الفصل الثامن

كان برنارد وجون يسيران مبطئين جيئةً وذهابًا خارج البيت، في التراب وفوق القاذورات (وكانت الكلاب عندئذٍ أربعة).

قال برنارد: «يشق عليَّ كثيرًا أن أدرك أو أن أتصور، لكأننا نعيش فوق كوكبٍ آخر وفي قرن غير هذا القرن، ما معنى الأمهات، وهذه القاذورات، والآلهة، والشيخوخة، والمرض …» ثم هزَّ رأسه وقال: «تلك الأشياء لا يكاد يتصورها العقل، ولن أفهم حتى تشرح لي.»

– «أشرح ماذا؟»

«هذا» وأشار إلى القرية و«ذلك» مشيرًا إلى المنزلِ الصغيرِ خارج القرية، «اشرح لي كل شيء، وفسر لي حياتَك كلها».

– «ولكن ماذا عساي قائل؟»

– «ابدأ من أول الأمر، وعد بذاكرتك إلى الماضي على قدرِ ما تستطيع.»

فقطَّب جون جبينه مرددًا: «سأعود بذاكرتي إلى الماضي على قدرِ ما أستطيع.» ثم كان صمتٌ طويل.

كان الجوُّ حارًّا وقد تناولا قدرًا كبيرًا من خبز المكسيك ومن الحنطة الحلوة، وقالت لندا: «تعالَ أيها الطفل وارقد.» واستلقت إلى جانبه فوق السرير الضخم، وأخذت تتغنى بنشيدٍ من أناشيد الأطفال، فيه حثٌّ على النظافة وفيه إشارة إلى التفريغ، ثم انخفضَ صوتها شيئًا فشيئًا.

وعلا الضجيج فاستيقظ ابنُها مذعورًا، وإذا برجلٍ ضخمٍ مربع يقف إلى جوار السرير، وكان يلقي بحديثٍ إلى لندا، ولندا تضحك، وكانت لندا قد رفعت غطاءها حتى ذقَنها، فجذبَ الرجلُ الغطاء إلى أسفل، وكان شعره كحبلين أسودين، وحول ذراعه سوار فِضِّيٌّ جميل مرصع بالأحجار الزرقاء، وقد أعجب السوار ابنها ولكنه ذعر برغم ذلك، فأخفى وجهه في جسم لندا، ووضعت لندا يده فوقه فأحس بالطمأنينة، ووجهت إلى الرجلين كلامًا لم يدركه كلَّ الإدراكِ، قالت: «لا تفعَلْ، وجون هنا.» فوجه الرجل إليه بصره، ثم وجهه إلى لندا، وأسر إليها بضع كلماتٍ بصوتٍ ناعم، أجابته لندا بقوله: «لا.» غير أن الرجل انحنى على السَّرير نحوَه، وكان وجهه ضخمًا مربعًا، وقد مس الغطاء بشعره الأسود المضفور، فكررت ليننا قولها: «لا.» وأحس الولد بيدها تضغط عليه بشدة وهي تقول: «كلا، كلا!» ولكن الرجل قبض على إحدى يديه، وآلمته فصاح، وأخرج الرجل يده الأخرى ثم رفعه إلى أعلى، وما برحت لندا ممسكة به، وهي تقول: «كلا، كلا.» وتفوه الرجل غاضبًا بكلماتٍ موجزة وأبعد يديها بغتة، فركَلَه الطفل بقدَميه وتلوَّى قائلًا: «لندا، لندا.» لكن الرجل حمله إلى الباب في جانب الغرفة الآخر، وألقى به أرضًا وسط الغرفة الأخرى، ثم انصرف بعدما أغلق خلفه الباب، فنهض الولد، وركض نحو الباب، ووقف على أطراف أصابعِه حتى استطاع أن يبلغ المزلاج الخشبي الكبير، فرفعه ودفع الباب ولكنه لم ينفتِحْ، فصاحَ: «لندا، لندا»، ولكنَّها لم تجبه.

وتذكر غرفة ضخمة حالكة الظلام، تحتوي على أشياء خشبية كبيرةٍ ترتبط بحبالٍ رفيعة، وتقفُ حولَها ثلةٌ من النساء — يصنعن الأغطية كما تقول لندا، وطلبتْ إليه أن يجلسَ في ركنِ الغرفة مع الأطفال الآخرين؛ كي تذهبَ هي إلى النسوة وتمدُّ إليهن يدَ المعونة، وظلَّ يلعبُ مع الأطفال مدة طويلة، ثم بدأ الناس يتحدثون فجأة بصوتٍ مرتفع، ودفع النسوة لندا بعيدًا عنهن، فصاحت وتوجهت نحو الباب فتَبِعها، وسألها فيم غضبُهن، فأجابت: «لأني كسرت شيئًا.» ثم غضبت هي كذلك، وقالت: «كيف أعرف أن أنسج مثلهن، هؤلاء الهمج المتوحشون؟» فسألها ما تعني بالمتوحِّشين، ولما عادا إلى البيت كان بوبي بانتظارهما لدى الباب، فدخَلَ معَهما، وكانت معه جرَّةٌ كبيرة ملأى بمادةٍ تشبه الماءَ وليست به، هي مادَّةٌ ذات رائحة كريهة تحرق في الشارب وتجعله يسعلُ، وقد تناولت منها لندا قليلًا، كما تناول بوبي، ثم قهقهتْ لندا بالضَّحك وتكلَّمتْ بصوتٍ مرتفع، ثم رافقت بوبي إلى الغرفة الأخرى، ولما انصرَفَ بوبي، توجَّه إلى الغرفة فألفى لندا في الفراش مستغرقة في النوم، ولم يستطع إيقاظها.

واعتاد بوبي أن يتردَّدَ على البيت، وقال: «إن المادةَ التي كانت تحتويها الجرةُ تسمى «مسكال»»، ولكن لندا قالت: «إنها يجب أن تسمى سوما»، غير أنها تصيب الشارب بالمرَض، وكان الولدُ يكره بوبي، بل كان يكره كلَّ الرجال الذين يأتون لزيارةِ لندا، وفي عصر ذاتِ يوم — يذكر أنه كان باردًا، وأن الثلوج كانت تعمم الجبال — اشترك مع الأطفال الآخرين في اللَّعِبِ، ثم عاد إلى البيت وسمع في غرفة النوم أصواتًا غاضبة، وكانت أصوات جماعةٍ من النسوة يتفوَّهْن بكلمات لم يفقَهْ لها معنى، ولكنه عرف أنها كلماتٍ مريعة، وإذا بشيءٍ ينقلب فجأة ويحدث صوتًا عاليًا فهاجَ الناسُ وماجوا، ثم حدث الصوتُ مرةً أخرى، وأعقبه ضجيج كضجيج البَغلِ قليل العظام حين يضرب، وصاحتْ لندا «لا تفعلوا، لا تفعلوا، لا تفعلوا!» وجرى نحوَ الصوت فإذا بثلاث نساءٍ متَّشحاتٍ بإزارٍ أسود، وكانت لندا على فراشِها، وإحدى النساء تمسكها من معصمَيْها، والأخرى ترقد فوق ساقيها وتمنعها من الركل بقدميها، والثالثة تضربها بالسوط، وقد ضربتها ثلاثَ ضربات ضجَّت منها لندا بالعويل، فتعلق الولد بذيل رداء هذه المرأة، وأخذ يصيح قائلًا: «أرجوك وأتوسَّلُ إليك!» فدفعته بعيدًا عنها بيدها الطليقة، وهبط السوطُ مرة أخرى فولولت لندا ثانية، فأمسكَ بين يديه بيد المرأة وهي يد ضخمةٌ سمراء اللون، وعضَّها بكل قوته، فصاحتْ وخلصت يدها ودفعته دفعةً قوية، خر لإِثرها طريحًا فوق الأرض، وضربته بالسوط ثلاث ضربات وهو مستلقٍ فوقَ الأديم، وشعر بألمٍ لم يشعر بمثله من قبل — كأنه النار، ثم نهَضَ، ووقع عليه السوطُ مرةً أخرى فخر ثانية، ولكن لندا هي التي صاحتْ هذه المرة.

وسألها في تلك الليلة: «لماذا أرادوا إيذاءك يا لندا؟» وكان يبكي؛ لأن علاماتِ السِّياط الحمراء فوق ظهرِه ما برحتْ شديدةَ الإيلام، ولكنه كان كذلك يبكي لأنَّ الناسَ متوحِّشون ظالمون إلى حدٍّ كبير؛ ولأنه طفل صغير لم يستطع أن يفعَل بهم شيئًا، وكانت لندا كذلك تبكي، أجَلْ لقد كانتْ كبيرة ولكنها لم تبلغ من الضخامة حدًّا يمكنها من العراك مع ثلاثة أشخاص، لقد ظلمها النسوة، وكرر الولد سؤاله: «لماذا أرادوا إيذاءك يا لندا؟»

«لست أدري، وكيف أدري؟» وكان من العسير أن تسمع ما تقول؛ لأنها كانت مستلقية على بطنها ووجهها مطمور في الوسادة، وواصلتِ الحديث قائلة: «إنهن يزعُمن أن أولئك الرجال رجالهن.» وكأنها لم تكن تتحدث إلى الصبي، بل كأنها تتحدث مع إنسان بداخلِها، وألقت حديثًا طويلًا لم يفقَهْ له معنى، وأخذت في النهاية تصرُخ صراخًا عاليًا ليس لها به عهد.

– «لا تصرخي يا لندا، لا تصرخي.»

وضمها إليه، وطوَّق جيدَها بذراعه، فصاحتْ في وجهه لندا: «مهلًا، مهلًا، كتفي! أوه!» ودفعته بشدةٍ بعيدًا عنها، فاصطدم رأسُه بالحائط، ثم صاحت: «يا لك من غرٍّ أحمق!» وبدأت تصفَعُه فجأة، وتوقع عليه الصفعات واحدة تلو الأخرى.

فصاح قائلًا: «لندا، أمَّاه، لا تفعلي.»

– «لست أمَّكَ، ولن أكون لك أمًّا.»

«ولكن يا لندا …» فصفعته على خدِّه وصاحت: «لقد انقلبت امرأة همجية لي صغار كالحيوان، لولاك لذهبت إلى المفتش ولاستطعت الفرار، ولكني لن أفرَّ ومعي طفل، إن هذا لعارٌ كبير.»

ولاحظ أنها تهم بضربه ثانية فرفَع ذراعَه يحمي بها وجهه، وقال: «بربِّك لا تفعلي يا لندا.»

فجذبت ذراعه إلى أسفل وانكشف وجهه، وقالت له: «أيها الوحش الصغير.»

فأغمض عينيه وقال لها: «لا تفعلي يا لندا!» وقد توقع أن تضربه، ولكنها لم تفعل، وبعد برهةً فتح عينيه ثانية ولاحظ أنها كانت تنظر إليه، وحاول أن يبتسم لها، وطوقته بذراعها بغتةً وانهالت عليه بالقُبلات.

وكانت لندا أحيانًا تلزم الفراش أيامًا عدة وهي حزينة، وأحيانًا تتعاطى شيئًا من المادة التي أحضرها بوبي، وتضحك كثيرًا ثم تستغرقُ في النوم، وأحيانًا تنتابها العلةُ، وكثيرًا ما كانت تنسى أن تغسل ابنها، ولم يكن لدَيه ما يأكُلُه سوى الخبز المكسيكي البارد، وتذكر المرة الأولى التي وجدت فيها تلك الحيوانات الصغيرة في شَعره، وتذكَّرَ كيف صاحت حينئذٍ وعلا صياحها.

وكانت أحبُّ الأوقات إلى نفسه تلك التي كانتْ تحدثه فيها عن العالم الآخر، فسألها: «وهل يستطيع المرء حقًّا أن يطيرَ حيثما شاءَ؟»

«أجَلْ حيثما شاءَ.» ثم تحدثه عن الموسيقى الحُلوة التي تصدُر عن صندوقٍ، وعن الألعاب الجميلة كلها التي يستطيع أن يلعبَها الإنسان، وما لذَّ من مأكلٍ ومشرب، وعن الضوء الذي يظهر عندما يضغط المرء على شيءٍ صغير في الحائط، وعن الصور التي تسمع حديثَها وتحسها وتشم رائحتَها، كما تستطيع أن تراها، وعن الصندوق الذي يصنع الروائح العطرة، وعن المنازل القرنفلية والخضراء والزرقاء والفضية التي تبلغ الجبال طولًا، وكل امرئ سعيد، لا يحزن ولا يغضب، وكل فرد يتعلق بكل فردٍ آخر، وتحدثه عن الصناديق التي ترى فيها وتسمع ما يحدث في الجانب الآخر من العالم، وعن الأطفال في القوارير الجميلة النظيفة، وكل شيء بالغ النظافة، لا تشم رائحةً كريهة، ولا تقع العينُ على قذارة، هناك لا يشكو الناس العزلة، بل يعيشون معًا في سرورٍ وسعادة، كما ترى الناس هنا في مالبي أيامَ الرقصِ في الصيف، بل أسعد كثيرًا، لا تفارقهم السعادة في يومٍ من الأيام.

وكان يصغى لها ساعات متواليات، وأحيانًا عندما يملُّ اللعبَ مع الأطفال الآخرين — يحدِّثهم أحد شيوخ القرية في لغةٍ عَجيبة عن المحور الأكبرِ للدُّنيا، وعن الصِّراع الطويل بين اليد اليمنى واليد اليسرى، وبين الرُّطوبة والجفاف، وعن أونا ولونا الذي أوجد حوله وهو يفكر في أثناء الليل ضبابًا كثيفًا، ومن هذا الضباب الكثيف خلق العالم بأسره، ويحدثهم عن الأرض أمًّا والسماء أبًا، وعن أهايوتا ومارسليما وهما توءما الحرب والصدفة، وعن يسوع ويوكونج، وعن مريم واتساناتلهى، وهي المرأة التي تستطيع أن ترد الشبابَ إلى نفسها، وعن الحجَر الأسود عند لاجونا والنسر الأكبر وسيدتنا الأكومية وكلها قصصٌ عجيبة، يزيدها عجبًا أنها تحكي بتلك اللغة الغريبة، فلا يفهمها تمامَ الفهم، وحينما يستلقي في الفراش يفكر في السماء وفي لندن وفي سيدتنا الأكومية، وفي الصفوف العديدة من الأطفال المحفوظين في القوارير النظيفة، وفي يسوع وهو يطير ولندا وهي تطير، وفي المدير الأكبر لمعامل التفريخ وفي أوناولونا.

وجاء لزيارة لندا رجال عديدون، وبدأ الصبية يشيرون إليها بأصابعهم، وفي لغتهم الغربية قالوا إن لندا امرأة سيئة، ونبذوها بشتائمٍ لم يفهم لها معنى، ولكنه أدرك أنها شتائم، وأخذوا ذات يوم يردِّدون أغنية بشأنها، فقذفهم بالحجارة، وقذفوه، فجرح خدَّه حجرٌ حادٌّ وتدفق الدم وتلوث به.

وعلمته لندا القراءة، ورسمت على الحائط صورًا بقطعة من الفحم، رسمت حيوانًا قابعًا وطفلًا داخل قارورة، ثم سطرت بعض الحروف، وكتبت «القطُّ فوقَ الحصير، والطفلُ في الإناء»، وتعلم الولد بسرعةٍ وسهولة، ولما استطاع أن يقرأ كل الكلمات التي كتبتها على الحائطِ، فتحت لندا صندوقَها الكبيرَ الخشبيَّ وأخرجت من تحت السراويل الصغيرة العجيبة الحمراء، التي لم تلبسها قط كتابًا صغيرًا هزيلًا، ولطالما وقعتْ عيناه على هذا الكتاب من قبل، وكانت تقول له: «تستطيع أن تقرأه عندما تكبر.» وها هو ذا الآن كبير، وبنفسه فخور، ولكنها تقول له: «أخشى ألا تجده شيقًا.» ثم تنهدتْ وقالت: «ولكن ليس عندي سواه، آه لو شهدت آلات القراءة الجميلة التي كانت لدينا في لندن!» ثم بدأ يقرأ: «تكييف الأجنة الكيمائي والبكتريولوجي، إشارات عملية لعمال مخزن الأجنة من النوع «ب»»، واستغرق ربع ساعة في قراءة العنوان وحدَه، ثم ألقى الكتاب على الأرض وقال: «ما أشنع هذا الكتاب!» ثم بدأ يصيح.

وما برح الصبية ينشدون نشيدهم المريع عن لندا، وكانوا كذلك أحيانًا يسخرون من ثيابه الرثة، وكانت لندا لا تعرف كيف تصلح ملابسه إذا تمزقت، وتقول له: «إن الناس في العالم الآخر ينبذون الملابس ذات الخروق ويستبدلونَ بها الجديد.» واعتاد الصبية أن يسخَروا منه بقَولهم: «الخرق البالية، الخرق البالية.» ويقوله لنفسه: «ولكني أستطيع أن أقرأ وهم لا يستطيعون، بل إنهم لا يعرفون ما القراءةُ.» وكان من اليسيرِ عليه — إذا أنعمَ الفكرَ في القراءةِ — أن يتظاهَرَ بعدم الاهتمام بسخريتهم منه، فطلب إلى لندا أن تعيد إليه الكتاب.

وكلما تمادى الصِّبْية في الإشارة إليه وفي الغناء أمعن في القراءة، وسرعان ما أتقن قراءة الكلمات كلها حتى أطولِها، ولكنه سأل لندا عن معناها، غير أن المعنى لم يتَّضحْ له حتى حينما كانت لندا تستطيع الإجابة، وكانت في الجملة تعجز عن الإجابة بتاتًا.

سألها: «ما هي المواد الكيميائية.»

قالت: «هي مواد مثل أملاح المغنزيوم، والكحول الذي يجعل طبقة «ء» و«ﻫ» صغيرة متأخرة، وكربونات الكلسيوم للعظام، وما شابه ذلك.»

– «ولكن كيف تصنعون المواد الكيمائية يا لندا؟ ومن أين تأتي؟»

– «لست أعرف، إنها تستخرج من القوارير، وعندما تفرغ القوارير ترسلها إلى مخزن المواد الكيمائية للمزيد، وأحسب أن الموظفين في المخزن هم الذين يصنعون هذه المواد الكيمائية، أو ربما يطلب موظفو المخزن هذه المواد من المصنع. لست أعرف، ولم أشتغل بالكيمياء يومًا ما، ولقد كان عملي دائمًا يختصُّ بالأجنَّةِ.»

وكذلك كان الأمر في كلِّ سؤال وجَّهه إليها، وكأنَّ لندا لم تعرف شيئًا، وكان عند شيوخ القرية إجابات أشد من ذلك قَطعًا.

– «بذور الناس وبذور المخلوقات جميعًا، وبذور الشمس وبذور الأرض وبذور السماء — كل ذلك خلقه أو ناولونا من ضباب التكاثر، والعالم أربعة أرحام، وقد وضع البذور في أحطِّ هذه الأرحام الأربعة، وبدأت البذور تنمو تدريجًا …»

وذات يوم (حسبه جون فيما بعد وعلم أنه لا بدَّ أن يكون عقبَ ميلاده الثاني عشر)، عاد إلى البيت وألفى كتابًا لم يرَه من قبل ملقى على الأرض في غرفة النوم، وكان كتابًا غليظًا عليه سِيمَا القِدَم، وقد أكلت الفيران جلدَه، وتفككت بعض صفحاته وتغضَّنتْ، فالتقطَ الكتاب ونظر إلى صفحة العنوان، وقرأ عليها ما يأتي: «مجموعة مسرحيات وليم شيكسبير».

وكانت لندا مستلقية على فراشها ترشف من الكأس شراب المسكال ذا الرائحة الكريهة الشنيع، قالت: «لقد أحضره بوبي.» وكان صوتها غليظًا خشنًا كأنه صوت شخص آخر، ثم قالتْ: «كان هذا الكتاب ملقًى في أحدِ صناديق انتلوب كِيفا، والمفروضُ أنه لبثَ هناك مئات السنين، وأحسب ذلك صحيحًا؛ لأني تصفحته وبدا لي كأنه مُلئَ بالخرافات، إنه كتاب همجي، ولكنه يصلح لتدريبكَ على القراءةِ.» ثم تناولت من الكأس الجرعة الأخيرة، وألقَتْها على الأرض إلى جانب الفراش، وانقلبت على جنبها، وشهقت مرة أو مرتين ثم استغرقت في النوم، وفتح الغلامُ الكتاب حيثما اتفق وقرأ فيه ما يلي:

«عجبًا كيف يعيش المرء في عرَقٍ كريه على فراشٍ رَثٍّ، يدبُّ فيه الفساد، وكيف ينعم ويعشق في بيت قذر كبيوتِ الخنازير …»١ ودارت هذه الكلمات العجيبة في رأسه، ورنت في أُذنه كالرعد إذا تكلَّم، أو كالطبل في رقَصات الصيف إذا استطاعت الطبولُ أن تتحدث، أو كالرجال وهم يتغنون بنشيد الحصاد. كان رنينها في الأذن رائعًا، تدفع السامع إلى الصياح، كأنها حديث من حديث متسما العجوز، ينطق بكلمات السحر وهو يتزين بالريش، ويمسكُ بالعصى المنقوشة ويقطع من العظام والحجارة — ويتفوه بألفاظٍ لا معنى لها، غيرَ أن الألفاظ التي قرأها خير من ألفاظ متسما السحرية؛ لأنها تدل على معانٍ أكثر منها؛ ولأنها تحدثه، وتتحدث بشكلٍ يدعو إلى الإعجاب ولا تُفهم كل الفهم، هذه كلمات سحرية جميلة مُريعة عن لندا، وهي هناك على فراشها تَغُطُّ في نومها، وإلى جوارِ فراشها كأس فارغة مُلقاة على الأرض، هذه كلمات عن لندا وبوبي.

واشتد مقتُه لبوبي، وأدرك أن المرء قد لا يفتر ثغره عن الابتسام وهو وضيع دنيء، يا له من وغدٍ ميتِ الضمير خائنٍ، داعر غير رَفيق، وما معنى تلك الكلمات التي قرَأ؟ إنه أدركها إدراكًا ناقصًا، غير أن سحرَها قويٌّ، وما فتئت ترنُّ في أُذنِه، وأحس كأنه لم يكره بوبي من قبل قط، لم يكرهه لأنه لم يستطع يومًا أن يعبر عن مقدار كُرهِه له، أما الآن فلديهِ هذه الألفاظ التي تشبهُ الطبلَ والغناءَ والسحر. هذه الكلمات وتلك القصة العجيبة التي اقتُبست منها (إنه لم يفهم للقصة مغزى، ولكنها برَغْمِ ذلك عجيبة جدًّا) برَّرتْ له كره بوبي، وجعلت كُرهَه له أمرًا حقيقيًّا، بل جعلت بوبي نفسه شخصًا أكثر واقعية في عينيه.

وعاد ذات يوم من اللعب وألفَى باب الغرفة الداخلية مفتوحًا، ووجدهما مستلقيين على الفراش معًا ومستغرقَين في نومِهما — لندا البيضاء، وبوبي إلى جانبها يكاد يكون أسود اللون، وإحدى ذراعيه تحت كتفيها، واليد الثانية السوداء على صَدرِها، وإحدى ضفائرِ شعرِه الطويلِ ملقاةٌ حول عُنُقِها، كأنها حبَّةٌ سوداءُ تحاول خنقَها، وجرة بوبي وإحدى الكئُوس ملقاة على الأرض إلى جانب السرير، ولندا تغط في نومها.

وكأن قلبه اختفى وخلف مكانَه ثغرة، كان فارغًا باردًا وكأنه عليلٌ به دوار، فاستندَ إلى الحائط كي يعتدل، وجالَ بخاطِره أن الرجل ميتُ الضمير، خائن، داعر … وتذكَّرَ تلك الألفاظَ التي تشبه الطبل، أو تشبه نشيدَ الحصاد، أو السحر، وأخذت الكلمات تدور في رأسه مرةً بعد أخرى، واستحالت برودتُه بغتةً إلى حرارة، واحترقتْ وجنتاه من الدم المتدفق، وغامت الغرفة أمام عينيه وأظلَمتْ، واصطكَّتْ أسنانه، وردد قوله: «سوف أقتله، سوف أقتله.» وتذكر فجأة هذه الكلمات:

«حينما يكون مستغرقًا في نومه ثملًا، أو في ثورة من الغضب، أو في مُتعة الفراش زانيًا مع امرأة لا يجوز له أن يقترنَ بها …»

إن هذا السحر يشد أزره، وهو سحر يفسِّرُ له ما غمُض ويصدر له الأوامر بما يَصنع، فتقهقرَ إلى الغرفة الخارجية، وردَّد هذه العبارة: «حينما يكون مستغرقًا في نومه ثملًا …» وكانت سكين اللحم ملقاة على الأرض إلى جانب النار، فالتقطَها وسار على أطراف أصابعه نحو الباب ثانية، وردد مرةً أخرى: «حينما يكون مستغرقًا في نومه ثملًا …» وعبر الغرفة على عجلٍ وطعن الرجل. يا للدماء! ثم طعَنه مرة أخرى، وتحرك بوبي من نومه فرفع يده كي يطعنه طعنة ثالثة، ولكن يدًّا قبضت على معصمه وأمسكت بها ولوتها ليًّا شديدًا، فلم يستطع أن يتحرك، ووقع في الشراك، ورأى عيني بوبي الصغيرتين السوداوين المتقاربتين وهما تحدقان في عينيه، فصرف عنه البصر، ورأى جرحين في كتف بوبي اليسرى، وصاحت لندا قائلة: «انظروا إلى الدماء، انظروا إلى الدماء!» ولم تستطع يومًا أن تحتمل رؤية الدماء، ورفع بوبي يده الأخرى كي يضربه — كما ظن جون، فتصلب استعدادًا للقاء الضربة، ولكن اليدَ التي ارتفعتْ عادَتْ به تحت ذقن الرجل، ولوتْ وجهه بحيث لم يسعه إلا أن يحدِّقَ في عيني بوبي، وبقِيَ على ذلك ساعات طوالًا، ثم لم يسَعْه بعدئذٍ إلا أن يتفجر بالبكاء، فقهقه بوبي ضاحكًا، وقال له باللغة الهندية العجيبة: «اذهب يا أهايوتا، إنك شجاع.» فانطلق إلى الغرفة الأخرى؛ كي يخفي دموعَه.

وقال له متسما العجوز باللغة الهندية: «أنت في الخامسة عشرة من عمرك، وأستطيع الآن أن أعلمك كيف تشتغل بالصلصال.»

وجلسا القرفصاء على شاطئ النهر وأخذا يشتغلان معًا.

وتناول متسما بين يديه قطعة من الصلصال المبتلِّ، وقال: «لنعمل أولًا قمرًا صغيرًا.» وصنع الرجل العجوز من كتلة الصلصال قُرصًا، ثم ثنى أطرافَه إلى أعلى، فأصبحَ القمرُ كأسًا ضَحلةً.

وقلد جون حركات الرجل العجوز الدقيقة ببُطءٍ وبغير مهارة.

وطرق متسما قطعة أخرى من الصلصال، وصنع منها أُسطوانة طويلة لينة، ثم صنع منها حلقة مستديرة ولصقها على حافَةِ الكأسِ قائلًا: «قمر فكأس فثعبان، ثم آخر فآخر.» وهكذا كون متسما جوانب الوعاء من تكرار الحلقات، وكان أسفله ضيقًا، ثم انتفخ ثم ضاق ثانية عند العنق، وظل متسما يكوَّر ويدحو، ثم يربتُ ويكشطُ حتى تكوَّنَ الوعاء، وأضحى في شكله كجرَّة الماء المألوفة في مالبي، غير أنه في بياض القِشدة بدَلًا من السواد، ناعم الملمس. وإلى جوار الوعاء الذي صنعه متسما وعاء آخر يغايره شكلًا، خشن غير مستقيم، وهو من صنع جون، فنظر إلى الوعاءين ولم يسعه إلا أن يضحَكَ، ثم قال: «سيكون الثاني خيرًا من هذا.» وشرَعَ يبلِّل قطعةً أخرى من الصلصال.

وأحسَّ بنشوةٍ من السرورِ وهو يشكِّلُ الصلصال ويصوِّرُه، ويشعر بأصابعه وهي تكتسب مهارة وقوة، وأخذ يغني لنفسه وهو يعمل ويقول: «أ، ب، ﺟ، فيتامين ء، الدهن في الكبد، والحوت في البحر.» وتغنَّى كذلك متسما بأغنية عن قتل الدب، واشتغلا طيلة النهار، وأحسَّ كل الوقت بسعادةٍ عظيمة أنستْه كل شيء.

وقال له متسما العجوز: «في الشتاء القادم سأعلمك صناعةَ القوسِ.»

ووقف زمنًا طويلًا خارج البيت، وأخيرًا انتهت الحفلات التي أقيمت بداخله، وفُتح الباب وخرجا منه، وظهر كوثلو أولًا، وذراعه اليمنى ممتدة، ويده مقبوضة بشدَّة كأنه يُمسك بجوهرة ثمينة، وتبعته كياكيمي ويدها كذلك مقبوضة وذراعها ممتدة، وسارا صامتين، وجاء في إثرهما الإخوة والأخوات وأبناء العم ورَتَلٌ من العجائز، وهم كذلك صامتون.

وخرجوا من القرية وعبروا الهضبة المستوية، وعند حافَة الهضبةِ كفوا عن المسير وقد طالعتهم الشمس المشرقة، ففتح كوثلو يدَه، فظهرتْ على كفِّه كميَّةٌ يسيرة من دقيق الحنطة الأبيض، تنفس عليها وتمتم ببضع كلمات ثم رمى بها نحو الشمس، وكأنها قبضة من التراب الأبيض، وفعلت كياكيمي مثل ما فعل، وعندئذٍ تقدَّمَ أبوها ورفع عصا مريشة يستخدمها عند الصَّلاة، ودعا دعاءً طويلًا، ثم قذف العصا في اتجاه الدقيق.

وعندئذٍ قال متسما العجوز بصوتٍ مرتفع: «انتهى الأمر وأصبحا زَوجَين.»

وعندما همُّوا بالانصراف قالت لندا: «كل ما أستطيع أن أقوله أنها جعجعة كبيرة من أجل طحن قليل، أما في الأمم المتمدنة؛ فإنَّ الولدَ حينما يشتهي الأنثى ليس عليه إلا أن … ولكن إلى أين أنت ذاهب يا جون؟»

فلم يُعرْها التفاتًا، وأخذ يهرول ويبتعد كي يبلغَ مكانًا يعتزل الناس فيه.

انتهى الأمر، وتردد صدى كلمات متسما العجوز في فؤاده، انتهى، انتهى … وفي هذا السكونِ وذلك المكان القصيِّ نبَض قلبه بحب كياكيمي، ولكن بغير أملٍ أو رجاء، فلقد انتهَى الأمر، وهو الآن في السادسةَ عشرةَ من عمره.

كانت الأسرار تفشى، بل تُؤدى وتُحمل في ليالي البدر الكامل في كهف انتلوب، يدخل الأولاد الكهف ويخرجون منه رجالًا، وكانوا جميعًا في خوفٍ وقلق، وأخيرًا حل اليوم الموعود، وغربت الشمس وطلع القمر، فذهب أحد الغلمان مع الآخرين، وكان الرجال واقفِين لدى مدخل الكهف كالأشباح في ضوء القمر، وأنزل السُّلم في أعماق الكهف وقد أشرقت جوانبه بضياءٍ أحمر، وبدأ زعماء الأولاد يهبطون، وتقدم أحد الرجال بغتةً، وأمسك الغلام من ذراعه وأخرجه من الصفوف، ولكنه أفلت من قبضته وعاد إلى مكانه بين الآخرين، فضربَه الرجل وجذَبَه من شَعره، وقال رجل آخر: «لا عليك يا صاحبَ الشعرِ الأبيض، لا عليك يا بنَ الكلبة.» وضحك الأطفال، وقيل له: «اذهب!» وصاح به الرجال: «هيا اذهب!» وما برح يتلكأ عند أهداب الجماعة، وانحنى أحد الرجال والتقط حجرًا ثم رماه قائلًا: «اذهب!» ثلاث مرات، ثم كان بعد ذلك وابلٌ من الحجارةِ، فانطلق الغلام في الظلام وهو يَدمَى، وعلت من الكهف الأحمر ضوضاء الغناء، وذلك عندما هبطَ الغلام الأخير على السلم، وكان صاحبُنا وحيدًا.

بقي وحيدًا خارجَ القريةِ فوق الهضبة الجرداء، وكانت الصخور في ضوء القمر كالعظام البيضاء، والذئاب تعوي تحت ضوء القمر في بطن الوادي، وقد آلمته الجروح وتدفقت منها الدماء، ولكنه لم ينتحب من أثر الجراح، وإنما كان يبكي وحدته؛ لأنه طرد وحيدًا فوق هذه الصخور التي تشبه في ضوء القمر هيكل العظام، فجلس عند حافَة الهضبة، والقمر خلفه، وألقَى بصره إلى ظلِّ الهضبة الحالِك، أو ظل الموتِ الأسود، فما عليه إلا أن يخطوَ إلى الأمامِ خُطوة ثم يقفز … ومد يمناه في ضوء القمر، وما برِحت الدماءُ تتدفق من معصمه، وتسقط قطرات كل بضع ثوان، وهي تكاد تكون عديمة اللون في ذلك الجوِّ القاتم، سالت الدماء نقطة نقطة، وكأنها تقول له: «غدًا، غدًا، غدًا …»

في تلك العزلة أدرك صاحبنا الزمان، والموت، والله …

وكان الشابُّ يقول: «كنت دائمًا وحدي.»

فكان لهذه الألفاظ صدًى أليم في صدر برنارد، فقال لصاحبه وقد أولاه كل ثقته: «كنتُ دائمًا وحدك، وإني لكذلك في عزلةٍ تامة.»

فسأله جون في دهشة بالغة: «هل أنت وحيد؟ لقد كنت أحسب أنكم في العالم الآخر … أعني أن لندا كانت تقول لي دائمًا: «إن المرء هناك لا يشعر بالعزلة البتة.».»

فساور القلق نفس برنارد وتدفق الدمُ في وجنتيه من شدة الخجل، وقال مُتَمتمًا وقد حوَّل عنه عينيه: «أحسبُ أني على خلافٍ مع أكثر الناس، فالمرء إذا أفرغ من القارورة بطريقةٍ مخالفة …»

فأومأ الشاب برأسه قائلًا: «أجل، هو ذاك، إن المرءَ إذا اختلف عن غيره، فلا مندوحة له عن الشعور بالوحدة، وحينئذٍ يقسو عليه العالم. هل تعلم أنهم يبعدونني عن كل شيء كل الإبعاد؟ فعندما أرسلوا الغلمان الآخرين؛ ليقضوا المساء فوق الجبال (وأنت تعلم بالطبع شعور المرء عندما يُرغم على أن يحلم بالحيوان الذي يجبُ عليه أن يقدسه) لم يسمحوا لي برفقتهم ولم يبوحوا لي بسرٍّ من أسرارِهم، ثم قال: «ولكني فعلت ذلك بنفسي، فلم أتناول طعامًا مدة خمسةِ أيام، ثم خرجتُ ذاتَ مساء وَحدي إلى تلك الجبال.» وأشارَ إليها.

وابتسم له برنارد ابتسامةَ العطفِ وسأله: «وهل حلمت بشيءٍ ما؟»

فأومأ الشاب بالإيجاب وقال: «ولكن لا ينبغي لي أن أذكرَ لك ما حلمت به.» ثم صمتَ برهة من الزمن، واصل حديثه بعدها بصوتٍ منخفض، قال: «لقد فعلت مرة أمرًا لم يفعله غيري من الآخرين، وقفتُ تجاه صخرة في رابعة النهار صيفًا، وذراعاي ممتدتان إلى جانبي كالمسيح فوق الصليب.»

– «عجبًا! ولماذا فعلت هذا؟»

– «أردتُ أن أحسَّ بشعور المصلوب، وبقيت هناك في الشمس مُعلقًا …»

– «ولماذا؟»

فقال مترددًا: «لماذا؟ … لأني شعرت بضرورة هذا العمل ما دام المسيحُ قد استطاعه، ثم إن المرء إذا أخطَأَ … وكنت فوق ذلك تعِسًا، وهذا سببٌ آخر.»

قال برنارد: «يبدو لي أن هذه طريقةٌ عجيبة لعلاج شقاوتِك.» ولكن بعدما عاودَ التفكير في الأمر، قرر أنها طريقة لا تخلو من المغزَى، فهي خيرٌ من تناول السوما.

ثم قال الشاب: «وأغميَ عليَّ بعد فترةٍ ما، وانكفأتُ على وجهي، ألا ترى أثر الجرح في وجهي؟» وأزاح شعره الأصفر الغزير عن جَبهته، وظهر أثرُ الجرح على صُدغِه الأيمن شاحب اللون مُغضنًا.

ونظر إليه برنارد ثم حوَّل عنه بصره سريعًا، وقد أصابتْه رِعدة خفيفة؛ لأنه كُيِّفَ على أن يكون شديد الاشمئزاز أكثر منه رءُوفًا رحيمًا، فإن مجرد الإشارة إلى المرض أو الجراح لا ترعبه فحسب بل تنفره وتقزِّزُه، كما تفعل القذارة أو التشويه أو الشيخوخة؛ ولذا أسرع في الانتقال إلى موضوعٍ آخر.

فسأل صاحبه قائلًا: «هل لك أن تعود معنا إلى لندن؟» وكان هذا السؤال الحركة الأولى من الحملة التي كان يدبِّرُ خطتَها سرًّا مذ أدرك وهو في البيت الصغير من يكون «والد» هذا الشاب الهمَجي، ثم قال: «هل تحبُّ ذلك؟»

فتهلَّلَ وجهُ الشاب وقال: «هل تقصِد حقًّا ما تقول؟»

– «بالطبع، إذا استطعت أن أحصل على الإذن بذلك.»

– «ولندا كذلك؟»

فساورته الشكوك لحظة وتردَّدَ في الإجابة، فلقد كانت لندا مخلوقًا منفرًا، كلا، هذا مستحيل، ما لم … وطرأ لبرنارد فجأة أن تنفيرها نفسه قد يكون مَغْنمًا كبيرًا، فقال: «بالطبع!» وعلا صوته كي يعوض تردده الأول، وبالغ في إظهار الإخلاص.

وتنفَّسَ الشاب نفسًا عميقًا وقال: «ما أشدَّ دهشتي حين أفكِّرُ في أن ما حلمت به طوال حياتي قد يتحقَّقُ، هل تذكر ما تقول ميراندا؟»

– «ومن تكون ميراندا؟»

وكان من الجليِّ أن الشابَّ لم يسمع السؤال واستمر يقول: «يا للعجب!» وأبرقت عيناه وتورد وجهُه وقال: «كم من مخلوقٍ طيب في ذلك المكان! ما أجمل الإنسان!» وزادتْ حُمرة خديه فجأة، فلقد انصرف ذهنه إلى ليننا، إلى ملاك في زيٍّ لزِج لونُه كخضرة الزجاج، يتألق من عنفوان الشباب ومن دهان البشرة، ممتلئ الجسم، على شفتيه ابتسامة تنمُّ عن الخير، وتهدَّج صوته، ثم بدأ يقول: «ما أعجبَ العالمَ الجديد!» ثم قاطع نفسه فجأةً، وزالتْ حُمرة وجنتيه، وأصبحَ شاحبًا كالورق، ثم قال: «هل أنت متزوج منها؟»

– «هل أنا ماذا؟»

– «متزوج، أعني إلى الأبد، إنهم يقولون «إلى الأبد» في لغةِ الهنود، إنها علاقة لا تنفصِم.»

فلم يتمالك برنارد نفسه من الضحك وقال: «كلا وحقِّ فورد.»

وضحك جون كذلك، ولكن الباعث مختلف، فلقد ضحك من فرط السرور.

وكرر جون قوله: «ما أعجبَ العالمَ الجديد؟ ما أعجب هذا العالم الجديد الذي يشتمل على أمثال هؤلاء الناس! لتبدأ رحلتنا توًّا بغير توان»، فحملق برنارد في الشاب في دهشة وارتباك وقال: «إن لك في بعض الأحايين طريقةً غريبة في الحديث، وعلى أية حال ألا يجدر بك أن تنتظر حتى ترى العالم الجديد فعلًا؟»

١  هذه الأسطر مقتبسة من شيكسبير.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤