الفصل الثالث

العهد المدرسي

يبتدئ هذا العهد منذ زمن آل «غراك» زهاء سنة ١٥٠ق.م، وينتهي بالإمبراطور «ديوكليسيان» وصعود أول إمبراطور مسيحي «قسطنطين» على عرش روما في نهاية القرن الثالث (ب.م). فهذا العهد يطابق إذن آخر زمن الجمهورية وقسمًا كبيرًا من زمن الإمبراطورية الذي يسمى بعهد الإمبراطورية العليا.

(١) البند الأول: معلومات عامة في النظام السياسي والاجتماعي

يمكن تقسيم العهد المدرسي إلى ثلاث أحقب:

(١-١) الحقبة الأولى

تبتدئ هذه الحقبة منذ عهد آل غراك نحو سنة ١٥٠ق.م، وتنتهي بتأسيس الإمبراطورية التي أنشأها «أوغستوس» سنة ٢٧ب.م.
  • النظام السياسي: لم يعد الجيش في هذه الحقبة — التي تم للرومان فيها فتح أعظم البلاد كالغول Gaule والشرق — كما كان عليه سابقًا مؤلفًا من وطنيين رومانيين يقومون بخدمة عسكرية مجانية، بل أصبح مؤلفًا من جنود مستأجرين، واستحال إلى أداة في يد قائده يصرفه إلى أهوائه السياسية. وما برحت الحرب قائمة بين الزعماء والقواد حتى أدت إلى القضاء على الجمهورية وزوال الحكام المنتخبين.
  • النظام الاجتماعي: نشأت في هذا الزمن طبقة تمتاز عن بقية طبقات الأمة وهي طبقة الأشراف، المؤلفة من: الشيوخ senateurs، وبصورة عامة من الموظفين والفرسان chevaliers، وهم أغنياء التجار والأشخاص المثرون من متعهدي الجيش. وقد اضمحلت الملكية الصغيرة أمام الملكية الكبيرة، وساءت حال المزارعين الصغار الذين اضطر بعضهم لهجرة الحقول والالتجاء إلى المدن. ثم إن التطور تناول الناحية الفكرية، فقد أثرت الفلسفة الإغريقية تأثيرًا عميقًا في روما، وتسربت إليها ديانات جديدة قامت بجانب الدين الروماني القديم الذي جنح إلى الانحطاط.

    إن جميع هذه التبدلات والعوامل قد تركت في الحقوق أثرًا بليغًا نلمسه في المصادر الجديدة الحقوقية التي ظهرت في هذه الحقبة وهي: خطط القضاة واجتهاد ومؤلفات المتشرعين، تلك المصادر التي أخذت عن اليونان فكرًا جديدةً كفكرة الإنصاف، والمصلحة، والنية الحسنة.

(١-٢) الحقبة الثانية

تبتدئ هذه الحقبة التي هي بمثابة مقدمة للعهد المدرسي، بتسنم أوغستوس عرش الإمبراطورية التي أسسها سنة ٢٧ب.م حتى انتهاء ملك الإمبراطرة من آل «سيفير Severe» أي سنة ٢٣٥ب.م. لقد أحدث أوغستوس انقلابًا في شكل الحكم وتبدلات في المؤسسات السياسية، ولكنه — بالظاهر على الأقل — لم يقض على النظام الماضي بأسره ولم يصرم حبل العلائق بين الماضي والحاضر. لذلك نراه أبقى على مناصب الحكم الجمهورية كالقنصلين، والبريتور في روما، والبروكونسول (الحكام) في المقاطعات، ولكنه منح نفسه وجمع في قبضته أكثر سلطات الحكم، ومنها سلطة الحكام الشعبيين (تربيان). وكان الإمبراطور يشرك معه في الحكم — نظريًّا على الأقل — مجلس الشيوخ، حتى إنه أبقى له حكم وإدارة الولايات القديمة التي عرفت بولايات مجلس الشيوخ، بعكس ولايات الإمبراطورية التي كان يديرها الإمبراطور بواسطة عماله المباشرين.

كانت هذه الحقبة من أزهر أحقب وعهود تاريخ روما سياسيًّا وحقوقيًّا، وهي التي تشكل بحق العهد المدرسي. وأعظم مصدر حقوقي فيها هو اجتهاد المتشرعين الذين هم أعظم المتشرعين الرومانيين في جميع العهود، مثل «غايوس» و«بابينيانوس» و«بولوس» و«أولبيانوس».

(١-٣) الحقبة الثالثة

هذه الحقبة التي تعتبر حلقة أخيرة مضافة للعهد المدرسي، تبتدئ بسقوط آل «سيفير» عن العرش الإمبراطوري سنة ٢٣٥ب.م، وتنتهي بصعود قسطنطين على العرش سنة ٣٠٥ب.م.

تتميز هذه الحقبة بالانحطاط السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي انتاب الإمبراطورية.

فمن الوجهة السياسية كانت روما في الداخل لا تخلو، عند وفاة كل إمبراطور، من فتن واغتيالات أسبابها فقدان قانون لوراثة أو انتقال العرش، كما أن الإمبراطورية في الخارج كانت عرضة لغزوات الأقوام الغريبة المعروفة بالبربر Barbares.
ومن الوجهة الاجتماعية نلاحظ انقسام الرومان إلى طبقتين: طبقة الشرفاء honestiores المؤلفة من أهل الشوكة والثراء، وطبقة الوضعاء humiliores المؤلفة من العمال والمستضعفين في الأقاليم والمدن.
ولم تخل الناحية الاقتصادية من الاضطراب لأسباب متعددة، منها الخلل النقدي وفساد الأسلوب في فرض الضرائب.١

كان من نتيجة هذا الانحطاط في الحالة السياسية والاجتماعية والاقتصادية: انحطاط في الحقوق؛ حيث جنحت المصادر الحقوقية التي سبق لنا بيانها إلى الاضمحلال والزوال أمام تشريع الإمبراطرة.

فلنبحث الآن مصادر الحقوق في هذا العهد المدرسي.

(٢) البند الثاني: القوانين

القوانين في هذا العهد ما زالت تشكل مصدرًا قيمًا راجحًا على العرف، بل إن العرف صار يعتبر كمصدر ثانوي بعد أن كان متفوقًا فيما سبق على القانون، وصار المتشرعون يعدون العرف كقانون مستمد قوته من إقرار الناس إياه بالإجماع من حيث لا يشعرون، وعملهم بإحكامه بصورة مستمرة.

وبجانب القوانين كما عرفناها وبينا طريقة وضعها سابقًا (أي بتصويت الكوميس على اقتراح الحكام) والتي كانت تسمى leges rogatae، ظهر في نهاية العهد الجمهوري ضربٌ من القوانين عرفت ﺑ leges datae وهي عبارة عن أنظمة عامة صادرة عن مجلس الشيوخ أو عن بعض الحكام العالين، وقد كانت هذه القوانين تبحث في تنظيم المقاطعات التي فتحت حديثًا أو المدن والبلديات الحديثة.
ولكن منذ رسوخ الحكم الإمبراطوري بدأت القوانين بنوعيها تتناقص وتتضاءل إلى أن حل محلها التشريع الإمبراطوري المباشر. ولا بد لنا من أن نذكر بين القوانين في هذا العهد، قانون آيبوسيا aebutia الصادر في بدء الحقبة الأولى والمتمم بقوانين جوليا juliae الصادرة في عهد أوغستوس. فلهذا القانون يرجع الفضل في إيجاد أسلوب جديد في أصول المحاكمات، هو أسلوب أصول المحاكمات الصكية Procédure formulaire الذي يتلخص بإنشاء الحاكم، عند نهاية الدعوى، بيانًا سُمي بالصك أو الشكل formule، يوجهه للقاضي المحلف juré — الذي لم يكن موظفًا بل شخصًا عاديًّا — يوضح له فيه مهمته ويأمره بالحكم أو بالتبرئة (منع المعارضة).

ولكن هذا الأسلوب الذي كان له محاسن، منها إيجاد ضمانة كافية لتأمين العدالة بين المتقاضين، قد بُدل في نهاية هذا العهد بأسلوب قائم على ممارسة القضاء من قِبَل موظفين إمبراطوريين حلوا محل الحكام المنتخبين والمحلفين.

(٣) البند الثالث: خطط الحكام Edit des magistrats

(٣-١) الخطة Edit٢

عبارة عن إعلان أو برنامج يذيعه الحاكم عند توليه منصبه ليبين فيه القواعد التي ينوي السير بموجبها، ولا سيما في الحالات التي لم ينص عنها القانون.٣
ولكن من هم الحكام الذين يحق لهم أن يصدروا خططًا كهذه؟ يتمتع مبدئيًّا بهذا الحق جميع الحكام القضائيين الرومانيين، ولكن الحكام الذين اعتادوا ممارسة هذا الحق، وكان لخططهم شأن جدير بالذكر من الوجهة الحقوقية، هم: في روما، الحاكم المعروف ﺑ بريتور preteur والذي كان من صلاحيته القضاء بين الوطنيين الرومانيين، والبريتور الخاص بالقضاء بين الغرباء وبين الوطنيين والغرباء. والحكام المعروفون ﺑ ediles curules والذين كانوا يقومون بمراقبة الأسواق والمعاملات الجارية وحسم الاختلافات التي تنشأ عن بيع الأرقاء والحيوانات. وفي المقاطعات والولايات: حكام المقاطعات أو الولاة، وحكام آخرون معروفون ﺑ questeurs تشبه وظائفهم وظائف اﻟ «إيديل كيرول» في روما.
شكلت هذه الخطط مصدرًا، في الحقوق الرومانية، طريفًا ذا شأن ليس له نظير في تاريخ الحقوق، وكانت الحقوق المتشكلة من الخطط تسمى بالحقوق البريتورية نسبةً ﻟﻟ «بريتور» الذي كانت خطته أعظم الخطط خطرًا، وتسمى أيضًا بحقوق الشرف jus honorarum لأن الحكام مُصدري الخطط كانوا يتمتعون بامتيازات شرفية. ولكن خطط القضاة لم تؤلف مصدرًا حقوقيًّا إلا منذ صدور قانون آيبوسيا الذي أنشأ أسلوب المحاكمات الصكية؛ لأن الحكام القضائيين قبل هذا العهد كانوا يقتصرون، بموجب أسلوب أصول المحاكمات المعروف ﺑ «دعاوى القانون Legis actio»، على حضور الدعاوى؛ حيث كان وجودهم يكسب محاورات ومرافعات الطرفين، بحسب الأشكال والمراسم، صفة قانونية، وإحالتها إلى القاضي المحلف. في حين أنهم بمقتضى أسلوب المحاكمات الجديد أحرزوا صلاحيات تمكنهم من إصلاح الحقوق وتجديدها، كحقهم بإنشاء الصك الذي تلخص فيه ادعاءات الطرفين، والذي يتوقف عليه نجاح أو إخفاق الدعوى؛ لأن الحاكم يبين فيه الحكم الحقوقي وينير به رأي القاضي المحلف.٤ وبفضل ذلك كان الحاكم القضائي — المتمتع بصلاحية بيان الحقوق — أي الإدلاء بالقواعد الحقوقية — يؤيد بعض الحقوق التي لم ينص عليها القانون ولم تؤيدها بصورة عامة الحقوق القومية الرومانية، حينما يتراءى له أن الإنصاف أو المنفعة العامة أو مبدأ حسن النية مثلًا يقضي بتأييدها، أو يرفض تأييد حق — بامتناعه عن إنشاء صك ملائم — إذ يتبين له مخالفته للاعتبارات التي ذكرناها، بالرغم من موافقته للقانون.٥
كانت الخطط على نوعين: الخطط الدائمة edits perpétuels والخطط الخاصة أو الاستثنائية repentina.

الخطط الدائمة: هي التي يعلنها الحاكم عند توليه منصبه ليعمل بها طيلة ولايته؛ أي مدة سنة واحدة. أما الخطط الخاصة: فهي تلك التي يتخذها الحاكم لأمرٍ خاصٍّ أو لحادثٍ استثنائيٍّ يظهر في أثناء توليه الحكم.

ومن ذلك يتبين لنا أن الخطط الدائمة هي وحدها التي كانت ذات شأن وخطر في تشكيل المصدر الحقوقي الجديد.

لم يكن الحاكم الجديد مقيدًا، مبدئيًّا، بخطة الحاكم القديم. ولكن في غالب الأحيان كان الحاكم الجديد يقر، فعلًا، الخطة القديمة بصورة كلية أو جزئية. ومن تتابع الخطط الدائمة الصادرة عن الحكام وبصورة خاصة البريتور المتشابهة في أحكامها تكونت الحقوق البريتورية.

أصبح للحقوق الصادر عن الخطط، من الوجهة العملية، مفعول ونفوذ لا ينحصر بمدة الحاكم الذي يصدر الخطة، بل مفعول دائم، شأن القانون. ولئن كان مدى نفوذ الخطة منحصرًا، نظريًّا، ضمن منطقة الحاكم الذي أصدرها، إلا أن خطط الحكام في روما من بريتور وإيديل كورول — الذين يشبهون المحتسبين في الإسلام — أصبحت على تمادي الأيام نافذة في المقاطعات؛ وذلك لأن حكام المقاطعات كانوا يحذون في خططهم حذو خطط الحكام في روما، بل إنهم كانوا ينقلون عن خطط هؤلاء القسم من الأحكام الثابتة التي جرى الحكام على احترامها رغم تتابعهم كل سنة.

مضمون الخطة الدائمة

الخطة الدائمة التي كان يصدرها البريتور في روما كانت تتضمن:
  • (١)

    بيان الأحوال التي يمنح فيها البريتور المتقاضي صكًّا يؤيد طلبه أو بعكس ذلك يرفض تأييد طلبه.

  • (٢)

    بيان نماذج للصكوك ليجري الناس على نمطها في معاملاتهم ودعاواهم.

تدوين أو تقنين الخطة الدائمة

ما زالت الخطة الدائمة الصادرة عن البريتور الذي كان يحكم بين الرومان في روما تتطور وترتقي حتى آخر العهد الجمهوري؛ حيث استقرت وثبتت حتى صارت كالقانون موضع تفسير وشرح المتشرعين، وقد قام بتدوينها وتقنينها في عهد الإمبراطور «هادريان» متشرع شهير كان من أصحاب المذهب الحقوقي المعروف بالمذهب السابيني، هو سالفيوس جوليانوس Salvius Julianus، وأيدها معنويًّا وإداريًّا بعد تقنينها مجلس الشيوخ — الذي لم يكن قد أحرز بعد السلطة التشريعية.

إن تقنين الخطة قد أوقف تطورها وتقدمها، ولكنه مقابل ذلك قد فسح محالًا واسعًا لتفسيرها وشرحها، وهكذا فالمتشرعان الكبيران «بولوس» و«أوليبانوس» علقا عليها — بعد مضي قرن على تقنينها — شرحًا وافيًا.

لم تصلنا هذه الخطة بالنص الذي قننها فيه «جوليانوس»، بل بفقر متعددة متناثرة جاءت بشروح المتشرعين التي أوردها الإمبراطور «جوستنيان» في كتاب «الديجست». وبفضل هذه الفقر قد تمكن الباحثون، وفي طليعتهم العالم الحقوقي الألماني «لينيل Lenel»، من استنباط ترتيبها الأصلي. ويرجح أنها كانت تتضمن بحثًا في إقامة الدعوى وبدء سيرها أمام الحاكم القضائي، وبحثًا في طرق التنفيذ، وفصولًا أفردت لبيان صكوك الدعاوى، من دعاوى الحقوق القومية ودعاوى الحقوق البريتورية التي أوجدتها الخطط.

•••

لقد صار للمصدر الحقوقي المؤلف من خطط القضاة شأن عظيم. وهذه الحقوق الجديدة كانت مختلفة عن الحقوق القومية. ولئن كانت في كثير من الأحيان تدعم أحكام الحقوق القومية إلا أنها كانت في بعض الأحيان، بواسطة طرائق أصولية، تخالف أحكام الحقوق القومية أو تعطلها حينما تكون هذه الأحكام متناقضة مع حاجات العصر الماسة، وضرورات الحياة الاقتصادية، أو مناقضة للفكر والنظريات الحقوقية الجديدة.

فعمل الخطط الإصلاحي هو الذي جعل لها مزيةً كبيرةً ومقامًا رفيعًا بين المصادر الحقوقية الرومانية.

(٤) البند الرابع: اجتهاد أو آراء المتشرعين

المتشرعون في العهد الذي نحن بصدده؛ أي العهد المدرسي، ولا سيما منذ آل غراك إلى زمن الإمبراطور قسطنطين، هم أعظم المتشرعين الرومانيين قاطبة، وقد أطلق عليهم اسم المتشرعين المدرسيين، ولهم يرجع الفضل بإنشاء العلم الحقوقي لدى الرومان. ولا بد لنا من أن نأتي على ذكر المشاهير من هؤلاء المتشرعين، ونبحث أعمالهم وآثارهم، وقدرها.

(٤-١) مشاهير المتشرعين الرومانيين في العهد المدرسي

يمكننا أن نصنف المتشرعين إلى ثلاث زمر بحسب القدم:

متشرعو نهاية العهد الجمهوري

ظهر في هذه الحقبة كثير من المتشرعين أطلق عليهم اسم Véteres نذكر منهم: بوبيوس موسيوس سكافولا P. M. Scaevola الذي يعتبر هو ومتشرعان آخران كمؤسسي الحقوق المؤلفة من الاجتهاد. وقد أعقبتهم فئة أخرى اشتهر بينها كينتوس سكافولا ابن المتشرع الأول، وأكيللوس غاللوس A. Gallus صديق الحكيم شيشرون، والذي كان أول من عاقب على التغرير وسوء النية في العقود والدعاوى، وألفينوس فاروس A. Varus أول من وضع تأليفًا عامًّا جامعًا في الحقوق القومية والحقوق البريتورية. وقد عرف هذا النوع من التأليف ﺑ «ديجست Digeste».

متشرعو بدء الإمبراطورية

الذين انقسموا إلى مذهبين شهيرين: المذهب البروكولي والمذهب السابيني. وقد سمي المذهب الأول باسم بروكولوس Proculus تلميذ مؤسس هذا المذهب «لابيون Labéon»، وسمي المذهب الثاني باسم «سابينوس Sabinus» تلميذ مؤسسه «كابيتون Capiton».

(أ) ما هو سبب انقسام المتشرعين إلى مذهبين، وما هو أساس اختلاف المذهبين؟

اختلف العلماء في هذا الموضوع، والراجح أن الفرق بين المذهبين في البدء كان عبارة عن اختلاف في نزعة مؤسسيهما، فقد كان لابيون مؤسس المذهب البروكولي جمهوريًّا ومعاديًا لنظام الحكم الإمبراطوري، في حين أن مؤسس المذهب السابيني كان من أنصار الإمبراطورية. ولكن الفرق استمر بين المذهبين فيما بعد بالرغم من زوال الفرق السياسي بينهما. فلا يمكن الجزم بوجود اختلاف حقوقي واضح بينهما. ويقول بعض العلماء إن البروكوليين كانوا متشرعين مجددين يتخلل أفكارهم وآراءهم روح فلسفية، في حين أن السابينيين كانوا قومًا محافظين على القديم.

(ب) مشاهير متشرعي المذهبين

اشتهر في المذهب البروكولي في عهد الإمبراطور هادريان، المتشرع «سلسوس N. P. Celsus» ومعاصره السابيني «سالفيوس جوليانوس» مدون الخطة الدائمة. وكان خاتمة السابينيين المتشرع الأشهر «غايوس Gaius»٦ صاحب المؤلف الموسوم ﺑ «إنستيتوت Institutes».

المتشرعون المدرسيون (آخر القرن الثاني وبدء القرن الثالث ب.م)

أجدر هؤلاء المتشرعين بالذكر هم «بابينيانوس Papinianus» و«أولبيانوس Ulpianus» و«بولس Paulus»، وهم أعظم وأشهر المتشرعين الرومانيين قاطبة، وقد تقلدوا جميعهم المنصب الأعلى بعد المقام الإمبراطوري المعروف ﺑ prefet du Prétoire، ذلك المنصب الذي كان يمارس صاحبه أكثر السلطات من عسكرية وإدارية قضائية.٧

وقد كان أولبيانوس وبولس تلميذين ومعاونين ﻟ «بابينيانوس» الذي صار المؤلفون يدعونه بأمير المتشرعين.

وللثلاثة مؤلفات جمة ضخمة، نذكر منها مجموعة المشورات أو الفتاوى Responsa ﻟ «بابينيانوس» التي يُعثر على فقر متعددة منها في كتاب اﻟ «ديجست» ﻟ «جوستنيان»، ومؤلفين موجزين معروفين باﻟ Regulae واﻟ Sententiae.

(٤-٢) أعمال ومؤلفات المتشرعين وتأثيرهم

كان ميدان عمل المتشرعين الفكري واسعًا، فمن ذلك أنهم كانوا يهدون المتقاضين في دعاواهم مبينين لهم الأصول الواجب اتباعها، ويرشدون الناس في معاملاتهم. ومن أخطر وأنفع أعمالهم، الإجابة على أسئلة المستشيرين؛ إذ كانوا يبدون آراءهم بحق مسألة حقوقية، ذلك العمل الفكري المعروف بالاصطلاح الحقوقي الروماني ﺑ respondere والذي يمكن أن نسميه الإفتاء.

وفوق ذلك كان المتشرعون الرومانيون يدرسون الحقوق، ويؤلفون فيها.

(٤-٣) المؤلفات الحقوقية

وضع المتشرعون الرومان مؤلفات متعددة مختلفة، منها ما هو نظري ومنها ما هو عملي، ومنها ما يشمل جميع المباحث الحقوقية، ومنها ما هو مقتصر على درس مؤسسة من المؤسسات. ولكن لم يصلنا من هذه المؤلفات بطريقة مباشرة إلا النذر القليل، بل أكثرها وصلنا بصورة جزئية متناثرة في مجموعات «جوستنيان».

ومن الأسفار التي انتقلت إلينا بصورة مباشرة كتاب اﻟ «إنستيتوت» ﻟ «غايوس»، وكتاب اﻟ regulae ﻟ «أولبيانوس» واﻟ «سانتانس» ﻟ «بولس» المتقدم ذكرهما. وأعظمها شأنًا كتاب اﻟ «إنستيتوت» الذي هو عبارة عن شروح والذي يبحث على الترتيب بالأشخاص والأشياء والدعاوى.

(٤-٤) تأثير اجتهاد المتشرعين

كان لاجتهاد المتشرعين في روما نفوذ أعظم من نفوذ الاجتهاد النظري؛ أي آراء العلماء في عهدنا الآن؛ لأن آراء المتشرعين في روما كانت تشكل مصدرًا حقوقيًّا يلزم القاضي كما يلزمه القانون. وسبب ذلك أن الحكام القضائيين magistrats وبصورة خاصة القضاة الشعبيين juges لم يكونوا من الاختصاصيين في الحقوق، فقد كانوا، أمام كثرة القوانين والخطط وتعددها، بحاجة ماسة لهادٍ وعليمٍ يهديهم سواء السبيل لإعمال القوانين والملائمة بين أحكامها وحاجات العصر وتطور مرافق الحياة. وقد كان مرشدهم في ذلك المتشرعين. ولكن لما لم يكن قليلًا عدد المتشرعين، كان لا بد من حصول خلاف في الرأي بينهم، وهذا ما كان يجعل القاضي في كثير من الأحيان بحيرة وبلبال لا يدري معهما أي اجتهاد يجب أن يؤثر وبأي نظرية ينبغي أن يأخذ في أحكامه.

ذلك هو السبب الذي دعا الإمبراطرة للتدخل في اجتهاد المتشرعين وتنظيمه.

(٤-٥) تدخل الإمبراطرة في اجتهاد المتشرعين

افتتح عهد تدخل الإمبراطرة في اجتهاد المتشرعين، الأمير أو الإمبراطور «أوغستوس» بإلزامه المتشرعين بكتابة آرائهم أو فتاواهم وختمها، وذلك اجتنابًا لتزويرها من قبل الأفراد الذين كانوا يتلمسونها من المتشرعين لتقديمها إلى القاضي.

ثم منح رهط من المتشرعين حق الإفتاء المتمتع بقوة القانون الإلزامية لدى القاضي والمعروف ﺑ jus publice respondendi،٨ وذلك للتخلص من محاذير اختلاف آراء المجتهدين.

وأجل عمل قام به الإمبراطرة في هذا العهد هو إصلاح «هادريان».

رأى هذا الإمبراطور أن حق إفتاء المتشرعين المتمتع بقوة القانون يحدد صلاحياته؛ لذلك عمد إلى إدخال أعظم المتشرعين ومشاهيرهم في المجلس الإمبراطوري، وحصر بهم حق الإفتاء الذي ذكرناه والذي يصدر تحت إشرافه وسلطته، ولكن ما زال بالإمكان التذرع بآراء هؤلاء المتشرعين محرزي امتياز الإفتاء، المنشورة في مؤلفاتهم، بل كان لهذه الآراء غير الرسمية قوة القانون لدى القاضي عند الإجماع فقط. ولنلاحظ أن فتاوى المتشرعين الرسمية الصادرة عن المجلس الإمبراطوري كانت خاضعة لقاعدة الإجماع.

(٥) البند الخامس: مراسيم مجلس الشيوخ والأوامر الإمبراطورية

(٥-١) قرارات مجلس الشيوخ

إن مجلس الشيوخ لم يكن في عهد الجمهورية مجلسًا تشريعيًّا. بيد أن مقامه من الوجهة السياسية والمعنوية كان عظيمًا. وقد بقي مجلسًا استشاريًّا — كما بيَّنا سابقًا — حتى القرن الثاني (ب.م). لذلك لم يكن قرار مجلس الشيوخ المسمى senatus-consulte سوى رأي استشاري موجه للحكام. ولكن بعد القرن الثاني صار قرار مجلس الشيوخ يصدر طورًا باقتراح من الحكام وطورًا باقتراح من الإمبراطور مكتسبًا الصفة التشريعية. ولم يدم اختصاصه التشريعي زمنًا طويلًا، بل ما لبث اقتراح الإمبراطور oratio أن أصبح مطاعًا دومًا، وصار المصدر الحقوقي الصحيح لقرار مجلس الشيوخ.

(٥-٢) الأوامر الإمبراطورية

كانت الأوامر (أو الدساتير) الإمبراطورية constitutions imperiales عبارة عن قرارات يصدرها الإمبراطور تختلف أسماؤها باختلاف الحالات، وتنقسم إلى أربعة أنواع:
  • الخطط edicta: التي كان يصدرها الإمبراطور عند تسلمه مقاليد منصبه بصفته الحاكم الأعلى، وهي شبيهة بخطط الحكام (البريتور)، إلا أنها، خلافًا لهذه الأخيرة، كانت نافذة مرعية مدة حياة الإمبراطور.
  • الأحكام decreta: التي كان يصدرها الإمبراطور بصفته قاضيًا أعلى في الدعاوى المرفوعة إليه. ولئن كان نفوذ هذه الأحكام مقتصرًا نظريًّا على الدعاوى التي صدرت بحقها، إلا أن سلطة الإمبراطور كانت تجعلها بدرجة المبادئ العامة قوةً ونفاذًا.
  • الفتاوى rescripta: التي كان يصدرها الإمبراطور في مجلسه بمساعدة المتشرعين المعينين فيه، جوابًا على الاستشارات التي يوجهها إليه القضاة والأفراد. وقد كان لهذه الفتاوى أو الأجوبة الاستشارية سلطة تتعدى المسألة الحقوقية التي صدرت بشأنها، وذلك بسبب عظمة المقام الصادرة عنه.
  • البلاغات (التعليمات) mandata: التي كان يذيعها الإمبراطور على فريق من الموظفين كحكام المقاطعات الإمبراطورية، والتي كانت متعلقة بشئون شتى، منها أحيانًا ما له صلة بالحقوق الخاصة. إن هذه الأوامر أو الدساتير الإمبراطورية بصورة عامة اكتسبت قوة القانون. وما زال المصدر الحقوقي المؤلف من الأوامر الإمبراطورية يزداد تقدمًا واتساعًا، حتى صار المصدر الحقوقي الوحيد.
١  جيفار ج١ ص٣٩.
٢  وفي اللاتينية edictum.
٣  راجع الحقوق الرومانية ﻟ «غاستون ماي» رقم ١٠.
٤  ويؤيد عدم وجود خطط قبل قانون أيبوسيا عبارةٌ وردت لغايوس تعتبر حاسمة بهذا الشأن (راجع كتاب جيفار (ذ. س) ص٤٣).
٥  راجع كتاب «جيرار» (ذ. س) ص٣٩.
٦  عاش غايوس في أواسط القرن الثاني عشر.
٧  ليراجع القارئ إن شاء تفصيلًا عن هذا المنصب، كتاب المؤسسات السياسية الرومانية ﻟ «ليون هومو L. Homo» ص٣٧٠–٣٧٣.
٨  حصل ذلك بعهد «أوغستوس» برأي بعض المؤلفين، وبعهد «تيبروس» برأي البعض الآخر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤