن من قتل منهم في النار ومن قتل منا في الجنة، وأن يدوا قتلانا، وأن نغنم ما أخذنا منهم، وأن ما أخذوا منا مردود علينا، وأما الحرب المجلية فأن يخرجوا من ديارهم.»

وإن الناس لفي طمأنينتهم بالمدينة إلى نصر الله أبا بكر، وقد جاء إليهم المسلمون من مختلف القبائل بالزكاة؛ إذ أقبل أسامة عائدًا من أرض الروم غانمًا مظفرًا يسوق أمامه غنائمه ويلحق به جيشه، ويستقبلهم أبو بكر وكبار الصحابة بالجرف، ويحف الناس بهم في أثر الصديق وأصحابه ينشدون من حولهم أغاني العزة والنصر، وذهب أسامة من فوره إلى المسجد، فركز اللواء الذي عقده له رسول الله، وصلى شكرًا لله على ما نصره وأعز بجيش المسلمين كلمة الحق ودين الهدى.

ما هذا كله؟ أليست هي المعجزة أراد الله أن يتم بها لدينه! وهل تتضافر الأقدار بمحض المصادفة هذا التضافر الذي دوى في أنحاء شبه الجزيرة، فشد من عزائم المسلمين في كل قبيلة، ورفع من رءوسهم في وجه عدوهم فما يدري مرتد ما يقول لهم!!

ورأى أبو بكر في حصافته ودقة تقديره الأمور ألا يريح أعداءه وأن يضاعف ذلتهم، فقال لأسامة وجنده: استريحوا وأريحوا ظهوركم. ثم استخلف أسامة على المدينة، ونادى في رجاله الأولين بالخروج معه إلى ذي القصة، وناشده المسلمون قائلين: «ننشدك الله يا خليفة رسول الله أن تعرِّض نفسك؛ فإنك إن تُصَب لم يكن للناس نظام، ومقامك أشد على العدو، فابعث رجلًا، فإن أصيب أمرت آخر.» لكن أبا بكر كان إذا اعتزم أمرًا لم يرجع عنه؛ لذلك قال لهم: «لا! والله لا أفعل، ولأواسينكم بنفسي.» وخرج ومن حوله الميمنة والميسرة والساقة، كما خرج من قبل، حتى نزل على أهل الربذة بالأبرق فيما وراء ذي القصة، هناك قاتل عبسًا وبني ذبيان وبني بكر فغلبهم وأجلاهم عن مواقعهم، وكانت الأبرق في ملك بني ذبيان، فلما جلوا عنها أعلن أبو بكر أنها أصبحت في ملكه وملك أصحابه، وقال: «حرام على بني ذبيان أن يتملكوا هذه البلاد وقد غَنَّمَنَاها الله.» وبقيت هذه الأماكن من بعد يحتلها المسلمون، فلم يرض أبو بكر أن يردها إلى بني ثعلبة حين جاءوا إليه بعد أن استقرت الأمور يريدون العود فيها إلى منازلهم.

تمت هزيمة الثائرين الذين أرادوا أن يمنعوا الزكاة، وتمت هذه المرة والمدينة في منعة أي منعة بجيش أسامة، وفي رخاء بما جاء به من الغنائم، وبما حُمل إليها من زكاة المسلمين الذين آتوا الزكاة منذ انتصر خليفة رسول الله.

أفما آن لبني ذبيان وعبس وغطفان وبني بكر وغيرهم من القبائل القريبة من المدينة أن ترجع عن انتقاضها، وأن تذعن لأبي بكر وتعلن الإسلام لأمر الله ولخليفة رسول الله؟ لقد تحطمت الثورة التي قام بها العنسي في اليمن، ولقد انتصر المسلمون على تخوم الروم، ولقد بدا أبو بكر في ثوب من قوة الإيمان لا غالب له، وهذه القبائل كانت إلى أن اختار الله إليه رسوله مسلمة صادقة في دينها، فخير لها أن تعود إلى حظيرة الإسلام وأن تمد يدها إلى الصديق بالطاعة، وأن تكون معه على عدو الله وعدوه، ذلك ما يوجبه العقل وما يقضي به منطق الحوادث، فأولئك المسلمون من المهاجرين والأنصار هم الذين تغلبوا على أهل شبه الجزيرة جميعًا بقوة إيمانهم؛ وهم اليوم في قوة لم تكن لهم أيام بدر والغزوات الأولى في عهد الرسول، فمكة معهم، والطائف معهم، وسلطانهم معترف به في مختلف البقاع، ثم إن من أهل هذه القبائل الثائرة بأبي بكر مسلمين إن استطاعت القبائل أن تفتن بعضهم فلا سلطان لها على الأعزة منهم، مخافة الثارات والفتن التي تنجم عن تعصب البطون والأفخاذ لذوي المكانة فيها، فأذعنت لحكم العقل وسمعت لحجة المنطق.

كلا! بل أخذتها العزة بالإثم، غرها بالله الغرور، وصدق عليها المثل: العناد يورث الكفر، لذلك جلت عن مواطنها وانحازت إلى طليحة بن خويلد المتنبئ في بني أسد وكفرت بنعمة الله عليها بالإسلام، ولم يستطع المؤمنون الذين أقاموا على دين الله بينها أن يقاوموا عنادها وكفرها، فنزح منهم من نزح معها كارهًا برمًا لا يملك من أمر نفسه شيئًا، وقوَّى انحيازها بأس طليحة ومسيلمة وقوى روح التمرد في اليمن، لذلك بقي أبو بكر في موقفه الأول من العزم على مقاتلتهم حتى يتم أمر ربك، ولو أن هذه القبائل أذعنت لحكم العقل وأصاخت لإملاء المنطق لضعضع أمرها من عزم طليحة وأشباهه، ولأسرعت شبه الجزيرة إلى حمى الإسلام والسلام.

ولست تجد تعليلًا لهذا العناد ولهذا الانقلاب عن الإسلام إلا ما قدمنا من تعصب القبائل وحرصها البدوي على سلطانها، ومن المغالاة في ذلك إلى حد لا يكبح من جماحه غير البأس، فإذا كانت قد ردت على أعقابها حين حاولت مهاجمة المدينة، أو كانت قد أجليت عن بعض منازلها من بعد، فطبيعتها البدوية تدعوها إلى الثأر لنفسها، ولتثأر لنفسها انضمت إلى بني أسد وإلى طليحة، لعلها تجد في عونهما ما يرفع عنها عار الذلة، وما يرد إليها شيئًا من الكرامة.

فأما أبو بكر فكان قد سما فوق الاعتبارات القبلية وما يتصل بها، وتوجه بكل قلبه ورأيه وعزيمته إلى تنفيذ الخطة التي رسمها رسول الله، تلك سياسته التي أعلنها يوم بويع، والتي سار عليها إلى أن لقي ربه.

١  الأنحاء: جمع نحي، وهي أوعية من جلود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤