الفصل الأول

القدرة الأبوية

(١) البند الأول: نظرة إجمالية في قدرة رب العائلة

القدرة الأبوية هي جزء من السلطة التي يتمتع بها رب الأسرة على مختلف الأفراد الذين منهم تتشكل الجماعة البيتية.

فلا بد لنا إذن بادئ ذي بداءة من أن نعلم من هو رب العائلة، ومن هم الأفراد الخاضعون لسلطته.

(١-١) رب العائلة paterfamilias

رب العائلة هو ذلك الشخص المستقل sui juris الطليق من كل قدرة عليه والمهيمن على كل الأفراد الذين تتألف منهم العائلة. ولكن لا يشترط برب العائلة أن يكون بالغًا أو ذا بنين. فقد يكون عازبًا بل طفلًا ويُعد رب عائلة.١ ولكنه في هذه الحال يكون مجردًا عن القدرة.

(١-٢) الأفراد الخاضعون لقدرة رب العائلة

تتألف الأسرة من زمر متعددة من الأفراد تشملهم جميعًا قدرة رب العائلة حسب درجات مختلفة في الشدة، ويعرفون بسبب خضوعهم لقدرة شخص آخر بالأفراد المتكلين alieni juris. ولهذه القدرة أسماء تختلف بحسب كل زمرة من هؤلاء الأفراد الذين هم:
  • (١)
    الأرقاء، وتدعى قدرة رب العائلة الخاضعين إليها dominica potestas.
  • (٢)
    الأشخاص الأحرار في الأصل الموجودون بصورة مؤقتة بحالة شبيهة بالرق في إمرة أحد أرباب العوائل الذي تسمى قدرته عليهم «مانسيبيوم mancipium».
  • (٣)
    أولاد رب العائلة وأحفاده المتحدرون من أولاده الذكور، الذين تدعى سلطته عليهم باﻟ «قدرة الأبوية patria potestas».
  • (٤)
    زوجة رب العائلة وزوجات أبنائه وأحفاده اللواتي تدعى السلطة التي يخضعن إليها ﺑ «مانوس manus».

لقد بحثنا فيما سبق الرق ووضع الرقيق وحقوق السيد عليه، ودرسنا الأشخاص الخاضعين للمانسيبيوم، وحالتهم الحقوقية. لذلك لم يبق علينا إلا أن ندرس القدرة الأبوية على الأولاد المتكلين وقدرة رب العائلة على الزوجة.

وإنا لشارعون بدرس القدرة الأبوية التي بينها وبين اﻟ «مانوس» أعظم ما يمكن أن يكون بين مؤسستين من شبه، وسيتاح لنا تفصيل اﻟ «مانوس» في بحث الزواج.

(٢) البند الثاني: صفات القدرة الأبوية ومفعولها

(٢-١) صفات القدرة الأبوية

كانت القدرة الأبوية تتضمن سلطة واسعة مطلقة يمارسها رب العائلة على أبنائه وبناته وأحفاده المتحدرين من أبنائه. ولكنها لم تبق على حال واحد من حيث شدتها ومدى سعتها طول العصور. بل يمكننا أن نلاحظ مرحلتين في تطورها.

القدرة الأبوية حتى أواخر العهد الجمهوري

يمكننا تلخيص القدرة الأبوية في هذا العهد بما يأتي:
  • (١)

    أن القدرة الأبوية واسعة مطلقة على الأفراد الخاضعين إليها، وعلى أموال الأسرة.

    وسلطة رب العائلة على الأفراد الخاضعين لقدرته الأبوية كانت كسلطة المولى على عبده سعةً وإطلاقًا.

    فقد كان له حق قتل أولاده أو أحفاده، ذلك الحق المعروف لدى الرومان بحق الحياة والموت jus vitae necisque، وحق هجرهم، وحق بيعهم كأرقاء في ما وراء نهر التيبر، وحق وضعهم في إمرة شخصٍ آخر؛ حيث يخضعون لسلطة «المانسيبيوم». ولكن قانون الاثني عشر لوحًا قيد هذا الحق؛ إذ حرم تخلي رب العائلة عن أولاده الذكور أكثر من ثلاث مرات، وعن أولاده الإناث وأحفاده ذكورًا كانوا أو إناثًا أكثر من مرة واحدة، كما أنه حظر قتل الأطفال.

    وكان لرب العائلة سلطة مطلقة أيضًا على ثروة الأسرة، يمارس عليها ما يشاء من الأعمال في حياته، وحق إجراء ما يرغب من الأعمال تنتج نتائجها بعد وفاته، وذلك بواسطة الوصية. ولكن بالرغم من جميع هذه الحقوق الواسعة المطلقة التي يتمتع بها رب العائلة، كانت القدرة الأبوية تختلف عن قدرة السيد على رقيقه من وجوهٍ شتى منها: أن الرجل يتمتع وحده بالقدرة الأبوية، في حين أن المرأة التي تستطيع أن تمارس قدرة السيد على الأرقاء محرومة من القدرة الأبوية. وأن الوضع الحقوقي للأشخاص الخاضعين للقدرة الأبوية، الذين هم أحرار، تختلف عن حالة الأرقاء، كما سنبين ذلك فيما بعد.

  • (٢)
    تستمر القدرة الأبوية طول حياة رب العائلة مهما طعن في السن، ويبقى الأولاد والأحفاد خاضعين إليها، وإن كبروا ورشدوا. وهذه الصفة تبين لنا أن القدرة الأبوية لم تكن موضوعة لمصلحة رب العائلة ولا لمنفعة الأولاد والأحفاد — لحمايتهم إذ يكونون قاصرين — بل لمصلحة الأسرة نفسها، حرصًا على بقائها وحفظ منافعها المادية والدينية.٢
  • (٣)

    أن القدرة الأبوية انحصارية ينفرد بها الشخص الأكبر من الأصول الذكور، وذلك أيضًا لمصلحة العائلة نفسها، لما في وحدة القيادة للأسرة من فائدة في ذلك الحين.

  • (٤)

    أن القدرة الأبوية تستمد نظامها مبدئيًّا من العرف لا من القانون. فلم تكن الدولة تتدخل إلا بصورة استثنائية بشئون الأسرة، التي هي هيئة سابقة للدولة من حيث المنشأ، ومستقلة تجاهها استقلالًا داخليًّا.

صفات القدرة الأبوية منذ أواخر العهد الجمهوري حتى عهد جوستنيان

لم تعد القدرة الأبوية بصفاتها التي ذكرناها تتلاءم مع التقدم الفكري الذي حصل لدى الرومان بتأثير الفلسفة اليونانية الحرة النزعة. فبجانب حقوق رب العائلة ظهرت فكرة (واجب العطف officium piétatis) تجاه الأفراد الخاضعين للقدرة الأبوية. أضف إلى ذلك نفرة الإمبراطرة من استقلال الأُسَر بجانب الدولة. كل ذلك حدا بالدولة إلى التدخل في أمور الأسرة لتحديد سلطة رب العائلة وحمله على احترام واجباته. وقد أنتج تدخل الدولة هذا نتائج حسنة نذكر منها:
  • (١)

    حرمان رب العائلة من حق معاقبة أولاده وأحفاده بغير العقوبات الطفيفة. فلم يعد له مثلًا حق قتلهم أو بيعهم كأرقاء.

  • (٢)
    تحديد حق رب العائلة بالتخلي عن ولده لوضعه في المانسيبيوم؛ إذ قُصر على حالة تسليمه للمجني عليه abandon noxal، ثم أُلغي هذا الحق برمته حتى في هذه الحالة من قِبَل جوستنيان.
  • (٣)

    منح الأولاد حق مطالبة رب العائلة بنفقة تؤمن معيشتهم.

ثم إن هذا التطور لم يقتصر على سلطة رب العائلة على الأفراد الخاضعين لقدرته، بل شمل أيضًا حقه على ثروة الأسرة. وأجلُّ ما حدث في هذا الشأن أن رب العائلة صار ملزمًا بأن يخلف لأولاده حصة معينة من تركته لا يجوز له حرمانهم منها بوصايا للآخرين.

(٢-٢) مفعول القدرة الأبوية: وضع الأبناء المتكلين liberi

ذكرنا فيما سبق أن وضع الأولاد المتكلين كان — تجاه رب عائلتهم على الأقل — شبيهًا بوضع الرقيق. بيد أننا بيَّنا الفروق بين قدرة رب العائلة على الرقيق والقدرة الأبوية.

كان المتكلون في البدء مجردين عن الأهلية. ولئن كان لهم شخصية حقوقية، فهذه الشخصية كانت ذائبة ممحية بشخصية رب العائلة، لا سيما من حيث حق الثروة الذي كانوا محرومين منه. ولكن حال الأبناء المتكلين الحقوقية قد تحسنت منذ بدء العهد الإمبراطوري. فمن حيث الحقوق العائلية نلاحظ تحسن حالهم الحقوقية في نواحٍ مختلفةٍ نذكر منها:
  • (١)

    أن رضاء الابن المتكل أصبح شرطًا أساسيًّا لتكون الزواج، بعد أن كان يُستغنى عنه برضاء رب العائلة.

  • (٢)
    صار يحق للابن المتكل التمتع بالقدرة الزوجية manus على زوجه بدلًا من رب عائلته.
  • (٣)

    أن موافقة الابن المتكل على زواج أولاده أو تبنيهم من قِبَل شخص آخر أصبحت لازمة، بعد أن كان يكتفى بموافقة رب العائلة.

    أما التقدم الذي حصل في حال الابن المتكل من جهة حقوق الثروة فقَيِّمٌ وجديرٌ ببعض التفصيل.

حالة الابن المتكل من جهة حقوق الثروة

كنا ذكرنا أن الابن المتكل كان مبدئيًّا محرومًا من حقوق الثروة. فكل ما كان يحتازه كان يصبح ملكًا لرب عائلته.٣ وهذا ما كان يقارب بينه وبين الرقيق؛ إذ كان كلاهما كآلة اكتساب حقوقية لرب العائلة.

ولكن بين الابن المتكل والرقيق من هذه الجهة أيضًا فروقًا أساسيةً، أجلها أن حرمان الأولاد المتكلين من حق الثروة، إنما هو أمر مؤقت، يزول بزوال القدرة الأبوية التي هي مؤقتة أيضًا؛ إذ تسقط بوفاة رب العائلة. بل إنهم يعتبرون كشركاء رب العائلة في الثروة التي ليس هذا في الحقيقة سوى مدير لها، في حين أن الرقيق يبقى أبدًا مجردًا عن حق الثروة وغيره من الحقوق.

قطائع (بيكوليوم peculium) الأبناء المتكلين

كان رب العائلة، في كثير من الأحيان، يعهد إلى أبنائه بقسم من المال يسمى «بيكوليوم» لإدارته وتنميته، كما كان يفعل ذلك مع أرقائه. وقد كانت طريقة استخدام رب العائلة أبناءه لاستثمار أمواله وسيلة حسنة لتدريب الأولاد على القيام بمهمتهم في المستقبل كأرباب عوائل يحسنون إدارة أموالها، كما أنها أفادتهم فائدة مباشرة بتحسين مركزهم الاجتماعي وحالتهم الحقوقية التي نحن بصددها.

لقد أصبح ابن العائلة المتكل أهلًا لأن يلزم نفسه؛ أي لأن يكون مدينًا، بما يبرمه من العقود، كما أنه أحرز بالتدرج حق المقاضاة (المثول أمام القضاء) بصفة مدعى عليه، ثم بصفة مدع فيما يتعلق بدعاوى خاصة وضمن شروط معينة.٤
ولكن بجانب هذه القطيعة (بيكوليوم) التي كان يعهد بها رب العائلة لابنه المتكل، المعروفة ﺑ protectice والتي لم يكن لهذا الأخير عليها حق ملك — بل كان مالكها رب العائلة — ظهرت أنواع أخرى من القطائع أحرز الولد عليها حق ملك غير منازع به، وهي اﻟ «بيكوليوم كاسترانس» واﻟ «بيكوليوم شبيه الكاسترانس» واﻟ «بيكوليوم أدفانسيوم».

(أ) اﻟ «بيكوليوم كاسترانس peculium castrense»

هذه القطيعة عبارة عن الأموال التي كان يكتسبها ابن العائلة المتكل من خدمته في الجيش. وقد قضى الإمبراطور أوغستوس — وحذا حذوه من أعقبه من الإمبراطرة — بمنح الابن المتكل حق التصرف بهذه الأموال كيفما يشاء في حياته، وبأن يوصي بها بعد وفاته، وذلك ترغيبًا للجند بالبقاء في الجندية ومساعدةً لهم. لا سيما وأن الجيش في العهد الإمبراطوري أصبح جيشًا نظاميًّا مؤلفًا من جنود مصطنعين مستأجرين، بعد أن كان يؤلف من وطنيين يدعون بصورة مؤقتة للجندية لحرب معينة.

فهذه الحقوق التي منحها الابن المتكل على اﻟ «بيكوليوم كاسترانس» تفيد حق ملكه عليها.

ولكن بالرغم من ذلك ما برح لرب العائلة حتى عهد جوستنيان حق على هذه الفصيلة من أموال الابن المتكل، يتلخص برجوعها إليه عند وفاة الابن المتكل قبله، وذلك لا بصفته وارثًا، بل بصفته صاحب القدرة الأبوية.

وقد قضى هذا الإمبراطور المتشرع بانتقال هذه الأموال إلى فروع الابن المتكل أو إلى إخوته وأخواته بعد وفاته، وعند فقدانهم إلى رب العائلة، لا بصفته صاحب حقٍّ خاصٍّ عليها كقطيعة، بل بصفته وارثًا.

(ب) اﻟ «بيكوليوم الشبيه بالكاسترانس peculium quasi-castrense»

أوجد هذا النوعَ من القطيعة وأعمل بحقها بعض أحكام قطيعة اﻟ «كاسترانس» الإمبراطور قسطنطين. وقد كانت في عهد إنشائها مؤلفة من الأموال التي يكتسبها الابن المتكل من وظيفته في البلاط الإمبراطوري.

بقي الأبناء المتكلون محرومين زمنًا من الإيصاء بالأموال الداخلة في هذه القطيعة، مقتصرًا حقهم على التصرف بها في حياتهم حسب مشيئتهم، ولكن جوستنيان وحَّد ما بين أحكام القطيعة وقطيعة اﻟ «كاسترانس»، فصارت كلتاهما تشكل مالًا خاصًّا للابن المتكل.

(ﺟ) اﻟ «بيكوليوم أدفانتيسيوم Peculium adventicium»

نشأت هذه القطيعة في عهد الإمبراطورية السفلى، وكانت مؤلفة في البدء من الأموال التي كانت تصيب الأولاد من ميراث أمهم (إذ صارت الأم تبقى في أكثر الأحيان في عائلتها القديمة — بنتيجة انتشار الزواج بلا مانوس — وترث منها). ويرجع الفضل إلى الإمبراطور قسطنطين بإبقاء هذه الأموال ملكًا للأولاد، في حين أنها قبل ذلك كانت تنتقل لرب العائلة جريًا على القاعدة التي بموجبها كان كل ما يحتازه الابن المتكل يصبح ملكًا لرب عائلته.

لم يقتصر هذا الحكم على الأموال الموروثة عن الأم مباشرة، بل ما لبث أن تعداها إلى جميع الأموال التي يحرزها الابن المتكل، ما عدا الأموال الداخلة في القطيعتين اللتين شرحناهما.

وقد انتهى الأمر بانقلاب القاعدة ظهرًا على عقب، فقد قضى الإمبراطور جوستنيان أن كل ما يحرزه الابن المتكل يكون مبدئيًّا — ما خلا بعض الاستثناءات — ملكًا له. ولم يعد ينتقل لرب العائلة من أموال الابن المتكل المتوفى قبله غير أموال قطيعة اﻟ protectice التي يعهد بها للابن رب عائلته كما بيَّنا سابقًا.

(٣) البند الثالث: انتهاء القدرة الأبوية

إن القدرة الأبوية مبدئيًّا تدوم ما دام صاحبها (رب العائلة) والأشخاص الخاضعون إليها (الأبناء المتكلون) أحياء.

استمرت هذه القاعدة بالرغم من توالي الأزمان وتبدل الأحوال السياسية والاجتماعية. ولئن كان يبرر استمرار القدرة الأبوية في البدء على الشكل الذي ذكرناه قيام الحياة على الزراعة وضرورة تضافر أبناء العائلة تحت قيادة واحدة لتأمين معيشتهم وحفظ مصالحهم الحيوية، إلا أنه لم يعد لذلك مبرر بعد تطور الحياة من جميع مناحيها لدى الرومان، ولا سيما من الوجهة الاقتصادية؛ إذ اتسعت التجارة والصناعة … إلخ، على أثر اتساع الفتوحات الرومانية؛ إذ صار أبناء الأُسر يديرون أعمالًا عظيمة خارج نطاق أعمال الأسرة، ويتولون وظائف خطيرة في الدولة. وبالرغم من ذلك بقي الرومان محتفظين بالقاعدة القديمة، وظل الأبناء خاضعين مبدئيًّا للقدرة الأبوية.٥

بيد أن هذه القاعدة لم تعد مطلقة، وأصبح بالإمكان زوال القدرة الأبوية بغير الوفاة. وإنا لباحثون الآن مختلف أسباب سقوط القدرة الأبوية.

(٣-١) أسباب سقوط القدرة الأبوية

إن هذه الأسباب بعد أن كانت نادرة — بل بعد أن كانت القدرة لا تزول إلا بوفاة صاحبها أو موت الخاضع إليها — أصبحت متعددة، ويمكننا أن نقسمها إلى فصيلتين: الأولى تتضمن الأسباب المستقلة عن إرادة رب العائلة، والأخرى مؤلفة من الأسباب المنوطة بإرادته.

الأسباب المستقلة عن إرادة رب العائلة

تتلخص هذه الأسباب بما يأتي:

(أ) موت رب العائلة أو الولد المتكل

تسقط بوفاة رب العائلة قدرته على أفراد الأسرة المتكلين، فيصبح الأشخاص الذين كانوا تحت قدرته بصورة مباشرة — كأبنائه وبناته وزوجته — مستقلين. أما الأشخاص الذين كانوا تحت قدرته بصورة غير مباشرة فإنهم يظلون متكلين؛ إذ يخضعون لقدرة الأشخاص الذين كانوا بسببهم خاضعين لقدرة رب العائلة المتوفى، كالأحفاد إذ يخضعون لقدرة آبائهم بعد وفاة جدهم، والزوجات إذ يخضعن لقدرة أزواجهن بعد وفاة والد هؤلاء.

ثم إن وفاة الولد تضع حدًّا للقدرة الأبوية عليه، وهذا أمرٌ بديهيٌّ لا يحتاج لشرح ولا تعليل. ويلحق بوفاة رب العائلة والولد فقدانهما الحرية لسبب من الأسباب؛ لأن القدرة الأبوية تفترض الحرية لدى صاحبها والخاضع إليها.

ولكن ما يجب ملاحظته هو أن فقدان الحرية بسبب وقوع الروماني في الأسر يجعل القدرة الأبوية معلقة، حتى إذا عاد الشخص من أسره عاد إلى ممارستها إذا كان رب عائلة، أو إلى الخضوع إليها إذا كان ابنًا متكلًا، كأنه لم يفقد حريته وحقوقه، وذلك بحسب نظرية اﻟ «بوستليمنيوم» التي اطلعنا عليها في بحث الرق.

(ب) تولي ابن العائلة المتكل بعض المناصب والوظائف

قديمًا كانت هذه الوظائف مقتصرة على سدانة الإله «جوبيتر» flamine وعلى منصب حارسة النار المقدسة Vestale، ولكن ما لبثت بعض الوظائف المدنية أن صارت تسقط القدرة الأبوية عن صاحبها. وقد اتسعت سلسلة هذه الوظائف كثيرًا في عهد الإمبراطور جوستنيان.

(ﺟ) حالات خاصة تدل على حطة رب العائلة وعدم صلاحه وجدارته لممارسة القدرة الأبوية

إن هذه الحالات التي حددها القانون هي: (أ) هجر رب العائلة أولاده. (ب) تزوجه بامرأة بينه وبينها قرابة مانعة للزواج. (ﺟ) إلقاؤه ابنته بالفحشاء.

ولنلاحظ أن سقوط القدرة الأبوية عن الأولاد الخاضعين إليها وفي الحالة المتقدمة لا تزيل صلة القرابة بينهم وبين عائلتهم إلا في حالة فقدانهم الحرية.

أسباب سقوط القدرة الأبوية المنوطة بإرادة رب العائلة

تتلخص هذه الأسباب بتبني الولد من قِبَل شخص آخر، الذي يؤدي إلى زوال قدرة رب عائلته القديم وحلول قدرة المتبني محلها. وزواج البنت المتكلة زواجًا بمانوس الذي يخرجها من عائلتها القديمة، ويدخلها بعائلة زوجها وخضوعها لقدرة هذا (وقدرة رب عائلته). ومبيع الولد بالمانسيبيوم، وتحرير الأولاد من القدرة الأبوية.

ليس لنا أن نبحث إلا عن التبني والزواج بمانوس اللذين سندرسهما فيما بعد بالتفصيل في مواضعهما الخاصة. أما بيع الولد بالمانسيبيوم فقد سبق لنا درسه، وحسبنا أن نلاحظ الآن أنه يئول تارة إلى زوال القدرة الأبوية بصورة نهائية عندما يجري بيع الابن ثلاث مرات، وإلى سقوطها بصورة مؤقتة حينما لا يتجاوز بيعه مرة واحدة. بقي علينا إذن أن نبحث التحرير.

(٣-٢) تحرير الأولاد المتكلين émancipatis

تحرير الأبناء هو عبارة عن العمل الحقوقي الذي يخرج به رب العائلة ولده المتكل من قدرته الأبوية التي كان خاضعًا إليها.

قديمًا كان تحرير الأولاد عقوبة لهم يخرجهم من أسرتهم ويصرم كل صلة قرابة بينهم وبين أفرادها، ويقضي على جميع الحقوق الناتجة عن انتمائهم للأسرة وعن قرابتهم. ولكن التحرير بعد أن كان عقوبة للولد المتكل في القديم صار في العهد المدرسي يصار إليه مساعدةً له، ورغبةً في نفعه؛ إذ كان ينقذه من قيود القدرة الأبوية الثقيلة الوطأة.

(٣-٣) أشكال التحرير

إن أشكال التحرير لم تبق واحدة، بل إنها تطورت وتبدلت على توالي العصور.
  • أشكال التحرير القديمة: لم يكن للتحرير طريقة مباشرة في الحقوق الرومانية؛ لأن التحرير لم ينص عنه القانون. لذلك لجأ الرومان لإنفاذ التحرير إلى القاعدة التي بموجبها يفقد رب العائلة قدرته الأبوية على ابنه ببيعه في المانسيبيوم ثلاث مرات، تلك القاعدة التي نص عنها قانون الاثني عشر لوحًا، وتمموها بطريقة العتق بالقضيب، وإليك بيان ذلك:

    يبيع رب العائلة ابنه بالمانسيبيوم ثلاث مرات لشخص يتفق وإياه على أن يعتقه عقيب كل بيع بالمانسيبيوم. وهكذا يفقد رب العائلة قدرته على الابن المتكل في المرة الثالثة من بيعه إياه بالمانسيبيوم، ثم يصبح الولد طليقًا من المانسيبيوم بالعتق من قِبَل محرز هذه السلطة عليه للمرة الثالثة. ولكن لما كان للمعتق على المعتَق بالمانسيبيوم حقوق المولى المعتق على العتيق، التي أجلها حق الوصاية وحق وراثة المعتق العتيق عند وفاته بدون وارث، صار رب العائلة يعمد إلى الاتفاق مع الشخص المباع له الابن المتكل بالمانسيبيوم، أن يبيع هذا الشخص الابن المتكل لرب العائلة بيعًا بالمانسيبيوم بدلًا من عتقه إياه للمرة الثالثة. وحينئذٍ يكتسب رب العائلة القديم على الابن المتكل سلطة «المانسيبيوم»، فيعتقه منه ويحرز عليه حقوق المولى على العتيق، بدلًا من أن يكتسبها شخص غريب.

  • أشكال التحرير في العهد الأخير: بجانب طريقة التحرير التي أتينا على شرحها، أوجد الإمبراطور «أنستاس» سنة ٥٠٢ب.م طريقة جديدة تتلخص بإصدار أمر إمبراطوري بتحرير الابن المتكل بموافقته ورضاء رب عائلته.

    ثم ظهرت بعد ذلك طريقة أخرى في ولايات الإمبراطورية الشرقية، تمتاز ببساطتها، وهي عبارة عن تصريح رب العائلة أمام القاضي بتحرير الابن المتكل، الذي تشترط موافقته، وقد أقر الإمبراطور جوستنيان طريقة التحرير هذه التي قضت على الطريقة القديمة.

(٣-٤) نتائج تحرير الأولاد المتكلين

كانت نتائج تحرير الأولاد قديمًا شديدة حازمة، بل قاسية بحق الأولاد المحررين، فلئن كان المحرر يصبح مستقلًّا ويحرز حق احتياز ثروة خاصة به، إلا أنه كان يخرج من عائلته وتنصرم كل صلة حقوقية بينه وبين أقاربه فيها حتى الأقربين كأولاده — إذا لم يحرروا معه — وبجراء ذلك يفقد جميع الحقوق القائمة على القرابة، كحق الوراثة وحق الوصاية.

وقد حدا عامل الإنصاف بالبريتور أن يخفف من وطأة هذه النتائج، فخول الولد المحرر الاحتفاظ ببعض الحقوق الإرثية في عائلته القديمة.

ثم أجيز للولد المحرر الاحتفاظ بقطائعه التي يحرزها من خدمته بالجيش castrense، ومن الوظائف التي اعتبرت معادلة للجندية quasi-castrense، وبالقسم الأعظم من أموال القطيعة المعروفة ﺑ «أدفانتيسيوم». أضف إلى ذلك أن رب العائلة، صار بحكم العرف والعادة، يبقي للولد ما كان عهد إليه به من أموال لتنميتها، تلك الأموال التي كانت تشكل القطيعة المعروفة ﺑ profectice.

•••

تلك هي الأسباب المختلفة لانتهاء القدرة الأبوية. ولكن بالرغم من تعدد هذه الأسباب، وبالرغم مما طرأ على القدرة الأبوية من تعديل، وتخفيف لقسوتها، فقد ظلت تلازم الأولاد المتكلين ما داموا أحياء وما دام رب عائلتهم حيًّا، وهذا ما جعل البون شاسعًا بينها وبين القدرة الأبوية في الشرائع الحديثة ومنها الشريعة الإفرنسية.

(٤) البند الرابع: مصادر القدرة الأبوية

مصادر القدرة الأبوية في الحقوق الرومانية ثلاثة: (١) التناسل بطريقة الزواج الشرعي. (٢) التبني. (٣) الاستلحاق.

إن المصدرين الأول والثاني قديمان، أما المصدر الثالث فحديث؛ إذ لم ينشأ إلا في عهد الإمبراطورية السفلى.

يحتاج كلٌّ من هذه المصادر إلى بحث مفصل عميق؛ ولذلك سنفرد لكلٍّ منها فصلًا خاصًّا.

بيد أننا لا نرى مندوحة من إيضاح بعض النقاط منذ الآن فيما يتعلق بالتناسل بطريقة الزواج الشرعي:
  • (١)
    أن الزواج الشرعي الروماني justae nuptiae أي الزواج بحسب أحكام الحقوق القومية، ينتج وحده القدرة الأبوية على الأولاد. أما الزواج بحسب أحكام حقوق الناس فلا يفسح مجالًا لهذه القدرة الأبوية؛ لأنها مؤسسة رومانية قومية محضة.
  • (٢)

    أجازت قوانين خاصة في طليعتها قانون «إيليا سنسيا» اكتساب اللاتيني القدرة الأبوية على أولاده المولودين من زواجه بامرأة وطنية رومانية أو بلاتينية على إثر إحرازه الجنسية الرومانية، وباكتساب الوطني الروماني هذه القدرة على أولاده المولودين من زواجه بلاتينية أو ﺑ «بيريغرينية» عند إحراز الزوجة الجنسية الرومانية، على شرط جهل الزوج جنسية المرأة عند زواجه بها.

أما إذا كان الأبوان غريبين (بيريغرين)، فلم يكن منحهما الجنسية الرومانية ليكسبهما بملء الحق القدرة الأبوية على أولادهما المولودين من قبل، بل كان لا بد لذلك من أمرٍ خاصٍّ من الإمبراطور.٦
١  إن كلمة رب عائلة paterfamilias تفيد أصلًا في اللاتينية زعيم pater  البيت familias بما يتضمنه البيت من أفراد وأموال (راجع جيرار ص١٣٨ وجيفار ١٨٦).
٢  ماي (ذ. س) رقم ٣٧.
٣  كان بنات العائلة محرومات من الأهلية الحقوقية كلها أو بعضها بسبب جنسهن حتى ولو كن مستقلات، فلأن يكن محرومات من الحقوق التي لا يتمتع بها الأبناء المتكلون أمرٌ بديهيٌّ.
٤  راجع: كوك (ذ. س) ص١٤١-١٤٢.
٥  لنلاحظ أن عدم أهلية الأبناء الحقوقية لدى اليونان مثلًا قد زال باكرًا منذ بدء تقدم الحياة الاقتصادية (راجع: كوك (ذ. س) ص١٥١).
٦  راجع كوك (ذ. س) ص١٥٠.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤