الرسالة الثانية

لقد هولت عليَّ في كتابك حتى أخرجتني عن غيظي إلى غيظ آخر، تقول: «ويحك أراك أخرجت القمر من دراته وجئت به على أعين الناس؛ وإلا فمن تلك التي لمست الفلك الأعلى حين لمست قلبها فكأنما اجترأت على القدر فيها حلف ليتيحنك فتنة١ تدعك وما يلوي منك شيء على شيء، ومن عساها تكون هذه التي ليس فيها إلا ما في الطاووس الميت من ريشه الجميل، وهي مع ذلك رضاك٢ في الحب وفي البغض سواء»، ثم تقول: «ولعلها رفعتك إلى الشمس والقمر والنجوم؛ لأنهم عشيرتها وأهلها … فأنت تخاطبني في رسالتك الأولى وكأنك مرتفق٣ تحت جناح جبريل أو متكئ على بساط الريح، فتصف ما لا عهد لنا به من كلام مفوف كأنه غرف الجنة تفويفها لبنة من ذهب وأخرى من فضة، وتفويف كلامك جملة من الحب وجملة من البغض، وتنعت غرامًا كأنما فُصِّل لك ثوبه من سحابة يمر فيها مقراض البرق، ففي كل ناحية منه فتق من النار»، وتسألني: كيف أجعل نفسي كالميت فلا أكتب إليك إلا يوم تحين الوصية … ولا أخبرك إلا وقد حلَّت عقدة القلبين وانفسخت ألفة ما بينهما؟

•••

فيا ويحك ألا تعلم أن مرجل الباخرة حين ينقلب ماؤه لهبًا أبيض فوق اللهب الأحمر؛ ينفث نفثة المارد الممدود بسلاسله في قاع الجحيم، فيرمي بسهام من الذر المحرق لو كان في جهنم رهجٌ يثور لما كان إلا دقاق ترابها،٤ أم تراك لم تدرك من رسالتي أني أسع من بغض من أحببت فوق ما يملأني، و،ن هذا البغض وجه آخر من الحب كالجرح ظاهره له ألم وباطنه له ألم، وما يمسه من ظاهره غير ما ينكت فيه من باطنه، أم حسبت أني أزين لك صور الكلام وأزخرفها بألوان لا تلتمس إلا لرونقها وانسجامها وحسن تآلفها فمنها الأسود؛ لأنه أسود، ومنها الأحمر؛ لأنه أحمر، ومنها لون قلبها؛ لأنه لون قلبها …؟
كلا ثم كلا فلا تَنَهَدَّم عليَّ٥ بمثل ما كتبت، واعلم أنه هو ما وصفت لك، وأن السحابة التي تراها تدمع حينًا لا يبعد أن تراها قد تلففت على صاعقتها ثم اجتمعت أرحاؤها وبواسقها٦ ثم ارتجت ثم … تنفجر.

ولم أكتب إليك من قبل؛ لأني أحب بلا غاية أباهيك بها، ولا غرض أستعينك عليه، ولا سر أستودعك إياه، وهل رأيت الحب ينكشف إلا في واحدة من هذه الثلاث، وهل انكشف قط إلا تتابعت عليه أمور وأمور، وامتلأت منه الأنفس بالظنون والغفلات؟

لقد أحببت فتاة كأنها قصيدة غزلية في ديوان شعر لا خطبة سياسية في حفلة … فما ثَمَّ إلا معنى دقيق لطيف خلاب ساحر؛ كل قولي له: أريد أن أفهمك قوله لي تأمل تفهم.

إن ألذ المعاني في هذا الجمال ما جعل ينبو في يديك كلما ألقيتهما عليه كيلا تستمكن منه؛ ففي كل نَبْوَة يظهر لك منه جانب وأنت معه في ارتفاع وانخفاض أبدًا، ولا تزال تجري ويجري، أما أنت فتشتد جهدًا في سبيله، وأما هو ففي سبيل منبعه من الجمال الأعلى الذي أفاضه موجة منه، فكأنك ذاهب إلى الجنة حيًّا، لا يمر بك إلا في روح، وريحان على طريق من لذة النفس لا تنتهي؛ إذ هي من حيث لا نعرف إلى حيث لا نعرف، وتغدو كأنك في تلك اللذات الروحية طفل لا يكل ما دام في عمر الحب، والحب الروحي الصحيح إنما هو كالطفولة لا تعرف وجه الفتى إلا شبيهًا بوجه الفتاة فليس فيه تذكير وتأنيث، بل حالة متشابهة كاخضرار الشجر تبعث عليها الحياة حين لا يجيء الحسن فيها إلا من جهة القلب، وما أرى الشجرة حين تخضر إلا قد نبتت فيها كلمة من قدرة الله ذات حروف كثيرة؛ ولا الزهرة حين تتعطر إلا قد لاح في جمالها معنى بديع من حكمة الكلمة الإلهية، ولا الإنسان حين يعشق عشقًا صحيحًا كما تروح الشجرة وتنفطر،٧ إلا قد صار قلبه كتابًا من تلك الحكمة النقية الجميلة المعطرة.
كذلك يكون هذا الحب عند الذين خُلقوا للشعر والحكمة إذا هم اتصلوا به فإنه لا يهبط إليهم من السماء إلا ليملأ أوعيتهم؛ وفي هؤلاء خاصة يكون الحب الإنساني هو السَّرَب٨ الذي يتخذونه سبيلهم إلى غور ما٩ في الأمواج الإلهية العظمى التي لا تنتهي أعماقها؛ فيغوصون ويخرجون وفي أيديهم أفلاذ الحكمة ولآلئها؛ ومن شفتي المرأة الجميلتين يخرجون للناس كلام السموات.
أما الآخرون … فتلك عقول كادها بارئها.١٠
عقول الناموس الأصغر العامل في حرث الأرض ١١… يضم أحدهم يديه على الجمال فيتلقفه فيجعل أصابعه أعواد القفص لهذا الطائر ويقول له: لطالما التمستك في جو السموات، وطالما كنت وكنت فهاهنا فاستقر، ولا يراه بعد قليل إلا كما اغترف غرفة من الموجة؛ كانت حركة تفور فأصبحت سكونًا هامدًا، وكانت ملء البحر فصارت ملء الكف، وكانت موجة فصارت … آه فصارت بصقة …

•••

أقول لك أحببتها لا كهذا الحب الذي تراه وتسمع به في رواية تبتدئ وتنتهي في جزأين من رجل وامرأة؛ ولا كالحب الذي يؤلفه الكُتاب والشعراء حين يجمعون عشرين معنى في كلمة، أو يرسلون عشرين كلمة لمعنى … ولا كالحب الذي يُباع ويُشرى فتأخذ منه بالدينار أكثر مما تأخذ بالدرهم … ولا كالذي تجيئه وأنت من الإشراق والنور كزجاجة الخمر فيعيدك وأنت من الظلمة والسواد كزجاجة الحبر … أحببتها ولا كالحب نفسه، منذا الذي قال: «من يُهلك نفسه من أجلي يجدها»؟ أظنه المسيح، وقد كانت هي تتمثل بها كثيرًا؛١٢ ولكن هذه الكلمة بعد كلمة الحياة الأزلية التي تقول للناس حين يشكون فيها: موتوا لتعرفوا، كلمة الجمال الأعلى الذي يقول للشمس حين تصفر: أغربي لتُصبحي بيضاء حية في النهار، كلمة الحب الصحيح الذي يقول للمبتلى به: تعذب لتعرف كيف تتخيل السعادة وتتمناها، كذلك تراني لا أحب إلا لثلاث: لأعرف وأحس وأتخيَّل؛ ولا أهلك بالحب إلا لثلاث: لأوجد في نفسي وأبقى في نفسي وأضم نفسًا إلى نفسي.

•••

أفهمت أيها الصديق أم أزيدك؟ هأنا أهبط عليك من الفلك الذي تقول إني لمسته حين لمست قلبها، فاعلم أني لا أحب فيها شيئًا معينًا أستطيع أن أشير إليه بهذا أو هذه أو ذلك أو تلك؛ حتى ولا «بهؤلاء» كلها … إنما أحبها؛ لأنها هي هي كما هي هي، فإن في كل عاشق معنى مجهولًا لا يحده علم ولا تصفه معرفة، وهو كالمصباح المنطفئ ينتظر من يضيئه ليضيء فلا ينقصه إلا من فيه قدحة النور١٣ أو شرارة النار، وفي كل امرأة جميلة واحدة من هذين، ولكن الشأن في تحرك القلب حتى يدني مصباحه لتعلق به الشعلة فيتقد وما يحركه لذلك إلا القدر، وما أحكم الناس؛ إذ يقولون في بعض حوادث الحريق أنها «وقعت قضاء وقدرًا» فكل حريق القلوب لا يقع إلا هكذا …
ومتى قدحت الجميلة على قلب رجل أضاءته فيضيئها نوره بأمان من الحسن لا يراها ولا يدركها، ولا يصدق بها إلا صاحب هذا القلب، فلو أن الشمس دامت تصب أشعتها على طلعة هذه المرأة ألف سنة تحياها جميلة شابة لا تضعف ولا ترق سنها١٤ لما كشفت لأعين الناس شيئًا من تلك المعاني السحرية التي يكشفها ضوء قلب عاشقها لعينيه؛ وما ضوء قلبه إلا منها فلن تكون فيه إلا ما أحبت أن تكون فيه.
بيد أن مصائب المحبين إنما تأتي من انقلاب المصباح فيستطير حريقًا لا ضوءًا، وترى النار تعتلج في القلب وذؤابتها تتلوَّى في الرأس ويُصبح العاشق مُرَنَّحًا،١٥ بما اعتراه من الوهن والضعف كأنه في جملته وفيما لبسه من الهم والسواد ما تراه من بقية بيت محروق.

•••

رأيتها مرة في مرآتها وكانت قد وقفت إليها تسوي خصلة من شعرها الأسود الفاحم المتدلي عناقيد عناقيد، ولم يكن بها ذلك كما علمت بعد؛ وإنما أرادت أن تطيل نظرها فيَّ من حيث لا أستطيع أن أقول إنها هي التي تنظر؛ فإن ذلك الذي ينظر كان خيالها … فلما انتصبت إلى المرآة خيل إليَّ أني أرى ملكًا من الملائكة قد تمثل في هيئتها وأقبل يمشي في سحابة قائمة من الضوء؛ أو أن يد الله في لمح النظرة قد رسمت هذا الجمال على تلك الصحيفة يتموج في ألوانه الزاهية؛ أو هي قد أرادت أن تبعث إليَّ بكتاب يحتويها كلها، ولا يكون في يدي منه شيء فأرتني مرآتها.

ألا فاعلم أن هذه التي في المرأة، وهذه التي أمام المرأة، وهذه التي هي في قلبي؛ ثلاثة في واحدة، لو هممتُ أن أضع يدي عليها فرت من يدي لتختبئ في مرآتها، وتفر من المرآة لتختبئ في قلبي، فكأنما كنت أعشق مخلوقة من مخلوقات الأحلام لا تُدرك بجميع أجزائها، وإذا أُدركت بقيت وهمًا لا تناله يد، وهي كالملائكة قادرة على التشكل إلا أنها تتشكل في الذهن فبينا تراها شخصًا جميلًا إذا هي فكرة جميلة تتعطف عليها حواشي النفس، وبذلك تستطيع أن تشعرني أنها فيَّ، وإن كان بيننا من الهجر بُعد المشرقين؛ وأن تنزل بالسلام على قلبي وإن كانت هي نفسها الحرب؛ وأن تجعلني أحبها وإن كان بغضها يأكل من جوانحي.

تراها مع أي أحوالها كالسعادة تخيلها هو هي.

ولولا ذلك ما احتملت غضبها وإن لها لغضبًا تجمح فيه فتملأ جو النفس بمثل الغبار الذي يثيره الجواد الكريم إذا انجرد للسبق وترك أعناق الخيل تتقطع عليه ولا تلحقه، فتراه يغضب ويتميز ويحاول أن يسبق جلده، وأن يخطف أرض الله كلها في حوافره، تغضب على أسلوب من هذا الطراز أو من طراز البحر الزاخر حين ينقلع في أيدي الأعاصير، أو من طراز الأرض حين تتخلع في أيدي الزلازل، وأحيانًا من الطراز الرقيق حين تتجاهل في غضبها محبًّا هي بعض تاريخه فتدعه يشعر أن فيه مكانًا مجهولًا، وأن من قلبه قطعة منزوعة، ومرة من الطراز العسير حين تلوي وتعقد حتى تتركني وكأني ما أجد في الدنيا مكانًا هي فيه.

وكل هذه الأساليب شروح وتفاسير؛ أما المعنى الذي تدور عليه فهو هذا: داء الحب نقدًا والدواء عند السين وسوف … عند هذه الجميلة التي هي أكذب ما في الصدق عند محبها، وأصدق ما في الكذب على محبها.

١  ليقدرن لك فتنة.
٢  أي: كافيتك.
٣  مستند إلى مرفقة.
٤  الغبار الدقيق، والرهج والغبار واحد.
٥  تهجم.
٦  أعاليها وأسافلها.
٧  أي: على هذا الأسلوب الطبيعي الذي لا صنعة فيه حين ينفطر الشجر ويخرج أوراقه.
٨  الطريق تحت الماء.
٩  الغور العمق.
١٠  أرادها بسوء.
١١  في القرآن الكريم نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ وهو مجاز على التشبيه لا نظير لبلاغته يفهم معاني كثيرة فافهم …
١٢  فتاة هذه الرسائل سورية مسيحية تعرف إليها الصديق في لبنان، ثم قدمت إلى مصر أشهرًا فاتصل بها ثم ضرب الدهر بينهما، وسافرت إلى حيث لا يدري بعد أن سافرت من قلبه.
١٣  الشعلة من النور.
١٤  كناية عن الهرم.
١٥  متساقطًا من الضعف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤