الفصل الثالث

حالات نصف العبودية

عرفت الحقوق الرومانية حالات هي وسط بين الرق والحرية، يسميها المؤلفون حالات نصف العبودية، ويعبرون أحيانًا عن الأشخاص الذين هم في هذه الحالات، بنصف الأحرار. ويقسم هؤلاء الأشخاص إلى ثلاث زمر:

(١) اﻟ «أديكتي addicti»

اﻟ «أديكتي» هم المدينون الذين عجزوا عن وفاء دينهم فأصبحوا بنتيجة ذلك خاضعين لسلطة دائنيهم الذين يسجنونهم بسجونهم البيتية مدة ستين يومًا — ويكبلونهم إذا شاءوا بالقيود والأغلال — ثم يقودونهم إلى السوق ثلاث مرات بقصد العثور على أحد يفتديهم بوفاء ديونهم. فإذا لم يفتدهم أحد، حقَّ للدائن أن يبيعهم أرقاء خارج حدود روما، بل كان قديمًا يجوز له قتلهم. ففي أثناء وجودهم في سجن دائنيهم يكونون في حالة قريبة من العبودية، من الجهة الفعلية، إلا أنهم حقوقيًّا يظلون أحرارًا ويستطيعون إجراء الأعمال الحقوقية.

وقد كانت زمرة اﻟ «أديكتي» تتضمن فريقين من المدينين المعسرين: اﻟ «نكسي nexi» واﻟ «جوديكاتي»، فالفريق الأول إنما أصبح خاضعًا لأوامر دائنيه بنتيجة عقدٍ رسميٍّ علنيٍّ هو اﻟ «نكسوم nexum»، في حين أن الفريق الثاني قد صار في إمرة الدائن بنتيجة حكمٍ صادرٍ من القضاء.
ولنلاحظ أنه ليس من فرق بين الفريقين، من حيث حياتهما الحقوقية. وقد زال مفعول اﻟ «نكسوم» هذا ولم يعد يؤدي إلى إيقاع الإنسان بحالة نصف العبودية، منذ صدور قانون «بويتليا بابيريا» في بدء القرن الخامس الذي ألغى التنفيذ بحق الشخص أو حجره، واستبدله بالتنفيذ بحق أمواله؛ أي حجزها venditio bonorum.

(٢) اﻟ «ريدمبتي redempti»

اﻟ «ريدمبتي» هم وطنيون رومانيون كانوا أسرى ثم افتداهم من الأسر أشخاص آخرون. وقد كان الأسير الروماني المفتدى، كالأسير الذي ينجو من الأسر فرارًا، يعتبر كأنه لم يقع في الرق وكأنه ما زال حرًّا. إلا أنه كان للمفتدي على المفتدى حق شبيه بحق الرهن، وكان على المفتدى أن يبقى في خدمة المفتدي حتى يؤدي له بدل الفدية. ولكن صدر فيما بعد قانون في بدء القرن الخامس حدد بقاء المفتدى في خدمة المفتدي لخمس سنين يصبح عند انتهائها طليقًا ولو لم يؤد له الفدية.

(٣) الأشخاص الخاضعون ﻟﻟ «مانسيبيو mancipio»

كان لرب العائلة أو للأب، كما سنرى فيما بعد، سلطة مطلقة على أولاده، تتضمن — بين مختلف الحقوق — حق بيع الأولاد بطريقة البيع القديمة المعروفة ﺑ «مانسيباسيو mancipatio»، فكان هذا البيع يكسب المشتري سلطة خاصة مسماة «مانسيبيوم mancipium».١
كان رب العائلة يلجأ لوضع ابنه في «المانسيبيوم» لدى شخص آخر في حالتين:
  • (١)

    حالة فاقة الأب؛ إذ كان يبيع ولده لينال مبلغًا من المال.

    ولكن حق الوالد ببيع ولده في هذه الحال قد قُيد منذ قانون الاثني عشر لوحًا الذي قضى باعتبار الولد حرًّا من القدرة الأبوية إذا بيع أكثر من ثلاث مرات.

  • (٢)

    حالة ارتكاب الولد جرمًا بحق شخص آخر؛ إذ كان الوالد أو رب العائلة مخيرًا بين تحمل بدل الضرر الناشئ عن الجرم؛ أي أداء الغرامة المعينة للمجني عليه، أو التخلي لهذا عن الولد المجرم ليقتص منه، فكان الولد في هذه الحال يقع في سلطة (أي مانسيبيوم) المجني عليه.

وفيما عدا هاتين الحالتين كان يُلجأ لبيع الولد بالمانسيبيوم كطريقة لتبنيه من قِبَل شخص آخر كما سنرى ذلك في بحث التبني.

إلا أن بيع الولد بالمانسيبيوم قد زال بمختلف حالاته في عهد جوستنيان.

أما وضع الولد الخاضع «للمانسيبيوم» فكان شبيهًا بوضع الرقيق؛ إذ كان للشخص صاحب المانسيبيوم أن يستخدمه في الأمور المادية، وفي الأعمال الحقوقية، كأداة للاحتياز، وأن يبيعه أو يتخلى عنه بإحدى طرائق نقل الملكية. أضف إلى ذلك أن الشخص الموضوع في المانسيبيوم كان كالرقيق أيضًا لا يستطيع أن يكون ملزمًا بوجيبةٍ ما.٢ ولكن الشخص الخاضع للمانسيبيوم، لم يكن رقيقًا بالرغم مما بينهما من شبه؛ لأنه لم يكن يجوز في روما أن يصبح رجلٌ وطنيٌّ حرٌّ رقيقًا، بل إن بينهما فروقًا أجلها أن وضع الشخص الخاضع «للمانسيبيوم»، وضعٌ مؤقتٌ، في حين أن الرق مستمر دائم ومتوارث، والراجح أن الشخص الموضوع في المانسيبيوم كان يتحرر من هذه السلطة، لا بطرائق العتق فقط، بل أحيانًا بالرغم من إرادة صاحب السلطة عليه.

(٤) الأقنان

(٤-١) حالة القن الحقوقية

إن القنانة colonat وسطٌ أيضًا بين الحرية والعبودة. فالقن٣ (colons في اللاتينية، وcolon في الإفرنسية) شخصٌ حرٌّ، بل كثيرًا ما يكون وطنيًّا رومانيًّا. وهو يتمتع مبدئيًّا بجميع الحقوق المدنية. فزواجه صحيحٌ شرعيٌّ، وبنتيجة ذلك أولاده منوطون به بقرابة حقوقية شرعية. وله الحق أن يكون مالكًا ودائنًا ومدينًا.

ولكن حريته مقيدة، وذلك أنه ملزم بالإقامة في أرض هي ليست ملكه، يستثمرها لقاء إتاوة يؤديها إلى المالك، فإذا بيعت الأرض بيع حكمًا معها وانتقل كفرع لها إلى المشتري. وإذا هجر الأرض حق لصاحبها إرجاعه إليها بالقوة.

ولئن كان لا يستطيع مفارقة الأرض المنوط بها، فله مقابل هذه الوجيبة حق البقاء فيها، فلا يسوغ لصاحبها إجلاؤه عنها. وبسبب هذه الرابطة التي تربط القن بالأرض سُمي عبد الأرض servus terrae. ومن مميزات القنونة ومن وجوه الشبه بينها وبين الرق، أنها كانت إرثية تنتقل من الوالد إلى الولد.

(٤-٢) منشأ القنونة

ليس نظام القنونة من مؤسسات الحقوق الرومانية القومية، بل تسرب إليها عن حقوق المقاطعات. وقد ظهر بصورة رسمية منذ عهد الإمبراطور قسطنطين. أما الأسباب التي دعت إلى نشوء هذا النظام فمختلفة، سياسية، اجتماعية، اقتصادية وذلك أن الدولة اضطرت لأجل تأمين سير الخدمات العامة التي أصبحت تهمل إلى جعل أكثر الوظائف وبعض المهن إرثية. فمن ذلك أنها قضت بتوارث مهنة الفلاحة والزراعة، بقصد تأمين استثمار الأرض، وبنتيجة ذلك تأدية الضرائب لبيت المال.

(٤-٣) مصادر القنونة

مصادر القنونة كثيرة٤ نذكر منها: (١) القانون الإمبراطوري الذي كان يقضي بجعل الأشخاص أقنانًا في حالات متعددة، كالأسْر؛ إذ كانت الدولة تمنح أصحاب الأملاك قسمًا من الأسرى كأقنان يستخدمونهم في أراضيهم. (٢) الولادة — وقد بيَّنا أن القنونية كانت إرثية. (٣) التعاقد، وهذا كان شائعًا في عهد الإمبراطورية؛ حيث كان الرجل الحر، بسبب الفاقة وفساد النظام، يبيع نفسه قنًّا لمالك كبير يعهد له باستثمار أرضٍ من أراضيه. (٤) توطد الإنسان في أرض (زراعية) ثلاثين سنة. ففي هذه الحال يصير الإنسان قنًّا بمرور الزمان.

(٤-٤) انتهاء القنونة

أسباب انتهاء القنونة هي: (١) احتياز القن ملكية الأرض المنوط فيها. (٢) ارتقاؤه في الكنيسة إلى رتبة مطران. وبجانب هذه الأسباب وجدت أسباب أخرى كالتحرير وكمرور الزمان، إلا أنها ألغيت من قِبَل جوستنيان.

وما إلغاء هذين السببين إلا من مظاهر ودلائل حرص الهيئة الاجتماعية في عهد الإمبراطورية السفلى على بقاء القنونة. وإننا نلاحظ ازدياد عدد هذه الفئة من الناس نصف الأحرار لحدٍّ أنه أربى على عدد الأرقاء. وقد استمرت مؤسسة القنونة بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية. بل إن المؤرخين يعتبرونها نواةً للعبودية في القرون الوسطى.

١  إن هذه الكلمة تفيد في الأصل الملكية أو الشيء المحتاز بالقوة، وتفيد أيضًا بنتيجة ذلك الرقيق (راجع: ماي ذ. س رقم ٣٠ هامش ٢).
٢  جيرار (ذ. س) ص١٣٣.
٣  لقد استعمل الأستاذ الجليل فائز بك الخوري هذه الكلمة للدلالة على معنى كلمة «كولون» الإفرنسية، في كتابه «الحقوق الرومانية» (طبع سنة ١٩٢٤)، وقد قررناها إذ جرت على ألسن الطلاب، ولم نجد في لغتنا ما يعادل اللفظة الإفرنسية بمعناها، فالقن في اللغة العربية لا يفيد المعنى المقصود في هذا المقام، فقد ورد في القاموس المحيط للفيروزآبادي أن:

القن عبد ملك هو وأبواه، أو هو الخالص العبودة بين القنونة والقنانة، أو الذي ولد عندك ولا تستطيع إخراجه عنك.

٤  راجع كوك (ذ. س) ص٨٨، جيفار ج١ ص١٨٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤