الفصل الثاني

العتق

العتق هو العمل الذي يكسب الرقيق حريته بتنازل السيد باختياره ورضائه عن حقه وسلطته عليه.

(١) البند الأول: نظرة تاريخية في العتق

إن ما هو راجح في الرأي أن العتق لم يكن جائزًا في الحقوق الرومانية ببدء عهدها. لا ريب أن السيد كان يستطيع التنازل عن حق ملكه أو سلطته على عبده، ولكن تنازله هذا لم يكن يجعل العبد حرًّا، وإنما كانت الحرية — والوطنية أيضًا — تعتبر داخلة في الحقوق العامة وخارجة عن نطاق حقوق الأشخاص.١ ويؤيد ذلك أن طرائق العتق الأولى كان لها صفة المخالفة للقانون والاحتيال عليه.

في البدء كان العتق نادرًا لصعوبة مراسمه وطرائقه ولقلة عدد الأرقاء، ثم ازداد العتق وكثر عدد العتقاء لأسباب مختلفة منها سياسية؛ إذ كان السيد المثري يلجأ إلى عتق عدد كبير من أرقائه ليجعل منهم أنصارًا سياسيين له. وقد أعقب ذلك حركة عدائية موجهة ضد العتق والعتقاء لأسباب سياسية واقتصادية أدت إلى تقييد العتق وتحديد عدد الأرقاء الممكن عتقهم. وانتهى أمر العتق بتسهيله وإزالة أكثر قيوده بسبب تشبع الحقوق بروح الإنصاف.

(٢) البند الثاني: طرائق العتق

إن طرائق العتق لم تكن واحدة بمختلف العهود، بل تطورت بحسب تطور العتق نفسه. لذلك سندرس هذه الطرائق في عهد الحقوق القومية، والعهد المدرسي، وعهد الإمبراطورية السفلى.

(٢-١) عهد الحقوق القديمة

طرائق العتق في عهد الحقوق القديمة ثلاث:
  • العتق بواسطة الإحصاء Cens: كانت هذه الطريقة عبارة عن تسجيل السيد رقيقه في القسم الخاص بالرجال الأحرار من سجل الإحصاء. ولكن هذه الطريقة كانت عسرة؛ لأنه لم يكن يتأتى الأخذ بها خارج مدينة روما وذلك لانحصار مراسم الإحصاء في روما. بل لم يكن يتيسر لساكني روما الالتجاء إليها دومًا؛ لأن الإحصاء كان يجري فيها كل خمس سنوات مرة واحدة فقط.
  • العتق بالقضيب vindicta: إن هذه الطريقة التي نشأت بسبب نواقص الطريقة الأولى هي عبارة عن دعوى صنعية (تواطؤ) بطلب الحرية، فكان يَمثُل الرقيق وسيده أمام القضاء، ولما لم يكن للرقيق حق التقاضي، كان ينوب عنه بالمرافعة والطلب شخصٌ حرٌّ (معروف ﺑ adsertor) يشير إليه قائلًا: «إن هذا الإنسان حرٌّ.» وتجاه هذا الادعاء كان السيد يعترف بصحته صراحةً، أو ضمنًا بالتزامه السكوت، وحينئذٍ أمام هذا الاعتراف كان الحاكم القضائي يعلن حرية الرقيق.
  • العتق بالوصية: كانت الوصية في بدء العهد عبارة عن قانون صادر عن الشعب يتلمسه شخص من الأشخاص ويحصل عليه ليبدل نظام الإرث القانوني بحق تركته، فكان يحق للشخص أن يمنح رقيقه الحرية بطريقة الوصية التي كانت تبدو كعملٍ تشريعيٍّ.

    إن طريقة العتق بالوصية تنشئ الحرية إنشاءً، خلافًا لطريقتي العتق بالإحصاء والقضيب اللتين تفترضان سبق الحرية فتعلنانها إعلانًا. بيد أن هذا العتق بالوصية كالعتق بالطريقتين السابقتين يبدو بصورة المخالفة غير المباشرة لقاعدة تحريم العتق القديمة التي كنا أشرنا إليها.

    ومما تتميز به طريقة العتق بالوصية أنه يجوز تعليق العتق فيها على شرط أو أجل خلافًا لطريقتي العتق بالإحصاء والقضيب. ثم إن طريقة العتق بالوصية على نوعين: العتق بالوصية بصورة مباشرة، والعتق بالوصية بصورة غير مباشرة، وذلك أن يأمر الموصي وريثه بتحرير الرقيق فيحرره، وفي هذه الحال يعتبر الرقيق مولًى عتيقًا للوارث لا المورث.

(٢-٢) العهد المدرسي

تطورت الحقوق في هذا العهد فيما يتعلق بالعتق وتبدلت تبدلًا لا يستهان به. فقد تحسنت حالة العتقاء بسبب تقدم المدنية وتضاؤل الأخلاق والعادات القديمة، وزالت مراقبة الدولة بشأن العتق. وهذا ما أدى إلى ازدياد عدد العتقاء، واكتسابهم نفوذًا سياسيًّا لم يكن معروفًا في العهد السابق، وأولد الحذر والخوف من جراء ذلك لدى الأحرار الخلص من الوطنيين الرومانيين على كيان الدولة، لا سيما بعد أن قل عدد هؤلاء بسبب الحروب الداخلية. فعامل الإحسان إلى العتقاء وعامل الحذر منهم أفضى إلى التطور والتبدل في طرائق العتق وفي وضع العتقاء وإلى إيجاد قيود للعتق.
  • طرائق العتق: إن طرائق العتق العلنية الرسمية التي عرفناها في عهد الحقوق القديمة ما برحت موجودة، ما خلا طريقة العتق بالإحصاء التي زالت بزوال الإحصاء نفسه. ويلاحظ بعض التغير في أشكال طريقة العتق بالقضيب، كحلول تشكل دعوى أحد حجاب الحاكم محل ممثل الرقيق أو محاميه بحمل القضيب، والاستغناء عن أكثر المراسم التي كانت صنيعة. وبجانب الطريقتين العلنيتين الرسميتين الباقيتين (أي طريقتي العتق بالقضيب، وبالوصية)، ظهرت في هذا العهد طريقتان غير رسميتين مجردتان عن الأشكال والمراسم هما: العتق بالرسالة أو رسالة العتق، والعتق بين الأصحاب الذي كان يتم على مائدة الطعام في مأدبة يؤدبها السيد ويسر فيها من طهي الرقيق أو ظرفه.

    ولئن كان لهاتين الطريقتين مزية السهولة، فقد كان فيهما محذور كبير للرقيق المعتَق، وهو أنهما لم يكونا ليحررا الرقيق تحريرًا حقوقيًّا، بل فعليًّا فقط.

    وقد سعى البريتور إلى تخفيف وطأة هذه القاعدة، وكلل مساعيه قانون «جونيا نوربانا Junia norbana» الصادر في عهد «أوغست» والذي قضى بأن الأرقاء المعتقين من دون مراعاة الأشكال الرسمية العلنية يصبحون أحرارًا ولكنهم لا يحرزون الوطنية، بل يكون وضعهم الحقوقي كوضع الفئة من الأحرار المعروفين ﺑ «لاتيني كولونياري» التي سيتاح لنا بحثها. وقد سميت هذه الزمرة من العتقاء «لاتيني جونياني» نسبةً للقانون الذي نص عن وضعهم.
  • قيود العتق: لم يكن حق السيد بعتق أرقائه مقيدًا في عهد الجمهورية، ولكن صدر في عهد أوغست قانونان هما قانون «إيليا سنسيا Aelia Sentia» وقانون «فوفيا كانونيا Fufia canunia» نزعا لتحديد عدد الأرقاء وتقييد حق العتق.

    فقانون «إيليا سنسيا» من جهة تقييد حق السيد: اشترط لصحة العتق أن يكون المعتق قد بلغ العشرين من عمره، وقضى ببطلان العتق الذي يجري لإضاعة حقوق الدائنين أو اختلاسها؛ لأن تحرير الأرقاء — وللأرقاء قيمة نقدية — يكون بمثابة تبديد الأموال أو تهريبها من الدائنين. ومن جهة تحديد عدد العتقاء محرزي الوطنية الرومانية؛ اشترط هذا القانون لاكتساب العتيق هذه الوطنية الرومانية أن يكون قد بلغ سن الثلاثين عند عتقه، وبعكس ذلك يكون العتيق من وضع اللاتينيين الجونيانيين، كما أنه قضى باستحالة اكتساب الرقيق المحكوم عليه بعقوبات شائنة وضع الوطنيين الرومانيين، بل وضع اللاتينيين أيضًا.

    وقانون «فوفيا كانونيا» حدد عدد الأرقاء الممكن عتقهم بالوصية وقضى ببطلان كل عتق يتجاوز الحد الأقصى المعين، ذلك الحد الذي كان يختلف بنسبة عدد المملوك من الأرقاء. وسبب هذا التقييد هو الإغراق بالعتق بالوصية، وازدياد عدد العتقاء بهذه الطريقة؛ إذ كان تخلي الشخص عن أرقائه بعد وفاته — كما هي الحال أيضًا فيما يتعلق بأمواله بصورة عامة — يهون عليه أكثر من تخليه عنهم أثناء حياته.

(٢-٣) عهد الإمبراطورية السفلى

ظلت طريقتا العتق بالقضيب والعتق بالوصية معمولًا بهما في هذا العهد، ولكنهما أُصلحتا وهُذبتا. فمن ذلك أن طريقة العتق بالقضيب قد تجردت عن الأشكال والمراسم التي كانت تحيط بها، وأصبحت عبارة عن تصريح من السيد أمام الحاكم. وقد أُلغي قانون فوفيا كانونيا، ولم يبق من أحكام قانون أيليا سنسيا إلَّا عدم اعتبار العتق الذي يقوم به السيد قبل بلوغه سن العشرين، أو الذي يجري بقصد اختلاس حقوق الدائنين.

ثم إنه عدا هذه الإصلاحات، ظهرت في هذا العهد طريقة للعتق جديدة، هي العتق في الكنائس الذي كان يتم بتصريح علني من السيد أمام رجال الدين وجمهور المؤمنين.

(٢-٤) وضع العتقاء القانوني

إن القيود التي جاء بها قانون «جونيا نوربانا» وقانون «أيليا سنسيا» جعلت العتقاء يختلف بعضهم عن بعض من حيث الوضع الحقوقي؛ ولذلك صار ممكنًا تقسيمهم إلى ثلاث زمر:
  • العتقاء الوطنيون: إذا كان سيد الرقيق وطنيًّا رومانيًّا وأعتقه بطريقة قانونية، صار هذا الرقيق عتيقًا وطنيًّا؛ لأن العتيق في هذا الحال يكتسب وضع سيده.

    ولكن العتيق الوطني لم يكن يتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها الوطني الحر الخالص، كما أنه كان ملزَمًا ببعض الوجائب نحو مولاه المعتق وولده. فالحقوق التي كان العتيق محرومًا منها تتلخص بحق الشرف؛ أي تقلد مناصب الحكم، وحق التزاوج مع أفراد طبقة الشيوخ من الأحرار الخلص.

    إلا أنه صار يجوز ترفيع العتقاء إلى طبقة الأحرار الخلص بأمرٍ من الإمبراطور.

    أما وجائب العتيق تجاه مولاه وولده فهي:
    • (١) الحرمة والولاء؛ المعروف ﺑ «أوبسيكيوم obsequium»: إن هذا الواجب، مبدئيًّا، معنويٌّ، أشبه بواجب الولد نحو أبيه. ولكنه ينتج نتائج حقوقية أجلَّها: امتناع العتيق عن إقامة دعوى على مولاه قد تئول إلى الحكم عليه بوجيبة هي فوق طاقته المالية، والنفقة المتقابلة بين المولى والعتيق عندما يعدم أحدهما ويكون الآخر غنيًّا.
    • (٢) واجب الخدمة المعروف ﺑ operae: وقد كانت الخدمات على نوعين: خدمات شخصية ليس لها قيمة نقدية؛ أي لا تقوم بمال، وتعرف ﺑ operae officiales كالخدمة على مائدة المولى. وخدمات لها صفات نقدية operae fabriles تترتب على العتيق بنتيجة اتفاق يبرمه المولى مع العتيق قبيل عتقه.٢ كتقديم هدية أو مبلغ من المال.
    • (٣) حق المولى أن يرث عتيقه حينما يتوفى من دون أن يخلف ولدًا، وأن يكون وصيًّا على أولاده القاصرين بعد موته. ثم إن حقوق المولى على العتيق تنتقل إلى أبنائه من بعده، كما أن الوجائب المترتبة على العتيق تجاه مولاه تبقى مفروضة عليه تجاه أولاده.
  • العتقاء اللاتينيون الجونيانيون: إذا كان المولى لاتينيًّا، كان العتيق لاتينيًّا أيضًا. ولكن قد يكون العتيق من حيث الوضع لاتينيًّا بالرغم من أن مولاه وطنيٌّ رومانيٌّ، وذلك حينما يتم عتقه بطريقة من طرائق العتق غير المستجمعة للأشكال والمراسم. وقد كان هؤلاء العتقاء في البدء أحرارًا فعلًا لا حقوقيًّا، ولم يكتسبوا الحرية من الوجهة الحقوقية إلا بفضل قانون «جونيا نوربانا» لذلك سموا «باللاتينيين الجونيانيين Latins juniens». أما وضع هؤلاء العتقاء فقد كان دون وضع اللاتينيين الأحرار الخلص، ويمكننا تلخيص حالتهم الحقوقية بالنقاط الثلاث الآتية:
    • (١) كان اللاتينيون الجونيانيون محرومين من الحقوق السياسية.
    • (٢) كانوا محرومين من حق التزاوج مع الوطنيين الرومانيين jus conubium، إلا أنهم كانوا يتمتعون بحق إجراء الأعمال الحقوقية بحسب الحقوق القومية، ذلك الحق المعروف ﺑ jus commercium.
    • (٣) لم يكن يحق لهم توريث أموالهم ولا الإيصاء بها، بل كانت أموالهم عند وفاتهم تعود لمولاهم بصفة الثروة المعروفة بالقطيعة (بيكوليوم). لذلك يقال عنهم إنهم يعيشون أحرارًا ويموتون أرقاء.٣

    ومما يجدر ذكره أن القانون يَسَّر اكتساب الوطنية الرومانية للاتينيين الجونيانيين بطرائق مختلفة سهلة.

  • العتقاء الغرباء واﻟ «ديديتيس»: يعتبر العتيق غريبًا «بيريغران peregrin» إذا كان معتقه غريبًا. ويكون له الوضع الذي يقره القانون الخاص بمولاه المعتق. ولكن بجانب هؤلاء العتقاء الغرباء، أوجد قانون «أيليا سانسيا» فئة أخرى من العتقاء عرفوا ﺑ «بيرغران ديديتيس» — الذين سنعالج بحثهم في الفصل القادم — من دون أن يكون مولاهم غريبًا. وقد كان هؤلاء العتقاء محرومين من حقوق مدنية ذات شأن، منها: حق الهبة؛ أي أن يَهبوا (لا أن يوهب لهم)، وأن يوصوا أو يوصى لهم. وكانوا من جهة الحقوق العامة في حالة وضيعة، فمن ذلك أنه كان يحظر عليهم أن يقيموا في روما أو بقربها، كما أنهم كانوا محرومين من حق اكتساب الوطنية الرومانية. أما سبب حطة وضعهم هذا فهو الحكم عليهم أثناء رقهم بعقوبات شائنة أو امتهانهم مهنًا وضيعةً.

    تلك هي مختلف زمر العتقاء، وذاك هو وضع كل زمرة منهم في العهد المدرسي. إلا أنه لم يعد في عهد جوستنيان يفرق بين فئة وأخرى، بل صار جميع العتقاء من دون تمييز بينهم سواءً في الوضع؛ إذ أصبحوا جميعًا وطنيين رومانيين.

١  كوك (ذ. س) ص٩٥، جيرار ١٢٠-١٢١.
٢  لما كان العمل أو العقد الذي يجريه أو يعقده الرقيق ليس له أي مفعول حقوقي، لتجرد الرقيق عن الشخصية الحقوقية، كان السيد الذي يبرم اتفاقًا مع الرقيق قبيل عتقه يلجأ لأجل إكساب الاتفاق مفعولًا حقوقيًّا إلى تأييده بيمين الرقيق، ثم يحول هذا التعهد المؤبد باليمين، والذي كان له صفة دينية، إلى تعهد حقوقي بعد العتق.
٣  جيرار (ذ. س) ص١٢٩، كوك (ذ. س) ص١٠٢.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤