الرسالة الثامنة

وادي هواك كأن مطلع شمسه
يلقي على يأسي شعاع أماني
وكأن هذا البدر في ظلمائه
يد راحم مسحت على أحزاني
وكأن أنجم أفقه في ليلها
ذكرى وعودك لحن في نسياني
يا ظبية الوادي الذي نبت الهوى
بثراه بين الزهر والريحان
واديك من طول التدلل قد بدا
شبه القدود به على الأغصان
وكأن طيب نسيمه قد مس من
شفتيك موضع قبلة وأتاني
هو جنة كل النعيم بأرضها
إلا رضاك؛ فذاك من نيراني
دان وما يدنو؛ بعيد ما نأى
يا شد ما يضني البعيد الداني

•••

أنا من علمت فتى كأن مهزه
في الروع مسنون الغرار يماني
كل الحوادث حمرهن وسودها
في صفحة الأيام من ألواني
نفسي من الملإ العُلَى وسجيتي
تأبى عليَّ مذلة الإنسان
ولقد أُراع إذا لحاظك لامست
قلبي كأني في هواك اثنان

•••

ألحسن ألوان يمازج بعضها
بعضًا لتصوير الهوى الفتان
وأرى الجوى والسحر والإيمان قد
مزجت فمنها هذه العينان

وآه لو رأيت عينيها أيها الصديق تغزِلان غزْل السحر خيوطًا خيوطًا تلتمع واحدًا من شعاع الحرير في واحد من شعاع الشمس، آه لو يتبيَّن لك مكتومها في بعض نظراتها الساجية الطويلة التي تغفُل فيها عن كل حذر، وترسل فيها كل خواطر الحب، وتمدها إليك وكأنها تقول: خذ هذه النظرة وانظرني أنت بها لتطَّلع على ما في قلبي، ثم تُرخيها بفتور لين كأنما تصارحك أنها سئمت مقاومة فكرها، وتريد أن تميل إلى صدرك ولو بلحظة من عينيها … كل شيء فيها من نتائج فكرها إلا تلك النظرات فإنها وحدها نتائج قلبها.

تنكر عليَّ أيها العزيز وصفي إياها بالفلسفة ونعتها بالذكاء النادر والشِّعر العجيب وتقول: «إن هذا من سحرها فيك، وإنها لو بلغت مبلغًا مما وصفتَ أو دونه لتوكدت بينك وبينها علائقُ من تحت النفس ومن فوق القلب، ولكنك تصفها بما لا يتصوَّر في وهم ولا يهجس في ظن إلا وهمك أنت وظنك أنت لأنك أنت …».

فوالله ما كان أمرها على ما رجمت،١ وإنها لأبلغ ذات لسان وأبرع ذات فكر وأروع ذات نفس؛ ولو كنا سليلي أبوة٢ ما شهدت لها بأكثر من هذا حرفًا، ولو كان دمي من أعدائها ما نقصتها من هذا حرفًا؛ وعلم الله ما أبغض فيها إلا هذه التي أشهد لها … ولو أن الله مكنها من لغة كتابه الكريم لغص منها في هذا الشرق العربي كل كاتب وكاتبة غصة لا تُساغ ولا تتنفس.
وإني لأكتب إليك رسائلي هذه والقلب ينفض في أضعافها٣ ما لو قرأته أورد عليك من أضواء المعاني في جمالها وحبها وأوصافها ما يملأ نهارًا بين صبحه ومغربه يبدؤه بشمس ويختمه بقمر.

•••

لقد كنت إذا جاش بي حبها وثار منه ثائره فحاولت أن تربط على قلبي وتُثبت هذا الفؤاد القلق؛ جاءت بكلام نضر تنبت منه السلوة في الحب القفر الذي لا يُنبت شيئًا؛ وجعلت الملائكة تنزل في العش الذي بناه الشيطان لنفسه في القلب وعشش فيه؛ فلو أن كل حبيبة مثلها وكل محب مثلي لكان الحب تغييرًا في الإنسانية، ولما احتاج الناس إلى قوانين وملوك، ولكن إلى حبيبات وإلى حب.

إن الرذيلة واحدة ويتعدد أهلها فمهما كثروا ألوفًا وملايين فهم واحد في المعنى؛ إذ يتلو كل منهم تلو صاحبه ويقتاس به فكأنهم صور متكررة؛ لأنهم في الرتبة المنحطة كالنبات تُخرج الحبة منه ألف حبة مثلها لا تمتاز واحدة من واحدة؛ ولكن كل من قام بفضيلة فهو فضيلة قائمة بنفسها، فمهما قل الفضلاء فهم كثيرون؛ لأنهم في الرتبة العليا ولأنهم وحدهم الناس، فلو صح الحب وأضاءه أهله وصبروا على ما يجز في الصدور منه وتوجروا العلاج المر٤ إلى ساعة الشفاء لكان كل متحابين عالمًا قائمًا من اثنين لإنشاء عالم لا يعد من صفات الفضائل وأنواعها.

كانت تقول لي: إن القلوب الضعيفة هي التي تصدأ في فكرة واحدة تلح عليها حتى تتأكل صدأ ثم تتفتت؛ فإذا حدثت عليها الحادثة انكسرت ولم تقم لها، وبقيت زمنًا طويلًا في الهموم حتى تتعب الحوادث والأقدار المختلفة في أيام تتصرم بعد أيام إلى أن تجمع حطام القلب قلبًا متحطمًا.

ولكن القلوب القوية الصارمة ذات الصدور الجريئة الواسعة تكونها القوى المختلفة من العمل والفكر وعدم المبالاة على هيئة تجعلها مرنة في صلابة فهي تلتوي ولا تنكسر، وما أسرع ما ترجع كما كانت إذا لوتها الخيبة أو نجمت لها قاصمة من الحوادث التي هي مطارق القلوب لا تضرب إلا عليها ولا تحطم إلا فيها.

أقول لك «عدم المبالاة» فافهم عني فإني أريد أن تحفظ هذه الكلمة وتعيها من بوادي هذا الحب إلى تواليه إلى أعقابه،٥ إن عدم المبالاة يكون في بعض الأحيان وفي بعض الأمور هو كل ما تكلفنا به الطاقة البشرية من المبالاة …
ثم تقول: إنما أنت مني في باب من أبواب الفكر فإياك لا تتسلط عليك حاسة من حواسك، فإن لهذه الحواس ضراوة السباع وكلبها؛٦ والعاطفة تجعل الإنسان أشكل بالملائكة والحاسة تجعله أقرب للشياطين، والحب كالخمر كلاهما نشوة وكلاهما دواء فلا تجاوز حد الطب فيما ترى ولا حد الشعر فيما تفهم، وإلا كنت كالمدمن لا يكفيه إلا ملء جوفه حرَّةً وظمأً ومرضًا وجنونًا، وإذا هو ملأه توهم أنه يسع بحرًا من الخمر، ولا يزال يطمع في الانتشاء، ولا يزال يُسرف على نفسه حتى يذهب عقله وينكفئ، وما به قدره على شيء ولا على أن يتوهم شيئًا، اجعل الحب تعللًا ودع مكارهه في ناحية، وميز بين ما يجب أن يبقى خيالًا وما يجوز أن يكون واقعًا، فإن أردت أن تُخرج من كل صورة في خيالك صورة من الواقع أشقيت نفسك، واستفرغت كل همك وقواك في باطل وعبث ليس مثلهما باطل ولا عبث، دع المعاني في ألفاظها إن لم تؤاتك الأسباب وعلل الأقدار على خلقها أعمالًا فإنك إن داريتها ولم تجئك بالمسرة التي تريدها جاءتك بغيرها، وخرج منها على العلات شيء ما يكون منه أمر ما … وكن في قوة عواطفك وإحكامها وضبطها كالمصارع الجبار الذي لا يُوضع جنبه٧ فإنه كما تعلم تعرك بكل جهة من جهاته أنواعًا من أقوى القوة ممثلة في أجسام من أعنف العنف؛ فصدره الذي لا يُعطف وظهره الذي لا يُضغط وأطرافه التي لا تهن ولا تكل، وكل لوح فيه إنما هو رجل تام الخلقة وثيق التركيب؛ لأن كل ما فيه قوة بالغة في قوة بالغة، ولأن الرجل لم يجتمع كذلك إلا من المكارة والغمرات التي خاضها وثبت عليها حتى كأنما خرج بها من وزن رجل إلى وزن جبل.

ثم تقول؛ دع الدماغ يحلم نائمًا أو منتبهًا، ولكن متى انعدل الليل راجعًا إلى مآبه واستدار النصف المضيء من الكرة فلا تجعل حلم الرأس الذي هو أداة الخيال سببًا في عذاب الحواس التي هي أدوات الواقع، واقطع من نفسك أسباب المطمعة الخيالية تجد كل شيء قارًّا في موضعه لا ينحرف ولا يضطرب ولا يتململ؛ وتذهب أحلام النوم في النوم، وتأتي حقائق اليقظة مع اليقظة وكنا في انتظارها فلا يفجأنا منها شيء، إنك ربما تأتي في أحلامك ما لا يسوغه عذر، وترى وتسمع ما لا وجود له، وتجد منزعًا من أمور ليس فيها منزع، وتموج بك العوالم كلها وأنت ساكن في نومك مستثقل حتى على الحركة الضعيفة، وحسبك بعض هذا في الدلالة على أن الدماغ لا يسكن إلى نزواته عاقل؛ لأنه مصنع المستحيلات كما هو مصنع الممكنات.

•••

آه يا عزيزي لو رأيت كيف تختلط المعاني بأنفاس شفتيها، وكيف تقبل عليك ألفاظها وفيها من اللطف واللين والرقة وألوان النفس أكثر مما في خدي عذراء سافرة بين عشاقها لا يفارقها الحياء من الألحاظ ولا تفارقها الألحاظ، إنها لتُميت داء الصدر من الوساوس والشهوات إذا هي كلمتك بتلك اللغة القلبية التي تمحق حواسك محقًا إن كنت رجلًا كريم النفس، وإذا هي استسلمت بكلماتها إليك ولكن في حماية ضميرك، تُسمعك صوت ضعفها ملتجئًا إلى قوتك وكأنها تقول لك: إن نصف كلامي هو هذا والنصف الآخر هو ثقتي بشرفك.

في المرأة الجميلة أشياء كثيرة تقتل الرجل قتلًا وتخلِجه عن كل ما في دنياه كما تخلجه المنية عن الدنيا؛ وليس فيها شيء واحد ينقذه منها إذا أحبها، بل تأتيه الفتنة من كل ما يُعلن وما يضمر ومن كل ما يرى وما يسمع، ومن كل ما يريد وما لا يريد؛ وتأتيه كالريح لو جهد جُهده ما أمسك من مجراها ولا أرسل، ولكن في الرجل شيئًا ينقذ المرأة منه وإن هلك بحبها وإن هدمت عيناها من حافاته وجوانبه فيه الرجولة إذا كان شهمًا، وفيه الضمير إذا كان شريفًا، وفيه الدم إذا كان كريمًا، فوالذي نفسي بيده لا تعوذ المرأة بشيء من ذلك ساعة تُجن عواطفه وينفر طائر حلمه من صدره إلا عاذت والله بمعاذ يحميها ويعصمها ويمد على طهارتها جناح ملك من الملائكة.

الرجولة والضمير والدم الكريم: ثلاثة إذا اجتمعن في عاشق هلك بثلاث: بتسليط الحبيبة عليه وهو الهلاك الأصغر؛ ثم فتنته بها فتنة لا تهدأ وهو الهلاك الأوسط؛ ثم إنقاذها منه وهو الهلاك الأكبر … ألا إن شرف الهلاك خير من نذالة الحياة.

١  أي: ظننت بالغيب.
٢  أخوين من أب واحد.
٣  بين سطورها وحواشيها.
٤  أساغوا يقال: أوجرته الدواء إذا أكرهته على شربه.
٥  من أوله إلى تاليه إلى آخره.
٦  شدة الحيوانية فيها.
٧  لا يغلب فيرمى على الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤