الفصل الرابع

عهد الإمبراطورية السفلى

يبتدئ هذا العهد بصعود قسطنطين على عرش الإمبراطورية سنة ٣٠٣ب.م، وينتهي بوفاة الإمبراطور جوستنيان ٥٦٥.

(١) البند الأول: النظام السياسي والحالة الاقتصادية والاجتماعية

  • النظام السياسي: إن ما يسترعي النظر بادئ ذي بدء في الحالة السياسية في هذا العهد، تقسيم الإمبراطورية الرومانية إلى قسمين كبيرين: الإمبراطورية الغربية، والإمبراطورية الشرقية. ذلك التقسيم الذي كان قام به الإمبراطور ديوكليسيان. وقد جعل الإمبراطور قسطنطين مدينة بيزانس، التي سميت نسبةً إليه بالقسطنطينية، عاصمة للإمبراطورية الشرقية. أما الإمبراطورية الغربية، فقد بقيت روما عاصمة لها، ثم انتقلت العاصمة لغيرها من المدن. وقد تقوضت دعائم الإمبراطورية الغربية سنة ٤٧٦، وبقيت الإمبراطورية الشرقية وحدها قائمة راسخة. أما أصول الحكم فقد أصبحت استبدادية مطلقة. ولم يعد لسلطة الإمبراطرة صفة شعبية، وقد حصر الإمبراطور بنفسه مباشرةً أو بواسطة عماله وموظفيه المنوطين به جميع السلطات، فصار وحده صاحب حق التشريع، ومفسر القوانين، وأصبحت السلطة القضائية في يد موظفيه يمارسونها بموجب أصول محاكمات شبيهة بالأصول الإدارية. وقد زالت البلديات المستقلة التي كانت تحذو بإدارتها حذو الإدارة الجمهورية في روما.

    ومن مميزات هذا النظام السياسي أن الموظفين الإمبراطوريين كانوا في آنٍ واحدٍ أتباعًا للإمبراطور.

  • الحالة الاقتصادية: إن ما يسترعي الانتباه في الحالة الاقتصادية هو جنوح الصناعة والتجارة الحرتين إلى الزوال، وظهور نقابات في مختلف الحرف لم يكن الفرد فيها حرًّا، بل إن من الحرف ما صارت تجنح إلى أن تكون إرثية (يتوارثها الابن عن أبيه). ومما يجدر ذكره هجرة المزارعين الصغار من حولهم وبقاء قسم كبير من الأراضي بورًا. وهذا ما أدى إلى إجبار المزارع على بقائه في مهنته ومكثه في الأرض.
  • الحالة الاجتماعية: إن سوء حالة المزارعين الصغار وازدياد نفوذ المالكين الكبار، وغير ذلك من العوامل السياسية، أدى إلى تبدل عظيم في الحالة الاجتماعية، من مظاهره تعدد الدرجات والرتب في طبقات الأشراف.

    ومما يلاحظ في هذا العهد التطور الغريب الذي حدث في الأخلاق والعقائد، فقد انتشرت النصرانية انتشارًا كبيرًا في الإمبراطورية، لا سيما منذ تنصر الإمبراطور قسطنطين. ولكن تأثير الدين المسيحي في الحقوق يكاد لا يذكر بجانب تأثير الفلسفة اليونانية، كما يتبين ذلك من مجموعات جوستنيان.

    تلك هي الحال السياسية والاجتماعية والاقتصادية. أما المصادر الحقوقية فهي: القوانين؛ أي الأوامر الإمبراطورية، والحقوق المكونة من اجتهاد ونظريات المتشرعين القدماء ولا سيما متشرعي العهد المدرسي، تلك الحقوق التي أطلق عليها اسم الحقوق المدرسية. وأعظم عمل حقوقي تم في هذا العهد هو تقنين الحقوق أو جمعها من قِبَل الإمبراطور جوستنيان. ولا بد لنا من درس مصادر الحقوق التي تقدمت عهد جوستنيان قبل بحث تقنين الحقوق الذي قام به هذا الإمبراطور المتشرع.

(٢) البند الثاني: مصادر الحقوق قبل جوستنيان

(٢-١) الأوامر الإمبراطورية

الأوامر الإمبراطورية في هذا العهد هي القوانين. ولم تعد لفظة القوانين leges تدل إلا على الأوامر الإمبراطورية.١ ومن خصائص التشريع الإمبراطوري هذا وفوائده: إتمام وإصلاح الحقوق، وإيجاد الأحكام التي تقتضيها حاجات العصر.

(٢-٢) تقنين أو جمع الأوامر الإمبراطورية

لما كثر عدد الأوامر الإمبراطورية، أحس الناس بالحاجة لتقنينها أو جمعها في مجموعات قانونية. وقد قام بهذا العمل في البدء المتشرعون، فكان لتقنينهم صفة خاصة غير رسمية، وقد ألفت في القرن الرابع مجموعتان قانونيتان ضمتا الأوامر الإمبراطورية عرفتا باسم مؤلفيهما، هما «مجموعة غريغوريوس codex Gregorianus» و«مجموعة هرموجنيوس codex Hermogenianus». وما لبث التقنين أن صار رسميًّا في القرن الخامس عشر؛ حيث أصدر الإمبراطور تيودوزيوس الثاني سنة ٤٣٨ مجموعة باسمه codex Théodosianus حوت الأوامر الإمبراطورية الصادرة منذ عهد الإمبراطور قسطنطين. ويلاحظ العلماء المنقبون أن تيودوزيوس عدل وبدل نصوص بعض هذه الأوامر الإمبراطورية للملاءمة بين أحكامها وأحكام الحقوق في عصره.

(٢-٣) الحقوق المتكونة من التشريع القديم ومن اجتهاد وآراء المتشرعين jus

إن المتشرعين في عهد الإمبراطورية السفلى لم يكونوا من علية أهل العلم. ومما ساعد على الخفض من شأن ومقام المتشرعين في هذا العهد فقدانهم حق الإفتاء منذ عهد الإمبراطور قسطنطين.

ولكن ما زال اجتهاد المتشرعين المدرسيين حائزًا على ما كان له أثناء حياتهم من مكانة ونفوذ، وظل معمولًا به من قِبَل القضاء؛ فكان إذن يشكل مصدرًا حقوقيًّا مباشرًا في العهد الذي نحن بصدده.

ولما لم تكن آراء المتشرعين المدرسيين متفقة دومًا، فقد عمل الشارع على إزالة المحاذير التي تنشأ عن اختلافهم، وتيسير مهمة القاضي الذي لا بد له من الأخذ باجتهادهم.

وأجلُّ ما صدر من القوانين بهذا الشأن، القانون المعروف بقانون المراجع أو الأسانيد Loi de citations الصادر في عهد تيودوزيوس الثاني وفالينيتيانوس الثالث سنة ٤٢٦، فقد عين هذا القانون المتشرعين الذين يستند إلى آرائهم أمام القضاء ويعمل بها القضاة، وهم: غايوس، بابينيانوس، بولس، أولبيانوس، موديستينوس.

وقضى القانون بوجوب الأخذ برأي الأكثرية عند اختلاف هؤلاء المتشرعين، وبترجيح رأي القسم الذي يكون بجانبه بابينيانوس، عندما يفترقون بالرأي لقسمين متساويين في العدد. وهكذا أفضى الأمر إلى عد الآراء بدلًا من تمحيصها ووزن قيمتها العلمية. وهذا أسلوب أقل ما يقال عنه إنه مظهر من مظاهر انحطاط الحقوق.

(٢-٤) المتشرعون ومؤلفاتهم في عهد الإمبراطورية السفلى

لقد كان هذا العهد بصورة إجمالية عهد انحطاط من جهة الاجتهاد والتأليف، كما أشرنا لذلك، وجل ما يعثر عليه من المؤلفات موجزات لكتب المتشرعين المدرسيين.

ومما يجدر بنا ذكره كتاب ظهر في الإمبراطورية الشرقية موسوم ﺑ leges seculares الذي ترجم للغات شرقية متعددة منها العربية.٢

كان في عهد الإمبراطورية مدارس في روما وبعض المدن الكبيرة في الإمبراطورية تدرس فيها الحقوق، وأشهر هذه المدارس في القرن الخامس الميلادي مدارس أتينا، والإسكندرية، والقسطنطينية، وبيروت.

وقد فاق معهد بيروت بقية المعاهد بمقام أساتذته العلمي الرفيع ومكانة مؤلفاتهم. وكانت طريقة التعليم فيه عبارة عن قراءة النصوص وشرحها في اليونانية. وقد عني بالبحث عن معهد بيروت الحقوقي الروماني غير واحد من المؤلفين نذكر منهم «ب. كوللينه P. Collinet» أحد أساتذة معهد الحقوق في باريس.

(٣) البند الثالث: تقنين جوستنيان

لم يكد الإمبراطور جوستنيان يصعد على عرش الإمبراطورية الشرقية سنة ٥٢٧ب.م حتى شرع بعمله الحقوقي الذي أدخله في صف الخالدين. وقد أنجز بمدة ست سنين (من سنة ٥٢٨ إلى ٥٣٤) القسم الرئيسي من أثره العظيم؛ أي جمع الحقوق الرومانية بكاملها، فوضع مجموعتين: الأولى معروفة باﻟ «كوديكس Codex» ضمت القوانين leges والأخرى معروفة باﻟ «ديجستا Digesta» ضمت الحقوق المتكونة من اجتهاد المتشرعين Jus.

وفي خلال هذه المدة ألف كتابًا مدرسيًّا للطلاب نشر سنة ٥٣٣ حذا فيه حذو كتاب اﻟ «إنستيتوت» لغايوس، وأخذ عنه معظم أحكامه وسماه أيضًا باﻟ «إنستيتوت».

ثم أصدر جوستنيان بعد ذلك أوامر إمبراطورية صارت تعرف باﻟ «نوفل Novelles» لم تقنن بصورة رسمية ولكنها جمعت بمجموعات خاصة.
وعلى مجموع هذه العناصر الأربعة التي يتألف منها أثر جوستنيان يطلق اسم Corpus juris civilis. ولا بد لنا من الإشادة بذكر المتشرع «تريبونيان Tribonien» مستشار جوستنيان الذي حث الإمبراطور على القيام بعمله العظيم، إن لم يكن أولد لديه فكرة المشروع نفسه.٣

ولما كان لتقنين جوستنيان أعظم شأن في الحقوق الرومانية، صار لا بد لنا من بحث مجموعاته، ما خلا اﻟ «نوفيل» التي ليس فيها ما يدعو لإيضاحٍ أو إسهابٍ.

(٣-١) اﻟ «كوديكس»

الكوديكس عبارة عن مجموعة محتوية على القوانين (الأوامر) الإمبراطورية منذ الإمبراطور هادريان حتى جوستنيان. وقد قامت بوضعه لجنة مؤلفة من عشرة أعضاء أكثرهم موظفون، وبينهم «تريبونيان»، استعانوا بالمجموعات التي تقدمته والتي أتينا على ذكرها. ولم تمض بضع سنوات على نشره حتى عُدِّل؛ وذلك بسبب ما ظهر من تناقض بينه وبين أحكام اﻟ «ديجست» الذي نشر بعده. ولم يصلنا الكوديكس إلا بشكله الثاني المعدل.

ويلاحظ في بعض الأوامر الإمبراطورية التي تضمنتها هذه المجموعة بعض تبديل وتحريف بقصد إدخال أحكام جديدة في صلبها، والملاءمة بينها وبين الحقوق الجديدة.

(٣-٢) اﻟ «ديجست» Digesta

هذا السفر هو أخطر مجموعات جوستنيان. وهو عبارة عن مجموعة آراء أشهر المتشرعين قامت بتأليفها لجنة مؤلفة، بأمر جوستنيان، من ستة عشر عضوًا برئاسة «تريبونيان»، وتشكل هذه المجموعة في الحقيقة، كما يدل عليها اسمها، دائرة معارف للحقوق المدرسية.

مآخذ اﻟ «ديجست»

أراد الإمبراطور أن لا يتقيد أعضاء اللجنة بفئة دون أخرى من المتشرعين، خلافًا لقانون المراجع أو الأسانيد؛ لذلك اختار واضعو الديجست بملء الحرية من مختلف آراء المتشرعين ما وجدوه أفضل وأكثر ملاءمة لروح وحاجات العصر. إلا أنهم لم يرجعوا إلا لآراء المتشرعين السابقين لقسطنطين، والذين كان اعترف لهم الإمبراطرة بحق تفسير القانون. وقد بلغ عدد المؤلفات التي أخذ عنها اﻟ «ديجست» ألفي كتاب، لخصت وعدلت وحذف منها ما أصبح مهملًا وغير مرعي.

وبالرغم من أن جميع ما يتضمنه اﻟ «ديجست» هو مجموع آراء، فقد أكسب جوستنيان فصوله، التي كان يذكر بنهايتها اسم المؤلفات المأخوذة عنها، صفة القانون؛ ولذلك كانت تدعى هذه الفصول بالقوانين.

ومما يجب ملاحظته أنه جرى تحريف ببعض النصوص القديمة المختارة والمدونة في الديجست، وذلك بطريقة الحذف والتبديل أو الإضافة للسبب الذي ذكرناه ببحث اﻟ «كوديكس».

(٣-٣) اﻟ «إنستيتوت» Institutes

اﻟ «إنستيتوت» كتاب مدرسي حقوقي موجز وضع للمبتدئين في علم الحقوق، ثم اكتسب صفة القانون شأن اﻟ «ديجست». وهو شبيه كل الشبه باﻟ «إنستيتوت» الموضوع من قِبَل غايوس من حيث التقسيم والتبويب، بل من حيث الأحكام، ما عدا الأحكام التي أصبحت بالية في مؤلف غايوس، والأحكام والمبادئ الجديدة التي وضعها جوستنيان أو مَن تقدمه من الإمبراطرة.

(٣-٤) نظرة نقد وتحليل مختصرة في أثر جوستنيان

إن العمل الذي قام به جوستنيان لم يكن عملًا طريفًا برمته، بل إن جوستنيان قد قلد ما سبقه في قسمٍ من أثره، كمجموعة اﻟ «كوديكس» التي سبقه إلى وضع مجموعات شبيهة بها الإمبراطور «تيودوزيوس» والمتشرعان «غريغوريوس» و«هرموجنيان»، وككتاب اﻟ «إنستيتوت» الذي طبع على غرار «إنستيتوت غايوس».

ولكنه في جمعه الحقوق المتكونة من آراء المتشرعين في موسوعة اﻟ «ديجست» قد أتى بعمل طريف، لا سيما وأنه لم يتقيد — باختياره — بآراء المتشرعين الرسميين دون سواهم. فبفضل هذه الموسوعة والطريقة المتبعة بها عرفنا كثيرًا من المتشرعين كان يخشى أن يبقوا مجهولين، بيد أن للأسلوب المتبع في اﻟ «ديجست» مساوئ منها أنه كان يجتزئ من مؤلفات أو آراء كل متشرع وفقيه نثرة من دون الالتفات إلى ما قبلها وما بعدها، وذلك بغية التوفيق بين مختلف آراء المتشرعين، والملاءمة بين الاجتهاد القديم والحقوق المتبعة في عهد جوستنيان، ومنها أو أعظمها تحريف أقوال المتشرعين في بعض الأحيان.٤

إلا أن للقسم الموضوع أو المبتكر من أثر جوستنيان؛ أي لتشريعه المباشر، ميزات جمة، ولا يسع الناقد إلا الإطراء به. فقد كانت أحكامه مستمدة من روح عالية سامية، وكان لها فضل عظيم على تقدم الحقوق لا الرومانية فحسب، بل الحقوق بصورة عامة. ومن فضائل جوستنيان توحيد الحقوق القومية القديمة وحقوق الناس من جهة، والحقوق القومية والحقوق البريتورية من جهة أخرى، والقضاء على المؤسسات البالية والقواعد التي لم تعد تطابق روح عصره.

تلك هي مصادر الحقوق الرومانية وتاريخها. وقد اعتاد المؤلفون أن لا يتعدوا في درس الحقوق الرومانية عهد جوستنيان، لا من حيث المصادر، ولا من حيث الأحكام والقواعد؛ وذلك لأن الحقوق الرومانية قد انحطت واضمحلت بعد هذا الإمبراطور المتشرع، وفقدت طابعها الروماني الطريف، ولأن الأحكام والمبادئ التي اقتبستها الشرائع الحديثة من الحقوق الرومانية — وهي رئيسية — إنما اقتبستها في عهد جوستنيان. لذلك لم يكن لتتبع ما آلت إليه الحقوق الرومانية بعد جوستنيان من فائدة كبيرة.

١  لقد زال التمييز بين مختلف أنواع الأوامر الإمبراطورية وصارت تُعرف كلها باسم edicta.
٢  راجع بيان هذا في كتاب جيرار (ذ. س) ص٧٦ وهامش ٤.
٣  جيرار (ذ. س) ص٧٩.
٤  راجع غاستون ماي (ذ. س) رقم ١٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤