الذكرى

ما أشد على قلبي المتألم أن لا يأخذ بصري من الناس إلا من يتدحرج في نفسي ليهوي منها أو يتقلب في أجفاني١ ليثقل على عيني؛ وأحاول أن أرى تلك الطلعة الفاتنة التي انطوى عليها القلب فانبث نورها في حواشيه المظلمة، وأن أملأ عيني من قمر هذا الشعاع الذي جعل السماء في جانب من صدري؛ فإذا ما شئت من الوجوه إلا وجه الحب، وإذا في مطلع البدر من رقعة سوداء لا تبلغ مد ذراع، ويغشى الكون كله منها ما يغشى، فاللهم أوسع لقلبي سعة٢ يلوذ بها.
العالم لكل الناس، غير أن لكل إنسان عالمًا هو خالصة نفسه؛٣ وعلى أن هذه الدنيا مترامية إلى كل جهة تتدلَّى عليها السماء، فإن أراضيها الخمس بما رحبت لا تقوم عندي بتلك الجدران الأربعة التي رأيت فيها من أحببتها؛ رأيت من هذه صورة قلبي فلا عجب أن تكون تلك الجدران صورة ضلوعي، وما أدري أذلك سحر أم تلبيس أم تخييل؛٤ أم هو الحب؟

إذا كنت شاعرًا فأضللت نفسك فنشدتها طويلًا، وقلبت عليها آفاق النفوس وأفلاك القلوب فإنك لن تصيبها إلا في نفس امرأة جميلة يجعلها مهندس الكون مركزًا للدائرة التي تنفسح بأقطار نفسك ذاهبة بكل قطر إلى جهة من أماني الحياة.

وإذا كنت حكيمًا فسألت نفسك سؤال الفلاسفة: من أنا؟ ووجدت في نفسك ذلك السر الخفي يقول عنك: من هو؟ فإنه لن يظهر لك معنى «أنا وهو» إلا إذا وضع الحب بينهما «هي» …

وإذا كنت رجلًا من عامة الأرض اندمج في جلدة من الثرى٥ فإن نفسك لن تحس جوهرها الإلهي إلا في نفس حبيبة، وإن كانت من عامة السماء … فالحب يجعل الناس أعلاهم وأسفلهم صاعدين أبدًا من أسفل إلى أعلى.

•••

إني أخطُّ في هذه الصفحات صورة من الزمن الفاني تُصَوِّر خَطْفَة البرق التي خطرت في سماء العمر من ابتسامة ملتهبة كانت سيالة بكهربائها؛ وإن في القلم لشيئًا إلهيًّا يدفع الموت والنسيان عن المعاني التي تُكتب إلى أجل طويل، كأن القلم ينتزعها من الإنسان الذي هو قطعة من الفناء ليُبعد الفناء عنها، هي «رسائل الأحزان» لا لأنها من الحزن جاءت، ولكن لأنها إلى الحزن انتهت، ثم لأنها من لسان كان سِلْمًا يُترجم عن قلب كان حربًا، ثم لأن هذا التاريخ الغزلي كان ينبع كالحياة، وكان كالحياة ماضيًا إلى قبره ليس بيني وبين الهوى شأن ولا عداوة، ولكنها تركت فيَّ ثلاثًا: قلب أخلص لها وأوغرته٦ عليها، وبقايا آلام كأنها أشلاء٧ من فريسة تُشير إلى تاريخ من الموت والألم والتمزيق، وتركت مع هذين اسمها الذي أحفظها فيه بجملتها، وقد يُحسم الداء٨ ولكن اسمه يبقى داء ما بقي، فهذه الأسماء أكثر ما أنت واجدها إما زيادة على أصحابها في الحب أو زيادة في البغض أو زيادة في الألم؛ إذ هي عند أشخاصها تطلق على أشخاصها، ولكنها في الناس تنبه إلى المعاني والحوادث والصفات المجسمة التي تنتشر عليها النفس أو تنقبض ويتحرك لها الدم حبًّا أو بغضًا ورغبة أو رهبة وعطفًا أو غلظة، وأحيانًا … إهمالًا أو ازدراءً.

والحبيب قد يتحول إلى كلمة أو قُبلة أو معنى من المعاني إذا أراد محبه أن ينقله معه إلى أي مكان وهو باقٍ في مكانه؛ الكلمة والقبلة والمعنى، هذه هي الجهات الثلاث التي تنفذ منها النفس إلى أحبابها حين يُخفيهم الغمام الفاصل بين الحياة والحياة إذا ابتعدوا أو هجروا أو الغمام الضارب بين الحياة والموت إذا لحقوا بالأبد، أما الجهة الرابعة فحين تُفتح للمحب يُلقى جسمه ويصعد بروحه ويختفي هو فيها، ولعمري إني لأريد أن أنساها ثلاث مرات لا مرة واحدة، ولكنها في ذكراي كأنها ثلاث نساء؛ واحدة في الرضا وثانية في الغضب وثالثة بين ذلك؛ واحدة في كلمة وأخرى في قبلة وثالثة في معنى من المعاني …

•••

السعادة تنصرف عنَّا في أكثر الأحيان ليكون تلهفنا عليها واهتياجنا لها سعادة على وجه آخر، وكأنما أوشكت٩ لنا من هذه الجهة وهي ذاهبة؛ وإذا لم يكن الإنسان بأشد حاجة إلى الطعام في وقت منه إلى الجوع في وقت غيره فكذلك هو في غذاء روحه وعواطفه، يفقد السعادة وقتًا كالجوع ووقتًا كالصوم، وإن هذا لهو بعض أسرار الحكمة الإلهية في الشقاء الإنساني، ولكنه كذلك من أسباب سوء الفهم في الإنسان، ولقد ذهبت هي كالسعادة فلا أطمع أن يتنفَّس قلبها على قلبي أو يتنهد صدرها لصدري، غير أن الشاعر الروحاني الذي يسعد بالحب إذا أرضى الحب نفسه يكون أسعد بالهجر إذا أرضى نفسه كذلك، ومع الحب عالم كثيف يُنشئ في كل يوم ألمًا، ومع الهجر عالم مجرد يُحدث في كل يوم سلوة.

فلنترك المادة للمادة يتحطم البغض والغيظ فيهما، وتخلص الروح إلى الروح كنور في المشرق ينبعث إلى نور في المغرب؛ وإذا ابتعد نجم عن نجم استطاع كلاهما أن يلمح للآخر لمحة متبسمة من بعيد، يجعلها البعد شعاعًا صافيًا، وإن كانت في ذات نفسها شعلة من جحيم يَتَضَرَّم.

إن هذه الذكرى حياة أبثُّها مني في نسيانها فما أهنأني أن يجيئني من نسيانها شيء تبثه هي في حياتي.

١  كناية عن الثقل، وفلان يتقلب في أجفان عيني؛ أي: ثقبل.
٢  أي: اجعل له سعة لا تضيق به السلوة.
٣  ما يستخلصه لنفسه ممن يحبهم كأنهم من نفسه.
٤  ما يخيل للعقل ويجعل الأمور ملتبسة.
٥  كناية عن الرجل من العامة لا هم له إلا هم العيش فلا يعلو عن الأرض.
٦  أحفظته وملأته حقدًا.
٧  أجزاء.
٨  تنقطع مادته ويبرأ.
٩  أي: قربت وعرضت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤