مَحْفُوظَاتٌ

قَدَحُ الْبَلُّورِ

قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ:

وَبَدِيعٍ مِنَ الْبَدَائِعِ يَسْبِي
كُلَّ عَقْلٍ، وَيَطَّبِي كُلَّ طَرْفِ١
وُفِّيَ الْحُسْنَ وَالْمَلَاحَةَ حَتَّى
مَا يُوَفِّيهِ وَاصِفٌ حَقَّ وَصْفِ٢
صِيغَ مِنْ جَوْهَرٍ مُصَفًّى طِبَاعًا
لَا عِلَاجًا بِكِيمِياءِ مُصَفِّ٣
تَنْفُذُ الْعَيْنُ فِيهِ حَتَّى تَرَاهَا
أَخْطَأَتْهُ مِنْ رِقَّةِ الْمُسْتَشَفِّ٤
كَهَواءٍ بِلَا هَبَاءٍ، مَشُوبٍ
بِضِيَاءٍ. أَرْقِقْ بِذَاكَ وَأَصْفِ٥
وَسَطَ الْقَدْرِ، لَمْ يُكَبَّرْ لِجَرْعٍ
مُتَوَالٍ، وَلَمْ يُصَغَّرْ لِرَشْفِ٦
فِيهِ لَوزٌ مُهَلَّلٌ عَطَفَتْهُ
حُكَمَاءُ الْقُيُونِ، أَحْسَنَ عَطْفِ٧
ذَخَرَتْهُ لَكَ الْعَوَاقِبُ عِنْدِي
يَتَخَطَّاهُ كُلُّ حَيْنٍ وَحَتْفِ٨
فَتَمَتَّعْ بِهِ، وَعِشْ فِي سُرُورٍ
أَلْفَ عَامٍ، وَلَسْتُ أَرْضَى بِأَلْفِ!٩
١  يَسْبِي كُلَّ عَقْلٍ: يُقَيِّدُهُ وَيَأْسِرُهُ بِحُبِّهِ.
يَطَّبِي كُلَّ طَرْفِ: يَسْتَمِيلُ كُلَّ عَيْنٍ.
٢  كَمُلَتْ مَحَاسِنُهُ، وَاسْتَوْفَى شَرَائِطَ الْجَمَالِ وَالْمَلَاحَةِ، حَتَّى أَعْجَزَ وَاصِفِيهِ عَنْ وَصْفِهِ.
٣  يَعْنِي: أَنَّ حُسْنَهُ أَصِيلٌ، غَيْرُ مُسْتَجْلَبٍ وَلَا دَخِيلٍ، لِأَنَّهُ آتٍ مِنْ طَبِيعَةِ جَوْهَرِهِ وَصَفَاءِ مَعْدِنِهِ، وَلَمْ يَأْتِ مِنْ مَوَادِّ الْكِيمِياءِ الَّتِي يَلْجَأُ إِلَيْهَا الصَّانِعُ لِيُكْسِبَهُ الصَّفَاءَ، وَيَنْحَلَهُ مِنَ الْمَزَايَا مَا قَصَرَ عَنْ بُلُوغِهَا بِطَبْعِهِ.
٤  الْمُسْتَشَفُّ: الْمَوْضِعُ الَّذِي تَنْظُرُ فِيهِ، فَتَرَى مَا وَرَاءَهُ. يَعْنِي: أَنَّ الْعَيْنَ تَنْفُذُ فِي زُجَاجِ الْكُوبِ وَتَرَى مَا وَرَاءَهُ، فَيُخَيَّلُ إِلَيْهَا أَنَّ زُجَاجَهُ لَمْ يَعْتَرِضْهَا لِصَفَائِهِ وَرِقَّةِ شُفُوفِهِ.
٥  الْهَبَاءُ: الْغُبَارُ: دِقَاقُ التُّرَابِ سَاطِعَةً وَمَنْثُورَةً عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. يَعْنِي أَنَّ الْكُوبَ كَانَ أَشْبَهَ شَيْءٍ بِهَوَاءٍ خَالِصٍ مِنْ شَوَائِبِ الْغُبَارِ، مُشَعْشَعٍ بِالْأَضْوَاءِ وَالْأَنْوَارِ.
٦  الْجَرْعُ: شُرْبُ الشَّيْءِ بِمَرَّةٍ. وَالرَّشْفُ عَلَى الْعَكْسِ مِنْهُ: التَّأَنِّي فِي حَسْوِهِ (شُرْبِهِ قِلِيلًا قِلِيلًا). يَعْنِي: أَنَّ حَجْمَهُ كَانَ وَسَطًا، لَا هُوَ بِالْكَبِيرِ يَعُبُّ مِنْهُ الشَّارِبُ (كَمَا يَعُبُّ مِنَ الْكُوزِ)، وَلَا هُوَ بِالصَّغِيرِ الَّذِي يَرْتَشِفُ مِنْهُ (كَمَا يَرْتَشِفُ مِنَ الْفِنْجَانَاتِ).
٧  لَوْزٌ مُهَلَّلٌ: لَوْزٌ مُتَقَوِّسٌ.
حُكَمَاءُ الْقُيُونِ: الْمَهَرَةُ مِنَ الصُّنَّاعِ.
٨  ذَخَرَتَهُ: خَبَأَتْهُ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ.
الْعَوَاقِبُ: وَاحِدَتُهَا عَاقِبَةٌ، وَهِيَ مَا يُجْزَى بِهِ الْمُحْسِنُ مِنْ خَيْرٍ عَلَى إِحْسَانِهِ. الْحَيْنُ: الْمِحْنَةُ أَوِ الْهَلَاكُ. وَالْحَتْفُ: الْهَلَاكُ.
يَرَى الشَّاعِرُ: أَنَّ قَدَحَ الْبَلُّورِ كَانَ مِنَ الْمُكَافَآتِ الَّتِي خَصَّ اللهُ بِهَا صَاحِبَهُ، لِمَا أَسْلَفَهُ مِنْ خَيْرٍ، وَسَيَبْقَى سَلِيمًا مِنَ السُّوءِ، نَاجِيًا مِنَ الْعَطَبِ، بِمَا أَسْدَاهُ مِنْ صَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ.
٩  يَدْعُو أَنْ تَطُولَ حَيَاةُ صَاحِبِهِ، مُمَتَّعًا بِقَدَحِ الْبَلُّورِ، أَلْفَ سَنَةٍ، وَهِيَ — فِيمَا يَرَاهُ — قَلِيلَةٌ يَتَمَنَّى لِصَاحِبِهِ أَنْ تُزَادَ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤