الرسالة التاسعة

القلب الكريم المتألم
إن رسائلي إليك أيها العزيز لتنتزع مني دواعي هذا الصدر المحزون١ فإنها كفيضة الملآن،٢ ولكني أراها لا تذهب بهمٍ أستريح إليه، إلا رجعت بهم ألتوي عليه؛ وقد يكون بعض العزاء عن المصيبة تفننًا من المصيبة نفسها؛ كدمعة من يرثي لك من النكبة يجيئك بها تعزيةً ولها على نفسك الأبية غمز مؤلم قد يكون أشد من ابتسامة العدو الذي يشمت بك.

أكتب إليك في أحزاني اضطرارًا أيها الصديق فأنت الجسم الثاني لروحي وقد هدم ذلك الحب صورتي الأولى فسكنت منك لصورتي الثانية، وما أعجب رحمة الله؛ إذ تحيل كل هم في هذا الإنسان الضعيف إلى قوة تبعثه على التماس العطف والرقة من كل النواحي الإنسانية؛ كأن في النفس بجانب كل شيطان ملكًا إن لم يستطع تحويل الشر إلى خير أخرج منه نزعة من نزعات الخير.

واهًا لهذا القلب الذي أحمله فإنما هو عقل فيلسوف خُلق على شكل القلوب؛ فهو يأتيني من كل شيء بشيء غيره حتى تلك التي أحبها جاءني منها بهذه التي أبغضها وبقي مع ذلك يتفلسف في حبها … ولكنه قلب جليل سامي النزعة قار كالصبر مجتمع كالإيمان؛ يقول لكل حاسة أو عاطفة أرادت أن تتهضم فيَّ أو تستذل: يا سرحة الوادي لا يزال هناك جبل لا ينحني لعاصفتك.

قلب لا أدري أوهبني الله له أم وهبه لي فهو مثار الألم ومهبط الرحمة جميعًا، ولقد ورد في أثر من الآثار إن العبد إذا دعا لأنسان قد اشتد بلاؤه فقال: اللهم ارحمه؛ يقول الله: كيف أرحمه من شيء به أرحمه، وكيف يرحمني الله من هذا القلب وقد رحمني به في ذات نفسي؟

إنما علة البلاء من ناحيتنا نحن، ثم من هذه الجهة الفانية جهة الجسم الذي يستيقن أنه يعيش ليموت، وهو مع ذلك يقبل المقدمات وحدها ويحاول دائمًا أن يفر من نتائجها كأن النتيجة ليست في المقدمة والآخرة ليست في الأولى؛ أما تلك الناحية الخالدة ناحية الروح فهي كما قيل في شجرة الصندل: تعطر الفأس التي تضربها وتحطم فيها.

هذا القلب هو سر الجمال الإنساني؛ لأن فيه بركة النفس وزينتها وسكنها؛ فالبركة تنبت من الخلق الطيب والزينة تخرج من الفكر الجميل والسكن يثبت بالإيمان واليقين؛ وما جمال النفس الإنسانية إلا خُلُق وفكرة وفضيلة مؤمنة.

•••

ما زلت منذ وعيت كأنما أفرغ في قلبي هذا قلوب الناس بتوجعي لهم وحناني عليهم، وكأنما أعيش في هذه الأرض عيش من وضع رِجلًا في الدنيا ورِجلًا في الآخرة؛ أحفظ الله في خلقه؛ لأني أحفظ في نفسي الرحمة لهم وإن كان فيهم من يشبه في التلفف على دواهيه بابًا مقفلًا على مغارة مظلمة في ليل دامس … وأتَّقى طائلة قلوبهم،٣ وألبسهم على تفصيلهم قصارًا أو طوالًا كما خرجوا من شقي المقص المجتمعين من الليل والنهار تحت مسمار الشمس؛ وأُصدرهم من نفسي مصدرًا واحدًا؛ لأني أعلم أن ميزان الله الذي يشيل ويرجح بالخفيف والثقيل ليس في يدي فلا استخف ولا استثقل، وأعرف أن الفضيلة ليست شيئًا في نفسها، وإنما هي بالاعتبار فلا أدري إن كانت عند الله في فلان الذي يحقر الناس أو فلان الذي يحقره الناس، وليس من طبعي أن أتصفح على الخلق٤ فإن من وضع نفسه هذا الموضع هلك بالناس ولا يحيون به، وتعقدوا في صدره كما يتعقد الماء العذب بالغصص المؤلمة، ورموه بذنوبهم من حيث لا يمحص عنهم شيئًا،٥ وقد خلقهم من علمهم كيف يجيئون وكيف يذهبون؛ وما تقذف بطون الأمهات في هذه الأرض إلا تواريخ كتبت في الأزل كما قدر الله ولما قضاة فمن استقام فعلى الخط الذي امتد له، ومن زاغ فللدائرة التي انحرف به محيطها المائل من طرفيه إن سفل وإن علا.

لقد أقمت من نفسي لهذا الخلق جبلًا، وإن هذا الجبل ليتدحرج عليه الصخر الصلد ويلصق به الحصي المسنون، وينغرز فيه الشوك الدامي، وتنبت منه الفروع المرة وترسو بين أطباقه العروق الضاربة؛ ولكنه على ذلك جبل وهو بذلك أتم روعة ورهبة، ولكل شيء مما عددت معنى في نفسي، ولكلها مجتمعة وحدها معنى آخر، ولجميعها مبعثرة يتخطى المعنيين في الجبل معنى ثالث.

فما أضيق بالناس ولا أتبرم،٦ ولي أبدًا مع الضعفاء والأقوياء سفح ظليل مخضر وقمة عالية٧ متمردة؛ وإني على ما وصفت لأرى في أعماق هذا الطود الراسي بركانًا يتزلزل به كلما اضطرم جاحمه؛ ذائبًا في الأغوار البعيدة تمسكه الأرض إمساك العزيمة وتشد عليه شدة الصبر على أنه لجج من النار؛ فترى الطود الشامخ قائمًا على الأرض كأنه أرض مستقلة وفي جوفه ما يحطمه مما يمور ويضطرب،٨ وكأني إذ لا أحاسب الناس أحاسب نفسي بكل ذنوبهم إليَّ فأفجر عروق دمي عليهم، وكأن ذلك الكمال الإنساني الذي لا يزال بعيدًا عني يحاول أن يقتلعني من أساسي لأثب إليه في أقاصي علوه.

إن النملة من النمل لتخاف على قريتها من قدم الطفل الرضيع ما نخاف نحن على كرة الأرض من أكبر نجوم السماء متى خشينا أن يتنفس عليها فيرسلها زفرة في صدر الأبد، وكم بين قرية النمل وبين كرة الأرض؛ وأين وطأة الرضيع من صدمة النجم؟ ولكن كل شيء فإنما هو باعتباره في نفسه وباعتباره لنفسه؛ ألا وإن الزلزلة التي يضرب بها ذلك الجبل القائم من نفسي إنما هي رقة الحب.

•••

وإن تعجب فعجب ما ترى أن هذا القلب الإنساني لا يصبح هشيمة٩ في جنبي صاحبه يأخذ الناس منه ويدعون كيف شاءوا إلا إذا أنبت الله صاحبه المسكين من نبعة باسقة في مغرس طيب،١٠ وأخرجه في صيغة كريمة وأودع في أعصابه ميراثًا ساميًا من الدم، ولقد تجد هذا الرجل الكريم ملء ذكائه دهاء ونكرًا١١ ونفاذًا في أعضل الأمور ينقع في الحوادث فكره كما ينقع الثعبان نابه المسموم، وقد تجده في بدنه شديد الفحلة معصوبًا عصبًا كأنه من عضلاته في لفائف الحديد؛١٢ ولكنك تجد قلبه شيئًا غير هذا كله، لا يسرع إلا في هدمه ولا يتركه يدور كما يدور غيره على الخطوط والأضلاع الطويلة من زوايا الحياة، بل ينفذ به إلى الهموم من أقطارها على استقامة؛ فما أسرع ما يتهدم وتتقصف سِنُّه بعضها على بعض،١٣ وربما كان في الأربعين فلا ترى إلا أن العمر يخيط في ثوب همه بأربعين إبرة.

بهذا القلب رأيتني كلما كبرت صغرت الدنيا في عيني، وكلما تقدمت دانيت أطرافها العليا فأصبحت أشعر حقًّا أن هذا العمر إنما هو سلم إلى السماء لا إلى غيرها؛ ومن هذا القلب اعتادت بعض سفن الأقدار أن تجد فيه حلقة ثابتة متينة تشد إليها حبالها إذا هي أرست على شاطئ الدهر بأحمالها، فالناس يتناولون منها خِفَافا وثِقَالا، ولكن الحلقة المعذبة لا عمل لها إلا أن تهتز وترتج من الألم والشدة والعنف.

وفي هذا القلب أعرف موضع كل شيء إلا نفسي، فما أدري أهو من الضعة بحيث صارت فوق أن تنزل فيه، أم هو من السمو بحيث صار نفسًا وحدها؟

ولكنه على الحالين أشقاني بهذه النفس وطوح بي وبها في مهاوي الأحزان إلى قرار بعيد.

•••

في قلب كل إنسان معنى من الأزل؛ لأنه كان ذرة في يد الله، بيد أن هذه الذرة تمحق في بعض الناس أنواعًا من المحق، فتصيب الرجل وأنه لعظيم جليل، ولكنه في ميزان الله لا يعدل مثقال ذرة من حسنة من رجل حقير؛ وتربو في بعض الناس وتتنفخ فإذا هي في وزن الجبل الراسخ بأعضاده١٤ المترامي بنواحيه؛ فيا قلبي المسكين ما أنت منهما؟ لقد تعذبت بك طويلًا وتقلدت منك بليتي فما تغمز بعللك ونزعاتك إلا في صميم الروح غمزًا كوخز الإبر، ولا تضرب عروقي التي تستقي منك إلا على ألم تأتيني به؛ إذ كنت لا ترميني إلا بشر ما تجد من هموم الناس؛ وإذ ترى أن درس الشر والآلام إنما هو عنصر الفلسفة الأسمى، وإنما هو الفضيلة المنحلة لمن يريد أن يعلم ويرى كيف تتألف أجزاء الفضيلة في باطنها، فأنت تنتشط١٥ الحزن من كل شيء وتأتيني به لأتحزن وأتألم فألمس بالحزن والألم مصراعي باب السماء، وأنت تبسط على رواق المعاني المظلمة من الآلام والأحزان لأرى في ظلماتها أشعة روحي المضيئة بالإيمان والرضا.
رضيت يا قلبي المسكين أن تجتمع من حطامي المتناثرة وأن تكون سويًّا تامًّا، وأكون أنا الجسم الحيواني أشلاءً وبقايا؛١٦ فإني رأيت شر أهل الدنيا ذلك الذي هو أهنأهم بمتاعها حتى كأنه في شهواته ولذاته لم يجتمع إلا من حطام قلبه المتبدد، الشهوات واللذات تبني عالمًا والآلام والأحزان تبني عالمًا آخر، وهما يتجاوران كما يلتصق حائط الليل بحائط النهار؛ وأنت يا قلبي المتألم لا تشرف على العالم الأول إلا ما يشرف النظر العالي من البعيد البعيد؛ لأنك طود باذخ رسخت جذوره في العالم الثاني.
إن الإبرة الممغنطة١٧ التي تهدي السفن باتجاهها لهي القلب الذي تحمل فيه السفينة روح الأرض؛ والقلب الإنساني هو كتلك الإبرة غير أنه يحمل روح السماء، ولولا حاسة الاتجاه الإلهي فيه لتمزقت علينا جهات الأرض١٨ في أنفسنا فضللنا فيها وارتبكنا في فتوقها الواسعة حتى لا يهتدي إنسان إلى الجهة الإنسانية، ولكنا نتغافل عن هذه الحاسة فيه، وترى أكثر الناس لا يقبلون بأنفسهم إلا على جهة أجسامهم ويطوي أحدهم الدهر الفسيح من عمره وما ارتفع قليلًا ولا كثيرًا، بل يكون كالطير في قفصه يتخبط بين أرض وسماء، وما بين سمائه وأرضه إلا علو ذراع … وإن أشد ما كانت الحياة وأشد ما هي كائنة على من لا يجد لذة قلبه فيها؛ وأصعب ما تكون الإنسانية على من يعظم بحيوانيته وحسب؛١٩ فتراه وكأن مئة حمار ركبت منه في حمار واحد ولكنه حمار عظيم …

وما رأيت قلبي يلتمس لذة من بعد إيمانه إلا في ثلاث: الفكر الإنساني الذي يهبط في أدمغة الفلاسفة والشعراء من أعلى السموات أو ينبع من أغوار النفس؛ والفكر الطبيعي الذي يملأ السماء والأرض نورًا وألوانًا وجمالًا؛ والفكر الروحي الذي يتلألأ لخيالي في عيني الحبيبة الجميلة.

١  أسباب الضجر ونحوها.
٢  الملآن: يفيض فيخف ما به.
٣  كناية عن الحسد ونحوه.
٤  تصفح على الناس التمس عيوبهم وفتش عنها.
٥  محص الذنب بالتوبة محاه.
٦  اتضجر وبرم بالشيء (بكسر الراء) وتبرم.
٧  السفح من معانيه أسفل الجبل.
٨  يسيل ويغلي.
٩  مهشومًا محطمًا وفلان هشيمة الناس وهشيمة كرم يأخذه الناس كيف يشاءون لانطباعه على الكرم والسهولة.
١٠  المراد بكل ذلك كرم الأصل.
١١  أي: سياسة ومكرًا.
١٢  الفحلة هيئة الفحولة وقوتها في الرجل.
١٣  تمر أيامه مسرعة.
١٤  التلال المحيطة به.
١٥  تختطف.
١٦  الأشلاء: الأجزاء المقطعة.
١٧  البوصلة.
١٨  كناية عن الشهوات الحيوانية.
١٩  أي: فقط، وقد عم استعمال هذه الكلمة وكنا أول من استخرجها وأذاعها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤