الفصل السادس عشر

كانت الغرفة التي دخلها ثلاثتُهم مكتب المراقب.

وقال لهم الساقي «ﺟ»: «سوف يأتيكم سيادتُه بعد لحظة.» وتركَهم وحدَهم وانصرف.

فضحك هلمهلتز ضحكةً عالية وقال: «إن هذا الاجتماع أشبه بحفلة محلولِ الكافيين منه بالمحاكمة.» واستوى على أفخر كرسيٍّ هوائي، ثم قال: «تشجع يا برنارد» وقد وقَعَ بصرُه على وجه صاحبه الأخضر التعس، غير أن برنارد لم يتشجع، ولم يحر جوابًا، بل ولم يلتفت إلى هلمهلتز، بل سار نحو أسوأ الكراسي في الغرفة وجلس عليه، وقد عني بانتقائه وعنده أمل غامض أنه بذلك يفت — على صورةٍ ما — من حدة غضَبِ السلطات العليا.

وأخذ الهمجي في غضون ذلك يجوس خلال الغرفة قلِقًا، وتطلع بشغفٍ سطحيٍّ غامض إلى الكتب في الرفوف، وإلى صحائف الآثار الصوتية، وإلى أُسطوانات آلات القراءة، وقد وضعت كل منها في عين مرقومة، وكان على المنضدة تحت النافذة مجلدٌ ضخم مغلف بجلدٍ بديع أسود طري، ومختوم بحرف T المذهب الكبير، فالتقط الكتاب وفتحه، «حياتي وعملي لمؤلفه فورد»، وقد نشرت الكتاب في دتروا جمعية نشر المعارف الفوردية، وتصفَّح الكتاب ببطءٍ شديد، وقرأ عبارة هنا وفقرة هناك، وأوشك أن يقرر أن الكتاب لا يشُوقه، وعندئذٍ فُتح الباب، ودبَّ في الغرفة المراقب العالمي المقيم لغرب أوروبا.

وصافح مصطفى مند ثلاثتهم، ولكنه وجه الخطاب إلى الهمجي قائلًا: «إذن أنت لا تغرم بالمدنية أيها الهمجي.»

فالتفت إليه الهمجي، وكان قد تأهَّبَ للكذب والهياج، ولأن يلزم الصمت في اكتئاب، غير أنه آثَرَ الصدقَ والصَّراحة، لما اطمأنت نفسه إلى الذَّكاءِ وروح الفكاهة الباديين في وجهِ المراقب، فهز رأسه قائلًا: «كلا!»

فذعر برنارد وأصابه الفَزَع، ماذا يظن المراقب؟ وأزعجه أن تنسب إليه صداقة رجل قال إنه لا يحب المدنية — وقد صرَّحَ بذلك إلى المراقب دونَ الناسِ أجمعين! وبدأ يقول: «ولكن يا جون …» غير أن نظرة من مصطفى مند أعادتْه إلى الصمتِ والهوانِ.

واستمر الهمجي في اعترافاته قائلًا: «هناكَ بالطبع أشياء جميلة جدًّا، فتلك الموسيقى التي تملأ الجوَّ مثلًا …»

– «فأحيانًا تطن في أذني آلاف الآلات الرنانةِ، وأحيانًا أخرى ترنُّ فيهما الأصوات.»

وتهلل وجه الهمجي بشرًا وسرورًا، وسأل قائلًا: «هل قرأته كذلك؟ كنت أحسبُ أن هذا الكتاب لم يعرفه أحد في إنجلترا.»

فأجابه بقوله: «يكاد لا يعرفه أحدٌ، وأنا أحد القلائل الذين يعلمون به، إنه محظور، ولكن بما أني أسن القوانين هنا فأنا أستطيع كذلك أن أخرِقَها، وذلك بغير عقوبة يا مستر ماركس.» والتفت إلى برنارد وقالَ له: «وهذا ما لا تستطيعه أنت.»

فازداد برنارد شقاء وبأسًا.

وسأل الهمجي قائلًا: «ولكن لماذا تحظرونه.» وقد ثارت أعصابه؛ لأنه لاقى رجلًا قرأ شيكسبير، فنسى في تلك الآونة كل أمر آخر.

وهز المراقب كتفيه وقال: «لأنَّه قديم، وذلك هو السببُ الرئيسي، إننا هنا لا ننتفعُ بالأشياء القديمة.»

– «حتى إن كانت جميلة؟»

– «وبخاصَّةٍ إن كانت جميلة، فالجمالُ جذَّاب، ونحن لا نحبُّ أن ينجذب الناس إلى الأشياء القديمة، إنما نريدهم أن يحبوا الأشياء الجديدة.»

«لكن الأشياء الجديدة مملَّةٌ مزعجة، كتلك المسرحيات التي لا ترى فيها سوى الطائرات المحلقة، والتي «تحس» فيها بقبلات الناس.» وقطب جبينه عابسًا ثم قال: «أولئك قردةٌ وماعز!» ولم يجد وسيلةً كافية للتعبير عن كراهيته وازدرائه، غير هذه الألفاظ التي تفوه بها عطيل.

فتمتم المراقب مقاطعًا إياه وقال: «هي على أيةِ حالٍ حيواناتٌ أليفة جميلة.»

– «لماذا لا يشهدون «عطيلًا» بدلًا من ذلك؟»

– «قلت لك إنها قديمة، وهم — فوق ذلك — لا يفقهونها.»

نعم ذلك حق، وتذكر كيف كان هلمهلتز يسخَر من «روميو وجوليت»، وسكت فترة ثم قال: «إذن فليشاهدوا شيئًا جديدًا يشبه عطيلًا، ويستطيعون إدراكَه.»

فرد عليه هلمهلتز وقد شقَّ بقوله صمتًا طالَ أمدُه، قال: «هذا ما أردنا جميعًا أن نكتُب.»

وقال المراقب: «وهذا لن تكتبوه قط؛ لأنه لو كان فِعلًا شبيهًا بعطيل، فلن يفقهَه أحد مهما يكنْ جديدًا، ولو كان جديدًا فلا يمكنُ أن يشبه عطيلًا.»

فقال هلمهلتز: «لماذا؟ نعم لماذا؟» وقد نسِيَ هو أيضًا حقيقة الموقف التي لا تسر، ولم يذكرها غير برنارد وقد اخضرَّ وجهه من القلق والخوف، وتجاهله الآخرون وكرروا سؤالهم: لماذا؟

«لأن عالمنا يختلف عن عالم عطيل، إنك لا تستطيع أن تصنعَ السيارات الشعبية بغير صلب — ولن تستطيع أن تكتب المآسيَ بغير قلق اجتماعي، إن العالم اليوم مستقر، والناس سعداء، يظفرون بما يريدون، ولا يريدون قط ما لا يستطيعون الظفر به، إنهم أغنياء، آمنون، لا يمرضون قط ولا يخشون الموت، ينعَمون بجهلهم العواطفَ والشيخوخة، لا يُرزَءُون بالأمهات والآباء، ليست لهم زوجات ولا أطفال ولا عاشقون يحبونهم حبًّا جمًّا، وقد تكيَّفوا بحيث لا يسعهم فعلًا إلا أن يسلكوا كما ينبغي لهم أن يفعلوا، وإذا ساء أمرٌ من الأمور فهناك السوما التي قَذَفْت بها من النافذة باسم الحرية أيها الهمجي.» ثم ضحِك وقال: «نعم الحرية! لقد كنت تحسب أن الدالات تعرف ما هي! والآن تريدهم أن يفقهوا «عطيلًا» يا بني العزيز؟!»

وصمت الهمجي برهةً وأصرَّ على عناده، وقال: «ولكن «عطيلًا» — برغم ذلك — مسرحيةٌ جميلة، إنها خير من تلك الصور المحسة.»

فوافقه المراقب قائلًا: «بالطبع هي كذلك، ولكن ذلك هو الثمن الذي ندفعه في سبيل الاستقرار، ليس أمامك إلا أن تختارَ أحد أمرين: إما السعادة، وإما ما تعود الناس أن يسموه الفن الرفيع، ولقد ضحينا بالفن الرفيع، وعندنا بدلًا منه الصُّور المحسة وأرغن العطور.»

– «ولكنهما لا يعنيان شيئًا.»

– «إنهما يعنيان نفسهما، ويعنيان للمستمعين كثيرًا من الإحساساتِ المستحبَّة.»

– «ولكن الذي يرويهما أبله.»

فضحك المراقبُ وقال: «إنك لم تتأدَّبْ لصديقك يا مستر واطسن، إن أحد مهندسي العواطف البارزين عندنا …»

فقال هلمهلتز مكتئبًا: «لكنه مصيب، إنك إن أردت تكتب، وليس لديك ما تقول …»

– «بالضبط، ولكن ذلك يقتضي أشدَّ العبقريات نبوغًا، إنك تصنع الطائرات الشعبية بأدنى حد من الصلب — والقطع الفنية من لا شيءَ البتة سوى مجرد الإحساس.»

فهز الهمجي رأسه وقال: «إن ذلك كله يبدو لي غايةً في الشناعة.»

– «إنه بالطبع يبدو لك كذلك؛ لأن السعادةَ الحقيقية تبدو قذرةً، إذا قورنت بمضاعفة التعويض عن الشقاء، وليس الاستقرارُ بالطبع براقًا كعدم الاستقرار، وليس في القناعة ما يبهر العين مثل النضالِ الشديد في وجه الكوارث، وليس فيها ما يخطف البصر مثل مكافحةِ الإغراء، أو الهزيمة القاضية أمام الشك والعاطفة، إن السعادة لا تكون عظيمةً إطلاقًا.»

فصمت الهمجي برهةً ثم قال: «أظن ذلك، ولكن لا بدَّ أن تبلغ من السوء مبلغَ هؤلاء التوائم.» ثم فرك يدَه فوق عينيه كأنه يحاول أن يزيلَ ذكرى صورةِ تلك الصفوف الطويلة من الأقزام المتشابهة، عند المناضِد المحتشدة، تلك القطعان من التوائم المتتابعة واحدًا بعد الآخَر، عند مدخل محطة برنتفورد للقطار الذي يسير على قضيبٍ واحد، تلك الديدان البشرية المحتشدة حول فراشِ موت لندا، ذلك الوجه المتكرر إلى ما لا نهايةَ من المعتدين عليه، ونظر إلى يسراه المضمدة فارتعدَ وقال: «هذا مريع!»

«لكنه نافع! إني ألاحظ أنك لا تحبُّ مجموعات بوكانوفسكي التي عندنا، لكن أؤكد لك أنها الأساس الذي يقوم عليه كل شيء آخر، هي الميزان الذي يعمل على استقرار طائرة الدولة الصاروخية ويُسيِّرُها في طريقٍ مستقيمٍ.» هذا ما أجاب به مصطفى مند بصوتِه العميق المذبذب الأجشِّ، وهو يلوح بيده ممثلًا بها الفضاء الذي تمخرُ عبابَه الطائرةُ وقوة اندفاعها التي لا تقاوم، وكادت فصاحتُه أن تبلغ حدود الفصاحة الصناعية.

فقال الهمجي: «كنت أتعجَّبُ لماذا تبقون عليهم بعد ما رأيت أنكم تستطيعون الحصول على ما تشاءون من تلك القوارير، لماذا لا تصنعون الناس جميعًا من طراز «أ» وهم في دور التكوين؟»

فضحك مصطفى مند وأجاب بقوله: «لأننا لا نحب أن تحزَّ رقابنا، نحن نعتقد في السعادة والاستقرار، وإذا كان المجتمع بأسره من طراز «أ» فلا يسعه إلا أن يكون عديم الاستقرار شقيًّا، تصور مصنعًا كل عماله من «أ» — أي من أفراد منفصلين لا صلةَ بين أحدهم والآخر، من سلالةٍ طيبة، وقد تكيفوا على القدرة (في حدودٍ معينة) على الاختيار وعلى الاضطلاع بالتَّبِعات، تصور ذلك!»

وحاول الهمجي أن يتصور، لكنه لم يفلح كلَّ الفلاح.

فقال المراقب: «إنه عبث باطل، إن الرجل إذا أفرغ من القارورة على أنه من «أ»، وإذا تكيف على طراز «أ» يجن إذا أرغم على أداء عمل «ﻫ» من أنصاف المعتُوهين، إما أن يجن أو يشرع في تحطيم الأدوات، إن (الألفات) يمكن أن ينسجموا مع المجتمع كلَّ الانسجام — ولكن على شريطة أن يقوموا بعمل «أ»، ولا يقوم بتضحيات «ﻫ» إلا رجل من طراز «ﻫ»؛ وذلك لسببٍ معقول وهو أنه لا يرى أنها تضحيات، إنما هو العملُ الذي يتطلب منه أيسر مجهود، لقد مدَّ له تكييفه قضبانًا يسير عليها، ولا يسعُه إلا أن يتبعها، فقد قُضي بذلك عليه، إنه حتى بعد التفريغ يبقى كأنه بداخل القارورة — قارورة لا تراها العين من مقتضيات الأطفال والأجنة»، وفكر المراقب قليلًا ثم قال: «إن كلًّا منا بالطبع يسير في حياته، وكأنه بداخل قارورة، فإن كان من «أ» فإن القارورة تكون ضخمة نسبيًّا، فيعاني ألمًا ممضًّا إذا هو انحصر في حيِّزٍ ضيق، إنك لا تستطيع أن تصب الشمبانيا الجديدة للطبقات العليا في قوارير الطبقات السفلى، وهذا جليٌّ من الناحية النظرية، وقد ثبتت صحته كذلك من الناحية العملية الواقعية، وقد كانت نتيجة تجربة قبرص جد مقنعة.»

فسأله الهمجي: «وما تلك؟»

فابتسم مصطفى مند وقال: «تستطيع إن شئت أن تسميها تجربة في إعادة الحفظِ في القوارير، وكان بدؤها في عام ٤٧٣ بعد فورد، في ذلك التاريخ أبعد المراقبون عن قبرص كل سكانها الأحياء، وأعادوا تعميرها بطائفةٍ من اثنين وعشرين ألفًا من طراز «أ» أعدوا إعدادًا خاصًّا، وسلمت لهم كل المعدات الزراعية والصناعية، وتركوا لإدارة شئونهم بأنسهم، فحققت النتيجة كل النبوءَات النظرية بتمامها، فلم تفلح الأرض فلاحةً صحيحة، وعم الإضرابُ جميعَ المصانع، ولم تراع القوانين وعصيت الأوامر، وأخذ كل امرئ خُص بعمل وضيع يدبر الدسائس بغير انقطاع؛ كي يصل إلى الوظائف العليا، ولم يفتأ أصحاب الوظائف العليا يدبرون الدسائس المضادة مهما كلَّفَهم ذلك كي يبقوا في مراكزهم، فاشتعلتْ بينهم في أقلَّ من ست سنوات حربٌ أهلية من الدرجة الأولى، وبعدما فني تسعة عشر من اثنين وعشرين ألفًا، تقدم الأحياء الباقون إلى المراقبين العالميين بطلبٍ اجتماعي يلتمسون منهم استئناف حكم الجزيرة، فلبَّى المراقبون الطلب، وكانت تلك نهاية جماعة (الألفات) الوحيدة التي شهدَها العالم.»

فتنهد الهمجي تنهُّدًا عميقًا.

ثم قال مصطفى مند: «إن السكان الملائمين يُصاغون على نسقِ الجبل الجليدي — تسعة أعشار تحت سطح الماء، والعشر فوقه.»

– «وهل هم سعداء تحتَ سطح الماء؟»

– «أسعد منهم فوقه، أسعد من أصدقائك الذين تراهم هُنا مثلًا.» وقد أشارَ إليهم.

– «برغم ذلك العمل المريع؟»

– «مريع؟ إنهم لا يجدونَه كذلك، بل إنهم — على العكس من ذلك — لَيُحبُّونه، إنه خفيف، وسهل كعمل الأطفال، لا يجهد العقل أو العضل، سبع ساعات ونصف في عملٍ خفيف لا ينهك، يعقبها مقرر السوما والألعاب والتناكح بغير قيدٍ ودور الصور المحسوسة، ماذا يريدون أكثرَ من ذلك؟» ثم قال: «نعم إنهم قد يطلبون ساعاتٍ أقل، ونستطيع بالطبع أن نعطيهم ذلك، ومن اليسير جدًّا — من الناحية الفنية — أن نقلل ساعات العمل لجميع أبناء الطبقات الدنيا إلى ثلاثة أو أربعة كل يوم، ولكن هل تزيد بذلك سعادتهم؟ كلا. وقد أجريت التجربة منذ أكثر من قرن ونصف، فإن كل سكان أيرلنده كانوا يعملون أربعَ ساعاتٍ في اليوم الواحد، فماذا كانت النتيجة؟ القلق وزيادة استهلاك السوما زيادة عظمى، ذلك ما حدَث، وكانت الساعاتُ الثلاث والنصف التي انضمت إلى أوقات الفراغ أبعد من أن تكون مصدرًا للسعادة، حتى وجد الناس أنفسهم مضطرين إلى الاستئجازِ منها، ومكتب المخترعات مفعَم بالخططِ التي يمكن أن تتبعَ لتوفير العمل، وهناك الألوفُ منها.» وأشارَ مصطفى مند بيدِه إشارةً عنيفةً ثم قال: «ولماذا لا نضعُها موضعَ التنفيذ؟ من أجلِ العمالِ أنفسِهم، فإن أصابَتْهم بزيادة الفراغ قسوةً شديدة، وكذلك الأمر في الزراعة، إننا نستطيع أن نصنعَ كل لقمة من الطعام إن أردنا، ولكنَّا لا نفعلُ، فنحنُ نؤثر أن نُبقي ثلث السكان في الأرض، وذلك لمصلحتهم؛ لأن استخراج الطعام من الأرض يستغرق وقتًا أطول من استخراجه في المصنع، ثم عندنا فوق ذلك الاستقرار الذي لا بدَّ لنا من مراعاته، إننا لا نحب التغيير، فإن كلَّ تغيير يهدد الاستقرار، وذلك سببٌ آخرُ يحفِّزُنا على الحرص عند تطبيق المخترعات الحديثة، فإن كل اكتشاف جديد في العلوم البَحتةِ يحتمل أن يكون هدامًا، فالعلم نفسُه لا بد أن يُعالج أحيانًا على أنه قد يكون عدوًّا للناس، نعم حتى العلم.»

– «العلم؟» هنا قطَّبَ الهمجي جبينَه، فقد كان يعرفُ هذه الكلمة، ولكنه لم يعرف مدلولَها بالضبط، إن شيكسبير وشيوخ القرية لم يذكروا العلمَ قط، ولم يفهم من لندا سوى إشارات عنه غامضة: العلم شيءٌ تصنع منه الطائرات، شيء يُضحكُ المرء في رقصات الحنطة، شيء يحفظك من التعفُّنِ ومن فقدان الأسنان — وبذلَ جهد اليائس كي يدركَ ما رمى إليه المراقب.

وكان مصطفى مند يقولُ: «نعم ذلك شرطٌ آخر من شروطِ الاستقرار، ليس الفن وحده هو الذي لا يتفق والسعادة، إنما العلم كذلك، إنه خطرٌ، ولا بد لنا من سَلسلته وتكميمِه بحرصٍ شديد.»

فقال هلمهلتز في دهشةٍ شديدة: «ماذا؟ ولكنا نقولُ دائمًا إن العلمَ هو كل شيء، وتلك حقيقة إيحائية معروفة.»

فقال برنارد: «ثلاث مراتٍ كل أسبوع فيما بين الثالثة عشرة والسابعة عشرة.»

– «وكل تلك الدعاية التي ندعُوها للعلمِ في الكلية …»

فسأله مصطفى مند متهكِّمًا، قال: «نعم، ولكن أي نوع من أنواع العلم؟ إنك لم تدربْ تدريبًا علميًّا؛ لذلك فأنت لا تستطيعُ أن تحكم، لقد كنت عالمًا طبيعيًّا مجيدًا في زماني، كنت مجيدًا إلى حد أني أدركت أن علمنا كلَّه ليس إلا بمثابة كتابٍ في الطهي يحتوي على نظرية تقليدية في الطهي ليسَ لأحدٍ أن يُناقشها، وعلى قائمة من الأوصاف التي لا يجوزُ الإضافة عليها إلا بإذنٍ خاصٍّ من كبير الطهاة، وأنا الآن كبيرهم، ولكني كنت من قبل مساعدًا شابًّا للطاهي كثير السؤال، ثم بدأتُ أطهي وحدي طهيًا غير تقليدي ولا مشروع — أو قل إني في الواقع مارست العلم الحق قليلًا.» ثم سكتَ عن الكلام.

وسأله هلمهلتز واطسن قائلًا: «وما الذي حدَث؟»

فتنهد المراقب وقال: «حدثَ ما سوف يحدث لكم تقريبًا أيها الشبانُ، أوشكت أن أُنفَى إلى إحدى الجزر.»

وهزت هذه الكلمات برنارد هزةً عنيفة، فتحرك حركةً قوية لا تليقُ بالمقام، وقال: «هل تنفونني في إحدى الجزر؟» ووثب من مكانه وعبر الغرفة عَدْوًا، ثم وقف أمام المراقب ملوِّحًا بيدَيه وقال: «إنكم لا تستطيعون إبعادي، إني لم أفعل شيئًا، إنما هما الآخران، وأقسم أنهما هما.» وأشار إلى هلمهلتز والهمجي متهمًا إياهما، وقال: «أرجو ألا تبعثَ بي إلى أيسلنده، وأعدك أن أفعل ما ينبغي، أعطني فرصةً أخرى، أرجو أن تهيئَ لي فرصة أخرى.» وانهمر الدمع من عينيه، ثم قال وهو يجهش بالبكاء: «أؤكد لك أنه خطؤُها، لا تبعدني في أيسلنده، أتوسل إلى سيادتك، وأرجو …» وأصابته نوبة من الشعور بالذلة، فارتمى على رُكبتيه أمامَ المراقب، وحاول مصطفى مند أن ينهضه، ولكن برنارد أصر على تذلُّلِـه، وتدفق منه تيار جارف من الكلام، فاضطرَّ المراقب في نهاية الأمر إلى أن يدق الجرس مستدعيًا سكرتيره الرابع.

وأمره قائلًا: «أحضر ثلاثة رجال وخذ المستر ماركس إلى حجرةٍ للنومِ، وأعطه كمية كافية من بخار السوما، ثم ضعه فوق السرير واتركه وحده.»

وخرج السكرتير الثالث ثم عاد بثلاثة من مُشاةِ التوائم يرتدون الزيَّ الأخضر، وحملَ برنارد إلى الخارج، وهو لا يزال يصيح ويبكي.

وقال المراقب عندما كان الباب يُغلق: «إن الرائي يحسب أنه سوف يُقتل، في حين أنه — لو كان لديه ذرة من عقل — كان يجب أن يدرك أن عقوبتَه هي في حقيقتها مكافأةٌ حسنة، إنه مبعوث إلى جزيرة، أي إنه مبعوث إلى مكان يلتقي فيه مع أمتع مَن تجد في هذا العالم من رجال ونساء — كل من أحسَّ بفرديته لسببٍ ما إلى حد أنه لم يستطع أن ينسجم مع حياة الجماعة، كل من لم يرضَ بالتقاليد، ومن كانت له آراء مستقلة خاصة، أو بعبارةٍ أخرى كل فرد له شخصيةٌ خاصة، إني لأغبطك يا مستر واطسن.»

فضحك هلمهلتز وقال: «وإذن فلماذا لا تقطُن أنت إحدى الجزائر؟»

فأجابه المراقب قائلًا: «لأني آثرت ذلك في النهاية، خُيرت بين أن أُبعث إلى جزيرةٍ ما، حيث كنتُ أستطيع أن أواصل علومي البَحتة، أو أن أنضم إلى مجلس المراقبين، مع الأمل في أن أشغل وظيفةَ المراقب في الوقت الملائم، فاخترتُ ذلك ونزلت عن العلوم.» وصمَت برهةً ثم قال: «وإني لأشعر أحيانًا بالأسف على العلوم، فإن السعادة سيِّدٌ شديد القسوة — وبخاصة سعادة الآخرين، إنها أشد من الحقيقة قسوةً إذا لم يُكيَّفِ المرء على قبولها بغير سؤال.» ثم تنهد، وعاد إلى صمته، ثم استمر في حديثه بنغمةٍ مرتفعة، قال: «ولكن الواجب هو الواجب، ولا يستطيع المرء أن يتبع الطريق التي يُؤثرها، إنني أهتم بالحقيقة وأغرم بالعلم، لكن الحقيقة تهدد العالم، والعلم خطر على الجمهور، وخطره لا يقل عن نَفعِه — لقد أعطانا أكثر ما عرف في التاريخ من الاستقرار المتزن، إن استقرار الصين بالنسبة إليه عديم الطمأنينة، بل إن الجماعات الأموية البدائية لم تكن أشد منَّا ثباتًا.» وأقول مرة أخرى: «إن الفضل في ذلك يرجع إلى العلوم، لكنا لا نستطيع أن نسمح للعلم بأن يُفسد بنفسه عمله الطيب؛ ولذا فنحن نحدِّدُ مجال بحثه بحرصٍ شديد، ومن ثَمَّ أوشكت أن أُنفَى إلى إحدى الجزائر، إننا لا نسمح للعلم أن يعالج غير المشاكل المباشرة في اللحظة الراهنة، أما ما عدا ذلك من بحوثٍ فإنها تقاوم بكل شدة». وسكت لحظةً ثم قال: «وإني لأعجب حين أقرأ ما كان الناس في عهد فورد يكتبون عن التقدم العلمي، يظهر أنهم تصوروا أنه يمكن أن يسير إلى ما لا نهاية بغضِّ النظر عن كل شيءٍ آخر، كانت المعرفة هي الخير كل الخير، وكانت للحقيقة أعلى القيم، وكل ما عدا ذلك ثانوي قليل الأهمية. نعم، إن الآراء قد بدأت تتغير حتى في ذلك الحين، وبذل فورد بنفسه جهدًا كبيرًا في نقل الاهتمام من الحقِّ والجمال إلى الراحة والسعادة، واقتضى الإنتاج الكبير هذا الانتقال، إن السعادة العامة تجعل العجلات دائمة الدوران، أما الحق والجمال فلا يستطيعانِ، وبالطبع كلما استولت الجماهير على السلطة السياسية كانت بالسعادةِ أكثر اهتمامًا منها بالحقِّ والجمال، ومع ذلك بقي البحث العلمي المطلق مصرحًا به بالرغم من كل شيء، وما برح الناس يتكلمون عن الحق والجمال كأنهما أعظم الخير، وبقي الأمر كذلك حتى حرب السنواتِ التسع، عندئذٍ استبدلوا بالنغمة القديمة نغمة جديدة، ما الفائدة من الحقِّ والجمال أو المعرفة، إذا كانت القنابل المحرقة تفرقع حولك من جميع الجهاتِ؟ وكان ذلك بدءُ السيطرة على العلم — بعد حرب السنوات التسع، حينئذٍ استعد الناس لقبول السيطرة حتى على شَهَواتهم، وبذلوا كل نفيس في سبيل الحياة الهادئة، ومن ذلك التاريخ لم نفتُر عن السيطرة على كل شيء، ولم يكن ذلك بالطبع في مصلحة الحق، ولكنه كان في مصلحة السعادة، إنك لا تحصل على شيءٍ بغيِر مقابل، فكان لا بد من دفع الثمن للسعادة، وأنت نفسك تدفع ثمنها يا مستر واطسن؛ تدفع ثمنها لأنك تهتم بالجمال، وكنت شديدَ الاهتمام بالحق فساهمت في دفعِ الثمن.»

وخرج الهمجي عن صمتٍ طويل وقال: «ولكنك لم تذهبْ إلى إحدى الجُزُر.»

فابتسم المراقب وقال: «هكذا دفعت الثمن باختياري أن أخدم السعادة، أقصد سعادة الآخرين — لا سعادتي.» وسكت برهةً ثم قال: «ومن حسن الحظ أن بالعالم كثيرًا من الجزر، ولست أدري ماذا نصنع لو لم تَكُنْ، أحسب أنا كنا نضعكم جميعًا في غرفة الموت، وبهذه المناسبة هل تحبُّ جوَّ المناطق الحارة يا مستر واطسن؟ هل تحب جوَّ ماركيزاز — مثلًا — أو ساموا؟ أم هل تحب جوًّا أشد من هذا إنعاشًا؟»

فأجاب هلمهلتز وقد نهض من مقعده الهوائيِّ قائلًا: «إني أحبُّ أسوأَ أنواعِ الجوِّ؛ لأني أعتقدُ أن المرء يحسن الكتاب إذا ساء الجوُّ، وإذا كان هناك — مثلًا — كثير من العواصف والأنواء …»

فأومأ المراقب بالموافقة وقال: «إني أحبُّ فيك هذه الروحَ يا مستر واطسن، أحبُّها حبًّا جمًّا، أحبها بمقدار ما أنكرها، بحكم وظيفتي.» ثم ابتسمَ وقال: «ما رأيكَ في جزائر فوكلند؟»

فأجاب هلمهلتز بقوله: «أظنها ملائمة، والآن هل تسمحُ لي أن أذهب إلى برنارد المسكين كي أرقب تقدمَه؟»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤