الفصل الخامس

الوصاية والقوامة

إن بين الأشخاص المستقلين، أشخاصًا عاجزين عن إدارة أموالهم بسبب ضعف في ملكاتهم العقلية، ناتج، بعرف الحقوق الرومانية، عن صغر السن، أو عن الأنوثة، أو عن اختلال في الدماغ. لذلك يخضع هؤلاء الأشخاص إلى أحد نظامين، قريبين من القدرة الأبوية هما الوصاية والقوامة، وهذا ما دعا إلى تقسيم الأشخاص المستقلين إلى أشخاص مستقلين خاضعين إلى الوصاية أو القوامة، وأشخاص مستقلين غير خاضعين إلى الوصاية والقوامة. فالزمرة الأولى محرومة بصورة كلية أو جزئية من أهلية ممارسة حقوقها، والزمرة الثانية حائزة هذه الأهلية.

إن الوصاية والقوامة مؤسستان مختلفتان مبدئيًّا ولكنهما ما زالتا تتقاربان حتى لم يعد يفرق بينهما إلا من حيث الشكل. وقد أصبحتا في عهد الإمبراطورية السفلى ترميان إلى غاية واحدة هي المحافظة على أموال الأشخاص الخاضعين لهما.

(١) الوصاية La tutelle

توضع الوصاية على زمرتين من الأشخاص المستقلين: الأشخاص غير البالغين Impubères من الذكور والإناث، والنساء البالغات.

لا يخضع أفراد هاتين الزمرتين إلى الوصاية إلا حينما يصبحون مستقلين، طلقاء من القدرة الأبوية؛ وذلك لأن الولد المتكل ليس له مالٌ خاصٌّ مبدئيًّا فيحافظ عليه، وإذا كان للولد المتكل غير البالغ مالٌ خاصٌّ كانت إدارته من حق رب أسرته، ثم صار في الحقوق المتأخرة يعهد بإدارة أمواله الخاصة لقيمٍ لا لوصيٍّ.

(١-١) البند الأول: الوصاية على الأحداث

فِكَرٌ عامة

كان الأحداث المستقلون الذين لم يدركوا سن البلوغ، التي هي الرابعة عشرة للرجال والثانية عشرة للنساء في الحقوق الرومانية، خاضعين للوصاية. فقد كانت الوصاية على الأحداث تقوم إذن مقام القدرة الأبوية.

وتفيد الوصاية قيام شخص مستقل حائز على شروط معينة بتدبير شئون القاصر؛ أي إدارة مصالحه. ويبرر الوصاية على غير البالغين عدم اكتمال مقدرتهم العقلية، وعدم استطاعتهم بنتيجة ذلك التمييز بين الصالح والطالح.

أما الغاية من وضع الوصاية على غير البالغين فلم تكن في الحقوق الرومانية القديمة كما قد يتبادر لنا، حماية القاصر والحرص على مصلحته. فقد كانت الوصاية في البدء وما زالت زمنًا طويلًا موضوعة لمصلحة الأسرة، صونًا للثروة العائلية من أن تتلف بسبب عجز القاصر عن حفظها، وتأمينًا لانتقالها لأفراد أسرة الموصى عليه أو قبيلته (في القديم). وقد قضى المنطق بحسب هذه الفكرة بأن يعهد بالوصاية على القاصر إلى الأشخاص الذين لهم مصلحة ببقاء ثروته (أي إلى أقرباء القاصر الأقربين من جهة قرابة العصبة الذين هم ورثته العتيدون). وقد كانت سلطة الوصي واسعة ليس عليها مراقبة ما؛ لأن الوصاية كانت تعتبر من الحقوق الخاصة المحضة، فلم تكن الدولة تتدخل بشأنها، حتى إنها كانت تسمى قوة وقدرة Visae potestas. ولكن هذه الفكرة تصدعت وجنحت إلى الاضمحلال منذ أن أجيز إلى الوالد تعيين وصي لولده غير البالغ بواسطة الوصية؛ إذ صار ينتخب له وصيًّا من غير الأشخاص الذين لهم مصلحة شخصية ببقاء ثروته لتأمين انتقالها إليهم. وهكذا صارت الوصاية قائمة على أساس مصلحة القاصر الموصى عليه نفسه، لا على مصلحة الأسرة، وأصبحت تشكل وجيبةً وعبئًا، لاحقًا.

نشأت هذه الفكرة الجديدة الإنسانية منذ العهد المدرسي ورسخت بعد ذلك إلى أن أقرتها الحقوق الحديثة.

حالات وجوب الوصاية

قلنا إن الوصاية توضع على الأشخاص غير البالغين حينما يصبحون مستقلين. أما الحالات التي يصبح بها الشخص غير البالغ مستقلًّا وتجب عليه بنتيجة ذلك الوصاية فهي: (١) وفاة رب الأسرة ممارس القدرة الأبوية بصورة مباشرة على الولد المتكل غير البالغ، ويقاس بالوفاة فقدان الحرية، وفقدان حق الوطنية الرومانية. (٢) عتق الرقيق غير البالغ. (٣) تحرير الولد المتكل غير البالغ من القدرة الأبوية. ويمكننا أن نلاحظ أن الحالة الأولى وحدها لا تزيل صلة قرابة العصبة بين الشخص غير البالغ وبين أفراد أسرته، وهي الحالة الاعتيادية.

أنواع الوصاية

عرفت الحقوق الرومانية ثلاثة أنواع من الوصاية هي: (١) الوصاية القانونية. (٢) الوصاية بالوصية. (٣) الوصاية القضائية. ولكن هذه الأنواع لم تنشأ في آنٍ واحدٍ، بل إن ظهورها كان متتابعًا بحسب مساس الحاجة لها، كما أنها تطورت ولم يبق كل نوع منها على ما كان عليه عند نشوئه. كانت الوصاية القانونية في البدء النوع الوحيد للوصاية، وهي عبارة عن منح القانون حق الوصاية على القاصر لأقربائه العصبيين أو أقربائه في القبيلة. ومثلها الوصاية بالوصية؛ حيث صار أرباب الأسر أو الآباء يعينون بوصيتهم أوصياء لأبنائهم يختارونهم من غير أقرباء العصبة الذين كانوا يقومون بالوصاية لمصلحتهم لا لمصلحة الموصى عليه. وقد آثر قانون الاثني عشر لوحًا الوصاية بالوصية على الوصاية القانونية؛ إذ أقر أن لا يصار إلى الوصاية القانونية؛ أي إلى نصب وصي من أقرباء العصبة بحسب أحكام القانون، إلا عند عدم تعيين وصي بوصية رب عائلة القاصر. ثم ظهرت الوصاية القضائية التي كان بموجبها يعين الحاكم وصيًّا في حالة عدم تعيين رب عائلة القاصر وصيًّا له بوصيته وخلو أقرباء عصبة للقاصر.

(أ) الوصاية القانونية

ذكرنا فيما سبق أن الوصاية القانونية هي أقدم أنواع الوصاية، وقد كانت في الأصل مؤسسة عرفية، فهي وجدت قبل أن ينص عنها قانون الاثني عشر لوحًا الذي لم ينشئها، بل أقرها إقرارًا.

أما الأوصياء القانونيون الذين صار منذ هذا القانون يلجأ إلى تعيينهم عند فقدان وصي معين بالوصية، فهم أقرباء القاصر العصبيين Agnats، وعند فقدان هؤلاء يصار إلى تعيين وصي من أفراد قبيلته. ولكن النساء محرومات من حق الوصاية على أقاربهن.

أما إذا كانت الوصاية قد وجبت على الولد بسبب عتقه أو تحريره من القدرة الأبوية، كان وصيه القانوني مولاه المعتق أو محرره من القدرة الأبوية أو رب عائلته القديمة بصفته مولى لا رب عائلة.

تتجلى في الوصاية القانونية فكرة قيام الوصاية على أساس مصلحة الأسرة، فقد كان القريب الأقرب الذي يعين وصيًّا هو وارث القاصر العتيد. ولما كان من صالح هذا الوصي القانوني موت الموصى عليه لم يخول الشارع ذاك حق الحضانة على هذا حذرًا من أن يعمل على الإيقاع به وإهلاكه.

إن حق وصاية الأقرباء القبليين (أفراد القبيلة) قد زال بزوال حقوق القبيلة التي لم تدم زمنًا طويلًا. أما وصاية الأقرباء العصبيين فقد استمرت حتى عهد جوستنيان الذي قضى على أسلوب قرابة العصبة وأحل محله أسلوب قرابة الرحم، وجعل الوصاية من حق أقرباء الرحم Cognats.

(ب) الوصاية بالوصية

الوصاية بالوصية هي، كما يدل اسمها عليها، الوصاية التي ينظمها رب العائلة بوصيته لولده أو أولاده بعد وفاته. وقد كان حق تعيين رب العائلة أو الأب وصيًّا لأولاده بوصية، من الحقوق الداخلة في قدرته الأبوية. لذلك لم يكن يتمتع بهذا الحق الأمهات؛ لأنهن محرومات بصورة مطلقة من حق القدرة الأبوية بسبب الأنوثة، وجد الولد من جهة أمه؛ لأنه لم يكن له حق ممارسة القدرة الأبوية عليه.

لم تكد الوصاية بالوصية تظهر حتى انتشرت وتفوقت على الوصاية القانونية كما بيَّنا سابقًا، وصارت الوصاية تسير نحو التحول من مؤسسة قائمة على مصلحة الأسرة إلى مؤسسة موضوعة لحماية القاصر الموصى عليه.

كان تعيين الوصي بالوصية خاضعًا لشرطين شكليين رئيسيين لا تعتبر الوصاية صحيحة بدونهما: (١) أن ينص عن الوصاية بألفاظ رسمية لها صيغة الأمر. (٢) أن ينص عنها في متن الوصية بعد تعيين الوارث، بيد أنه في العهد المدرسي صار بالإمكان تثبيت الوصاية بالوصية الخالية من هذين الشرطين، وجعلها بالرغم من ذلك صحيحة بالمصادقة عليها من قِبَل الحاكم. ثم لم يعد هذان الشرطان لازمين لصحة الوصاية بالوصية، فأصبح يجوز تعيين الوصي بأي صيغة كانت وفي أي مكان كان من الوصية، بل صار يُسوغ النص عن الوصاية بملحق الوصية Codicille.

(ﺟ) الوصاية القضائية

يُعين الوصي في هذا النوع من الوصاية من قِبَل الحاكم حينما لا يكون للقاصر وصي معين بالوصية أو وصي قانوني (من أقاربه العصبيين). وقد نشأت هذه الوصاية عن فكرة حماية القاصر التي هي فكرة جديدة في الحقوق الرومانية؛ لأن الدولة لم تكن قديمًا تتدخل بشأن الوصاية لما كان لهذه المؤسسة من صيغة عائلية خاصة. لقد كانت الوصاية القضائية منحصرة في البدء في روما، ثم شملت فيما بعد الولايات بفضل قانوني «جوليا Julia» و«تيتيا Titia». ففي روما كان البريتور في البدء يعين الأوصياء، ثم صار القنصل يمارس هذا الحق (في عهد الإمبراطور كلود). وانتهى الأمر بأن عهد بتعيين الأوصياء إلى بريتور خاص في روما. أما في الولايات فقد خص بهذا الحق الحكام الولاة Gouverneurs بموجب قانوني «جوليا» و«تيتيا».

وفي عهد جوستنيان صار يميز القاصرين الذين تفوق ثروتهم مبلغًا معينًا من المال (٥٠٠ فلس ذهبي) وبين القاصرين الذين تكون ثروتهم دون هذا المقدار. فالزمرة الأولى يعين أوصياءها الحكام العالون بعد القيام بتحقيق. والزمرة الثانية يعين أوصياءها الحكام البلديون من دون تحقيق. إلا أنه كان يطلب من الوصي في هذه الحال تقديم كفلاء على المحافظة على ثروة القاصر.

نتائج الوصاية

تؤدي الوصاية إلى حرمان القاصر الموصى عليه من حق إدارة أمواله وحده؛ لأنه يعتبر عاجزًا عن القيام بذلك لحداثة سنه. فالوصي هو الذي يشرف على مصالح القاصر وذلك إما بطريقة الإدارة المباشرة Negotiorum gestio أو ببعض بطريقة إجازة القاصر للقيام الأعمال auctoritas tutoris. لذلك لا بد لنا من درس عدم أهلية الولد غير البالغ الموصى عليه وسلطة الوصي.

(أ) أهلية الولد الموصى عليه

لم يكن جميع الأولاد غير البالغين الموصى عليهم سواء، من حيث عدم الأهلية، بل إن الحقوق الرومانية جعلتهم من هذه الجهة على درجات بحسب تفاوت سنهم. فكلما تقدم الموصى عليه في السن، خفف من عدم أهليته، وبتعبير آخر زيدت أهليته الحقوقية.

لذلك قسموا الموصى عليهم غير البالغين إلى ثلاث زمر:
  • (١)
    الأطفال infants: الذين كان يمكن تعريفهم قبل جوستنيان بالأشخاص العاجزين عن الكلام أو على الأقل عن الكلام الصحيح.
  • (٢)
    الصبيان infant ia proximi: وهم الذين جاوزوا طور الطفولة، وأصبحوا غير قادرين على الكلام من دون أن يدركوا مدى ما يقولون.
  • (٣)
    الغلمان المراهقون: أي الذين قاربوا البلوغ وصاروا يفقهون ما يقولون ويدركون ما يفعلون.

لم يكن يُعين لكلٍّ من هذه الزمر من الأحداث غير البالغين سن معينة، بل كان طور كلٍّ منهم يقدر تقديرًا فعليًّا.

إلا أنه في عهد الإمبراطورية السفلى — وبالأصح في عهد جوستنيان — حدد للطفولة سن هي السابعة من العمر.

يتضاءل عدم أهلية الموصى عليه بحسب تدرجه في هذه الأطوار وارتقائه من طور إلى آخر.
  • فالأطفال: كانوا حقوقيًّا محرومين من الأهلية بصورة مطلقة، فلم يكونوا قادرين على القيام بعملٍ حقوقيٍّ ما وحدهم، ولا بإجازة أوصيائهم، بل لا يمكن أن تتصور إجازة الوصي للطفل؛ لأن الوصي إنما يهدي بإجازته إرادة الموصى عليه، والطفل ليس له إرادة فتهدى وتقوم.
  • أما الصبيان: فيجب التمييز فيما يتعلق بأهليتهم بين الوجائب الناشئة عن العقود والوجائب الناشئة عن الجرائم. فهم غير مسئولين عن الوجائب الناشئة عن الجرائم. أما فيما يتعلق بالعقود وبصورة عامة بالأعمال الحقوقية، فقد كانوا (منذ العهد المدرسي) حائزين على أهلية القيام بها وحدهم، إذا كان من شأنها أن تحسن حالهم، كأن تجلب فائدة لهم، ولكن إذا كان من شأنها أن تسيء حالهم كأن تلحق بهم خسارة (كالتخلي عن ملكية مال ما أو الالتزام بدين ما)، لم يكن حينئذٍ بدٌّ من إجازة الوصي. ثم إن من الأعمال الحقوقية ما لا يستطيع الصبيان إجراءها حتى بإجازة الوصي، كالزواج، والإيصاء، والشهادة.١
  • وأما الغلمان المراهقون: فأهليتهم كأهلية الصبيان من حيث الأعمال الحقوقية التي هي أعمال مشروعة، ولكنهم يتميزون عن هؤلاء بأنهم ملزمون بالوجائب الناشئة عن الجرائم. أي أنهم يعتبرون مسئولين عن الجرائم التي قد يرتكبونها، وذلك لأنهم يعدون أكثر إدراكًا وتمييزًا.

(ب) أسلوب ممارسة الوصاية

تختلف سلطة الوصي في الحقوق الرومانية عن القدرة الأبوية، وعن وظيفة الوصي في الحقوق الحديثة، باقتصارها على أموال الموصى عليه. وقد بينا أن سبب عدم تمتع الوصي في روما بحضانة الموصى عليه يرجع في الأصل إلى الحذر من الوصي على الموصى عليه؛ لأن الوصاية كانت قديمًا لا تمنح إلا لأقرباء العصبة الذين كانوا في آن واحد ورثة الموصى عليه العتيدين، لهم بسبب ذلك مصلحة بوفاته. إلا أن هذا المحذور لم يعد موجودًا فيما بعد في الوصاية بالوصية والوصاية القضائية. وبالرغم من ذلك ظلت مهمة الوصي مقتصرة على المحافظة على أموال القاصر، وبقيت حضانة الموصى عليه من حق أقربائه الذين تربطهم به قرابة رحم غير الأوصياء، وفي طليعتهم أمه.

كان لقيام الوصي بمهمته أسلوبان: أسلوب الإجازة، وأسلوب الإدارة المباشرة.
  • أسلوب الإجازة auctoritas: يقوم في هذه الطريقة الموصى عليه نفسه بالعمل الحقوقي مع الوصي الذي تقتصر مهمته على إجازته، تلك الإجازة التي ليست لازمة إلا في الأعمال التي من شأنها إساءة حال الموصى عليه. ولكن أسلوب الإجازة غير ممكن الالتجاء إليه حينما يكون الموصى عليه طفلًا infans كما بيَّنا سابقًا، فلا يصار إليه إلا بحق الموصى عليهم من فئة الصبيان أو الغلمان المراهقين.

    ولنلاحظ أن الوصي غير ملزم بصورة محتومة إجبارية بالأخذ بهذا الأسلوب بحق هؤلاء الموصى عليهم، بل له الخيار بين أسلوب الإجازة وأسلوب الإدارة.

    تتلخص الإجازة بحضور الوصي العمل الحقوقي الذي يقوم به الموصى عليه وبتلفظه ألفاظًا رسميةً خاصةً. فلم يكن يسوغ للوصي أن يمنح إجازته للقاصر الموصى عليه قبل قيام هذا بالعمل الحقوقي أو بعد قيامه بمثابة تصديق أو موافقة عليه، بل لا بد من حصول الإجازة في أثناء القيام بالعمل الحقوقي.

  • أسلوب الإدارة negotiorum gestio: يتلخص أسلوب الإدارة الذي يفيد أيضًا الإدارة بالتبرع، قيام الوصي وحده بإدارة أموال الموصى عليه، وإجراء الأعمال الحقوقية المتعلقة بذلك.

    إن أسلوب الإدارة بالتبرع هذا كان الطريقة الوحيدة الممكن الالتجاء إليها للقيام بالوصاية على الأطفال (بل في القديم على الصبيان أيضًا). وذلك لأن الأطفال ليس لهم إرادة ليقوموا بالعمل الحقوقي بمساعدة الوصي بطريقة الإجازة كما بيَّنا، بل لا بد للوصي أن يقوم عنهم بالأعمال الحقوقية اللازمة لإدارة أموالهم. وكان لا مندوحة أيضًا عن الأخذ بطريقة الإدارة بالتبرع في حالة غياب الموصى عليه، ولو كان قد جاوز طور الطفولة.

    إن قواعد الإدارة بالتبرع٢ بصور عامة تسري على أسلوب الإدارة بالتبرع في الوصاية. ويكفينا أن نشير إلى نقطتين رئيسيتين:
    • (أ) إن الوصي لا يمثل الموصى عليه في الأعمال الحقوقية، فإذا أراد الوصي مثلًا أن يشتري عقارًا للموصى عليه بماله، جرى الشراء باسم الوصي؛ لأنه هو وحده الذي يكون طرفًا في العمل الحقوقي المنتج اكتساب ملكية الشيء، وصار هو مالكًا.
    • (ب) تصدر الأحكام في الدعاوى التي يرافع فيها الوصي عن الموصى عليه باسم الوصي، وإذا كان الحكم بمبلغ من النقود قبضه الوصي أيضًا.

    وخلاصة الأمر أن الوصي يقوم بإدارة أموال الموصى عليه في أسلوب الإدارة بالتبرع كما لو كان يعمل لنفسه؛ ولذلك لا بد له عند انتهاء الوصاية من أن ينقل للموصى عليه القديم الذي أصبح حرًّا من الوصاية جميع ما اكتسب لمصلحته من أشياء وحقوق بطرائق النقل والفراغ المعروفة.

  • محاسن ومساوئ هاتين الطريقتين: إن لأسلوب الإجازة في الوصاية سيئة رئيسية ظاهرة، هي استحالة الالتجاء إلى هذا الأسلوب في طور طفولة الموصى عليه؛ لذلك كان هذا الأسلوب ناقصًا من هذه الجهة.

    أما مساوئ أسلوب الإدارة بالتبرع فقد كانت، ولا سيما في القديم، أكثر وأعظم أبرزها: (١) أنه كان يستحيل في هذا الأسلوب القيام بالأعمال التي كان يتحتم حقوقيًّا القيام بها من قبل الموصى عليه نفسه، كقبول ميراث من تركة ما. (٢) كان يتضمن هذا الأسلوب خطرًا على مصالح الموصى عليه، وذلك أن الأعمال التي كان يقوم بها الوصي لمصلحة القاصر، كشراء عقار أو اكتساب حق دين ما، كانت بسبب فقدان نظرية التمثيل قديمًا في روما، تنتج نتائجها بحق الوصي نفسه، فقد كان مثلًا يعتبر مالكًا للعقار الذي يشتريه للقاصر، ولأجل تمليكه إياه كان لا بد عند انتهاء الوصاية من الالتجاء إلى نقله إليه بالطرائق الخاصة بذلك. فالخطر في هذه الحال هو عجز الوصي وإعساره بشكل يجعل أمواله، ومنها الأموال التي أحرزها باسم القاصر عرضة لحجز الدائنين، أضف إلى ذلك إمكان تواطؤ الوصي مع شخص آخر للوصول إلى هذه النتيجة.

    ولكن تعديلات وتدابير متعددة ذات بال لطفت وخففت في العهد الأخير من هذه المحاذير، وقضت على كثير منها.

    ولما دخلت فكرة التمثيل الحقوق الرومانية في مرحلة تطورها الأخير، وصارت الأعمال التي يقوم بها الوصي عن القاصر تنتج نتائجها مباشرة بحقه، تضاءل أسلوب الإجازة في الوصاية حتى أصبح أثرًا بعد عين في عهد الإمبراطورية السفلى.

انتهاء الوصاية

تزول الوصاية زوالًا قطعيًّا للأسباب الآتية المتعلقة بشخص الموصى عليه: (١) إدراك الصبي الموصى عليه سن البلوغ. (٢) صيرورته متكلًا، كما لو تبني من قِبَل شخص آخر. (٣) وفاته قبل البلوغ، أو فقدانه الحرية أو حق الوطنية، تلك الحالة التي تنتج حقوقيًّا نتائج الوفاة الطبيعية.

وتزول الوصاية بحق الوصي من جهته فقط لأسباب متعلقة به وحده هي: (١) وفاته أو فقدانه الحرية أو حق الوطنية. (٢) إعفاؤه من الوصاية لسبب مشروع. (٣) عزله من الوصاية بسبب خيانته crimen suspecti tutoris. إلا أن الوصاية في حالة زوالها بسبب متصل بالوصي تبقى قائمة على القاصر؛ إذ يصار إلى تعيين وصي آخر بدل الأول الذي سقطت وصايته.

حقوق الوصي وواجباته والتبعة المترتبة عليه

(أ) حقوق أو صلاحيات الوصي

لقد تطورت سلطة الوصي في تاريخ الوصاية في الحقوق الرومانية تطورًا خلاصته تقلص صلاحيات الوصي يومًا بعد يوم.

ففي الحقوق القديمة: كانت سلطة الوصي على أموال الموصى عليه شبيهة بسلطة رب الأسرة على أموال أسرته. فقد كان يديرها إن شاء كما يشاء،٣ بل لم يكن حقوقيًّا محظورًا عليه أن يهب من أموال القاصر، ولو أن العرف والعادات العائلية كانت تحول دون ذلك.

إلا أنه في العهد المدرسي: صار التصرف بأموال القاصر حتى بِعَوض، كبيعهما مثلًا، محدودًا مقيدًا. فمن ذلك أنه حرم على الوصي بيع العقارات المبنية المحاطة بعرصة أو أرض. ولكنه كان يمكن مخالفة هذا التحريم في بعض الحالات الاستثنائية بإذن من الحاكم، كجواز بيع العقار لوفاء ديون القاصر أو لخطر انهيار البناء. والالتجاء لإذن الحاكم في هذه الحالات الاستثنائية هو الخطوة الأولى نحو الأسلوب الحديث في الوصاية؛ حيث يخضع الوصي لرقابة القضاء.

ثم زادت قيود صلاحية الوصي في عهد الإمبراطورية السفلى، حتى صار يحظر عليه بيع بعض الأموال المنقولة الثمينة كالحلي. ويتلخص تطور سلطة الوصي الأخير في عهد جوستنيان: بأن كل عمل خطير ذي بال يقوم به الوصي على الموصى عليه، أصبح خاضعًا لرقابة السلطة القضائية. وعن هذا الأسلوب تحدرت الفكرة الحديثة القائم عليها أسلوب الوصاية الآن والتي مآلها: أن الوصاية توضع وتمارس لمصلحة الموصى عليه.

(ب) واجبات الوصي

تترتب على الوصي واجبات تجاه الموصى عليه في أدوار ثلاثة: عند بدء الوصاية، وفي أثنائها، وعند انتهائها.
  • واجب الوصي عند بدء الوصاية: على الموصي في هذا الدور وجيبتان رئيسيتان: (١) أن يقوم قبل ممارسته أي عمل من أعمال الوصاية، بتنظيم إحصاء لأموال الموصى عليه، وذلك لمعرفة ما يجب على الوصي إعادته عند انتهاء الوصاية. ولوجيبة الوصي هذه مؤيد هو جواز مطالبته الموصى عليه عند انتهاء الوصاية، في حالة عدم قيام الوصي بتنظيم الإحصاء، بجميع ما في حوزة الوصي من أموال وإمكان تملكها بمجرد حلفه اليمين على صحة ادعائه. (٢) على الأوصياء القانونيين؛ أي الأوصياء الأقرباء قرابة العصبة والأوصياء المعينين من قِبَل الحكام البلديين خارج مدينة روما من دون القيام بتحقيق سابق، أن يتعهدوا بالمحافظة على ثروة الموصى عليه تعهدًا مؤيدًا بكفالة.
  • واجب الوصي في أثناء الوصاية: يتلخص هذا الواجب بقيام الوصي بإدارة أموال الموصى عليه، فإذا أهمل هذا الواجب عرض نفسه لتحمل تبعة ما يصيب الموصى عليه من أضرار ذلك. وقد تأيد واجب الوصي هذا بخطة البرتور على أثر إصلاح الإمبراطور «كلود».

    أما من حيث مدى هذه التبعة، فقد كان الوصي قبل عهد جوستنيان مسئولًا عن كل ما يلحق بالموصى عليه من أضرار تنجم عما يصدر عنه من إهمال وأغلاط وأخطاء لا يمكن صدورها عن رب عائلة صالح وسط في العناية بشئونه والحرص عليها، ثم لم يعد في عهد الإمبراطور المتشرع ملزمًا إلا بأن يبذل في سبيل الموصى عليه ما يبذله من اهتمام في سبيل شئون نفسه، فكان يتحتم عليه مثلًا استيفاء ما للموصى عليه من ديون، وأداء ما عليه منها.

  • واجب الوصي عند انتهاء الوصاية: يترتب عند انتهاء الوصاية على الوصي أن ينقل للموصى عليه نتائج الأعمال التي قام بها عنه ولأجله، كالفراغ له من العقارات التي اختارها له، وكنقل الديون التي تحملها باسمه.
  • التبعة المترتبة على الوصي: كان الوصي قديمًا بموجب قانون الاثني عشر لوحًا مسئولًا عن جرائمه فقط، ذلك عن اختلاسه وغشه إزاء الموصى عليه. ثم ما لبثت الحقوق البريتورية ومن بعدها الحقوق القومية في نهاية العهد الجمهوري أن أقرت تبعته الحقوقية في إدارة أموال الموصى عليه، كما تبين لنا في بحث واجباته، وما زالت بنتيحة ذلك تزداد ضمانات القاصر، وذلك على أثر نشوء وتقدم فكرة قيام الوصاية على أساس مصلحة الموصى عليه.

لقد أيدت هذه التبعة بدعاوى وضمانات خاصة منحت للموصى عليه تجاه الوصي.

(ﺟ) الدعاوى

أوجد قانون الاثني عشر لوحًا دعويين:
  • (١)
    دعوى الخيانة Crimen suspecti: التي تقام على الوصي مسيء الاستعمال بسلطته أو صلاحياته بنية سيئة، والتي كانت تؤدي إلى عزله من الوصاية.
  • (٢)
    الدعوى المعروفة ﺑ  actio rationibus distrahandis: التي كانت تقام على الوصي لاختلاسه أموال الموصى عليه، والتي كانت تؤدي للحكم على الوصي بضعف ثمن الأموال المختلسة، وذلك لصفتها الجزائية.

إن هاتين الدعويين لم تكونا كافيتين، بل لم تكونا ناجعتين؛ لأنهما كانتا جزائيتين لا يكفلان تلافي الضرر وإصلاحه. فالأولى كانت تقتصر على العزل، والثانية منحصرة بشخص الوصي لا تتعداه إلى ورثته من بعده.

لذلك لجأ البريتور إلى وسائل متعددة لتأمين تلافي وإصلاح الضرر الذي قد يلحق بالموصى بسبب الوصي. فأباح إقامة الدعوى على الوصي كمدير بالتبرع وعده مسئولًا بهذه الصفة. إلا أن هذه الدعوى لم يكن يمكن إقامتها إلا عند قيام الوصي بإدارة شئون القاصر، فإذا امتنع عن الإدارة تعذر إقامة هذه الدعوى عليه. بيد أن البريتور أكمل النقص بعد ذلك بإجبار الوصي في الوصاية القضائية والوصاية القانونية في بدء الوصاية على التعهد، تعهدًا مؤيدًا بكفالة شخصية، بإدارة أموال القاصر إدارةً يحافظ فيها على جميع ثروته. وهذا ما صار يتيح للموصى عليه عند انتهاء الوصاية إقامة الدعوى على الوصي لمطالبته ببدل كل ضرر أصابه من سوء إدارته، وملاحقة الكفلاء عند إعسار الوصي وعجزه المالي.

خطت بعد ذلك الحقوق القومية خطوة أخرى — إن لم نقل الخطوة الأخيرة في هذا السبيل — فاعتبرت التعهد الذي ذكرناه موجودًا ضمنًا، وعدت كل وصي ملزمًا به؛ أي مطالبًا بحسن إدارة أموال الموصى عليه، ومنحت الموصى عليه حق إقامة دعوى على الوصي قائمة على هذا التعهد الضمني لمطالبته عند انتهاء الوصاية بتقديم الحساب عن إدارته وعده مسئولًا عن هذه الإدارة.

تلك هي الدعوى المعروفة بدعوى الوصاية Actio tutelae. لقد كانت هذه الدعوى مستقلة عن فكرة الإدارة بالتبرع وداخلة في عداد الدعاوى القائمة على النية الحسنة. وقد أصبح في عهد الحقوق الإمبراطورية بالإمكان إقامتها حتى في حالة امتناع الوصي عن إدارة أموال القاصر؛ لأن الإدارة صارت تعد وجيبة مترتبة عليه. ومن خصائص هذه الدعوى أنها كانت تئول عند اقترانها بالنجاح إلى وصم الوصي الآثم بالعار Infamie. وقد كللت الحقوق الإمبراطورية هذه الوسائل الممنوحة للموصى عليه تجاه الوصي بضمانات متعددة خولته إياها، أجلها: (١) دعوى إضافية يقيمها الموصى عليه عند عجز الوصي المالي على الحكام الذين عينوا هذا الوصي من دون إيجاد الضمانات الكافية للقاصر. (٢) حق رهن ممتاز يمنح للموصى عليه على أموال الوصي يمكنه من استيفاء ماله على الوصي مرجحًا في ذلك حتى على دائني هذا الأخير الموثقة ديونهم برهن متكون أثناء الوصاية.

(١-٢) البند الثاني: الوصاية على النساء

الوصاية على النساء وصاية أبدية. وذلك أن المرأة حينما تصير مستقلة بالغة كانت أم غير بالغة تخضع للوصاية، وتبقى خاضعة لها مدى حياتها. والسبب في فرض الوصاية على المرأة المستقلة أبدًا في الحقوق الرومانية، خلا للوصاية المفروضة على الذكور التي هي وقتية، هو: ضعف المرأة الخلقي بنظر الرومان في العهد القديم، وضعفها الذهني الفكري بالعرف السائد في نهاية العهد الجمهوري، كما أشار إلى ذلك الحكيم شيشرون. وقد أفضى فرض الضعف الجسمي أو العقلي في المرأة إلى اعتبارها عاجزة عن المحافظة على أموالها ومصالحها التي يجب أن يحافظ عليها حرصًا على مصلحة الأسرة التي هي آيلة إليها. لذلك لم تكن الوصاية على المرأة قديمًا إلا وصاية قانونية من حق ورثة المرأة العتيدين الذين كانوا أقرب أقرباء العصبة.

لقد تبين للرومان في العهد الأخير أن الوصاية الأبدية على النساء فاسدة من حيث أساسها؛ لذلك لم يقيض لها ما قيض للوصاية على الأحداث — التي تحولت إلى نظام موضوع لمصلحة القاصر الموصى عليه — بل كان مصيرها الاضمحلال.

عرفت الحقوق الرومانية أنواعًا ثلاثةً للوصاية على النساء:
  • (١)
    الوصاية القانونية: التي كانت من حق أقرباء العصبة أو القبيلة، فيما يتعلق بالنساء الحرات الخالصات. ومن حق الموالي المعتقين فيما يتصل بالعتيقات. ومن حق صاحب المانسيبوم فيما يختص بالنساء المحررات من القدرة الأبوية.
  • (٢)
    الوصاية بالوصية: التي ظهرت منذ قانون الاثني عشر لوحًا والتي تتلخص بحق رب العائلة بأن يعين في وصيته وصيًّا لبناته — كما كان يعين وصيًّا لبنيه — ولزوجته حينما يكون تزوجها زواجًا بمانوس، وقد صار يحق لرب العائلة أن يمنح زوجته في وصيته حق اختيار الوصي عليها. ثم صار يحق للمرأة حق تبديل الأوصياء عليها حسب اختيارها، وأن تجعل الوصي الجديد إما خاصًّا وإما عامًّا لجميع الأعمال.
  • (٣)
    الوصاية القضائية: التي كانت أشبه بالنوع الاستثنائي والتي لم يكتب لها الارتقاء.

أسلوب ممارسة الوصاية على النساء

مما تمتاز به الوصاية على النساء البالغات٤ عن الوصاية على الأحداث أن وصي المرأة لا يمارس وظيفته إلا بطريقة الإجازة.
لم تكن المرأة ملزمة بالحصول على إجازة وصيها للقيام بكل عمل تود إبرامه، بل إن الأعمال التي لا يجوز للمرأة القيام بها معدودة معينة، وهي:
  • (١)
    إقامة «دعاوى القانون Legis aetio» ودعاوى أخرى، منها الدعاوى الصنعية كعتق الرقيق بالطريقة المعروفة بالعتق بالقضيب التي مر ذكرها.
  • (٢)

    الالتزام بوجيبة.

  • (٣)

    القيام بالأعمال الحقوقية الداخلة في الحقوق القومية.

  • (٤)
    التخلي عن أموالها الداخلة في زمرة الأشياء الثمينة Res mancipi.
  • (٥)

    الزواج بمانوس.

  • (٦)

    الإيصاء بأموالهما ولو بإجازة وصيها، وقد كان يستحيل ذلك في الحقوق القديمة لسببين: الأول شكلي وهو أن الوصية كانت حينئذٍ تتم بتصويت من الكوميس التي لا يحق للنساء دخولها، والثاني أساسي وهو الحرص على حفظ أموال الأسرة وتأمين انتقالها لأقرباء المرأة العصبيين. إلا أن المرأة اكتسبت هذا الحق في عهد الإمبراطور «هادريان» بشرط الحصول على إجازة وصيها.

(أ) زوال الوصاية على النساء

إن قيام الوصاية على النساء البالغات على فكرة حفظ أموالها وتأمين انتقالها إلى ورثتها الشرعيين وخلوها من كل نفع للمرأة، أدى إلى زوالها بصورة تدريجية. فقد ابتدئ بتجويز إجبار الوصي على منح إجازته للمرأة الموصى عليها، إلا إذا كان الوصي هو مولى المرأة المعتق الذي يحق له أن يرفض منح إجازته في حالات خاصة قائمة على أساس مصلحة له، وبتمكين المرأة من تبديل وصيها بطرق غير مباشرة.

ثم أعفت القوانين الشهيرة المعروفة ﺑ Caducaires، الصادرة في عهد أوغستوس، النساء اللاتي لهن عدد معين من الأولاد من الخضوع للوصاية. وأسقط قانون «كلوديا» في بدء العهد الإمبراطوري، الوصاية القانونية عن النساء الحرات الخالصات Ingénues.
وهكذا سارت الوصاية على النساء في طريق الانحلال حتى صارت نسيًّا منسيًّا قبل عهد الإمبراطورية السفلى.٥

(٢) القوامة

القوامة نظام شبيه بالوصاية مفروض على زمر خاصة من الأشخاص هم المجانين والسفهاء والقصر الذين لم يكملوا سن الخامسة والعشرين. وقد أنشأها قانون الاثني عشر لوحًا حرصًا على صالح الأسرة، لا محافظةً على صالح الأفراد الخاضعين لها. لذلك نرى أنها في البدء كانت من حق أقرباء العصبة وحدهم؛ أي إنه لم يكن يوجد سوى نوع واحد من القوامة هو القوامة القانونية، أما القوامة بالوصية والقوامة القضائية فلم تظهر إلا بعد أن تطورت فكرة القوامة الأساسية، واستحال هذا النظام من نظام منشأ لصالح الأسرة إلى نظام موضوع لحماية الشخص.

(٢-١) القوامة على المجانين

لقد اختلف العلماء والمؤلفون بتفسير الجنون المنصوص عنه في قانون الاثني عشر لوحًا الذي جاء فيه: أنه «إذا كان رب الأسرة مجنونًا Furiosus ولم يكن له حارس (وصي)، كانت القدرة عليه وعلى ثروته من حق أقربائه العصبيين أو القبليين.» فمنهم من قال إن المجنون بحسب نص هذا القانون هو المجنون جنونًا غير مطبق؛ أي جنونًا يعاود صاحبه في أوقات يكون فيها فاقدًا جميع رشده، بعكس المجانين جنونًا مطبقًا. ومنهم من فسر المجنون المقصود بهذا النص بالمجنون الذي يثور ثائر جنونه بشكل يأتي فيه بأعمال العنف والأذى. ومنهم من أوله بالمجنون جنونًا عاديًّا مستحكمًا بخلاف الموسوسين بوسواس واحد معين Monomanes.٦
ومهما يكن أمر تفسير «المجنون» في قانون الاثني عشر لوحًا، فلم يكن الشخص المصاب بالجنون الذي وصفه الحكيم شيشرون ﺑ «عمى البصيرة أو الروح التام» ليخضع للقوامة إلا في أوقات جنونه. أما في أوقات إفراقه٧ فكان يعتبر حائزًا على أهليته الحقوقية التامة.
إن هذا الأسلوب بعيد عن الصواب والحكمة؛ لأنه يجعل أهلية المجنون جنونًا غير مطبق منقطعة غير ثابتة، ولا يخفى ما في ذلك من محذور هو تعرض الأشخاص الذين يعاملون المجنون للمشاكل والدعاوى التي تنشأ عن إمكان الاعتراض على صحة المعاملات التي أجروها مع المجنون بزعم أنها تمت في أوقات جنونه لا في أوقات صحوه، وصعوبة تمييز آونة الجنون عن آونة الإفاقة.٨ وقد توسع البريتور في القوامة بعامل فكرة حماية الضعفاء، فجعلها تشمل المعتوهين والمهووسين والصم البكم وجميع الأشخاص المصابين بعاهة تمنعهم عن إدارة شئونهم.

قدمنا أن القوامة كانت في البدء قوامة قانونية من حق أقرباء العصبة أو القبيلة بسبب قيامها على فكرة المحافظة على صالح الأسرة، إلا أنها حينما تطورت وصارت مفروضة بقصد صالح المجنون، ظهر نوع مزيج من القوامة بالوصية والقوامة القضائية، وذلك أنه صار الحاكم يؤيد فعلًا القيم المعين للمجنون بوصية أبيه. وعند فقدان قيم معين بالوصية، يعين الحاكم أقرب أقرباء المجنون العصبيين أو شخصًا آخر قيمًا له. وقد انتهى الأمر بزوال القوامة القانونية.

وظيفة القيم: تتلخص وظيفة القيم بأمرين رئيسيين:
  • (١)

    العناية بشخص المجنون كالسعي لشفائه والحئول دون إضراره بالناس، ولو أدى ذلك لسجنه وتقييده بالأغلال.

  • (٢)
    إدارة ثروته. أما أسلوب هذه الإدارة فعبارة عن أسلوب الإدارة بالتبرع Negotiorum gestio مباشرةً بنفسه أو بواسطة أحد أرقاء المجنون. وأما صلاحية قيم المجنون فكانت واسعة المدى؛ إذ كان يحق له عدا إجراء أعمال الإدارة تقبل ميراث عن المجنون، والتخلي عن أمواله ما خلا بعض الأموال غير المنقولة. وقد صار يسري على القيم — في العهد الأخير — ما يسري على الوصي من قواعد، من حيث وجائبه وإعفاؤه وعزله … إلخ.

(٢-٢) القوامة على السفهاء

السفيه الذي كان يحجر عليه بفرض القوامة عليه بموجب قانون الاثني عشر لوحًا هو الشخص الذي يبذر الأموال التي انتقلت إليه بطريقة الميراث (أي الفريضة الشرعية لا بالوصية) عن أبيه أو جده. ومن المؤلفين من يستنتج من نص قانون الاثني عشر لوحًا وجود أولاد لمبذر الأموال العائلية لإمكان الحجر عليه.٩

من تعريف السفيه هذا يستنتج أن القوامة على السفهاء كانت قائمة في القديم على أساس صالح الأسرة وموضوعة لحماية أموالها وتأمين انتقالها لورثة السفيه. إلا أنها تطورت فيما بعد وصارت تفرض لحماية السفيه نفسه وحفظ أمواله من مغبة سفهه. ولذلك شملت القوامة جميع الأشخاص الذين يبددون أموالهم من دون تمييز بين الموروث منها وغير الموروث، وبين الطريف منها والتالد.

كان يخضع الشخص للقوامة بقرار من الحاكم يحجر عليه. ويفضي الحجر على السفيه إلى جعل أهليته محدودة مقيدة.

ويمكننا تلخيص نتائج الحجر فيما يأتي:
  • (١)

    يحرم السفيه من حق الاحتفاظ بأمواله التي يعهد بها للقيم.

  • (٢)

    يحرم السفيه من حق إجراء الأعمال الحقوقية التي من شأنها التخلي عن شيء من ماله، بل إنه صار مجردًا فيما بعد مبدئيًّا من أهلية التعاقد؛ أي إبرام العقود.

ولكن بالرغم من حرمان السفيه المحجور عليه من هذه الحقوق، فإنه يبقى متمتعًا بأهلية جزئية ضيقة تنحصر بحق قيامه وحده بالأعمال التي من شأنها إصلاح حاله وتحسينها، وبقبول ميراث يصيبه؛ إذ يقدر أن السفيه بالرغم من سفهه لا يقدم على ميراث يعلم أنه يجر عليه ضررًا ما.

تخضع القوامة على السفهاء — فيما يتعلق بطريقة تعيين القيم ووظيفته ووجائبه وأسلوب إدارته — للقواعد التي تخضع إليها القوامة على المجانين، وقد درسناها فلا حاجة للعودة إلى بحثها.

(٢-٣) القوامة على القاصرين الذين لم يكملوا سن الخامسة والعشرين

رأينا سابقًا أن الوصاية التي كانت تستمر مفروضة على النساء مدى حياتهن، كانت تسقط عن الأحداث الذكور المستقلين حينما يدركون سن البلوغ، فقد كان الغلام يحرز أهليته الحقوقية التامة ولما يتجاوز الثالثة عشرة أو الرابعة عشرة من عمره.

لم يكن لهذه القاعدة في الحقوق القديمة محذور كبير للفتيان؛ لأن الأعمال الحقوقية — وقد كانت نادرة آنئذ بسبب عدم اتساع الحياة الاقتصادية — كانت علنية رسمية تجري بحضور شهود أو بحضور الحاكم وهذا ما يحول دون خداع الغلمان.

إلا أنه بعد ارتقاء الحياة الاقتصادية واتساع التبادل وازدياد الأعمال الحقوقية بين الناس وتقلص الأشكال والمراسم في الحقوق، صار لاكتساب الغلام عند بلوغه أهلية حقوقية تامة محاذير وأصبح من الضرورة حمايته.

لذلك نرى الشارع يعني بحماية الفتيان البالغين الذين لم يكملوا سن الخامسة والعشرين؛ أي الذين لم يكونوا راشدين، منذ القرن السادس من بناء روما (نحو سنة ٢٩٠ق.م).

ظلت حماية القاصرين البالغين غير الراشدين جزئية تؤمن بدعاوى مختلفة، ولم تتكامل إلا بفرض القوامة عليهم في عهد الإمبراطورية السفلى.

قانون بليتوريا Lex Plaetoria

إن أول عمل قام به الشارع في سبيل حماية القاصرين الذين لم يكملوا سن الخامسة والعشرين هو إصداره القانون المعروف بقانون «بليتوريا» في نهاية القرن الثاني قبل الميلاد، الذي قضى فيه بِعدِّ خداع هؤلاء القاصرين في التعامل معهم جرمًا موسومًا ﺑ Circonventio يعاقب عليه بعقوبة مالية (غرامة) وبإباحته إقامة الدعوى على خداع القاصر بسبب خداعه هذا.

تدخل البريتور

لم يكن قانون بليتوريا يحقق الغاية المنشودة؛ لأنه لم يكن يصون القاصر إلا من خديعة الغير، في حين أن القاصر قد يُستهدف لأضرارٍ شتى بسبب قلة اختباره، ثم إن الدعوى التي شرعها لحماية القاصر كانت، بسبب صفتها الجزائية، تجعل الناس يحجمون عن التعامل وإياه. لذلك عمل البريتور، بفضل اجتهاده في خطته، وسلطته القضائية، على تمام عمل قانون «بليتوريا»، وذلك بمنحه القاصر الذي نحن بصدده وسيلتين قضائيتين: الأولى هي الرد أو الدفع المعروف ﺑ «رد أو دفع قانون بليتوريا Exceptio Legis Plaetoria» الذي يمكن القاصر من عدم تنفيذ العقد المبرم من قبله تحت تأثير التغرير الصادر عن الطرف الآخر في العقد، والثانية هي الوسيلة المعروفة ﺑ Restitutio in integrum propter aetatem، التي تمكن القاصر من فسخ العمل الحقوقي الذي قام به فألحق به ضررًا بسبب الغبن، من دون وجود أي تغرير صادر عن أحد. فقد أراد البريتور أن يحمي القاصر من قلة تجربته أو اختباره.

فرض القوامة على القاصرين دون سن الخامسة والعشرين

بالرغم من هاتين الوسيلتين الحقوقيتين المدنيتين اللتين أوجدهما البريتور صونًا لمصالح هذه الفئة من القاصرين، ظل الناس ينفرون من التعامل مع هؤلاء حذرًا من فسخ أعمالهم بسبب الغبن، والغبن إنما هو أمرٌ نسبيٌّ؛ لأنه منوط بقيم الأشياء التي هي نسبية. لذلك صار القاصرون يطلبون من القاضي تعيين قيم خاص يحضر معهم الأعمال التي يقومون بها لطمأنينة الأشخاص المتعاملين وإياهم؛ إذ يقدر أن حضور القيم يحول دون خديعة القاصر. ثم صار بالإمكان تعيين قيم عام للقاصر البالغ غير الراشد ذكرًا كان أم أنثى، وذلك على ما يرجح في الرأي، بفضل مرسوم صادر من الإمبراطور «مارك أوريل Marc Aurèle» في القرن الثاني (ب.م). وقد كان لهذا المرسوم مفعول حسن وفائدة كبرى، ولا سيما بشأن النساء؛ لأنه جاء في عهد انحطاط الوصاية على النساء وتضاؤلها، فقدم للفتاة التي بلغت الثانية عشرة من عمرها (سن البلوغ) ولم تتجاوز سن الخامسة والعشرين، والتي لم تعد الوصاية عليها إلا مظهرًا، وسيلة تلتجئ إليها لتهتدي بنصح وإرشاد رشيد. بيد أن هذا الحكم الجديد بالرغم من فوائده لم يكن ناجعًا؛ لأن القيم لم يكن يعين إلا بطلب ورضاء القاصر نفسه، ولأن القاصر ظل مبدئيًّا حائزًا على الأهلية الحقوقية.
استمرت الحال كذلك حتى عهد الإمبراطورية السفلى؛ حيث تغيرت صفة القوامة الرئيسية فصارت إجبارية بعد أن كانت اختيارية، وتبدل وضع القاصرين الذين لم يكملوا سن الخامسة والعشرين، تبدلًا محسوسًا عميقًا، فصار على مثال ما كان يجري في البلاد ذات الحضارة الإغريقية، مجردًا عن قسمٍ من أهليته الحقوقية، أو بتعبير آخر، موجودًا في حالة عدم أهلية جزئي، فأصبح، شأن الغلام المراهق غير البالغ الخاضع للوصاية، قادرًا على أن يقوم بالأعمال الحقوقية التي من شأنها تحسين حاله، أما الأعمال التي من شأنها إمكان إساءة حاله فغدا غير أهلٍ للقيام بها وحده، وصار يُلجأ للقيام بها كي تعتبر صحيحة، إلى موافقة Consensus القيم التي هي أشبه بإجازة الوصي. وقد كان للقيم الحق بأن يقوم بهذه الأعمال مباشرةً بنفسه. وهكذا فإن أسلوب ممارسة القوامة كان يتم شأن الوصاية، إما بطريقة الإدارة بالتبرع، أو بطريقة الموافقة التي لم تكن تختلف عن الإجازة إلا بخلوها من الألفاظ الرسمية العلنية الخاصة وبإمكان منحها قبل أو أثناء أو بعد إجراء العمل من قبل القاصر من دون تمييز.

لقد أمست القوامة شبيهة كل الشبه بالوصاية ولم يعد في عهد جوستنيان بينهما فروق أساسية ذات بال، بل فروق ثانوية فرعية، بعكس ما هي عليه الحال في الحقوق الإفرنسية المدنية؛ حيث تختلف المؤسستان اختلافًا أساسيًّا بينًا.

ولا بد لنا قبل الانتهاء من بحث القوامة من الإشارة إلى أنه جوز بعد هذا التطور والتقدم في القوامة تحرير القاصرين منها من دون أن تعرض أعمالهم للفسخ والإبطال، وذلك بعد إدراك الذكور منهم سن العشرين، والإناث سن الثامنة عشرة.

١  كوك (ذ. س) ص٢١١.
٢  سيتاح لنا بحث الإدارة بالتبرع مفصلًا في قسم الوجائب.
٣  جيفار (ذ. س) ج١ ص٢٥٦.
٤  إن الوصاية على النساء غير البالغات هي كالوصاية على الأحداث من الذكور، لذلك تطرق البحث للوصاية على النساء ناشئ عن خضوع البالغات منهن للوصاية.
٥  راجع ماي (ذ. س) رقم ٦٦، وجيرار (ذ. س) ص٢٦٥.
٦  راجع تباين الآراء في جيرار (ذ. س) ص٢٨٨ هامش رقم ١.
٧  إفراق المجنون إفاقته.
٨  وقد انتبه القانون المدني الإفرنسي إلى هذا المحذور فأزاله بأسلوب الحجر على المجنون.
٩  راجع جيفار (ذ. س) ص٢٦٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤