الفصل الرابع

تخطي العاصفة: جلاء الإنجليز عن الإسكندرية

تمهيد

لم يكن أحد من الذين راقبوا مجيء حملة «فريزر» واستيلاءها بسهولة على الإسكندرية، يتوقع هزيمة هذه الحملة، أو على الأقل بمثل السرعة التي حدثت بها، لما كان معروفًا عن قوة وحُسْنِ استعداد البريطانيين الذين انتصروا على جيش الشرق وأجلوه عن مصر، والذين كان لهم من السيطرة البحرية في البحر الأبيض ما يجعل أمرًا محققًا في نظر كثيرين أنهم سوف يأتون بقوة كبيرة إلى هذه البلاد، لتعزيز مراكزهم في المواقع التي يحتلونها بها، أو لتوسيع نطاق عملياتهم العسكرية بالصورة التي تمكنهم من تحقيق أغراضهم، إذا كانت هذه الاستيلاء على البلاد بأسرها، وليس الاكتفاء باحتلال الإسكندرية فحسب.

ولم يساور محمد علي أي شك في أن الإنجليز إنما كانوا يقصدون من غزوهم امتلاك البلاد على نحو ما فعل الفرنسيون الذين غزوها قبل ذلك، ينهض في نظره دليلًا على ذلك اتِّساعُ نطاق عملياتهم العسكرية ومحاولاتهم المتكررة ضد رشيد، ويزيد من رسوخ هذه الفكرة في ذهنه مسعى القواد والوكلاء الإنجليز لدى البكوات المماليك لإغرائهم بالنزول من الصعيد والاتحاد معهم في الحرب ضده، ولا نتيجة لهذا الاتحاد إذا تحقق إلا طرده من الولاية، والقضاء على باشويته، أضف إلى هذا تأكيدات الوكلاء الفرنسيين له بأن الإنجليز إنما أرسلوا حملتهم إلى مصر لهذه الغاية ذاتها.

ولم يكن محمد علي يتوقع كذلك أن ينهزم الإنجليز هذه الهزيمة الساحقة في المعارك التي خاضوا غِمارِها ضد شراذم جُندِه الأرنئود أو ضد جماعات الأهلين المسلحة الذين هبوا من دمنهور أو من غيرها من البلدان والقرى المجاورة لنجدة رشيد.

ولذلك، فقد أحدث الانتصار على الإنجليز في معركتي رشيد (٣١ مارس)، والحماد (٢١ أبريل) تبدُّلًا كبيرًا في الموقف فيما يخص محمد علي من حيث إن هذا الانتصار قد أنهى مرحلة دقيقة من مراحل النضال مع العدو، خرج الباشا منها مظفرًا منصورًا لا في الميدان العسكري فحسب، بل وفي الميدان السياسي الداخلي كذلك، عندما نجحت مساعيه، مع الاستعانة بنشاط الوكلاء الفرنسيين في وقف حركة البكوات وإلزامهم بالحيدة، وأقبل القاهريون بكل هِمةٍ ونشاط تحت توجيه وإرشاد زعمائهم على تحصين مدينتهم، وحصل الباشا بفضل تآزر هؤلاء الزعماء الشعبيين معه على حاجته من المال اللازم لتدبير شئون الدفاع ودفع مرتبات الجند، وإنجاز الاستعدادات لخروج جيش كبير لقتال الإنجليز وتشديد الحصار عليهم في الإسكندرية لطردهم منها.

ثم إنَّه كان لهذين الانتصارين في رشيد والحماد أثر حاسم آخر في موقف البكوات المماليك، خصوم محمد علي الداخليين، فصاروا الآن أكثر استجابة لرغبات وسطاء الباشا معهم، ولم يكن منتظرًا أن ينبذ هؤلاء حيادهم، طالما حصر الإنجليز نشاطهم لسبب أو لآخر داخل أسوار الإسكندرية، وتعذر عليهم إحراز أي نصر على جند محمد علي، ونجح الباشا في إعداد جيش كبير لقتالهم، وإرغامهم على البقاء — على الأقل — بالإسكندرية، إن لم يستطع إجلاءهم عنها.

على أن محمد علي وإن كان قد استطاع تخطي العاصفة، وهي في عنفوان هياجها، فإن هذه العاصفة لم تكن قد سكنت بعد، بل ولا يزال خطر اشتدادها من جديد ماثلًا ما دام الإنجليز باقين بالإسكندرية، ثم لم تلبث أن توفرت لديه الأدلة في الشهور القليلة التالية على أنهم يبغون البقاء بالإسكندرية، وأنه لا مناص من الالتحام معهم في معارك أخرى، والانتصار عليهم لطردهم منها، على أن الباشا وإن كان قد صح عزمه على قتالهم، فقد آثر من ناحية أخرى — إذا كان هذا ممكنًا — محاولة تحرير الإسكندرية من احتلالهم بطريق المفاوضة، بدلًا من الاشتباك معهم في معارك جديدة، قد لا يكون النصر فيها من نصيبه هو، فتتجدد كل تلك المتاعب التي ما استطاع تذليلها إلا بكل نَصبٍ ومشقة؛ ولذلك فقد صارت المفاوضة من الطرائق التي اعتمد عليها الباشا إلى جانب تهيؤه العسكري لبلوغ غايته، وكانت المفاوضة هي الطريق الذي تسنى به إنهاء النضال الدائر بينه وبين الإنجليز.

ولقد حققت عوامل عدة نجاح هذه الوسيلة السلمية لإجلاء الإنجليز عن الإسكندرية أهمها — كما أشرنا مرارًا — أن الإنجليز لم يستهدفوا من مجيء حملتهم إلى الإسكندرية امتلاك البلاد بأسرها، بل قصدوا من استيلائهم عليها الوصول إلى غرضين رئيسيين هما الحيلولة دون نزول حملة فرنسية في هذه البلاد، وتخويف الباب العالي وحمله على قبول الصلح معهم ومع حلفائهم الروس، وانتزاعه من أحضان النفوذ الفرنسي، وارتبط لذلك مصير حملتهم بتقلُّباتِ الموقف في أوروبا، وكان من أثر هذه التقلبات — كما سيأتي ذكره — أن قر رأيهم على استدعاء حملة «فريزر» من مصر، وتسليم الإسكندرية سِلمًا إلى محمد علي، فكان من المتيسر عندئذٍ أن ينجح طريق المفاوضة في إنهاء عملياتهم العسكرية في مصر، وبجلاء الإنجليز عن الإسكندرية يكون محمد علي قد تخطى هذه العاصفة الهوجاء بسلام ليتفرغ في السنوات القليلة التالية لدعم أركان باشويته.

على أنه عقب هزيمتي رشيد والحماد، لم يكن قد صح عزم الإنجليز نهائيًّا على إخلاء الإسكندرية، بل حرص «فريزر» على اتخاذ كل إجراء يكفل له القدرة على الاستمرار في احتلالها، وساعده على ذلك أن الاطمئنان أخذ يحل تدريجيًّا محل الفزع الذي استبد بالإنجليز بعد هزائمهم في مارس وأبريل، ووصلت النجدات من صقلية لتعزيز حامية الإسكندرية، وراح القائد الإنجليزي يبذل قصارى جهده لتنفيذ التعليمات الأساسية التي لديه وهي التي هدفت إلى التمسك بالإسكندرية.

(١) الموقف بعد الحماد

الإنجليز في الإسكندرية

فقد كتب الجنرال السير «جون مور» فيما بعد في ١٣ يوليو ١٨٠٧ إلى وزير الحربية البريطانية والمستعمرات اللورد «كاسلريه» Castlereagh — وقد خلف «وندهام» في هذا المنصب منذ ٢٥ مارس من السنة نفسها — يصف الحالة التي سادت الإسكندرية عقب هاتين الهزيمتين في رشيد (٣١ مارس) والحماد (٢١ أبريل) بأنها تدل على اليأس والقنوط والفزع، فقد وجد «فريزر» نفسه مرغمًا على البقاء محصورًا بالإسكندرية يمنع عليه الأرنئود المنتصرون كل اتصال بداخل البلاد، فلا يستطيع جلب أية مؤن إلى الإسكندرية، وصار مهددًا بحدوث المجاعة، ولم يكن موقفه مأمونًا بعد هزيمة الحماد خصوصًا حيث أفقدته هذه الواقعة خُمسَ قواته دفعة واحدة، ولأن بدو الصحراء — ومن رأيهم الانحياز إلى جانب المنتصر دائمًا — لم يلبثوا أن انفضوا من حوله، أضف إلى هذا أنه لم يبد — كما رأينا — من جانب البكوات المماليك بتاتًا ما يدل على أنهم ينوون الاتحاد مع الإنجليز طالما أن هؤلاء لم يحرزوا تفوقًا عسكريًّا على العدو ولم يبدءوا الهجوم على القاهرة، ولما كانت تحصينات الإسكندرية في حالة سيئة، ويبلغ محيط أسوارها ثلاثة أميال، مما يتطلب جهودًا مضنية للدفاع عنها، وليس لديه الآن سوى ثلاثة آلاف رجل فحسب، فقد انعدم كل رجاء في إمكان الاحتفاظ بها إذا حاول العدو مهاجمتها ولو هجومًا ضعيفًا، وراح «فريزر» في قنوطه وفزعه هذين يرسم للمسئولين صورة محزنة قاتمة عن الحال السيئة التي صار إليها جيشه، فكتب إلى الجنرال «فوكس» في ٢٤ أبريل يبلغه وقد استبد به الألم والحزن نبأ فشل المحاولة الثانية ضد رشيد، ويقول إنَّ من واجبه الآن أن يعرض عليه حقيقة الموقف الذي يرجو أن يكون موضع تفكيره الجدي، وهو أنه بسبب هذا الفشل إلى جانب الفشل الذي سبقه قد صارت تتزايد حروجة وخطورة موقفنا يومًا بعد يوم، ومردُّ ذلك إلى النقص العظيم الذي حدث في قواتنا، ثم إلى ما يكاد يكون مقطوعًا به تمامًا من وقف كل الإمدادات والمؤن اللازمة لجنودنا ولأهل الإسكندرية على يد العدو الذي نزل بأعداد كبيرة من القاهرة إلى هذه الجهات، بينما لا يوجد لدى الجند سوى قديد يكفيهم مدة شهرين فقط، وليس لديه من النقود — وهي الوسيلة الوحيدة للحصول على الإمدادات الضئيلة الآن ما يكفي لسد نفقات الجيش خلال الشهر الآتي، ولا يستطيع الحصول على مال: لا بإعطاء تحاويل على المصارف ولا بالاستدانة ولا بأية وسيلة أخرى؛ ولذلك فهو يرى من الضروري المبادرة بإمداده فورًا بالرجال والمؤن والمال، ولو أنه يشك حتى عند وصول هذه النجدات إليه أن في استطاعته بسبب ما عليه أن يواجهه من صعوبات أخرى منوعة الاحتفاظ بالإسكندرية، ومع ذلك فإنه يرى من واجبه من ناحية أخرى أن يؤكد للجنرال «فوكس» أنه بدون هذه الإمدادات التي يطلبها فورًا سوف يكون الاحتفاظ بالإسكندرية أمرًا يستحيل فعله استحالة تامة، بل إن ما لديه من أغذية القديد سوف يكفي فقط لتموين الجند أثناء رحلتهم إلى «مسينا» في صقلية إذا وجب إخلاء الإسكندرية.

وقد أيد السير «توماس لويس» الجنرال «فريزر» فيما ذهب إليه، فكتب هو الآخر في اليوم نفسه إلى السير «جون داكويرث»، يقدر ما تكبده الإنجليز من خسائر في محاولتهم الثانية ضد رشيد بعدد من الرجال يتراوح بين ١٢٠٠، ١٤٠٠، ويصف الوضع بأنه يبعث على الحزن والرثاء حيث لا يتجاوز عدد القوات من جميع الأصناف الثلاثة آلاف بينهم على الأقل نحو الثمانمائة أو التسعمائة من الجنود الأجانب، وهذا مع كثرة عدد العدو وعدم وجود أصدقاء أو حلفاء للإنجليز بهذه البلاد، ثم استطرد يقول إنه قد تقرر بعد تبادل الرأي مع الجنرال «فريزر» تركيز كل القوات البريطانية في مدينة الإسكندرية ومينائها وذلك حتى يبلغنا منكم ومن الجنرال «فوكس» ما صَحَّ عليه عزمكما، ونحن نتطلع باهتمام زائد إلى النجدات من الرجال والمؤن والنقود التي نطلبها، ثم إن المؤن التي لدى الجيش لا تكفيه إلا لمدة لا تزيد على ثمانية أسابيع، وأما حال البحرية ففي وسعك أنت الحكم عليها بنفسك، ولا تأتي أية إمدادات إلى الإسكندرية التي صارت منفصلة تمامًا عن البلاد الداخلية، والموجود من المؤن لسكانها قليل، وحيث إن قوات العدو ضدنا كبيرة، وقوة مقاومتنا ضئيلة فقد يحدث أن نجد أنفسنا مرغمين على مغادرة الإسكندرية قبل أن يصلنا ردُّكم على هذا الكتاب.

على أن هذا الشعور باليأس والفزع لم تلبث أن خفَّت حِدَّتُه رويدًا رويدًا بمجرد أن بدأ يزول أثر الصدمة الأولى، وشرع «فريزر» عندما شرع يفيق من هول الهزيمة، يقلب وجوه الرأي من جديد في الموقف، وساعده على استرداد هدوئه أن الأرنئود لم يحاولوا مهاجمة الإسكندرية مباشرة عقب انتصارهم في واقعة الحماد، وتبين لفريزر أنه صار لديه فُسحة من الوقت لتدبير الدفاع عن الإسكندرية على الأقل حتى تأتيه تعليمات حكومته، ولو أنه ظل يشك كثيرًا في استطاعته الاحتفاظ بالإسكندرية مدة طويلة، إذا لم تصله سريعًا الإمدادات التي طلبها، فقد اكتشف أن بالإسكندرية كميات وفيرة من الأرز — وقد أشرنا إلى سبب توفرها وقتئذٍ — يمكن الاستعاضة بها عن القمح في تموين الجيش والإسكندريين، زد على هذا أن الإنجليز كانوا أصحاب السيطرة في البحر، وفي مقدورهم جلب مواد الوقود والأنبذة والزيوت من جزر بحر الأرخبيل وساحل القرمان، وفي وسعهم كذلك إغراء البدو على جلب القمح والشعير إلى سوق الإسكندرية على نحو ما ذكره جميعه «مسيت» نفسه لفريزر منذ ٢٢ أبريل، ومع أن التحصينات ضعيفة، فإن طبيعة موقع الإسكندرية يجعل الدفاع عنها ميسرًا، حيث يكفي كسر السد أو القطع بين بحيرتي المعدية ومريوط لإغراق هذه الأخيرة من جديد بصورة يتعذر معها على فرسان العدو ومُشاته الخوض فيها، وقد كتب «فريزر» إلى «وندهام» في أول مايو أنه وجد ضروريًّا منذ عودة الجيش إلى الإسكندرية قطع السد بين بحيرتي المعدية ومريوط من أجل تعزيز مركز الإنجليز بالإسكندرية حيث اتضح أنه في إمكان المشاة والفرسان الأعداء الخوض في كل أجزاء مريوط، ولو يؤثر قطع هذا السد على إمدادنا بالمياه؛ لأن الألفي بك كان قد قطع قناة الإسكندرية بالقرب من دمنهور قبل ذلك بوقت غير بعيد.

ثم إنَّ السفينتين الحربيتين «كانوب» و«تيجر» دخلتا إلى ميناء الإسكندرية وألقتا بمراسيهما بها متهيئتين لتعزيز بطاريات الإسكندرية بمدافعهما، وصارت سفينة أخرى هي «ستاندارد» Standard تتجول في ناحية العجمي أو مرابط بينما وقفت السفينة «أبولو» Apollo في خليج أبي قير لمراقبة حركات أسطول العدو في هذه الناحية وشل نشاطه، وأعد الكابتن «هالويل» أسطولًا من زوارق المدفعية للخدمة بالقرب من الشاطئ وعند مدخل بحيرتي المعدية ومريوط وفي هاتين البحيرتين ذاتهما كما حصَّنَ القطع بينهما، وأمكن تهيئة القلاع للدفاع وجعل الخط الغربي من تحصينات المدينة في حال طيبة، وقد دلت كفاية هذه الإجراءات الدفاعية لتأدية الغرض منها في مناسبتين: إحداهما عندما نقل الأرنئود قوات كبيرة في القنجات وسائر أنواع القوارب إلى قاعدة قيروان سراي يوم ١٠ مايو.
وكانت دوريات فرسان الأتراك قد وصلت في تجوالها إلى مسافة لا تزيد على ربع ميل فحسب من قطع القناة قناة الإسكندرية بين بحيرتي المعدية ومريوط، وكان غرض الأرنئود من نقل هذه القوات الكبيرة إلى قيروان سري الوصول إلى شبه جزيرة أبي قير، ولكن السفن الثلاث «ستاندار» و«أبولو» و«بيتارن» Bittern ثم زوارق المدفعية سرعان ما أصلتهم نارًا حامية اضطرتهم إلى النكوص على أعقابهم، ثم تكررت المحاولة يوم ١٦ مايو، ودون جدوى أيضًا، بل إنَّ الكابتن هارفي Harvey في السفينة «ستاندارد» استطاع الدخول في بحيرة إدكو بعد ذلك بيومين، ووصل إلى قرية إدكو وحطَّم للعدو أكثر من ثلاثين قنجة وقارب، ورجا «فريزر» أن يكفي هذا الدرس لردع العدو ومنعه في المستقبل عن القيام بمثل هذه المحاولات التي قام بها في يومي ١٠، ١٦ مايو، وفضلًا عن ذلك، فقد بدأت تأتي المؤن إلى الإسكندرية، ونسب «مسيت» الفضل في ذلك إلى نفسه فقال في رسالة له إلى «كاسلريه» في ١٨ مايو: إنَّه أهدى العربان البدو من الهدايا ما أغراهم لا بإمداد الإسكندرية بالمؤن فحسب، بل وبالتجمُّعِ كذلك في إقليم البحيرة بصورةٍ جعلت الأتراك حتى هذه اللحظة لا يظنون من المناسب القيام بمجهود نشط لوقف الإمدادات الآتية لنا، بل لقد بذلت كل همة لتموين الإسكندرية حتى صار لا يضيرنا بتاتًا كل ما يبذله العدو من جهد لقطع مواصلاتنا مع داخل البلاد؛ حيث إنه صار لدينا من المؤن الآن ما يكفي لستة شهور، كما استجاب الجنرال «فوكس» لنداء «فريزر»، فبعث إليه بالنجدات من صقلية، فوصلت الفرقاطة «هايند» Hind يوم ٢٤ مايو تحمل مبلغ اثنين وثلاثين ألفًا من الجنيهات، ورسائل من الجنرال «فوكس» تَعِدُ بإرسال الإمدادات من الرجال والمؤن فورًا، وفي اليوم التالي وصلت بعض المؤن، ثم لم يلبث أن وصل الميجور جنرال «شربروك» Sherbrooks مع الآلايين الواحد والعشرين والثاني والستين من ١٤٢٥ رجلًا من مختلف الرتب يوم ٢٩ مايو، وذلك إلى جانب ٥٠٥٠٠ جنيهًا إنجليزيًّا حملتها إحدى السفن الحربية إلى الجنرال «فريزر» بالإسكندرية، وفي ٣٠ مايو كتب «فريزر» إلى «وندهام» أنه لا يزال يبذل قصارى جهده لتعزيز الدفاع عن الإسكندرية ويسعده أن يقول: إنَّ الجنود الآن في صحة جيدة جدًّا، ولو أن الخوف كبير من انتشار الرمد والدوسنطاريا بين الجنود لاضطرارهم إلى البقاء في المعسكرات معرضين لحرارة الصيف القاسية، وقال إنَّه يسعى لتدبير وسائل لوقايتهم ومتفقة مع ضرورات الدفاع في الوقت نفسه، وقد عالج «فريزر» في هذه الرسالة مسألة توفير المياه الصالحة للشرب، حيث وقف إمداد الإسكندرية بالماء من النيل مدة فصلين أو ثلاثة فصول منذ أن قطع الألفي بك القناة عند دمنهور، وانخفض الماء كثيرًا الآن في الآبار التي تزودها القناة بالماء، وكان من الإجراءات التي اتخذها «فريزر» لضمان استتباب الهدوء في الإسكندرية ومنع الوكلاء الفرنسيين على وجه الخصوص من محاولة تحريض الأهالي ضد الإنجليز وإثارة الاضطرابات داخل المدينة أن طلب من الأسر الفرنسية بها الذهاب إلى مالطة في بحر ثلاثة أيام، وكان من بين الذين أرسلوا إلى مالطة «جاسباري» Gaspary الترجمان الثاني للقنصلية الفرنسية بالإسكندرية؛ لأنه لم يستطع اللحاق بدروفتي كما فعل زميله الآخر «فونتون» Fonton عند خروج «دروفتي» منها في الظروف التي عرفناها.
وعُنِيَ «فريزر» بأمر الأسرى الإنجليز في قلعة القاهرة، فذكر الشيخ الجبرتي أنه وصل مكتوب من كبير الإنجليز الذي بالإسكندرية مضمونه طلب أسماء الأسرى من الإنجليز والوصية بهم وإكرامهم كما هم يفعلون بالأسرى من العسكر، فإنهم لما دخلوا إلى الإسكندرية أكرموا من كان بها منهم، وأذنوا لهم بالسفر بمتاعهم وأحوالهم إلى حيث شاءوا، وكذلك من أخذوه أسيرًا في حرابة رشيد، وأنه قد كتب لكبير الإنجليز جوابًا على رسالته، فقد كتب الميجور «فوجلسانج» إلى «فريزر» من قلعة القاهرة في أول مايو، يذكر بإيجاز حادث أسره وزملائه في معركة الحماد، ويقول إنه لا يستطيع أن يوفي الأتراك ما يستحقونه من الثناء على الطريقة التي عاملوه بها هو وزملاءه كأسرى حرب، والفضل في ذلك إنما يرجع إلى الأوامر التي أصدرها الباشا للعناية أعظم العناية بالجرحى، كما أثنى على القنصل الفرنسي «دروفتي» لجهوده التي يبذلها لتوفير سبل الراحة للأسرى وتزويدهم بكل ما يحتاجون إليه، وسجل «فوجلسانج» في رسالته هذه أسماء الأسرى من الضباط سواء من كان منهم بالقلعة أو أسيرًا في أيدي الأفراد العاديين، كما سجل أسماء الضباط القتلى، وعدد الأسرى عمومًا من مختلف الرتب، وقد حمل رسالة «فوجلسانج» إلى الإسكندرية الضابط «ماثيسون» Matheson فبلغها يوم ٦ مايو، وكان الباشا قد أطلق سراحه، وأرسله بدلًا عن ابن أخي عمر بك، وقيل إنه ابن أخي صالح قوش، ولكنه لما كان «فريزر» قد رأى من الضروري — كما قال — إبعاد هذا الأرنئودي من الإسكندرية وسافر مع من سافر إلى الروم بمتاعهم وأموالهم قبل الواقعة، وقد استطرد الشيخ الجبرتي يقول: «وحيث لم يكن المطلوب موجودًا لم يرَ الإنجليز وجهًا لإبقاء الإنجليزي المذكور فردُّوه.»

وكان ذلك الحادث أحد العوامل التي ساعدت على خلق جو من التفاهم مهد للمفاوضة بين الباشا والإنجليز في ظروف سيأتي ذكرها.

على أن الذي يعنينا الآن من مسألة «ماثيسون» أن الخبر الوحيد الذي أتى به هذا الضابط إلى الإسكندرية — على نحو ما قال «فريزر» في رسالته إلى «وندهام» في ٦ مايو أن المماليك قد عقدوا محققًا صلحًا مع باشا مصر، الأمر الذي من شأنه — كما استطرد «فريزر» يقول — أن يزيد حتمًا من حروجة موقفنا بالإسكندرية، وسواء كان هذا الخبر الذي أتى به «ماثيسون» صحيحًا أم خاطئًا، وقد عرفنا أن محمد علي قد عقد صلحًا معهم قبل عودته من الصعيد إلى القاهرة في الشهر السابق، وإن ظل البكوات ينتحلون شتى الأعذار عن نزولهم إلى الجيزة لإبرام الصلح النهائي مع الباشا، نقول وسواء صحت الأخبار التي نقلها «ماثيسون» إلى «فريزر» أو كانت خاطئة، فالواقع الذي لمسه «فريزر» ولا سبيل إلى نقضه أن أحدًا من البكوات لم يحضر لنجدته، حتى إن «مسيت» لم يلبث أن راح يستأنف مساعيه لدى شاهين بك الألفي وسائر البكوات يستحثهم على النزول من الصعيد، فكتب إلى شاهين الألفي منذ ١٩ أبريل، كما بعث بالكتب إلى إبراهيم بك وشاهين بك المرادي، وتسلم هذه الرسائل شاهين الألفي وهو بناحية ميمون — وهي في الشمال الغربي لأشمنت من أعمال بني سويف، ومرت أيام قبل أن يجيب شاهين بشيء، حتى إذا كان يوم ٢٣ مايو بعث إلى «مسيت» برسالة جاء فيها أنه تسلم رسائله إليه وإلى والدنا أمير اللواء إبراهيم بك شيخ البلد، وشاهين بك المرادي وهما اللذان لا يزالان بجهة المنيا، ثم أخذ يقول: «ولقد بعثت أرجو مرارًا من سائر البكوات إما أن ينزلوا من الصعيد حسب اتفاقنا، وإما أن يبعث والدنا إبراهيم بك ببعض بكواته لمصاحبتي، ولكنهم لم يجيبوا على رجواتي هذه إلا بوعود مبهمة وغامضة المعنى، ولقد أرسلت إليهم اثنين من بكواتي وكاشفًا يحملون رسائلك ورسالة مني كذلك، وقد كلفت هؤلاء المبعوثين بأن يكرروا عليهم ما أطلبه منهم فعمدوا عند وصولهم إلى الاستعانة بكل حجة ممكنة لإقناع البكوات الآخرين الذين بدلًا من الإصغاء إلى ما قالوه، احتجزوهم لديهم مدة تسعة عشر يومًا يؤكدون لهم كل مرة أنهم سوف يتحركون بمعسكرهم إلى الوجه البحري بعد يومين أو ثلاثة، ولكن بكواتي عندما تبين لهم أنَّ البكوات من بيت مراد يعارضون دائمًا ما يريد إبراهيم بك شيخ البلد اتخاذه من استعدادات للسير، لم يلبثوا أن غادروا معسكرهم ورجعوا إليَّ يحملون رسالة من والدنا إبراهيم بك، يؤيد ما أبلغني إياه رسلي أنفسهم ويضيف إلى ذلك أن البكوات بأسرهم سوف يتبعونني في بحر يومين أو ثلاثة، وإني الآن لمقتنع تمامًا بأن وعودهم لي وعود جوفاء وأنهم لا يعنون ما يقولون، ويجب أن يعزى مبعث الصعوبات التي يثيرونها إلى مكائد محمد علي الذي استخدم أناسًا لخديعة البكوات وإظهار الأوضاع لهم على غير حقيقتها، ومعسكري اليوم كائن عند ميمون وفي عزمي الاستمرار في السير صوبكم، ولكن الطريق يسده عربان البدو الذين في خدمة محمد علي، وإنَّ رغبتي لشديدة في الوصول والانضمام إليكم؛ لأن القرى حيث يقوم معسكري مخربة تمامًا والأغذية نادرة، ولكني أخشى من وقوع حادث؛ لأن الجيش مرهق بما لديه من عتاد ثقيل وجمال كثيرة، لقد بعث إليَّ محمد علي عندما سمع بنزولي من الصعيد بأشخاص عدة يحملون مقترحاته للصلح معي، ولكني تجنبت الجواب عليها في صراحة.

وهكذا فإنه لما كان البكوات الآخرون لا يزالون بالصعيد، بينما أجد أمامي الباشا وعربانه، فمن المستحيل عليَّ المضي في السير والوصول إليك إلا بابتداع تدبير ماكر، فلو أن جنودكم كانوا قريبين مني لكان في وسعي أن أجد وسيلة للانضمام إليكم؛ حيث إنه لا يتعذر وقتئذٍ استمالة العرب لترك الجانب الآخر والانحياز إلى جانبنا، فهم حينما يروننا أقوياء بدرجة كافية سوف لا يترددون في الإتيان إلينا.» ثم اختتم شاهين الألفي رسالته برجاء «مسيت» أن يبعث إليه برد يقف منه على عواطفه ونواياه، وأن يذكر له إذا خرج جيش الإنجليز وسار إلى القاهرة متى وأين في وسعه أن يقابله؟ والعدو حَذِرٌ متنبه، ولكنني — كما استمرَّ شاهين يقول — سوف أحاول جادًّا صرفه عن العمل النشيط أو الدخول في عمليات عسكرية حتى يصلني جواب منك، ولقد بعثت بعلي كاشف إلى محمد علي بدعوى المفاوضة معه حتى يتقصى الأخبار ويستطلع حقيقة الموقف.

وكان واضحًا من هذا الكتاب وكما فهم «فريزر» نفسه أن البكوات ليسوا غير متحمسين فحسب للتعاون مع الإنجليز، بل ولا يبدون أي ميل ذلك، وأما «مسيت» فقد راح يرتب على هذه الحقيقة — التي هي أحد العوامل الهامة التي جعلت «فريزر» مصرًّا على رأيه في وجوب إخلاء الإسكندرية في النهاية وبالرغم من النجدات التي وصلته حديثًا — عدة قضايا لإقناع حكومته من ناحية بأن وجودهم لا يؤثر في الواقع شيئًا على موقف الحملة الراهن، بل وأنه من الخير طالما يستطيع الإنجليز لسبب من الأسباب مؤازرتهم عسكريًّا على بلوغ أغراضهم وإعادتهم إلى الحكم، ألا يحضر هؤلاء إلى الإسكندرية، ثم للإيحاء من ناحية أخرى إلى حكومته بصورة مستترة ومن خلال السطور بأنه من المصلحة أن تعاونهم حكومته على بلوغ مقصدهم، فإنه ما إن وصلته رسالة شاهين الألفي في ٢٨ مايو حتى بادر بإرسال ترجمة هذه الرسالة إلى «كاسلريه» وزير الخارجية في اليوم التالي، وقال: «إنَّ لها بعض الأهمية حيث تبسط ما يحدث من مكائد في المعسكر المملوكي، وتبين أن أحدًا منهم لا يريد الانضمام إلينا في الوقت الحاضر، سواء كان مبعث ذلك عدم القدرة والعجز أو مجرد عدم الرغبة»، ثم شرع يقول: «وإنَّه لمن حسن الحظ أن يكون المماليك بعيدين هكذا عن الإسكندرية؛ حيث إنَّ الجنرال «فريزر» ليس مخولًا إسداء معاونة فعالة لأية جماعة أو حزب من الأحزاب، فلو أنهم كانوا بجوارنا لاستهلكوا أكبر قسم من الإمدادات والمؤن التي يأتي بها العرب إلى هذه المدينة، ولأمكنهم أن يكتشفوا سريعًا أننا لا نميل للأخذ بآرائهم والعمل على تحقيق أغراضهم، ولقد أعطينا القدرة بسبب ما عليه الموقف الآن لا على الشكوى فحسب مما يبدو من عدم الهمة من جانبهم في خدمة قضيتهم، بل وكذلك على الامتناع عن مساعدتهم حتى تصلنا في هذا الشأن أوامر محددة من حكومة جلالة الملك.»

ولم يطرأ أي تغيير على موقف المماليك في الأيام التالية، حقيقة كتب إبراهيم بك إلى الجنرال «فريزر» بعد ذلك، كما بعث شاهين الألفي باثنين من بكواته إليه هما أحمد الألفي وأمين بك الألفي عدا رسوله مصطفى كاشف، ولكن لا كتاب إبراهيم ولا أقوال مبعوثي شاهين قد أتت بشيء جديد، فقد راح إبراهيم في رسالته إلى «فريزر» من بني سويف بتاريخ ١٢ يونيو يبسط الأعذار التي تمنعه من الذهاب إلى الإسكندرية للتعاون مع الإنجليز قبل أن يبدو من هؤلاء ما يدل بصورة قاطعة أنهم على وشك مهاجمة القاهرة ذاتها، فقال: إنَّه إنما يخطُّ برسالته هذه إلى «فريزر» حتى يخبره أنه قد وصل إلى بني سويف مع جميع بكواته على مسافة ست عشرة ساعة من القاهرة، وأنهم ينوون البقاء بها (أي في بني سويف) حتى يكون جيش «فريزر» في طريقه فعلًا إلى القاهرة لمهاجمتها، حتى إذا صار هذا على مسافة يومين أو ثلاثة منها، استأنف البكوات سيرهم لمقابلته أو انتظروا وصوله عند الجيزة، ثم طفق إبراهيم يؤكد له أن السبب الوحيد في تأخرهم السابق لم يكن سوى خوفهم على سلامة زوجاتهم وأسرهم التي هي تحت رحمة عصابات من قُطَّاعِ الطرق لا يرحمون، وزوجاتهم وأسرهم هي كل ما يعنون به؛ لأنهم لا يملكون في القاهرة شيئًا ذا قيمة، وقد أنهى إبراهيم رسالته بإظهار شكره وممنونيته لأصدقائه الإنجليز على ما أسداه هؤلاء للبكوات من خدمات نافعة، ويسأل المولى تعالى أن يمكِّنَه من الاتحاد بقواته مع قواتهم، ويطلب من «فريزر» أن يحدد موعد زحف جيشه على القاهرة في الأيام العشرة الأخيرة من فصل الخماسين وعند فيضان النيل أو بعد هذا الوقت، وأن يبين له ما إذا كان الأوفق أن يقابله البكوات عند الجيزة أو بعد هذا المكان في ناحية الدلتا؛ لأنه — كما استمر يقول — عندما تتحد جيوشنا معًا سوف يشغل الجند الذين بالقاهرة بشئونهم كثيرًا حتى إنهم لن يجدوا وقتًا للتفكير في إزعاج عائلاتنا وإلحاق الأذى بها.

وأما مبعوثا شاهين الألفي فقد بلغا الإسكندرية يوم ٢ يونيو يحملان رسائل من رئيسهما، وينقلان إلى «فريزر» رغبة شاهين في الانضمام مع جماعته إلى البريطانيين، ثم استعداده لعرض خدماته على هؤلاء إذا كان الإنجليز ينوون الزحف من الإسكندرية والتقدم في داخل البلاد لامتلاكها، وقد أجاب «فريزر» على هذه العروض — كما ذكر للوزير «وندهام» في ١٦ يونيو — بإجابات عامة يشكر شاهين على هذه العروض ويذكر — تبعًا للتعليمات التي لديه — رغبته في منح حمايته لكل تلك الأحزاب التي يبدو أنها تبغي صداقة الإنجليز، ولكنه رفض القيام بأي حركة أو زحف حتى تصله من حكومته أوامر بذلك، ثم إنَّ «فريزر» لم يلبث أن علَّقَ على هذا الحادث بقوله: «ويظهر في وضوح وجلاء بفضل ما جمعتُه من معلومات من هؤلاء الناس (ويقصد «فريزر» مبعوثي شاهين الألفي) أن هناك نوعًا من الانقسام بين البكوات الآن، وشاهين بك هو وحده في الوقت الحاضر الذي صح عزمه — كما يبدو — على توثيق صلاته مع الإنجليز، والأمور الآن في القاهرة والصعيد على حالة كبيرة من القلقلة حتى إني أشتبه في أن المماليك الآخرين إنما يريدون الوقوف وعدم التورط في شيء متأهبين للاستفادة مما قد يجِدُّ من ظروف؛ لأن هؤلاء الناس يبدو أنهم يريدون أن يقولوا: إنَّ صلحًا ما لم يعقد بينهم وبين الباشا محمد علي، وأنهم إنما يبغون كسب الوقت بخديعته.»

ذلك إذن كان رأي «فريزر» في عروض شاهين الألفي وفي موقف البكوات عمومًا، وهو رأي كان بفضل اقتناع «فريزر» به من البواعث التي جعلت هذا الأخير، ولأسباب أخرى سوف يأتي ذكرها في موضعها، يدخل في مفاوضات من أجل الصلح مع محمد علي، على أن «مسيت» الذي كان في قرارة نفسه يود تعطيل هذه المفاوضات، ويبذل قصارى جهده وبشتى الوسائل لإقناع حكومته والجنرال «فريزر» بالعدول عنها، لم يلبث أن وجد في حادث مجيء مبعوثي شاهين إلى الإسكندرية بعروض هذا الأخير المبنية على أساس افتراضه أن الإنجليز يريدون احتلال أو امتلاك مصر بأسرها فرصة مواتية للإشارة مرة أخرى إلى المسألة التي أثارها بطريق غير مباشر في خطابه السابق إلى «كاسلريه»، فضلًا عن اتخاذه هذا الحادث وسيلة للدفاع عن مسلكه في مسألة المماليك عمومًا، وهو الذي أكد فيما مضى أنهم لا محالة حاضرون للتعاون مع الحملة عسكريًّا، فكتب إلى «كاسلريه» في ١٧ يونيو: إن شاهين بك الألفي قد أوفد اثنين من صغار بكواته إلى «فريزر» ليقول إنَّه مخلص تمام الإخلاص للإنجليز، وأنه سوف ينضم بكل أتباعه إلى الجيش البريطاني بمجرد ظهور هذا الجيش في جهة رشيد أو دمنهور، ولمَّا كنت أعرف مقدار النفوذ العظيم الذي لا يزال المماليك يتمتعون به في البلاد، وأدرك تمامًا مبلغ ما يستبد بالأهلين من رغبة في رؤية وقوع الاتصال بين جيشنا وقوات أولئك البكوات، فقد أوصيت القائد العام «فريزر» بأن يرحب بمبعوثي شاهين بك ترحيبًا ممتازًا، وقد سر «فريزر» أن يوافقني على هذا …

ولما كان نشاط «فريزر» بمقتضى ما لديه من تعليمات مقصورًا على احتلال الإسكندرية، فلم يكن في وسعه أن يفصل جزءًا من الجيش الذي تحت قيادته للتعاون مع شاهين بك، ووجب إخطار هذا الأخير بذلك، وإنما بطريقة لا تجرده تمامًا من كل رجاء في الحصول على معاونة الحكومة البريطانية له في النهاية؛ لأنه لا يوجد أدنى شك في أن هذا الأمل وحده يمنع المماليك من الصلح مع محمد علي؛ ولذلك فقد عرضت على «فريزر» أن من المناسب أن يذكر له أنه عند إنزاله جنده في أرض مصر، كان لديه ما يحمله على الاعتقاد بأن المماليك سوف يضمون صفوفهم إليه، وأنه كان قد صح عزمه لذلك على أن يساعدهم بكل ما لديه من قوة، ولكن آماله لم تلبث أن خابت من هذه الناحية، وأنه قد رفع كل ما حصل من وقائع إلى مقام جلالة الملك الذي يُتوقَّعُ أن يصله منه سريعًا تعليمات أخرى، وأنه لما كان ملمًّا بميول الحكومة البريطانية نحو المماليك، فهو واثق من أن هذه التعليمات سوف تكون في صالح البكوات ومحققة لرغائبهم، ولكنه في الوقت الراهن غير مفوض بالعمل، ولو أنه يوصي شاهين بقوة أن يظل مُتَّحِدًا معنا حيث إنَّه من الواضح أن من صالحه هو نفسه عدم فصل قضيته عن قضيتنا، وسوف ترون (مخاطبًا «كاسلريه») أنه كان من المستحيل على «فريزر» أن يقول أكثر من ذلك إذا شاء عدم توريط نفسه بالتزامات معينة، كما لم يكن في وسعه أن يذكر أقلَّ من هذا إذا شاء الإبقاء على عواطف شاهين بك الودية نحونا.

ولكنه يبدو مما ذكره «فريزر» نفسه في كتابه إلى «كاسلريه» الذي سلفت الإشارة إليه أن القائد العام لم يأخذ بنصيحة «مسيت» بحذافيرها، وأنه اكتفى كما قال بالإجابة على عروض شاهين في عبارات عامة هي التي ذكرها في كتابه هذا، وتعليل ذلك أنه إلى جانب ما حملته هذه النصيحة التي أسداها إليه «مسيت» من التغرير بالمماليك وشاهين بك وخديعتهم، كانت تنطوي كذلك على توريط القائد العام، وتوريط الحكومة الإنجليزية ذاتها بفتح الباب من جديد لنشاط يشبه ما حدث أيام أن ارتبط الجنرال «هتشنسون» بالتزاماته المعروفة حيالهم منذ سبع سنوات مضت؛ ولذلك فإنه بينما كان «مسيت» لا يزال يفكر بذهنية الرجل الذي خضع لمؤثِّراتِ ظروف معينة اختلفت كل الاختلاف على الظروف القائمة الآن، كان «فريزر» من جهته دائب التفكير والمسعى للوصول إلى اتفاق مع محمد علي يحول دون استمرار العمليات العسكرية، ويتيح له فرصة البقاء بالإسكندرية حتى يحين الوقت الذي يتمكن فيه من الانسحاب والجلاء عنها، وقد ذكر «هالويل»، عروض شاهين ومقترحاته والأسباب التي تحول دون قبولها، فقال في إحدى رسائله في ١٨ يونيو إلى نائب أمير البحر «ثورنبروه» Thornbrough: «لقد صار لاثنين من البكوات جملة أيام هنا بالإسكندرية وقد أتيا برسالة إلى «فريزر» من شاهين بك تتضمن عبارات الصداقة والولاء للإنجليز، وهم (أي شاهين بك وأتباعه) شديدو الرغبة في مساعدتنا لهم من أجل جعلهم يمتلكون القاهرة ودمنهور، ولكنه لما كانت التعليمات التي لدى «فريزر» لا تبيح له تجاوز احتلال الإسكندرية، فليس في قدرته مساعدتهم، وحتى لو كان يميل إلى فعل ذلك، فإن قواتنا هنا لا تكفي لمحاولة فتوح أخرى في هذه البلاد، ولو أنها تكفي من ناحية أخرى للدفاع عن الإسكندرية.»

على أنه وإن كان في استطاعة الإنجليز الدفاع عن الإسكندرية — كما ذكر «هالويل» — فقد كان من الواضح أنه من المتعذر عليهم أن يستمروا في الدفاع عنها مدة طويلة، بل لقد تضافرت أسباب عدة على إقناع «فريزر» بأنه لن يكون في استطاعته البقاء طويلًا في احتلال الإسكندرية، منها: تخاذل المماليك وعدم نجدتهم له، ومنها عدم كفاية النجدات التي أرسلها إليه الجنرال «فوكس» من صقلية للاحتفاظ بالإسكندرية طويلًا، ومنها التدابير التي اتخذها محمد علي لحشد قواته، وما ظهر من عزمه عند تهيؤ الفرصة على الزحف بجيشه صوب الإسكندرية، فقد كتب إلى «فوكس» في ١٨ مايو: «إن العدو لا يزال في قوات عظيمة في جهة رشيد، وهناك من يقول إنَّ عدد هذه ثمانية آلاف من الأرنئود والأتراك عدا شراذم حثالة القوم من كل الأصناف، ولديه مئات القوارب واثنا عشر زورق مدفعية متجمعة هناك، ويذيع أن عزمه قد صح على مهاجمتنا فورًا من ناحية رشيد، ومن جهة صحراء مرابط العجمي، وأنه كان يأتي كذلك من طريق القناة، لو أننا لم نفتح القطع بين المعدية ومريوط، ومع أنني لا أرغب في أن أجد نفسي مُطوَّقًا في هذا المكان (الإسكندرية) ومحصورًا به لضعف حاميتنا الحالية، ولاتساع نطاق التحصينات، والتي لا يمكن ترميمها وإصلاحها، فإني لا أكاد أظن أنهم (أي الأرنئود والأتراك) سوف يحاولون مهاجمتنا — وبخاصة وقد تأخروا في مهاجمتنا كل هذا الوقت الطويل، إذا أخذوا بعين الاعتبار كل تلك الصعوبات التي عليهم أن يصادفوها، إذا شاءوا اجتياز سفننا الحربية وزوارق مدفعيتنا عند أبي قير، وفي حضورهم عبر الصحراء من الجهة الغربية بطريق مرابط، وأما إذا فعلوا فسوف نبذل كل جهد لإصلائهم نارًا حامية بإصلاح تحصيناتنا الأمامية — بقدر ما يسمح به الوقت وما لدينا من وسائل لفعل ذلك — وبتجهيز زوارق المدفعية التي لنا، وقد وجدت نفسي ملزمًا بشراء عشرة من هذه للدفاع عن مدخل بحيرة أبي قير، وعن بحيرة أبي قير نفسها والقطع الذي بين المعدية ومريوط وبحيرة مريوط وغير ذلك …»

ثم عاد «فريزر» فكتب إلى الجنرال «فوكس» في اليوم نفسه: «لقد ذكرت بصورة خاصة عند تقديم طلبي بشأن النجدات التي أريدها حاجتي العظيمة إلى رجال المدفعية للدفاع عن التحصينات هنا وهي على نطاق واسع جدًّا، وأشعر لزامًا عليَّ لذلك أن أستحثكم الآن على إرسال عدد آخر من رجال المدفعية دون إبطاء لضرورة ذلك ضرورة قصوى؛ حيث إنَّ ما لدينا منهم الآن لا يكفي للقيام بالخدمة الضرورية والمطلوبة منهم، إذا أخذنا بعين الاعتبار واجب وضع فِرقٍ من الجند عند قلعة أبي قير، وقطع القناة عدا ما تتطلبه الخدمات الأخرى المتزايدة والمطلوب من الجيش القيام بها، وفي ١٩ مايو كتب إلى «وندهام» يذكر له الجهود العظيمة التي بذلها منذ عودة الجيش من رشيد في تحصين الإسكندرية، حيث يجعل من الممكن بقدر الطاقة الاحتفاظ والتمسك بها، والتي يرجو إذا ظل العدو بعيدًا عنها بعض الوقت كذلك، أن يجعلها مأمونة ضد هجوم يقع عليها لاقتحامها عنوة»، وقد نقل «فريزر» في هذه الرسالة خبر المحاولتين اللتين قام بهما جيش محمد علي ضد الإسكندرية يومي ١٠، ١٦ مايو وفشلهما، ثم استطرد يقول: «ومع ذلك أجد لزامًا علي أن أرجوكم أن تأذنوا لي بتكرار القول بأنه علينا أن نناضل ضد عدو قوي، وكبير العدد، وقد يستمر تزايد قواته يوميًّا، بينما تصادفنا صعوبات كثيرة وعظيمة؛ ولذلك فلا زلت أُلحُّ في ضرورة إرسال نجدات من الجنود إلينا لا من المشاة فحسب، بل وكذلك من الفرسان ورجال المدفعية، حيث يتطلب اتساع التحصينات التي قد نجد من واجبنا الدفاع عنها، وطبيعة البلاد التي قد يصبح ضروريًّا القيام بعملياتنا العسكرية بها الاستزادة من صنفي الجنود الأخيرين؛ لأن الحاجة إلى هؤلاء ضرورية مثل ضرورة الحاجة إلى المشاة»، وكان «فريزر» على حق في تخوُّفِه من تزايد قوات العدو يوميًّا؛ ذلك أن «مسيت» كان قد أبلغه منذ ٨ مايو أن سفنًا أربع قد أتت من الشام وقبرص خلال شهر أبريل وأنزلت اثنتان منها في ميناء دمياط جندًا عثمانيين، وأن الجند محتشدون في قبرص على أهبة المجيء إلى مصر، ومن الممكن نزولهم في دمياط، كذلك إذا لم يفرض الإنجليز حصارًا قويًّا على هذا الميناء، بينما لا يني محمد علي يجلب النجدات بكل وسيلة من مختلف الجهات، ولا مندوحة عن وضع مركب حربي عند دمياط لوقف تدفُّقِ الجنود عليها، ولا يقلل من أهمية هذه الخطوة، ولا يجب أن يمنع من اتخاذها القول بأنه في استطاعة الباشا جلب هذه النجدات بطريق الشام والصالحية إذا حوصرت كل الموانئ الشامية والمصرية؛ لأن هذا الطريق شاق وعسير لقلة الماء به؛ ولتعرض العسكر فيه لاعتداءات العرب عليهم.

وفي ٢١ مايو بعث «فريزر» إلى وزير الحربية «وندهام» بصورة من تقرير عن حالة التحصينات بالإسكندرية وضعه أحد الضباط «برجوين» Burgoyne من سلاح المهندسين في ٨ مايو، وبعث «فريزر» بصورة منه كذلك إلى الجنرال «فوكس»، وهو تقرير على جانب عظيم من الخطورة، وكان من رأي صاحبه تعذر الدفاع عن الإسكندرية في الظروف الراهنة إذا خطر للعدو استخدام القوة التي فهم برجوين أنها لديه ضدها، وذلك لعدة أسباب ذكرها في الترتيب الآتي: أولًا: امتداد التحصينات: حيث يزيد على ثلاثة أميال ونصف ميل، أقصر موقع يمكن احتلاله في وقت واحد، باستثناء السور الفرنسي حول المدينة الحديثة، وثانيًا: حالة التداعي التي عليها التحصينات الآن؛ حيث إنَّها كانت أصلًا تحصينات وقتية تركت من غير ترميم مدة ست سنوات، وليس لها الآن على وجه الخصوص متاريس لحماية الجند ووقايتهم، أو أرصفة لوضع المدافع عليها، الأمر الذي يتطلب إنجازه وقتًا طويلًا؛ بسبب قلة الرجال والأدوات وصعوبة العثور على الصناع العرب، وقلة الانتفاع بهم حتى إذا عثر عليهم، وثالثا: استحالة الوثوق في السكان العرب الذين هم وقد قاتلوا ذات مرة ضدنا صار من المحتمل كثيرًا أن يفعلوا ذلك ثانية، مما يقتضي حتمًا ترك عدد كبير نسبيًّا من جنود الحامية بالمدينة إذا وُجِدَ من الحكمة الخروج منها لمقابلة العدو في الميدان، الأمر الذي يبدو لي أنه الوسيلة الوحيدة التي قد يحتمل إنقاذ المكان (الإسكندرية) بفضلها، ورابعًا: أسلوب الحرب الخاص الذي يتبعه العدو، وهو أسلوب أكثر ملاءمة لجعله قادرًا على المهاجمة أو الدفاع عن مكان متسع ودون تحصينات للدفاع المنظم وعلى نحو ما جرى به العرف، كالإسكندرية، ولا يستطيع جند أوروبيون مجاراتهم في ذلك، وخامسًا: وهو سبب جوهري، قلة عدد رجال الحامية الذين لا يزيدون على ثلاثة آلاف جندي عامل، وهو عدد لا أرى أنه يكفي لمنع العدو من شَقِّ طريق له إلى المدينة في وقت مبكر جدًّا، ومن الواجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن الفرنسيين عندما هُوجموا في الحرب الماضية (١٨٠١) وكان لديهم بالإسكندرية أكثر من ثمانية آلاف جندي، وتحصيناتها في حال طيبة جدًّا، صاروا مع ذلك يشكون من عدم كفاية هذا العدد لحراسة ما قد يتطلبه واجب الدفاع عن مثل هذه المواقع ذات الامتداد الواسع إذا هوجموا من كل جانب.

وحدث في ١٧ مايو أن تُوفِّيَ السير «توماس لويس» فتولى القيادة البحرية في مكانه الكابتن «هالويل» وبادر هذا بتوضيح خطورة الموقف لرؤسائه (٢١ مايو)، فأكد وجود الحاجة الملحة إلى نجدات قوية من جهة، وضرورة وضع عدد من السفن الحربية الصغيرة عند دمياط لمنع نزول الجند العثمانيين بها، وكذلك في خليج أبي قير لمنع خروج العدو منها لمهاجمة الإسكندرية، والحيلولة دون تكرر حادثي ١٠، ١٦ مايو من جهة أخرى، كما أنه أوضح لهم مقدار ما لدى العدو من قوات عظيمة، وما صار يتوقعه من حضور قوات أخرى كبيرة لنجدتهم، الأمر الذي يزيد من خطورته انصراف أصدقاء الإنجليز السابقين من الأهلين عن مساعدتهم، فقال عند الكلام عن حادث ١٦ مايو، ومحاولة الأرنئود بطريق بحيرة إدكو اقتحام القطع بين المعدية وخليج أبي قير لمهاجمة أبي قير ذاتها: «ولما كان حتى هذا الوقت لم يتخذ شيخ إدكو أية إجراءات عدوانية ضدنا، لم يبدُ من جانبنا ما يعطل حركة قوارب هذه القرية ونشاطها في البحيرة، ولكنه لما كان قد رَضِيَ في هذا الحادث (حادث ١٦) مايو بأن تعتبر البحيرة قوات كبيرة للعدو وأن تستخدم قنجاته في عبورها، ودون أن ينذرنا بتاتًا باقترابهم، على خلاف ما كان يعدنا به دائمًا، ولما كان قد بلغنا كذلك أنه قد أرجع إلى رشيد ضابطًا إنجليزيًّا من الآلاي الخامس والثلاثين كان قد فر منها، ووصل إلى قرية إدكو، فقد اعتُبرَ مسلكه لذلك كله إن لم يكن معاديًا لنا بطريق مباشرة فهو قطعًا يدل على ميوله الودية نحو العدو، وبناء عليه — ولما كان أمير البحر مريضًا (ويقصد «توماس لويس» الذي ما لبث كما تقدم أن توفى بعد ذلك)، فقد أمرت كل قواربنا المسلحة بالدخول إلى بحيرة إدكو وتحطيم كل القنجات الموجودة بها؛ لمنع العدو من نَيْلِ أية مساعدة مرة أخرى من هذه الناحية.» ثم إنَّ «هالويل» بعد أن ذكر فتح القطع بين بحيرتي المعدية ومريوط وامتلاء هذه الأخيرة بالماء سريعًا، حتى صار للإنجليز اثنا عشر زورقًا للمدفعية في هاتين البحيرتين يمكن الاعتماد عليها لدرجة كبيرة في منع العدو من محاولة الهجوم على الإسكندرية من هذه الناحية الغربية، شرع يقول: «وللعدو قوات على درجة عظيمة من القوة، وتقول التقارير أن لديه حوالي التسعة آلاف عند رشيد والحماد، بينما تتألف قواتنا هنا من ٣٤٠٠ من مختلف الرتب بما في ذلك ٢٠٠ عند أبي قير و١٠٠ عند القطع، ولما كانت خطوط الدفاع عن الإسكندرية ممتدة امتدادًا واسعًا فإنه لا مندوحة عن إمداد الجيش بنجدات لتأميننا في موقفنا الراهن، ولإدخال الثقة في نفوس سكان الإسكندرية الذين يستبد بهم القلق والخوف؛ بسبب ضآلة القوات التي لدينا».

ويذكر «هالويل» أن باشا مصر قد أوفد الميجور «فوجلسانج» من آلاي «رول» وكبير الضباط في موقع الحماد وقت وقوع الواقعة إلى القسطنطينية بناء على التماس القنصل الفرنسي «دروفتي»، ومن المحتمل أن يكون الأخير قد زود «فوجلسانج» برسالة إلى «سباستياني» — السفير الفرنسي في القسطنطينية — يوضح له فيها مبلغ «ضعف جيشنا في مصر، ويلح في ضرورة إرسال النجدات فورًا إليها، وإذا فضل هؤلاء (أي الأتراك) عدم المجازفة بإرسال جندهم بحرًا وتجنيبهم خطر التعرض للأسطول الإنجليزي، فمن المحتمل أن يسيروا الجند عبر سوريا إلى مصر، وأما إذا تزايدت قوات العدو هنا بدرجة كبيرة وقبل أن تصلنا نحن أية نجدات، فسوف يصبح موقفنا شديد الخطورة، والقائد الجنرال «فريزر» مشغول جدًّا بأمر إصلاح التحصينات لحاجة هذه الكبيرة إلى الترميم، كما أني مشغول أنا الآخر بالعمل على زيادة قوتنا البحرية من ناحية توفير العدد اللازم من قوارب المدفعية للعمل ضد قنجات العدو إذا خرج من النيل، وحاول إنزال جنده إلى البر ليلًا، فلدينا الآن ثلاثة عشر زورق مدفعية مجهزة، وأقوم كذلك بتجهيز قاربين للمدفعية التي من نوع المورتار …» ثم اختتم «هالويل» رسالته هذه إلى نائب أمير البحر «ثورنبروه» بقوله: «واسمح لي أن أذكر لك ضرورة وجود سفن حربية صغيرة هنا للتجول أمام دمياط؛ كي نمنع نزول جند العدو بها، ثم للتجول في خليج أبي قير للحيلولة دون خروج العدو وتسلله من رشيد ولمنعه من اتخاذ موقع له على هذا الجانب من بحيرة إدكو وحشد قواته به، وتقف الآن السفينتان «ستاندارد» و«أبولو» في خليج أبي قير، ولعدم وجود سفن حربية صغيرة أبقيت النقالة «كوميت» Comet إلى جانبهما، وتقلع هذه في بعض الأحيان لتسير قريبًا من الشاطئ.»

وبذل «هالويل» و«فريزر» قصارى جهدهما وبقدر ما تسنى لهما لمراقبة قبرص ثم السواحل الشامية خصوصًا؛ لمنع وصول نجدات العثمانيين منها إلى مصر، ولما كان يعتقدان أن سليمان باشا والي صيدا وعكا من باشوات الدولة العثمانية الذين لا يكنون ولاء قويًّا لهذه الدولة، ولا يريدان لهذا السبب الاشتباك معه في أعمال عدوانية، فقد آثرا تحذيره حتى لا يتعرض للسفن الآتية إلى الإسكندرية أو الذاهبة منها — وهي السفن التي توقف على وصولها بسلام إلى هذه الميناء وصول النجدات والمؤن التي تمكن الإنجليز من البقاء بها — فكتبا إليه في ١٠ يونيو يذكران الغرض من زيارة الإنجليز للإسكندرية، وهو إحباط مكائد الوكلاء الفرنسيين الذين من صالحهم أن يورطوا كل الأمم في دخول الحرب؛ حتى يفوزوا هم بمأربهم في هذه البلاد الذي لا يقلُّ عن احتلال مصر وإنزال الظلم بأهلها، ثم استطردا يقولان: «ومن دواعي الأسى حقًّا أن يكون الباب العالي قد عَمِي عن رؤية مصالحه الذاتية لدرجة مكَّنت الوزير الفرنسي بالقسطنطينية بفضل مكائده من جعله يسرع دون تدبر بالدخول في حرب مع بريطانيا العظمى، الأمر الذي ما كان يجدر بالباب العالي أن يفعله، لو أنه تذكر المنافع التي صارت له من تحالفه السابق مع الإنجليز، ذلك التحالف الذي استطاع بفضله إخراج الفرنسيين من مصر واسترجاعها منهم، ولكنه لما كان غرض الفرنسيين بتحالفهم مع الباب العالي أن يسهِّلوا لأنفسهم مهمة امتلاك مصر، فقد بادرنا بالمجيء إلى هذه البلاد بجيش يمنع سقوطها مرة أخرى في أيدي الفرنسيين، وهو أمر لو حدث لتعذر بتاتًا تخليصها من قبضتهم ثانية، فلم يكن مجيئنا إذن لفتح البلاد أو إنزال الكوارث بأهلها، وإنما نبغي أن نعيش في صداقة تامة مع كل أولئك الذين يميلون لعقد أواصر الصداقة معنا، لقد كان سلفك الجزار باشا صديقًا وحليفًا لنا، ولا بد أنكم عارفون دائمًا بإخلاص وسلامة نية الأمة الإنجليزية وكرمها وسخائها، ولما كنا قد ذكرنا الغرض من استيلائنا على الإسكندرية، فأملنا وطيد في أنكم سوف تمتنعون عن أي عمل عدواني ضد سفننا الداخلة إلى هذا الميناء، أو إزعاج وإرهاق تجارة عكا والمدن المختلفة الواقعة على ساحل الشام إذا اضطررتمونا إلى مناصبتكم العداء، ففي يدكم أنتم إذن تقرير المسلك الواجب علينا اتباعه.» ورجا «فريزر» و«هالويل» من الحاج سليمان باشا أن يجيب على رسالتهما هذه إليه بكل سرعة، ولكن هذه الجهود ذهبت سدى عندما أجاب باشا عكا وصيدا في ٢٠ يونيو أنه يدين بالولاء للباب العالي، ويستحيل عليه أن ينقض أوامره، لا سيما وقد أمر الله سبحانه وتعالى بطاعته ورسوله وأولي الأمر من المسلمين؛ ولذلك يستحيل عليه أن يسمح لأي فرد من رعاياه في وقت الحرب هذا بالذهاب إلى الإسكندرية، ولقد كان ذلك هو الحال دائمًا تحت مثل هذه الظروف القائمة، واضطر «هالويل» كما ذكر «لثورنبروه» في ٢٣ يوليو وهو يبعث إليه بصورة من رسالته و«فريزر» إلى سليمان باشا، ورد هذا عليهما إلى إنفاذ السفينة الحربية «ستاندارد» للجولة في مياه قبرص وأمام سواحل فلسطين وسوريا.

على أنه بالرغم من كل هذه الصعوبات التي صادفها الإنجليز أثناء احتلالهم للإسكندرية، فقد أخذ موقفهم بها يتحسن رويدًا رويدًا، بسبب الإمدادات التي جاءتهم من الرجال والمال، وإقبال البدو الذين انحازوا جميعًا إلى الإنجليز، كما قال «هالويل» على تزويد هؤلاء بكميات جد وفيرة من القمح ولحوم البقر والخضراوات، ولم يبذل محمد علي أي جهد لمنع وصول هذه الأغذية إليهم، سواء كان مبعث ذلك الرغبة في عدم تجويع الإسكندرية وحاميتها من الإنجليز في وقت كان يريد فيه حملهم على الجلاء عنها بطريق المفاوضة بدلًا من الالتحام معهم، أم كان مبعثه عدم قدرته على فعل ذلك، ثم صارت تدخل السفن يوميًّا إلى ميناء الإسكندرية من جزر الأرخبيل محملة بمختلف أنواع المؤن والإمدادات من زيوت وأخشاب وغير ذلك مما يحتاج إليه أهل الإسكندرية، واكتظ السوق بالأنبذة وسائر المشروبات الروحية، لدرجة أن عددًا من السفن اضطر إلى مغادرة الميناء دون تفريغ حمولتها.

ولقد كان من جراء المفاوضة التي لم يلبث أن مهَّدَ لها الباشا منذ حادث إرسال الضابط «ماثيسون» في أول مايو، وبعد محاولتي ١٠، ١٦ مايو الفاشلتين ضد الإسكندرية أن امتنع إزعاج الإنجليز بها، واستطاع هؤلاء إحكام نظام دفاعهم، حتى أن «هالويل» لم يلبثْ أن أكد لثورنبروه في رسالته الآنفة إليه في ٢٣ يوليو «أن لا شيء أقل من دخول جيش أجنبي كبير في الميدان ضدنا يمكن أن يثير ولو بدرجة ضئيلة مخاوفنا، وحتى في هذه الحالة فليس هناك ما يدعونا إلى اليأس، اللَّهمَّ إلا إذا أصيبت جنودنا بمرض خطير، وهكذا بدأ يتقوى مركز الإنجليز بالإسكندرية وعادت الثقة إلى نفوسهم، ولو أنهم شرطوا قدرتهم على الصمود — على نحو ما ذكر «هالويل» — كذلك بعدم تحميلهم عبء عمليات عسكرية جديدة في داخل البلاد لعجز قواتهم عن القيام بها، وعلى شريطة ألا يطول مقامهم بالإسكندرية وهم على وضعهم الراهن بها.

وكان في هذه الأثناء أن عاد مندوبا شاهين الألفي يحملان إليه جواب «فريزر» على رسالته — وهو الجواب الذي سبقت الإشارة إليه — وقد أثنى أحمد بك الألفي أحد مندوبي شاهين ثناءً طيبًا على الحفاوة التي قابله بها «فريزر»، مما أثلج صدور زملائه الذين يطلبون لفريزر الصحة والسعادة، وكان إبراهيم بك وزملاؤه عندما علموا بذهاب مندوبي شاهين لمقابلة «فريزر»، قد بعثوا بأحد الأمراء ليقف من شاهين على حقيقة المهمة التي أوفد فيها مبعوثيه إلى الإسكندرية، وانتهز شاهين — وقتئذٍ — الفرصة لتأنيبهم على جمودهم وعدم حركتهم؛ لأن مفاوضات كانت تدور عندئذٍ بين إبراهيم وجماعته وبين محمد علي — سوف يأتي ذكرها — لحمل هؤلاء على التزام خطة الحياد في النضال القائم بين محمد علي والإنجليز، ونعى شاهين عليهم عدم اكتراثهم بالقضية العامة وصالح المماليك، واستمرارهم على التراسل مع محمد علي، فلما وصل أحمد بك الألفي بعث إبراهيم يطلبه إليه ليستوضحه الأمر، فذهب إليه وأبلغه نصيحة الجنرال «فريزر» وهي ضرورة أن يبقى البكوات والمماليك متحدين مع بعضهم بعضًا، فلا يكونون إلا جسدًا واحدًا وروحًا واحدة، وأن «فريزر» إنما يبغي أن يراهم وقد عاد إليهم الحكم ثانية في القاهرة.

وعقد بكوات إبراهيم عدة اجتماعات وكان إبراهيم قد وصل بمعسكره — كما تقدم — إلى بني سويف لبحث الموقف، وكان من رأي إبراهيم الذي ما كان يثق في وعود محمد علي أبدًا، ولا يركن إليه، أن صالح بكواته يقتضيهم التحرك والنزول من الصعيد، ولكن بكواته أثاروا اعتراضات معينة على هذا الرأي، وصفها شاهين بك فيما بعد بأنها كانت تافهة وعابثة، وكان بعد عودة أحمد بك الألفي إلى معسكر شاهين في ميمون أن تبودلت الرسائل بين شاهين وإبراهيم، واتفق الفريقان على عقد مؤتمر لتقرير الخطة التي يجب اتباعها، وعقد هذا المؤتمر فعلًا عقب ذلك، وحضره شاهين، وقرر المجتمعون أن ينزل البكوات وأتباعهم من الفريقين، بكل قواتهما متحدة لمحاربة محمد علي الذي لتأثره بنصائح أعداء البكوات ولأنه يغبط نفسه على أن الإنجليز لا يساهمون مساهمة فعالة في تأييد قضية المماليك، قد صار يحاول بواسطة رُسُلِه ووكلائه بذر بذور الانقسام والتفرقة بينهم، وكان بناء على هذا القرار أن نقل إبراهيم بك معسكره إلى الرقة بينما انتقل شاهين إلى قرية على مسيرة ثلاث ساعات من الجيزة، وكتب إبراهيم بك إلى «فريزر» في ١١ يوليو، كما كتب إليه أحمد بك الألفي وشاهين بك في ١٤ يوليو، يبلغونه قرارهم، وأنهم واقفون بمراكزهم الجديدة حتى يتلقوا أوامره، وقال إبراهيم: إنَّ رسوله إلى «فريزر» أمين بك سوف يشرح له طبيعة الأماكن التي هم معسكرون بها الآن، وأن موعد فيضان النيل يقترب بسرعة عظيمة جدًّا، حتى إنه لا يمضي وقت طويل حتى يصبح من المتعذر على فرسان المماليك العمل، كما في وسع صديق إبراهيم بك الميجور «مسيت» أن يشرح ذلك له، كما أكد أحمد الألفي ضرورة أن تصل أوامر «فريزر» إلى البكوات في موعد قريب؛ لأنه بعد شهر من هذا التاريخ يصير فتح خليج القاهرة؛ أي حصول الفيضان، وأما شاهين بك فإنه بعد أن نقل إلى «فريزر» أنباء ما حدث بعد عودة أحمد الألفي من الإسكندرية، راح يتحدث عن صداقته هو وجماعته للإنجليز، تلك الصداقة والمحبة التي زرع جذورهما في قلبه وقلوب زملائه والدهم العزيز محمد الألفي الذي علمهم كذلك أن يضعوا ثقتهم في الإنجليز، وجعلهم يتوقعون تلقي المساعدة منهم، وأكد دليلًا على هذه الصداقة أنه هو وإخوانه جميعهم يعتبرون أنفسهم تحت حماية الإنجليز مباشرة، ويدعون الله أن يمتع «فريزر» بالسعادة، وأن يتيح لهم فرصة العودة سريعًا إلى الحكم في القاهرة بمؤازرة الإنجليز.»

على أنه كان من الواضح بالرغم من تقرير البكوات الاتحاد ومحاربة محمد علي، وتأكيد شاهين الألفي صداقته للإنجليز حُماتِه أن هؤلاء جميعًا لم يتخلوا عن فكرتهم الأولى، وهي عدم الالتحام مع محمد علي في أية معارك طالما بقي الإنجليز بالإسكندرية، ولم يزحفوا صوب القاهرة، ولم يشتبكوا في قتال مع محمد علي والأرنئود يشغلهم عن مطاردة أسرات البكوات في القاهرة وإيذاء حريمهم، ولم يكن في وسع «فريزر» بحال من الأحوال للأسباب العديدة التي ذكرناها، الدخول في أية عمليات عسكرية خارج الإسكندرية، ولم تزده رسائل البكوات الأخيرة إلا اقتناعًا بعبث الاعتماد على تلقي أية مساعدة منهم، ولم يبدُ وقتئذٍ أن «فريزر» كان لا يزال يدخل في حسابه توقع أن يهُبَّ هؤلاء لمعاونته، فقد كانت المفاوضات بينه وبين محمد علي قد بدأت تسير في طريقها متعثرة أولًا، لا تتجاوز محاولة جس النبض من جانب الفريقين، ثم لم تلبث أن سارت مسرعة في الشهر التالي عندما قررت الحكومة الإنجليزية ذاتها سحب حملة «فريزر» من مصر لأسباب متصلة بتطورات الموقف السياسي — العسكري في الميدان الأوروبي، مما جرد مسألة تعاون المماليك عسكريًّا مع الإنجليز من كل أهمية، وفضلًا عن ذلك فقد بادر «بتروتشي» من القاهرة يحذر «مسيت» والإنجليز بالإسكندرية منذ ٦ يوليو من هؤلاء البكوات الذين قال عنهم: «إن من واجب الحكومة الإنجليزية أن تراقب مسلكهم؛ لأن هؤلاء وإن كانوا يصرحون علنًا بأنهم ليسوا على علاقات طيبة مع الباشا، بل على العكس من ذلك يدينون بالولاء للإنجليز، فإن أقوالهم هذه موضع اشتباه، فمن المحتمل أن يكون هناك بعض التفاهم سرًّا بينهم وبين محمد علي، ولو أن كلا الفريقين لا يثق أحدهما في الآخر، ويتجهز الأخير (أي محمد علي) لمهاجمة البكوات حيث قد نقل جنده عبر النيل إلى إمبابة، بينما حذا البكوات حذوه وهم يحتفظون بقرية «زنيه» Zenia مما يدل على استحالة أن يكون الفريقان مخلصين في نواياهما، ولا يزال الوكيل الفرنسي «مانجان» مقيمًا في معسكر البكوات، ويبعث إليه «دروفتي» بالرسل يوميًّا، والمفاوضات جارية دون انقطاع، ويؤكدون أن الفريقين ليسا على علاقات ودية، وأنهما سوف يصطدمان في آخر الأمر، ولكنه لا يوجد ما يدل على أنهما في حالة حرب ضد بعضهما البعض، أو أن هناك سوء تفاهم بينهما، ومن شأن هذا التحذير الذي أبعث به إليك أن يجعلك محتاطًا ومتحذرًا في علاقتك مع البكوات ولقد أبدى لي أحد الأفراد في خدمة هؤلاء الأخيرين، أنه في حالة نشوب معركة بين الجند الإنجليز وجند الباشا فسوف يتمكن البكوات من الانقضاض على الجانب الذي يبدو حينئذٍ أنه أضعف من الآخر، وأنه لا غرض للبكوات إلا خديعة الإنجليز والباشا على السواء وبنفس الطريقة التي يخدعهم بها هذا الأخير.»

ولقد كان جمود البكوات، واستنادهم على هذه الأساليب الملتوية التي برهنت على عبثها الحوادث السابقة، ومن أيام مسعى الألفي في القسطنطينية لاسترجاع الحكم في مصر، من أهم العوامل الحاسمة لا في فشل عمليات حملة «فريزر» العسكرية فحسب، بل وفي تفويت فرصة استرجاع الحكم على أنفسهم في هذه المرة كسابقتها، وغَنِيٌّ عن البيان أن الإنجليز وقد كان قد تحدد غرضهم من المجيء إلى الإسكندرية على الصورة التي أوضحناها مرارًا، والتي تمنعهم من توسيع نطاق عملياتهم العسكرية، لم يكن في وسعهم الارتباط مع المماليك ارتباطًا يعيد إلى الأذهان ما حدث أيام «هتشنسون» في حملتهم السابقة، واستئناف سياسة دلت الحوادث على خطئها، ولا تدخل المثابرة عليها في نطاق برنامجهم العسكري والسياسي في الظروف الراهنة، وقد بسط هذه الحقيقة «هالويل» في رسالته إلى «ثورنبروه» في ٢٣ يوليو — وقد سبقت الإشارة إليها — فقال تعليقًا على تحذير «بتروتشي»: «لقد بعثت إليكم في رسالتي الأخيرة صورة من بعض ما جاء بكتاب «بتروتشي» قنصل النمسا العام في رشيد، يُحذِّرُنا من مكايد المماليك ومؤامراتهم، وهم الذين يرى ما يدعوه إلى التشكك في إخلاصهم وولائهم للإنجليز، ولقد بعثت إليكم أيضًا طي تلك الرسالة بصورة من الخطابات الثلاثة الأخيرة التي أرسلها المماليك إلى الجنرال «فريزر» — من إبراهيم بك في ١١ يوليو وأحمد بك الألفي وشاهين بك الألفي في ١٤ يوليو — وهم لا يزالون ينتظرون منا أن نُملِّكَهم الحكم في هذه البلاد، الأمر الذي وعدهم به الميجور «مسيت» دون أي تفويض من حكومة جلالة الملك، ولقد كان الحذر العظيم رائدنا منذ قدومنا؛ حتى نتجنب الارتباط بأية ارتباطات أو بذل أية وعود للماليك أو غيرهم، قد يترتب على عدم تنفيذها توريط حكومتنا وخلق الصعوبات لها في المستقبل …»

وكان «بتروتشي» مُحقًّا في تحذيره للإنجليز من ناحية المماليك؛ لأن مفاوضات كانت تُجرى فعلًا وقتئذٍ بينهم وبين محمد علي، فقد استفاد الباشا من نجاح مساعيه الأولى معهم أثناء وجوده بالصعيد، وهو نجاح وإن كان محدودًا فقد ترتب عليه اتخاذ البكوات موقف الحياد وعدم نزولهم من الصعيد للانضمام إلى الإنجليز قبل كارثتهم في الحماد، ولما كانت قد تضافرت عوامل أخرى، أعمق أثرًا في جعل البكوات لا يستجيبون لنداءات الإنجليز، فقد انحصر اهتمام الباشا في أن يستمر جمودهم، فكان شغله الشاغل في الأيام التالية لواقعة الحماد خصوصًا شل حركة هؤلاء بكل وسيلة؛ ولذلك فقد ظلت مسألة البكوات من أخطر الصعوبات التي صادفها محمد علي، والتي كانت من بين الأسباب الهامة التي أقنعته في آخر الأمر بضرورة التعجيل في الاتفاق مع الإنجليز لإخراجهم سلمًا إذا استطاع إلى ذلك سبيلًا، أفضل من قتالهم في حرب قد تستطيل بسبب ما يصلهم من نجدات، وقد يستفحل شَرُّها بسبب انضمام المماليك إليهم.

الباشا في القاهرة

وقد وصل إلى القاهرة خبر هزيمة الإنجليز في الحماد بعد الواقعة بيومين، فحضر في ٢٣ أبريل شخصان من السُّعاةِ وأخبرا بالنصر على الإنجليز وهزيمتهم، وفسر هذان الحادث بأنه اجتمع الجَمُّ الكثير من أهالي بلاد البحيرة وغيرها وأهالي رشيد، ومن معهم من المتطوعة والعساكر وأهل دمنهور، وصادف وصول كتخدا بك وإسماعيل كاشف الطوبجي إلى تلك الناحية، فكان بين الفريقين مَقتلةٌ كبيرة، أسفرت عن قتل كثير من الإنجليز وقطع عدة رءوس فخلع الباشا على الساعيين جوختين، ثم لم يلبث أن تحقق الخبر عندما وصل أيضًا في أثر ذلك شخصان من الأتراك وصفا ما حدث بأن الإنجليز انجلوا عن متاريس رشيد وأبي منضور والحماد، ولم يزل المقاتلون من أهل القرى خلفهم إلى أن توسطوا البرية وغنموا جبخانتهم وأسلحتهم ومدافعهم ومهراسين عظيمين، وذكرا أنه وصل خلفهم أسرى ورءوس قتلى كثيرة في عدة مراكب، واعتقد الشيخ الجبرتي أنهما بالغا في الأخبار لاستبعاد أن تنزل بجنود الإنجليز مثل هذه الكارثة، ولكن القاهريين لم يلبثوا أن شاهدوا في الأيام الأربعة التالية الأسرى يمرون في شوارع المدينة إلى معتقلهم بالقلعة، كما شاهدوا رءوس القتلى، ومنذ أن وصل خبر هذه الهزيمة في ٢٣ أبريل أمر الباشا بإطلاق المدافع الكثيرة من القلعة والأزبكية وبولاق والجيزة احتفالًا بالنصر، ولم يَسَع الشيخ الجبرتي عندما تحقق لديه أنه لم تكن هناك مبالغة في وصف ما حدث للإنجليز إلا أن يعلق على هزيمة الحماد بقوله: «وهذه الواقعة حصلت على غير قياس، وصادف بناؤها على غير أساس؛ لأنه لم يخطر في الظن حصول هذا الواقع، ولأن الرعايا والعسكر لهم قدرة على حروب الإنجليز (أي إنه لم يخطر في الظن أن لهؤلاء قدرة على ذلك)، وخصوصًا شهرتهم بإتقان الحروب، وهم الذين حاربوا الفرنساوية وأخرجوهم من مصر»، وعزا الشيخ هزيمتهم إلى فساد رأيهم ورأي الأمراء المصرية، «فأمَّا فساد رأي الإنجليز فلتعديهم الإسكندرية مع قلتهم وسماعهم بموت الألفي وتغريرهم بأنفسهم، وأمَّا الأمراء المصريون فلا يخفى فساد رأيهم بحال، وثمة سبب آخر ذكره الشيخ، هو أن هزيمة الإنجليز الأولى في رشيد أعادت الثقة إلى نفوس الجند والأهلين، وجعلتهم يستخِفُّون بهم ويستهينون بأمرهم، فقد تراجعت نفوس العساكر بعد انتصارهم في رشيد وطمعوا عند ذلك في الإنجليز، وتجاسروا عليهم، وكذلك أهل البلاد قويت هِممهم وتأهبوا للبروز والمحاربة، واشتروا الأسلحة، ونادوا على بعضهم بعضًا بالجهاد، وكَثُرَ المتطوعون، ونصبوا لهم بيارق وأعلامًا وزنورًا، فلما وصلوا إلى متاريس الإنجليز دهموهم من كل ناحية على غير قوانين حروبهم وترتيبهم، وصدقوا في الحملة عليهم، وألقوا أنفسهم في النيران، ولم يبالوا برميهم، وهجموا عليهم، واختلطوا بهم، وأدهشوهم بالتكبير والصياح حتى أبطلوا رميهم ونيرانهم، فألقوا سلاحهم، وطلبوا الأمان فلم يلتفتوا لذلك، وقبضوا عليهم، وذبحوا الكثير منهم، وحضروا بالأسرى والرءوس على الصور المذكورة، وفر الباقون إلى من بقيَ بالإسكندرية.»

وكان من أثر ذيوع هذه الأنباء في القاهرة، أن عادت الثقة إلى نفوس القاهريين كذلك، والأهمُّ من ذلك إلى نفوس المشايخ الذين عَظُمَ التفافهم الآن حول محمد علي وتأييدهم له، واتخذوا من واقعة الحماد وهزيمة الإنجليز بها سببًا لاستنهاض الهِمَمِ وإشعال حماس القاهريين، وبث الدعوة للجهاد، فشمَّرَ هؤلاء عن ساعد الجد لإنجاز التحصينات بكل سرعة، وأقبلوا على حفر الخنادق، وإقامة الأسوار بهمة عظيمة، وصار الباشا يخرج بنفسه وبصحبته «دروفتي» جملة مرات في النهار الواحد؛ لتفقد هذه الأعمال والإشراف على سيرها، وعلاوة على ذلك، فقد كان من أثر هزيمة الإنجليز أن صار الأرنئود والعثمانلي العصاة الذين كانوا قد انضموا قبلًا إلى البكوات، ينفضُّونَ من حولهم، ويحضرون الآن يوميًّا — كما كتب «دروفتي» إلى «سباستياني» في آخر أبريل — ويعرضون خدماتهم على الباشا.

وقد خُيَّلَ إلى الباشا في أول الأمر أن الإنجليز بعد هزيمتهم سوف يجلون عن الإسكندرية، ولكنه سرعان ما تبين له عزمهم على البقاء والتحصُّن بها، عندما وقف على التدابير التي اتخذها هؤلاء لتعزيز الدفاع عن الإسكندرية، ولا سيما قطع سد المعدية، وقد حدث بعد واقعة الحماد بأيام قليلة أن أرسل حسن باشا و«طبوز أوغلي» من رشيد أحد الضباط يحمل رسالة إلى الجنرال «فريزر» بالإسكندرية ضمناها احتجاجًا على هجوم ما كان يجب أن يحدث؛ بسبب الصداقة القائمة بين الأمتين من قديم الزمن، وملاحظات على ما تبذله إنجلترة من جهود لا طائل تحتها للاستيلاء على مصر، وطالبا بإخلاء الإسكندرية التي سوف يحاصرها — كما ذكرا — جنود الباشا عاجلًا، فكان جواب «فريزر» على ذلك إنما هو ينفذ تعليمات حكومته إليه، ويؤلمه أن تسوء العلاقات بين الأمتين الإنجليزية والعثمانية، ولاحظ رسولهما أن القطع الذي قطعه الإنجليز بين المعدية ومريوط متسع جدًّا، لدرجة أن جعل تدفق المياه إلى البحيرة الأخيرة من الصعوبة بمكان الانتفاع من الجسر المتحرك الذي أقامه الإنجليز عبر القطع، ثم تأكد لدى الباشا عزم الإنجليز على عدم إخلاء الإسكندرية، وجدية التدابير التي اتخذوها للدفاع عنها، عندما عاد إلى القاهرة في ٢٣ مايو عابدين بك أخو حسن باشا، وحضر في أثره أحمد أغا لاظ وغيره يبلغون الباشا فشل محاولتهم المعروفة يوم ١٦ مايو خصوصًا التي أرادوا بها مهاجمة أبي قير، واستطاعوا الوصول إلى قرب معدية البحيرة؛ أي قطع المعدية، ولكن لم يلبث أن خرجت عليهم طائفة من الإنجليز من البر والبحر، وضربوا عليهم مدافع ونيرانًا كثيرة، فولوا راجعين وحضروا إلى القاهرة.

وعندئذٍ لم يعد هناك مناص من خروج الباشا نفسه والزحف على الإسكندرية لاستخلاصها من أيدي الإنجليز، ولكن صعوبات عدة حالت دون خروج محمد علي فورًا لمناجزة هؤلاء، كان أهمها حاجته الملحة إلى المال لدفع مرتبات الجند، وتجهيز الحملة المنتظرة، وسداد نفقات الأهلين الذين تولوا أعمال الحفر والبناء وما إلى ذلك من الأعمال اللازمة لإنجاز تحصينات القاهرة ذاتها قبل خروجه، وهي أعمال ما كان يكفي جنده بالقاهرة وحدهم لإنجازها، ثم إنَّه ما كان يستطيع مغادرة القاهرة قبل الوصول إلى اتفاق مع ياسين بك الأرنئودي الذي استمر في ثورته وتمرده، وتجمع حوله حشد من الجند الأرنئود والعثمانلي المتمردين، ومن العربان والمماليك، على حدود إقليمي بني سويف والجيزة، وقد بدأ الباشا يتراسل معه من أجل إقناعه بالصلح والمسالمة، زد على ذلك أنه لم يكن مطمئنًا إلى موقف البكوات المماليك؛ وذلك لأنه حسب الاتفاق المبدئي الذي تَمَّ بينهم وبين محمد علي في أسيوط كان من المنتظر أن ينزل هؤلاء من الصعيد إلى الجيزة لإبرام الصلح النهائي، ولكن تباطؤ البكوات في النزول اضطره إلى إرجاء زحفه على الإسكندرية حتى يطمئن إلى وقوفهم موقف الحياد عند استئناف القتال بين جيشه وبين الإنجليز، ولم يغِبْ عن ذهن محمد علي أن البكوات إذا انضموا إلى هؤلاء الأخيرين جعلوا قَطعًا كفتهم هي الراجحة على كفته، أضف إلى هذا كله أن تأمين أهل رشيد والحماد على أنفسهم وأموالهم، ووقف اعتداءات جنده عليهم، كانت المسألة التي واجهته مباشرة بعد حوادث المعارك الأخيرة بتلك الجهات؛ وعلى ذلك، فقد حرص محمد علي على معالجة كل هذه المسائل قبل زحفه على الإسكندرية، ثم إنَّه توقف على مدى نجاحه أو إخفاقه في معالجتها تقريره الاشتباك مع الإنجليز، أو تفضيل الاتفاق معهم على جلائهم عن الإسكندرية سلمًا ودون قتال.

فقد حدث بعد هزيمة الإنجليز في الحماد وتقهقرهم إلى الإسكندرية أن اعتبر جند الباشا قرية الحماد والجهات المجاورة لها دار حرب بنزول الإنجليز عليها وتمَلُّكِها، فنزلوا عليها واستباحوا أهلها ونساءها وأموالها ومواشيها، فتدخل بعض وجهاء الناحية أو الظاهرين لمنعهم ولكن دون جدوى، فبعث هؤلاء الظاهرون إلى القاهرة يستفتون علماءها فيما إذا كانت بلادهم قد صارت دار حرب، يصح للأرنئود استباحة أهلها ونهب أموالها؟ وكتبوا في ذلك سؤالًا، وكتب عليه المفتون بالمنع وعدم الجواز، ثم أحاط الجند ورؤساؤهم برشيد ذاتها، وضربوا على أهلها الضرائب، وطلبوا منها الأموال والكلف الشَّاقَّةَ، وأخذوا ما وجدوا بها من الأرز للعليق، فضَجَّ الأهلون بالشكوى وتوسط حسن كريت لدى حسن باشا وكتخدا بك «طبوز أوغلي» لوقف هذه الاعتداءات، وتكلَّم معهما، وشنَّع عليهما، مُهدِّدًا بخروج جميع أهل رشيد إلى جهة أخرى، وترك المدينة يفعلون بها ما يشاءون، وتدخل حسن باشا و«طبوز أوغلي» لمنع هذه الاعتداءات، وأخذا يتلطفان مع السيد حسن كريت، ولكن هذا الأخير بادر بالكتابة إلى الباشا والسيد عمر مكرم بالقاهرة، واهتمَّ محمد علي بالأمر، وبعث بفرمان إلى الجند بالكف والمنع لتأمين الأهلين على حياتهم وأموالهم.

وعالج الباشا أزمته المالية — ولقد كانت هذه على نحو ما عرفنا أزمة مزمنة — بنفس الطرق التي درج على اتباعها منذ ولي الحكم في عام ١٨٠٥، يحصِّلُ الغرامات من الذين اضطروا إلى المصالحة على أنفسهم، ويطلب القروض والسلف الإجبارية، ويقاسم الملتزمين إيراداتهم إلى غير ذلك من الوسائل التي مكنته وقتيًّا من سد حاجته إلى المال، من أمثلة ذلك أنه ألزم أيوب فودة أحد كبار القليوبية دفع غرامة ثلاثمائة كيس، بعد أن قَوِيَ الاتهام ضده بأنه كان يحمي أحد قُطَّاع الطرق ويُدعى زغلول، وقد كان هذا الأخير ينهب المسافرين في النيل، وعظمت شكوى الأهلين منه، ولم تفلح محاولتهم في توسيط أيوب فودة كبير الناحية لوقف اعتداءاته، واضطر الباشا في أوائل مايو إلى إنفاذ قوة للقبض عليه وقتله، ولكنه هرب، فصادر جند الباشا موجودات أيوب فودة وبهائمه وماله من المواشي والودائع بالبلاد، وحضر الأخير إلى القاهرة يوسِّطُ السيد عمر مكرم لدى الباشا حتى يصفح عنه، وصالح على نفسه بالمبلغ الذي سلف ذكره.

على أن أكبر الموارد التي استعان بها الباشا على التخفيف من حِدَّةِ أزمته المالية كانت تلك التي جاءته عن طريق الفُرض التي فرضت على البلاد والقرى في العام السابق، فقد كَمُلَت الآن في منتصف يونيو ١٨٠٧ دفاتر الفرضة والمظالم التي ابتدعت في العام الماضي على القراريط وإقطاعات الأراضي، وكذلك أخذ نصف فائظ الملتزمين، وذلك خلاف ما فُرض على البنادر من الأكياس الكثيرة المقادير، ثم حدث في أواخر يوليو ما وصفه الشيخ الجبرتي بأنه حادثة لم يسبق مثلها، وهي المطالبة بمال الأطيان المسموح الذي لمشايخ البلاد، وكان هؤلاء معفين من دفع الضريبة عن جزء من الأرض الداخلة في حصة التزامهم؛ أي التي اعتبروا مسئولين عن تأدية المال عنها إلى الحكومة نظير هذا الالتزام، وضيافة عمال الحكومة ومن إليهم، وقد عرف ذلك باسم مسموح المشايخ، وكان المفروض أن يُعفى الفلاحون في هذا الجزء المعفى من الضريبة من دفع الضرائب كذلك، ولكن المشايخ الملتزمين درجوا بالرغم من هذا على جمع الضرائب وسائر الفرض والإتاوات الحكومية من الفلاحين في الأرض المعفاة منها حسب هذا النظام، فطلب الباشا الآن هذا المال المسموح، وحرروا به دفترًا وشرعوا في تحصيله.

وفي يوليو طلب الباشا من التجار نحو الألفي كيس على سبيل السُّلفة، فوزعت على الأعيان وتجار البن وأهل وكالة الصابون ووكالة التفاح ووكالة القرب وخلافها، ووصف الشيخ الجبرتي هذه الطريقة التي حصلت بها هذه السلفة فقال: «وأجلسوا العساكر على الحواصل والوكائل يمنعون من يُخرج من حاصله أو مخزنه شيئًا إلا بقصد الدفع من أصل المطلوب منهم، ثم أردفوا ذلك بمطلوبات من أفراد الناس المساتير، فيكون الإنسان جالسًا في بيته، فما يشعر إلا والمعينون واصلون إليه، وبيدهم بصلة الطلب إما خمسة أكياس أو عشرة أو أقل أو أكثر، فإما أن يدفعها وإلا قبضوا عليه وسحبوه إلى السجن، فيحبس ويعاقب حتى يتمم المطلوب منه»، واستطرد الشيخ يقول: «وهذا الشيء خلاف الفرض المتوالية على البلاد والقرى في خصوص هذه الحادثة، وكذلك على البنادر، مقادير لها صورة وما يتبعها من حق طرف المعينين المباشرين، وتوالى مرور العساكر آناء الليل وأطراف النهار بطلب الكلف واللوازم، وقد طلب مثل ذلك من غالب بلاد السواحل.»

وثقلت وطأة هذه الفرض والمغارم على الأهلين، فقال الشيخ الجبرتي: «إنَّ قرى قد خربت، وافتقر أهلها وجلوا عنها، فكان يجتمع أهل عدة من القرى في قرية واحدة بعيدة عنهم ثم يلحقها وبال المعينين والمباشرين والعساكر فتخرب كذلك، وأما غالب بلاد السواحل، فإنها خربت وهرب أهلها»، وكان من بين فرض المغارم التي قررت وقتئذٍ على البلاد ما عرف باسم بشارة الفرضة، كتبوا بها أوراقًا يتولاها بعض من يكون متطلعًا لمنصب أو منفعة، ثم يرتب له خدمًا وأعوانًا ثم يسافر إلى الإقليم المعين له، وذلك قبل منصب الأصل وفي مقدمته يبعث أعوانه إلى البلاد يبشرونهم بذلك، ثم يقبضون ما رسم لهم في الورقة من حق الطريق بحسب ما أدى إليه اجتهاده قليلًا أو كثيرًا، وقد قدر الشيخ حسب ما سمع من بعض من له خبرة بذلك قيمة المغارم التي قُرِّرَت على القرى بسبعين ألف كيس وذلك خلاف المصادرات الخارجية.

وسواء أكان هذا التقدير مبالغًا فيه أم لم يكن، وسواء بالغ الشيخ في وصف ما حل بالقرى وغالب بلاد السواحل من تخريب أم اقتصد في وصفه — ومن المعروف أن الشيخ لم يكن راضيًا عن حكومة محمد علي — فالثابت أنه لم يكن هناك مَعْدَى عن اللجوء إلى هذه الطرق غير العادية لجلب المال الذي أقفرت منه خزانة الباشا لكل تلك الأسباب التي سبق بسطها عند ذكر الصعوبات التي صادفتها حكومته من بدء تأسيسها في عام ١٨٠٥، ثم أوجدت الأزمة المالية التي تزايد استحكامها على مرور الأيام بدلًا من انفراجها؛ وذلك بسبب ما جد من حوادث وأزمات سياسية كثيرة وعصيبة، كان آخرها مبعثه مجيء حملة «فريزر»، فكان حرمان الباشا من مال الصعيد وغِلالِه لخضوع هذا الإقليم لسيطرة البكوات المماليك، وكساد التجارة بسبب استيلاء الإنجليز على الإسكندرية أهم موانئ القطر، وعدم تأمين السبل في الوجه البحري عمومًا بسبب الفوضى الناجمة عن وجود حالة الحرب، وهي حرب لم يكن أحد يعرف ما سوف تنتهي إليه، ثم تعطُّل الزراعة نتيجة لما لحق بالفلاحين وأهل القرى من إيذاء على أيدي الجنود الذين كثر مرورهم ببلادهم أثناء العمليات الحربية الأخيرة خصوصًا، ومطلوبات هؤلاء منهم — نقول كان ذلك كله إلى جانب حاجة محمد علي الملحة إلى المال لدفع مرتبات الجند وإنجاز تحصينات القاهرة وتجهيز جيشه للزحف على الإسكندرية مبعث هذه الأساليب الشديدة التي اتخذت لجمع المال.

وقد ذكر «دروفتي» شيئًا من هذه الصعوبات التي صادفت الباشا وقتئذٍ والأسباب التي جعلته يعمد إلى فرض الفُرض والمغارم، فقال في رسالة له إلى «سباستياني» من القاهرة في ٢٩ يوليو: إن الجند يطالبون بمرتباتهم التي صارت مستحقة لهم عن تسعة شهور، وغدت رشيد مسرحًا لبعض حركات التمرد والعصيان، وموارد محمد علي مثقلة ولا تكفي لسداد نفقاته؛ لأنه ترك مديريات الصعيد للماليك وذلك منذ انسحابه من أسيوط وإخلاء جنده للمراكز التي كانت لهم بالصعيد في الظروف التي عرفناها أثناء شهر أبريل ١٨٠٧، ولأنه لا إيراد أو دخل للحكومة من التجارة حتى اضطره ذلك كله إلى فرض إتاوات غير عادية، منها طلب سلفة من الأوروبيين، ولم يحتج القنصل الفرنسي على هذه السلفة التي كانت إجبارية في واقع الأمر ومن طراز السلفة التي طلبها الباشا من التجار القاهريين وغيرهم، بل على العكس من ذلك صار يبذل قصارى جهده لإقناع مواطنيه والمحميين الفرنسيين بتقديم كل ما يمكن تقديمه من مال لمحمد علي، فبلغ ما أقرضه هؤلاء له عشرة آلاف قرش تركي عدا أربعين قنطارًا من الحديد ومثلها من الرصاص بضمان الميري.

وأتيحت الفرصة لحصول الباشا على قدر كبير من المال عندما أقرضه نائب القنصل البريطاني في رشيد «بتروتشي» — وهو قنصل السويد العام في الوقت نفسه — أربعين ألف قرش، وتفصيل ذلك، أن الباشا بعد إخفاق عمليات الإنجليز ضد رشيد، لم يلبث أن بعث في طلب كل من «روشتي» قنصل روسيا العام والنمسا، و«بطروشي» أو «بتروتشي» من رشيد إلى القاهرة حتى يتمكن من مراقبة نشاطهما بنفسه، وكان هذان قد بقيا برشيد وخشي من دسائسهما وتحريض الجند والأهلين على الفتنة، لا سيما وقد كان لروشتي علاقات لم تغب معرفتها على محمد علي كما بلغه الشيء الكثير عن نشاط «بتروتشي»، قال «مسيت» إنَّ القنصل الفرنسي هو المسئول عن هذه المعلومات التي بلغت محمد علي عنه، كما عزا إليه التحريض على إساءة معاملته حتى إن الأتراك في رشيد صاروا يعاملونه أخيرًا معاملة غير كريمة، وهو الذي قام منذ أربع سنوات بوظائف الوكيل البريطاني برشيد، فعرضوا عليه إتاوات كثيرة ووُضِعت الأختام على ممتلكاته، ثم قُبِضَ عليه وأرسل إلى القاهرة حيث سُجِنَ بها، على أنه مما يجدر ذكره أن مصادرة أملاك «بتروتشي» كانت بناء على ذلك الأمر الذي أصدره الباب العالي بضبط تعلقات الإنجليز، وقد قرئ مرسوم الباب العالي هذا ببيت القاضي يوم ٢٣ أبريل على نحو ما تقدم ذكره، وأما الباشا فقد ألقى بالبطروشي في السجن فعلًا بمجرد وصوله إلى القاهرة، والتمس هذا مرارًا عديدة مقابلة محمد علي حتى يدفع عن نفسه التهم التي ألصقها به أعداؤه، فكان بعد لأيٍ وعناء أن أذن له الباشا بمقابلته، وكتب «مسيت» إلى «كاسلريه» في ١٧ يونيو، يصف ما حدث فقال: إن «بتروتشي» نجح في إقناع الباشا بزيف الأنباء التي حملتها التقارير التي قدمت عنه إلى الباشا والأقوال التي أذيعت عنه زورًا وبهتانًا.

ولما كان «بتروتشي» قد اكتشف حاجة محمد علي الشديدة إلى المال، وأنها تسبب له القلق والانزعاج فقد عرض فورًا أن يُقرض الباشا أربعين ألف قرش نظير أن تعاد إليه أملاكه، وأن يطلق سراحه من الحبس، الأمر الذي من حقه أن يصر على تنفيذه حيث إنه القنصل العام لجلالة ملك السويد في مصر، فقبل الباشا عرضه وأطلق سراحه، ولم يرتح «دروفتي» لما حدث؛ لأنه اعتبر إخراج «بتروتشي» من الحبس من ناحية، ثم ترك «روشتي» يمرح في القاهرة من ناحية أخرى يهدد حكومة الباشا في ظروفها الحرجة وقتئذٍ؛ لأن «روشتي» بوصفه المزدوج: قنصلًا للنمسا ولروسيا، و«بتروتشي» بوصفه المزدوج كذلك: قنصلًا للسويد ونائب قنصل لإنجلترة، وروسيا وإنجلترة في حرب مع الباب العالي، وهما لذلك يعملان ضد صالح تركيا وحكومة محمد علي في مصر قد جعل الباشا بالرغم من ذلك يسلك كل طريق لمداراتهما وتدليلهما بالصورة المنتظرة في مثل هذا الوضع السياسي الذي لهما ولكنهما يستغلان كرم الباشا، ويستخدمان الموارد المالية التي لا يمكن أن يحرم منها قناصل إنجلترة وروسيا ودون أن يلحقا بتصرفهما أية إهانة بالنمسا والسويد، ويستعينان بعطف الرأي العام عليهما، ووده نحوهما لتأييد مشروعات أعداء الباب العالي، وذلك باستمرارها سرًّا في القيام بوظائفهما كولاء للإنجليز والروس، كتب ذلك «دروفتي» في ١٤ يونيو، ثم لم يلبث أن بعث إلى «سباستياني» في ٢٩ يوليو بما يؤكد مخاوفه هذه فقال: «إن هناك مؤامرة تدبَّر ضد محمد علي يشرف على توجيهها ثلاثة من القناصل هم: «روشتي»، و«بتروتشي» وقنصل إسبانيا العام «كامبو آي سولر» Campo-y-Soler، والأولان أشد هؤلاء الثلاثة عداوة، و«بتروتشي» مالطي ووكيل بريطاني يستخدم كل ما لديه من موارد لتأييد مشروعات أعدائنا.»
ومع أن «بتروتشي» قد أقرض الباشا مبلغًا آخر من المال (٢٠٠٠٠ قرش)، واستطاع أن يستفيد من إقراضه إياه هذه المبالغ لكسب نفوذ كبير في علاقاته مع محمد علي، حتى إنه انتحل ضرورة تنظيم شئونه التجارية عذرًا لإرسال أحد رجاله إلى الإسكندرية وهو يوناني يُدعى «قسطنطين كاريري» Constantine Carriri لتزويد «مسيت» بطائفة من المعلومات الصحيحة عن عدة مسائل هامة، فقد بادر بالكتابة إلى القائم بأعمال السويد بالقسطنطينية يشكو من سوء المعاملة التي لقيها، والإجحاف الذي نزل به وهو برشيد، مع أنه — كما راح يدعي — قد ترك وظائفه كنائب قنصل لإنجلترة بها قبل نشوب العداء بين تركيا وإنجلترة، ومع ذلك فقد صادرت الحكومة المصرية ممتلكاته وأحضرته إلى القاهرة، وعينت رجلًا لحراسة منزله في رشيد، وشكا «بتروتشي» من إرغامه على إقراض الباشا مبلغي الأربعين ألف والعشرين ألف قرش سالفي الذكر، وطالب برد هذه المبالغ إليه وتأمينه على حياته وأمواله وهو المستأمن الذي من حقه كممثل لدولة صديقة للباب العالي (السويد) أن يتمتع بالرعاية التي لهؤلاء المستأمنين في ممتلكات الباب العالي، وقد رفع القائم بالأعمال هذه الشكوى إلى الباب العالي، وصدر أمر هذا الأخير إلى محمد علي في أكتوبر من العام نفسه إذا كانت هذه الشكوى صحيحة بدفع هذه المبالغ وإعادة ممتلكات «بتروتشي» إليه؛ حيث إنَّ المحبة الصادقة تسود بين الحكومتين: العثمانية والسويدية، على أن هذه الشكوى لم يترتب عليها شيء وقتئذٍ لاستمرار حاجة محمد علي إلى المال.

بل إنَّ هذه الحاجة إلى المال لم تلبث أن جعلت الباشا في أوائل أغسطس يطلب دراهم من طائفة القبانية والحطابة وباعة السمك القديد المعروف بالفسيخ، فكان المقدار المطلوب من طائفة القبانية مائة وخمسين كيسًا، ولم يقوَ هؤلاء على دفعه، كما عجزت الطوائف الأخرى عن دفع المطلوب منها، فأغلقوا حوانيتهم والتجئوا إلى الجامع الأزهر، ووسَّطوا السيد عمر مكرم لدى الباشا، وأفلحت هذه الوساطة فرفعوا عنهم غرامتهم وكتبوا إليهم أمانًا بذلك.

ومهما يكن من قسوة الوسائل التي لم يجد الباشا مناصًا من الالتجاء إليها للحصول على المال، فقد توفر لديه بسببها قدر منه استعان به على دفع قسم من مرتبات الجند، حتى كتب الشيخ الجبرتي في يونيو ويوليو أنه قد كَثُرَ في هذه الأيام خروج العساكر والدلاتية وهم يعدون إلى البر الغربي، وفضلًا عن ذلك فقد شرع الباشا في أوائل يوليو في تعمير القلاع التي كانت أنشأتها الفرنساوية خارج بولاق، وعمل متاريس بناحية ميت عقبة وغيرها، ووزع على الجيارة جيرًا كثيرًا، وأصلح سور القاهرة، ورمم في الأماكن المكشوفة ثم أقيمت المتاريس وحفرت الخنادق من عند قلعة «كامان» Camin أو قنطرة الليمون التي أنشأها الفرنسيون أيام احتلالهم إلى بولاق، وأنشئ حصنان صغيران بالمتاريس التي حُفرت حولهما الخنادق العميقة ونصبت فيهما مدافع من نوع مدافع الحصار، وذلك في الأماكن الأكثر ضعفًا في هذا الخط، وحتى يسيطر الباشا على الملاحة في النيل وَضعَ بطاريات في الجزيرة الواقعة بين بولاق وإمبابة والتي يسميها الفرنسيون بجزيرة «لزاريط» Lazarit؛ لوجود مباني المعزل الصحي بها، وأمامها جزيرة بولاق أو القرطية يفصلها عنها قناة صغيرة تجف وقت انخفاض النيل، ثم حتى يمنع الملاحة في النيل ويحول دون وقوع هجوم سريع على القاهرة من ناحية النهر أغرق الباشا عددًا من المراكب المثقلة بالرمال في قاع النهر تجاه إمبابة، وربطت بصواريها أوتاد أقامت في عرض النهر حاجزًا قويًّا، ومكنت كذلك من وضع بطارية من المدافع على النهر نفسه، ثم أقيمت للغرض نفسه سلسلة من التحصينات على الشاطئ الأيمن للنيل حتى بلدة فوة لإعاقة الملاحة، وسيقت كل المراكب إلى القاهرة حتى لا يستولي عليها العدو فيتخذ منها نقالات لجنده وعتاده أو يجعل منها زوارق مدفعية صغيرة، ووسق الباشا عدة مراكب وأرسلها إلى ناحية رشيد؛ ليعمروا هناك سورًا على البلد وأبراجًا، وجمعوا البنائين والفعلة والنجارين وأنزلوهم في المراكب قهرًا، وكان على الباشا فضلًا عن ذلك أن يسد نفقات جند الدلاتية الذين أتوا من ناحية الشام ووصلوا القاهرة في ٢١ يوليو، وكانوا حوالي الخمسمائة، ثم إنه كان عليه كذلك أن يدفع مبلغًا من المال لمصالحة ياسين بك الأرنئودي.

وكان تمرد ياسين من المسائل التي شغلت محمد علي منذ أن شَقَّ هذا عصا الطاعة قبل ذلك بعامين في الظروف التي مرت بنا، ثم انحاز إلى سليمان بك المرادي بعد أن لحقت به الهزيمة في الفيوم على يد الألفي، واتخذ من ذلك الحين الفيوم وأقاليم مصر الوسطى مسرحًا لنشاطه، وعاث في هذه البلاد هو وشراذمه فسادًا كثيرًا، وكان ياسين — كما عرفنا — صاحب أطماع كبيرة ويحقد على محمد علي وصوله إلى الحكم، والولاية ويريد انتزاع ذلك منه، وتفاقم شره عندما انضم إليه سليمان أغا صالح وكيل دار السعادة سابقًا الذي أتى مع القبطان باشا وقت أزمة النقل إلى سالونيك، وصار يسعى بين الألفي وسائر البكوات لحملهم على إجابة مطالب الباب العالي، ودفع الثمن الذي حدده لعودتهم إلى الحكم، فانضم إلى ياسين بك بعد هربه من الإسكندرية ووفاة الألفي، ودارت مفاوضات كثيرة للصلح بين محمد علي من جانب وبين كل من ياسين وسليمان أغا من جانب آخر، ووافق ياسين على شريطة أن يعطيه الباشا أربعمائة كيس، وطلب الباشا من جهته أن يذهب ياسين لمحاربة الإنجليز، ووافق سليمان أغا على الحضور بشرط أن يجري عليه الباشا مرتبه بالضربخانة وقدَّرَ ذلك ألف درهم في كل يوم، فأجابه محمد علي إلى ذلك، وبناء عليه، عبر ياسين النيل إلى ناحية شرق أطفيح، وفرض على أهل تلك الجهات أموالًا جسيمة، واجتمع هؤلاء بصول والبرنبل بمتاعهم وأموالهم ومواشيهم، فنزل عليهم، وطلب منهم الأموال فقبضوا عليه، فأوقد فيهم النيران وحرق جرونهم ونهبهم في أبريل ١٨٠٧، ثم تابع سيره حتى وصل في ٢٦ أبريل إلى ناحية طرة، وحضر والده إلى القاهرة ودخل كثير من أتباعه إليها وهم لابسون زي المماليك المصرية، وفي ٥ مايو دخل ياسين بك وسليمان أغا إلى القاهرة، وقابلا الباشا وخلع عليهما خلعتين سمور، وأغدق على ياسين النعم والعطايا، ودفع إليه ما كان وعده به من الأكياس وقدم له تقادم وإنعامات، وقلَّدَ أباه كشوفية الشرقية.

ولما كان الواجب على ياسين بمقتضى الاتفاق السابق بينه وبين محمد علي الخروج إلى الإسكندرية لمحاربة الإنجليز، فقد راح يطلب مطالب كثيرة له ولأتباعه، وأخذ لهم الكساوي والسراويلات، وأخذ جميع ما كان عند جبجي باشا من الأقمشة والخيام والجبخانة والاحتياجات من القرب وروايا الماء ولوازم العسكر في سفر البر والإفازة والمحاصرة إلى غير ذلك، وخرج ياسين بعرضيه إلى ناحية الخلاء ببولاق، ولكن ياسين كان قد بيَّتَ النية على الغدر بمحمد علي، واتخذ من دعوى التهيؤ للسفر إلى الإسكندرية ومحاربة الإنجليز ستارًا يخفي وراءه نشاطه، فصار يحرض الجند من الأرنئود والدلاتية وغيرهم على الانضمام إلى معسكره، وانضم إليه فعلًا كثير من هؤلاء، وصار كل من ذهب إليه يكتبه في جملة عسكره، وعاونه في هذا النشاط أنصار الإنجليز الأقوياء في القاهرة، وهم الذين سماهم «دروفتي» في رسالته إلى «سباستياني» بتاريخ ١٤ يونيو — وقد سبقت الإشارة إليها — فذكر من بينهم «روشتي» و«البطروشي».

وهكذا — على نحو ما كتب الشيخ الجبرتي — لم يلبث أن اجتمع على ياسين كل عاصٍ وأذعر مخالف وعاق، وما إنْ تم له ما أراد حتى صرَّحَ بالخلاف، وتطلبت نفسه للرياسة، وكلما أرسل إليه الباشا يرده وينهاه عن فعله يعرض عن ذلك، وداخله الغرور، وانتشرت أوباشه يعيثون في النواحي، وبث أكابر جنده في القرى والبلدان، وعينهم لجمع الأموال والمغارم الخارجة عن المعقول، ومن خالفهم نهبوا قريته وأحرقوها وأخذوا أهلها أسرى، فكان تمردًا جديدًا يُخشى خطره لا سيما وأن ياسين بك صار يسعى لتأليف حزب قوي مناوئ للباشا، فبذل الباشا قصارى جهده لجعل الجند ورؤسائهم ينفضُّونَ من حوله، وأخذ في التدبير عليه، ونجح في استمالة العسكر المنضمين إليه، وحلل عُرى رباطاته، فلما تم له ما أراد أمر في ٢٧ مايو الجند الأرنئود بالاجتماع والخروج إلى ناحية بولاق، فخرجوا بأجمعهم إلى نواحي السبتية والخندق وأحالوا بين ياسين وبين بولاق مصر (أي القاهرة).

ثم خرج الباشا بنفسه في ٣٠ مايو وحصَّن أبواب المدينة بالعساكر، وأيقن الناس بوقوع الحرب بين الفريقين، وأرسل الباشا إلى ياسين بك يقول له إنْ تستمر وتطرد عنك هذه اللموم وتكون من كبار العسكر، وإلا تذهب إلى بلادك، وإلا فأنا واصل إليك ومحاربك، فخاف ياسين، وكفى هذا التهديد لأن تنحل عزائم جيوشه، وتفرق الكثير منهم، وتحرك ياسين بمن بقي معه في ثلاثة طوابير، ولما كان الوقت ليلًا ولا يعرف جنده الجهة التي يقصدها، فقد اشتبهت عليهم الطرق في ظلام الليل، فسار هو بفريق منهم إلى ناحية الجبل عن طريق حلق الجرة، وسارت جماعة أخرى إلى ناحية بركة الحاج بينما ذهب الطابور الثالث على طريق القليوبية وفيهم أبوه، فأتاح تشتت قواته على هذه الصورة الفرصة لمحمد علي لمطاردة الجماعة الذاهبة إلى بركة الحاج، ولكن هؤلاء ما إنْ علموا بانفرادهم عن أميرهم حتى رجعوا متفرقين في النواحي، ولم يزل ياسين سائرًا حتى نزل بمن معه في التبين واستقر بها، ولجأ أبوه إلى الشواربي شيخ قليوب، فأخذ له هذا أمانًا وأحضره إلى الباشا يوم ٣١ مايو، فأكرمه وألبسه فروة، وأمره أن يلحق بابنه، وفي أول يونيو جهز الباشا حملة ضم إليها «شديد» شيخ الحويطات للحوق بياسين بك ومحاربته، وأما ياسين فإنه لم يلبث أن ارتحل بوطاقه بمجرد أن علم باقتراب هذه الحملة منه، فذهب إلى ناحية صول والبرنبل بعد أن عاث فسادًا كبيرًا في جهة التبين ينهب قرى الناحية بأسرها، مثل التبين وحلوان وطرا والمعصرة والبساتين، وفعل رجاله بأهلها أفاعيلهم الشنيعة من السلب والنهب وأخذ النساء ونهب الأجران والغلال والأتبان والمواشي وأخذ الكلف الشاقة، ومن عجز عن شيء من مطلوباتهم أحرقوه بالنار، وفي ٤ يونيو عادت الحملة إلى القاهرة، وأنبأت بارتحال ياسين من تلك الناحية — كما أسلفنا — إلى صول والبرنبل، وكتب «سانت مارسيل» إلى «سباستياني» من القاهرة في أول يوليو تعليقًا على حادث ياسين: «إن هذا الأخير وهو من الرؤساء الأرنئود قد هدد بالانضمام مع ألف وخمسمائة رجل إلى المماليك، واصطلح معه الباشا، وقَبِل ياسين بك الصلح للوصول إلى أغراضه، فحضر وعسكر في بولاق، ثم صار وهو بها يتآمر ليجذب إليه قسمًا من جند الباشا، وانضم إليه بعض الرؤساء الأرنئود، ولكن محمد علي لم يلبث أن أنهى هذه الحركة، بأن حشد جنده للسير ضد ياسين بك الذي هرب في طريق الصعيد.»

ولم يكن في مقدور محمد علي وقتئذٍ بسبب تمرد ياسين بك أن يغادر القاهرة أو أن يبدأ زحفه المنتظر على الإسكندرية، وأما السبب الآخر الذي عطل هذا الزحف فكان عدم اطمئنان محمد علي إلى موقف المماليك الذين ظلوا يماطلون في تنفيذ الاتفاق الذي تم بينه وبينهم بأسيوط، والذي وجب على البكوات بمقتضاه أن ينزلوا من الصعيد لإبرام الصلح النهائي مع الباشا، وقد اهتمَّ محمد علي بضرورة أن يقبل هؤلاء الصلح معه قبل أن يدخل في أية عمليات عسكرية جديدة ضد الإنجليز، وأن يطمئن — على الأقل — إلى أنهم سوف يقفون موقف الحياد عند استئنافها، مثلما فعلوا أثناء المعارك السابقة، وكان الصلح مع البكوات أو إلزامهم بالحياد وجعلهم يقفون موقف النظارة والمتفرجين فحسب فلا يشتركون في النضال القائم من المشاكل العويصة التي تطلبت كل حكمة ومهارة وصبر وأناة من محمد علي لحلها، فقد كان ولا شك عدم انضمام المماليك إلى الإنجليز من أهم الأسباب — كما رأينا — التي جعلت هزيمتهم في الحماد محققة، ولا مَعْدَى لذلك عن إقناعهم بالحياد على الأقل إذا شاء الباشا النجاح في عملياته المقبلة، إذا اضطر إلى استئناف القتال ضد الإنجليز، ثم كان من بواعث قلقه ومخاوفه من ناحيتهم تباطؤهم في النزول من الصعيد من جهة، ثم سياستهم الملتوية التي جعلتهم يمنونه ويمنون أعداءه الإنجليز في آن واحد برغبتهم الصادقة في الاتفاق معه ثم بعزمهم الصحيح على الاتحاد مع الآخرين من جهة أخرى، ومع أن حسين بك الزنطاوي صديق الفرنسيين القديم قد كتب إلى «دروفتي» يؤكد له عزم البكوات على التزام خطة الحياد، فقد كان تعليق القنصل الفرنسي على ذلك — كما ذكر «سباستياني» في ٧ مايو — أن البكوات برغم ما يقولونه فإنهم حسبما يعتقد «دروفتي» دائمًا إنما يبغون تدبير أمرهم بصورة تكفل لهم الحصول على بعض الحقوق إذا كسب الإنجليز ظفرًا على الأتراك، فالمماليك لا يفكرون في المستقبل، ويعيشون ليومهم دون تدبر حالهم في غدهم، والرجل الوحيد الذي كان ذا آراء سياسية هو عثمان البرديسي وقد تُوفِّيَ هذا.

وكان البكوات وقتئذٍ قد وصلوا في تقدمهم صوب القاهرة إلى ما تحت بني سويف بأربعة فراسخ، عندما وصلهم خبر رفع الحصار عن رشيد، فأوقفوا تقدمهم على نحو ما مر بنا، واتخذ بيت البرديسي وبيت إبراهيم بك مراكزهما على طول الشاطئ الأيسر للنيل عند قمن العروس، وبيت الألفي برئاسة شاهين بك عند زاوية المصلوب على نفس الشاطئ، ولا يزالون منقسمين على أنفسهم بسبب الخلافات والأحقاد الشخصية والكراهية الشديدة والمنافسة التي فرَّقت جميعها بين بيتي الألفي والبرديسي، ولم يفد ما مر بالبكوات من تجارب مريرة طوال السنوات الست الماضية منذ عام ١٨٠١ في محوها، بل إن وجود المنافسة ذات الغور البعيد بين بيتي الألفي والبرديسي كانت من أهم الأسباب التي جعلت بكوات إبراهيم ومماليكه على وجه الخصوص يمتنعون عن الاتحاد مع الألفي أولًا، ثم مع الإنجليز أصدقائه بعد ذلك حتى فوتوا على أنفسهم فرصة استرجاع الحكم إطلاقًا، وعندما صار «مسيت» يستحثهم على النزول أملت عليهم سياستهم الملتوية التذرع بحجة الخوف مما قد يلحق بعائلاتهم في القاهرة من أذى على أيدي الأرنئود، إذا هم فعلوا ذلك للاستمرار على جمودهم، وخُيِّلَ إليهم أنهم إذا تريثوا حتى ينقضي النزاع بين محمد علي والإنجليز صار في وسعهم بانحيازهم إلى المنتصر أن يظفروا منه بتحقيق مآربهم، وفاتهم أن الباشا إذا انتصر لن يسمح لهم بحال مشاركتهم له في الحكم واقتسام السلطة معهم، وأن عودتهم إلى الحكم مرتهنة بشيء واحد فحسب، هو ظفر الإنجليز وانتصارهم، وإخراج محمد علي من الحكم وطرد الأرنئود، ولقد استطاع محمد علي أن يفيد من عمى بصيرتهم الذي منعهم من إنهاء خلافاتهم، والإغضاء عن منافساتهم وتناسي أحقادهم ولو وقتيًّا من ناحية، والذي جعلهم يتبعون هذه السياسة الملتوية القائمة على مُداهنة الفريقين المتناضلين، محمد علي والإنجليز من ناحية أخرى، فعرف الباشا كيف يتدبر أمره معهم في أزمته، والوصول إلى غرضه بإلزامهم الوقوف موقف الحياد فترة أخرى من الزمن.

واتبع الباشا في مفاوضاته الجديدة مع البكوات نفس الأساليب التي اتبعها معهم في أسيوط من حيث استخدام المفاوضين الذين عرف مبلغ تأثيرهم عليهم، وبذل الوعود الطيبة لهم ومداراتهم، ثم الاستعاضة بالوكلاء الفرنسيين مع بكوات بيت البرديسي خصوصًا، ومنع تزويدهم بشيء مما قد يحتاجون إليه، إلا إذا جاء ذلك عن طريقه هو وبواسطته، وتأمينهم على سلامة أُسرهم وهم الذين استبد لهم الخوف على سلامتها، وذلك كي يبرهن لهم على صدق رغبته في مصالحتهم، ويقنعهم بالنزول إلى الجيزة حسب اتفاقهم الأول معه.

وقد تقدم كيف بعث مشايخ الأزهر في أبريل بمراسلة خَتَمَ عليها كثير منهم وغيرهم كذلك يستعجلونهم في الحضور واعتذر هؤلاء وقتئذٍ عن تأخرهم بأنهم لم يتكاملوا وأكثرهم متفرقون بالنواحي، وقد حدث بعد ذلك أن حضر مِنْ عندهم مصطفى أفندي كتخدا قاضي العسكر، وهو الذي كان محمد علي استعان بفصاحته أثناء مفاوضات المشايخ مع البكوات في ملوي على إقناعهم بقبول الصلح، فحضر الآن في ٧ مايو يقول: إن البكوات محتاجون إلى مراكب لحمل الغلال الميرية والذخيرة، فهيأ الباشا عدة مراكب وأرسلها إليهم، ولما كان الباشا لم يستوثق بعد من رغبة البكوات في المصالحة بالرغم من تكرر استحثاثهم على الحضور، وخشي إن هم تقووا أن ينكثوا بعهدهم معه، فقد شدد في منع المتسببين والباعة الذين يذهبون بالمتاجر والأمتعة التي يبيعونها عليهم، ثم صدر التنبيه على القلقات الذين يسمونهم الضوابط المتقيدين بأبواب المدينة مثل باب النصر وباب الفتوح والبرقية وباب الحديد بمنع النساء من الخروج خوفًا من خروج نساء البكوات والمماليك القبالي وذهابهن إلى أزواجهن، كما منع أتباع هؤلاء البكوات من الخروج إليهم بالأمتعة وتعرض المتلبسون منهم لعقوبات صارمة، وكان من عادتهم إخفاء ما يريدون الذهاب به إلى أسيادهم في القبور حتى يرسلوها إليهم في الغفلات وكثر اتهام التربية وحفاري القبور بمعاونة الأتباع في ذلك، حتى إن الوالي أي رئيس الشرطة ذهب إلى جهة القرافة وقبض على أشخاص من التربية المتهمين بهذا وضربهم وهجم على دورهم، فلما لم يجد بها شيئًا اجتمع عليه خدام الأضرحة وأهل القرافة وشنعوا عليه، وكادوا يقتلونه فهرب منهم، وشكاه هؤلاء إلى السيد عمر مكرم والمشايخ، وقد لحظ الشيخ الجبرتي في هذه الإجراءات تناقضًا عجب منه، وعجز عن التوفيق بين إظهار المصالحة والمسالمة من جانب الباشا الذي بعث بالمراكب إلى البكوات حسب طلبهم، وبين هذه الرقابة الصارمة التي فرضها على أتباعهم ومنعه للمتسببين والباعة من التعامل معهم، ومع ذلك، فإن مسلكه كان خلوًا من أي تناقض إذا عرفنا مقدار اهتمام البكوات بسلامة زوجاتهم وأسرهم وأن بقاء أفراد عائلاتهم رهينة أو بالأحرى وديعة في يد الباشا قمين بأن يسهل مفاوضات الصلح معهم، ثم إنَّه لم يكن من صالح محمد علي أن يتصل بهم القاهريون من الباعة والمتسببين ومَنْ إليهم والبكوات لا يزالون متباطئين في الصلح معه، ولا يستطيع علاوة على ذلك أن يمكنهم من تزويد أنفسهم بكل ما يحتاجون إليه من عتاد أو مؤن أو أسلحة، يقابل ذلك أن محمد علي اتباعًا لخطة المداراة التي سلكها معهم، لم يمتنع من إجابة مطالبهم إذا تقدم هؤلاء بها إليه هو نفسه وحدث تزويدهم بما يحتاجونه على يده.

وأما البكوات فقد ظلوا على نفاقهم، فإنه بينما كان شاهين الألفي وإبراهيم بك يتراسلان مع «مسيت» و«فريزر» ويستعجلان الإنجليز للهجوم على القاهرة، فقد ظل هذان وأتباعهما يؤكدان لمحمد علي بقائهما على عهدهما معه وقرب حضورهما إلى الجيزة، فبعث شاهين الألفي بمندوب من قِبَله إلى القاهرة في ٢٣ مايو هو علي كاشف الكبير الألفي يحمل تحيات شاهين إلى محمد علي، ويعتذر عن تأخر البكوات، ويؤكد له أنهم على صلحهم واتفاقهم الأول وحضورهم إلى ناحية الجيزة، وعند مبارحة علي كاشف القاهرة في اليوم التالي، أوفد الباشا معه سليمان أغا وكيل دار السعادة سابقًا، وفي ٦ يونيو عاد هذا الأخير وأخبر بقرب قدوم البكوات وأن شاهين بك قد وصل إلى زاوية المصلوب، وإبراهيم بك بجهة قمن العروس وأنهم يستدعون إليهم مصطفى أغا الوكيل وعلي كاشف الصابونجي كوسطاء بينهم وبين الباشا، وكان معنى طلب البكوات لهذين الأخيرين أنهم لا يزالون على مراوغتهم، ومع ذلك، فقد أجابهم محمد علي إلى رغبتهم، وأوفد إليهم في ٨ يونيو مصطفى أغا وعلي كاشف الصابونجي، كما أوفد معهما مصطفى أفندي كتخدا قاضي العسكر، ولم تسفر هذه المحاولة عن شيء؛ لأنه سرعان ما جاء الخبر في ٢٤ يونيو بأن إبراهيم بك وصل إلى بني سويف، وأن شاهين بك ذهب إلى الفيوم لاختلاف وقع بينهما، وأن أمين بك وأحمد بك الألفيين ذهبا إلى ناحية الإسكندرية للإنجليز، وكان لهذا الخبر الأخير عن ذهاب أحمد بك وأمين بك إلى الإسكندرية — وهو صحيح كما عرفنا حيث بلغها هذان يوم ١٢ يونيو أسوأ الأثر على محمد علي.

وكان الباشا منذ أن ظهر تباطؤ البكوات، ولم تثمر جهوده في استحثاثهم على الحضور إلى الجيزة لإبرام الصلح النهائي معه، قد طلب من «دروفتي» أن يتوسط لدى هؤلاء رسميًّا وبوصفه القنصل الفرنسي في هذه البلاد، حتى يحول دون اتحادهم مع الإنجليز ويقنعهم — على الأقل — بالتزام خطة الحياد إذا تعذر عليه استمالتهم إلى عقد الصلح معه؛ وذلك لأن الباشا الذي كان يعرف حق المعرفة ما هنالك من عداء متأصل بين بيت الألفي وبيت البرديسي يمنع من اتفاق كلمة هاتين الجماعتين واتحادهما، ويعرف مبلغ تأثر بيت البرديسي بالصداقة الفرنسية خصوصًا، أراد تقوية الخلاف والانقسام بين هذين البيتين؛ حتى يشل حركة البكوات عمومًا بتوسيط «دروفتي» لديهم إلى جانب مضيه هو في سياسة المداراة والملاحظة التي يسلكها معهم، ومنذ ٢١ مايو كتب «دروفتي» إلى «سباستياني» أن الباشا يريده أن يتدخل رسميًّا للوساطة بينه وبين البكوات، واستطرد يقول: والبكوات، لا سيما من بيت البرديسي يعلقون أهمية كبيرة على هذه الوساطة، ولكن «دروفتي» لم يستطع — على حد قوله — أن يأخذ على عاتقه مسئولية هذه الخطوة والعمل، قبل أن تصله من حكومته تعليمات محددة، تلك التعليمات التي ينتظرها بفارغ الصبر.

وحق ﻟ «دروفتي» أن ينتظر بفارغ الصبر وصول هذه التعليمات إليه، عندما اتفقت خطته مع خطة الباشا في وجوب إلزام البكوات بالوقوف موقف الحياد ومنع انضمامهم إلى الإنجليز بكل وسيلة، واعتقد «دروفتي» كما اعتقد الباشا أن تدخله بوصفه ممثلًا لفرنسا الدولة التي يعقد البكوات من بيت البرديسي آمالًا كبيرة على صداقتها من شأنه أن يجعل هؤلاء الأخيرين يرفضون الاتحاد مع بيت الألفي والتعاون مع الإنجليز، ثم إنَّه كان يرى ضرورة التدخل ودون إبطاء لانعدام أية ثقة لديه في عدم تآزر البكوات من بيت الألفي مع الإنجليز بالرغم من تأكيداتهم، فقد سبق أن وضح بواعث عدم تصديقه لوعودهم باتخاذ موقف الحياد، وذلك في رسالته إلى السفير الفرنسي بالقسطنطينية في ٧ مايو، وهي الرسالة التي سبقت الإشارة إليها، ثم عاد يوضح هذه البواعث في رسالته الأخيرة إليه في ٢٩ مايو، فقد أبلغ «سباستياني» أن حسين بك الزنطاوي بعث إليه بكتاب مع هجان سريع وصله يوم ٢٧ مايو، وضمَّنه بعض ما جاء في خطاب من القائد الإنجليزي إلى أحد زملاء الزنطاوي، يقول فيه: «لقد كتبتُ إليك مرارًا حتى تأتي وتنضم إلينا، وقد أنفذت جندًا إلى رشيد معتقدًا أنك سوف تقوم بالدفاع عن مصالحكم؛ أي مصالح البكوات المماليك، ولكنك ارتكبت معي خطأ كبيرًا بالتزامك السكون وعدم الحركة حتى إني اضطررت إلى سحب جنودي إلى الإسكندرية، فإذا كنت لا تقدم على الدفاع عن نفسك في بحر عشرة أيام فسوف أعرف وقتئذٍ موقفي منك»، ولم تحمل رسالة القائد الإنجليزي هذه تاريخًا، ولكنه يبدو أنها سطرت بعد واقعة الحماد، ثم استمرَّ «دروفتي» يقول: وقد ذكر حسين بك الزنطاوي في رسالته أن هذا الكتاب قرئ في الديوان، وقد قرر جميع الصناجق الموجودين بالمنيا؛ أي أولئك الذين ينتمون إلى بيتي البرديسي وإبراهيم بك عدم الإصغاء إلى مقترحات الإنجليز، بل على العكس من ذلك قرروا النزول إلى الجيزة لعقد الصلح مع الباشا، ولكن «دروفتي» لم يلبث أن علق على هذه الرغبة الأخيرة بقوله: إن هذه الأقوال لا يوثق فيها كثيرًا، وفي رأيه أن عثمان بك حسن وبعض البكوات من بيت البرديسي فحسب هم الذين لا يرتكبون حماقة الانضمام إلى الإنجليز إذا وصلت هؤلاء نجدات قوية.

وأزعج «دروفتي» ما أبداه الإنجليز من همة ونشاط في تحصين الإسكندرية، وما بلغه عن جود فرقاطة إنجليزية أمام دمياط لمحاصرتها، ووصول النجدات إليهم من حوالي ثلاثة آلاف رجل، ودعوات الإنجليز المتكررة للبكوات حتى يحضروا من الصعيد للانضمام إليهم، ثم صارت تزعجه كذلك الدعاية التي نشرها هؤلاء في أوساط المماليك عن هزيمة جيوش بونابرت في أوروبا، ومن ذلك أنهم بعثوا إليهم ببعض الصحف الأوروبية التي نشرت أخبار معركة «إيلاو» في بروسيا الشرقية في ٨ فبراير سنة ١٨٠٧، وهي المعركة التي صمد فيها الروس أمام جيش نابليون وقاوموه مقاومة عنيفة، ثم قرروا التقهقر في اليوم الثالث، ولم يجد الإمبراطور من الحكمة مطاردتهم وقنع بإخضاع القلاع البروسية، فكان من أثر دعاية الإنجليز أن نقل جماعة من المماليك من بيت الألفي وعلى رأسهم شاهين بك معسكرهم من حدود الفيوم والاقتراب من البحيرة، وأوفد شاهين وقتئذٍ أحمد بك وأمين بك الألفيين إلى الإسكندرية مع عدد قليل من أتباعهما، وبذل «دروفتي» قصارى جهده لإبطال أثر هذه الدعاية الضارة، فعمد بمجرد أن وصله من عكا منشور أعده «سباستياني» يذيع فيه انتصار الفرنسيين في معركة إيلاو إلى إذاعته بكل وسيلة في القاهرة، كما بعث به إلى البكوات في الصعيد مع ملاحظاته على ذلك، وكتب «دروفتي» إلى «سباستياني» في ١٤ يونيو: «أنه لو اعتقد الصناجق أن مصير هذه البلاد مرتبط بما يحدث في أوروبا — وذلك ما ينبغي عليهم أن يعتقدوه — لوجب عليهم أن يمعنوا الفكر طويلًا قبل أن يلقوا بأنفسهم في أحضان الحماية الإنجليزية.» وكان في هذه المرة أيضًا أن كتب «دروفتي» إلى السفير: أن محمد علي يريد إذا ألحت الظروف، أن أتدخل لدى البكوات، ولكنه لما لم يكن لدى «دروفتي» أية تعليمات بشأن ذلك فقد ألح في طلبها؛ لأنه ليست لديه إلا مجرد آراء أو فكر عامة يسترشد بها في تبرير مسلكه وسط هذا البحر الخضم من الحوادث.

ولما كان محمد علي قد ظل يلح على «دروفتي» في ضرورة توسطه لدى البكوات، ويريد منه الذهاب بنفسه لضمان نجاح مهمته، وخشي «دروفتي» إذا هو تباطأ في القيام بهذا المسعى؛ انتظارًا لتعليمات حكومته أن تفلت الفرصة لمنع البكوات من الذهاب إلى الإنجليز، لا سيما بعد وصول مندوبي شاهين الألفي إلى الإسكندرية، فقد قرر الاستجابة إلى رغبة محمد علي وانتدب لهذه المهمة «مانجان» بالاتفاق مع الباشا، وأنبأ «سباستياني» في ٢٤ يونيو بهذه الخطوة التي راح يبرر اتخاذه لها دون انتظار لتعليمات حكومته، بأنه سبق له أن أبلغ السفير في رسالته إليه بتاريخ ١٤ يونيو بأن اثنين من البكوات من بيت الألفي قد ذهبا إلى الإسكندرية، وقد خلَّف هذا الحادث أثرًا سيئًا في القاهرة؛ ولذلك فإنه حتى يحول دون أن يحذو غيرهما من البكوات حذوهما، الأمر الذي يبذل قصارى جهده لمنع حدوثه، أوفد «مانجان» إلى الصعيد بالاتفاق مع الباشا، وقد أطنب «دروفتي» في وصف ذكائه ونشاطه، ثم ذكر أنه قد زوده بالتعليمات اللازمة لتحقيق الغرض من مهمته، وذلك — كما استمر يقول — دون توريط ممثلي الحكومة الفرنسية في هذه البلاد بشيء مع البكوات، وأسهب الوكيل الفرنسي الآخر سانت مارسيل في ذكر الأسباب التي بررت اتخاذ هذه الخطوة، فقال في رسالته إلى «سباستياني» من القاهرة في أول يوليو: «إن الإنجليز بعد هزيمتهم في الحماد، كانت قد نقصت قواتهم إلى ثلاثة آلاف رجل فحسب، وانسحبوا إلى الإسكندرية، ثم كانوا على وشك مغادرتها والإبحار منها، لو أن العدو لم يعطهم الوقت الذي مكن من رد أنفاسهم إليهم، ولم يلبث الحظ أن خدمهم فوصلتهم نجدات من الرجال والمال، وهم يحتلون الآن القطع الذي يفصل البحر عن مريوط، وغرضهم من كسر السد عزل الإسكندرية للدفاع عنها، وسوف يفيدهم فيضان النيل عند حدوثه؛ لأنهم سوف يعبرون الحاجز القطع عندئذٍ ويهاجمون رشيد برًّا وعن طريق النهر فقط، ولقد وصل ثلاثة من بكوات بيت الألفي أحمد بك وأمين بك ومصطفى كاشف إلى الإسكندرية للاتفاق على اجتماع القوتين: المماليك والإنجليز معًا، وكي يسحبوا من بيت «برجز» Briggs وشركائه مبلغ السبعين ألف بندقي الذي كان أودعه الألفي لديهم.

ومن ناحية أخرى فالجميع يترقبون باهتمام نهاية المفاوضات بين محمد علي والبكوات المماليك ونتائجها، وقد ذهب هؤلاء أخيرًا إلى بني سويف للإسراع في عقد الصلح مع الباشا، وأوفد «دروفتي» إلى إبراهيم بك وسائر البكوات «مانجان» حتى يحملهم على إبرام الصلح المرغوب فيه كثيرًا؛ لأن قطع العلاقات أو إذا استطالت العداوة بين الفريقين في هذه الظروف يترتب عليهما آثار سيئة حيث يخشى عندئذٍ من انضمام المماليك عمومًا إلى الإنجليز.» وبسط «دروفتي» مهمة «مانجان» للسفير في نفس اليوم الذي كتب له في رسالته السالفة ٢٤ يونيو، فقال: إنه قد اضطر اضطرارًا إلى إرساله إلى البكوات بالصعيد بسبب الظروف التي عرفناها، ولأن محمد علي صار يلح في لجاجة على «دروفتي» كي يذهب هو إليهم بشخصه مما جعل ذلك كله ضروريًّا إرسال «مانجان» إليهم، ثم استطرد يقول: «ولكني لم أخول «مانجان» أية سلطات أو أعطه أي ألقاب أو أجعل له ما قد يشعر منه بأنه في بعثة أو مكلف بمهمة رسمية، وقد طلب إليه أن يسدي النصح إلى المماليك حتى يجعلهم بعيدين عن الإنجليز أو يجعلهم — على الأقل — مترددين في موقفهم حتى يحين موعد الفيضان التالي، حتى تصبح عندئذٍ معاونتهم للعدو (الإنجليز) لا فائدة حقيقية لها ولا جدوى منها»، ثم أخذ «دروفتي» يبرر هذا التدخل في شئون الأحزاب المتنازعة دون انتظار لتعليمات حكومته التي بعث يطلبها منذ ١٤ يونيو فقال: وعلى كل الأحوال، فإن «مانجان» قد صار إرساله إلى مماليك بيت البرديسي الذين — كما يبدو لي — يهمنا ويهم الإمبراطور نابليون مصيرهم؛ لأنهم يسيرون دائمًا في الطريق التي رسمها مراد بك، وقد رفضوا باستمرار الاشتراك مع الألفي عدو الفرنسيين في تدابيره.

وأما «مانجان» فقد غادر القاهرة في طريقه إلى الصعيد ولما تمضِ أيام قلائل على إرسال «دروفتي» كتابه سالف الذكر إلى «سباستياني» في ١٤ يونيو، فمر بالبرنبل حيث وجد بها وقتئذٍ معسكر ياسين بك، وكان شاهين بك المرادي وإبراهيم بك يعسكران على مسافة أبعد قليلًا منها على الشاطئ المقابل، بينما أقام شاهين بك الألفي معسكره عند قرية زاوية المصلوب، وقد وجدهم «مانجان» منقسمين على أنفسهم، تصطدم مصالحهم وتختلف آراؤهم وغاياتهم ولا يجمع بينهم سوى الغضب من محمد علي، والنقمة عليه والكراهية له، ولو أنهم جميعًا يخافونه ويخشون بأسه، ولا يعتقدون أنهم في مأمن من مكائده ضدهم، ولقد أثار سخطهم ودهشتهم في الوقت نفسه أن ينتصر جيشه على الإنجليز، فقال محمد بك المنفوخ — وهو من المرادية وصاحب نفوذ كبير على إخوانه: «إنَّه من المتعذر على أي امرئ أن يعقل كيف أجاز أوروبيون لأنفسهم أن ينهزموا على يد الأتراك»، وأكثر البكوات من عقد الاجتماعات لتدبر موقفهم، ولكن دون طائل، فكانوا ينقضون اليوم ما قرروه بالأمس، ولاحظ «مانجان» أن الهُوَّةَ التي فصلت بيت بيتي البرديسي والألفي من قديم لا تزال سحيقة، بسبب المنافسة والغيرة المتأصلتين بينهما، حتى تعذر اتفاق كلمة البكوات على شيء، فكل واحد منهم قد قر رأيه على قرار مخالف لقرار زميله، حتى صار كل معسكر من معسكراتهم منفصلًا عن الآخر، وقل اتصال الرؤساء بعضهم ببعض، ويضرب «مانجان» مثلًا على الانقسام السائد بين البكوات فيما حدث لشاهين بك الألفي الذي جمع زملاءه ذات مرة في خيمته وتحدث إليهم في ضرورة الزحف والنزول إلى دمنهور ونجح في إقناعهم بذلك، ولكنه سرعان ما نقض البكوات قرارهم في اليوم التالي، وصمموا على الوقوف وعدم الحركة انتظارًا لما قد تجيء به الحوادث، وقد خلُصَ «مانجان» من أحاديثه معهم إلى أن البكوات ما عادوا ينظرون إلى الجيش البريطاني بعين الجد والاعتبار السابقة، حيث كشفت عن ضعفه هزيمته الأخيرة في رشيد والحماد.

وهكذا تضافرت عوامل ثلاثة لشل حركة البكوات: منافساتهم وأحقادهم الشخصية، التي جعلتهم لا يثقون في بعضهم بعضًا ومنعت اتفاقهم على رأي واحد، وغضبهم على الباشا وكراهيتهم له مما جعلهم لا يثقون في وعوده لهم ولا يريدون الصلح معه، ثم نظرتهم غير الطيبة للجيش البريطاني، وتقريرهم لذلك عدم الحركة ومغادرة أماكنهم حتى يقيم الجنرال «فريزر» الدليل على أن في وسعه الانتصار على جيوش محمد علي ومهاجمة القاهرة معقل هذا الأخير. وتلك جميعها عوامل من شأنها القضاء على كل خوف منهم، لا سيما وأن البكوات عدا هذه الخلافات الناشبة بينهم والمؤذنة بأفول نجمهم، كانوا أنفسهم يمرون وقتئذٍ في دَورٍ من الانحلال السريع، كان مظهره هذه الانقسامات ذاتها، كما نهض دليلًا عليه انصرافهم وهم في محنتهم هذه عن العمل الجدي الذي يتطلبه تطلعهم إلى الحكم والسلطة إلى الانغماس في الشهوات، فقد استرعى نظر «مانجان» ما شاهده من انتشار الفوضى الضاربة أطنابها في معسكرات المماليك حيث كانت هذه تعج بالعلمات والمغنيات والغوازي اللواتي كن يلاحقن معسكراتهم ويتبعنها إلى كل مكان تنتقل هذه المعسكرات إليه.

وفي الوقت الذي أدار فيه «مانجان» مفاوضاته مع البكوات بالصعيد، كان محمد علي من جانبه لا يزال وهو بالقاهرة يسلك طريق المداراة والملاينة معهم حتى يذلل ما قد يقوم من صعوبات أثناء هذه المفاوضة، ويصطنع الكثير من الحكمة والأناة وطول البال في علاقاته معهم؛ كي يستميلهم إلى قبول الصلحِ معه، أو التزام الحياد على الأقل — كما ذكرنا — فقد وصلت في ١٤ يونيو مكاتبة من إبراهيم بك ومن الرسل مصطفى أغا وعلي كاشف الصابونجي ومصطفى أفندي كتخدا قاضي العسكر مضمونها الإخبار بقدوم البكوات، ثم أرسل إبراهيم بك يستدعي إليه ابنه الصغير وولد ابنته المسمى نور الدين، ويطلب لوازم وأمتعة، فرضيَ الباشا بتصديق الخبر عن قرب حضورهم إلى الجيزة، وبادر بإجابة إبراهيم بك إلى طلبه، وفي ٢٠ يونيو سافر أولاد إبراهيم بك والمطلوبات التي أرسل يطلبها وصحبتهم فراشون وباعة متسببون وغير ذلك، ثم لم يلبث أن بعث إبراهيم بك بكتاب تسلمه الباشا بعد يومين يؤكد فيه من جديد بقاء البكوات على عهدهم ويعد بوصولهم إلى الجيزة قريبًا لإبرام الصلح معه.

ولكنه حدث وقتئذٍ أن وصل إلى القاهرة كذلك تقرير «مانجان» الأول عن مهمته لدى البكوات بتاريخ ٢١ يونيو، وقد تحدث فيه صاحبه عن مقابلته لهم عند زاوية المصلوب فقال: إن هؤلاء قد أظهروا له تقديرهم للخطوة التي خطاها «دروفتي» نحوهم، وأكدوا أنهم لن يعملوا مع الإنجليز، بل إنَّ شاهين بك الألفي صار يدعي أنه لم يبعث بمندوبيه أحمد بك وأمين بك إلى الإسكندرية إلا لاسترجاع مبلغ ستين ألف تالير أو ريال إسبانيٍّ كان سيده المتوفى أي الألفي الكبير قد أودعها لدى بيت برجز وشركائه، وهم من تجار الإنجليز بالإسكندرية، ومع ذلك، فالبكوات دائمًا لا يثقون في محمد علي، ولا يريدون النزول إلى الجيزة خوفًا من الكيد لهم وأن يكون الغرض من استقدامهم إليها إيقاعهم في شرك الفخاخ التي ينصبها لهم الباشا؛ ولذلك فهم يعتذرون عن نزولهم بحجة أنهم ينتظرون مجيء بعض البكوات الذين لا يزالون فوق المنيا، وكان في ضوء هذا التقرير إذن أن نصح «دروفتي» محمد علي عندما استشاره هذا في قيمة تصريحات البكوات عن رغبتهم في الصلح معه، وعزمهم على الحضور قريبًا إلى الجيزة، بأنه من الخير كل الخير له ومن صالحه ألا يجعل البكوات يقتربون كثيرًا من القاهرة، فبعث إليهم الباشا بأحد مندوبيه شريف أغا، يحمل إليهم إنذارًا، يطلب فيه منهم بقاءهم حيث هم، وأن يوفدوا إلى الجيزة مندوبين مفوضين عنهم فحسب للمفاوضة في شروط الصلح بدلًا من حضورهم بأنفسهم.

ولما كان البكوات قد آثروا بسبب انقساماتهم الجمود عن الحركة وتلبية نداءات «مسيت» و«فريزر» لهم، وعجزوا للسبب نفسه عن الاتفاق فيما بينهم على القيام بأي جهد مشترك للزحف على القاهرة وقتال محمد علي، وكان «مانجان» لا يزال بمعسكرهم يحاول منعهم من التعاون مع الإنجليز واستمالتهم إلى الاتفاق مع محمد علي، ويستخدم لتعزيز مساعيه لديهم حسين بك الزنطاوي خصوصًا، فقد آثر البكوات عندما وصلهم إنذار محمد علي الاستمرار على سياسة المماطلة والمراوغة مع الباشا انتظارًا — كما قر عليه رأيهم — لما قد تسفر عنه الحوادث، فأبدوا رغبتهم في أن يوفد الباشا وسطاء بينه وبينهم الشيخ عبد الله الشرقاوي والشيخ محمد الأمير والسيد النقيب عمر مكرم؛ لإجراء الصلح على أيديهم كما قالوا، وقد حمل رسالتهم هذه غالب أغا إلى القاهرة، وأجابهم الباشا إلى رغبتهم، ولكنه بدلًا من أن يذهب هؤلاء الثلاثة إليهم، استبدل بهم ثلاثة من الفقهاء وهم: الشيخ سليمان الفيومي والشيخ إبراهيم السجيني والسيد محمد الدواخلي، وقد غادر هؤلاء القاهرة يوم ٢ يوليو إلى زاوية المصلوب، يحملون مراسلة إلى الأمراء القبليين بالصلح، ومزودين بسلطات كاملة لعقد الصلح معهم.

ولكن مساعي هؤلاء الفقهاء الثلاثة لدى البكوات لم تسفر عن نتيجة، فقد تمسك البكوات بشروط كثيرة تعذر معها الوصول إلى أي اتفاق بينهم وبين محمد علي، ولكنه وإن كان البكوات قد نكثوا بالعهد الذي قطعوه على أنفسهم أثناء مفاوضتهم السابقة في أبريل مع محمد علي بأسيوط، ولم يعقدوا الصلح معه، فقد استطاع «مانجان» من ناحيته أن يظفر منهم بوعد قاطع بالوقوف موقف الحياد وعدم التعاون كلية مع الإنجليز، وكان هذا كل ما أراده محمد علي والغرض المباشر الذي هدف إليه من توسيط «دروفتي» لديهم إذا تعذر الصلح نهائيًّا معهم، وقد عاد «مانجان» من مهمته إلى القاهرة في ١٧ يوليو، وفي اليوم التالي كتب «دروفتي» إلى «سباستياني» ينبئه بما وصل إليه «مانجان» من نتائج بعد مفاوضته معهم، فقال: إن مساعي جميع الوفود التي أرسلها الباشا إلى البكوات أثناء وجود «مانجان» بمعسكرهم لم تأتِ بأية ثمرة؛ لأن البكوات تغالوا كثيرًا في مطالبهم، ولأن رجاءهم قد انعقد في واقع الأمر على امتلاك القاهرة ذاتها، ولن يرضيهم سوى احتلالها، ولقد أظهر شاهين بك المرادي ومحمد بك المنفوخ وعبد الرحمن بك من بيت البرديسي، أنهم لا يأبهون كثيرًا للاتفاق مع محمد علي، وأنهم إذا كانوا لا ينضمون إلى الإنجليز فمبعث هذا وحده أنهم لا يودون إغضاب الحكومة الفرنسية التي يريدون حمايتها لهم، ثم استطرد «دروفتي» يقول: «وقد كلفوا «مانجان» أن يؤكد لي تأكيداتهم التي أعطوني إياها كتابة، وفحواها أنهم لن يتحركوا أقل حركة قد يفيد منها الإنجليز في عملياتهم أو مشروعاتهم ضد مصر، ولو أنهم ينتظرون في الوقت نفسه أن تتدخل فرنسا لمؤازرتهم عند تقرير مصيرهم»، ولقد كان — حسبما جاء في تقرير «مانجان» — لمساعي حسين بك الزنطاوي الذي عرفه رؤساء جيش الشرق في مصر سفيرًا لمراد بك، أكبر الأثر في جمع كلمة المماليك الصناجق على رفض المحالفة التي يلح في عقدها الإنجليز معهم، ثم إنَّ محمد بك المنفوخ وعبد الرحمن بك قد بذلا قصارى جهدهما كذلك، ونجحا في حمل إبراهيم بك ورجاله على الانحياز إلى جانبهما، في موقفهما الذي اتخذاه من حيث تقرير الحياد التام، بل ويريد جميعهم الاجتماع في بني سويف انتظارًا لحدوث الفيضان حتى يذهبوا منها إلى مظاعنهم المعتادة، ثم عاد «دروفتي» فكتب إلى «سباستياني» في ٢٩ يوليو أن ضابطًا بريطانيًّا قد ذهب في مهمة إلى معسكر شاهين بك الألفي بعد عودة «مانجان» من الصعيد ببضعة أيام يستحثه على النزول إلى الوجه البحري ولكن دون جدوى، بل إنَّ هذا الضابط عندما يئس من شاهين الألفي ذهب إلى سائر البكوات في بني سويف يحثهم على الانضمام إلى الحزب الإنجليزي ولكن من غير طائل أيضًا.

وهكذا تخلى البكوات عن النضال من أجل الفوز بالسيطرة والحكم، وهم الذين كان في وسعهم أن ينزلوا إلى ميدان القتال حوالي الألفين وخمسمائة من الفرسان المدربين والمجهزين بأكمل العدد، عدا آلاف البدو الذين درجوا على الانضمام إليهم، فكان قرارهم اتخاذ موقف الحياد التام، وذهابهم إلى بني سويف ليتوغلوا منها في الصعيد عند حدوث الفيضان، نصرًا سياسيًّا لمحمد علي الذي وسط بنجاح الوكلاء الفرنسيين لديهم، فأتاح له هذا النصر الفرصة لإنجاز استعداداته لمناجزة الإنجليز.

فكان بعد أن تحقَّقَ لديه أن البكوات لن يغادروا أماكنهم في الصعيد أن قوي عزم الباشا على السفر لناحية الإسكندرية، وأمر بإحضار اللوازم والخيام، وما يحتاج إليه الحال من روايا الماء والقرب وباقي الأدوات، وفي ٧ أغسطس ركب الباشا إلى بولاق وعدى إلى ناحية بر إمبابة، ونصبوا وطاقه هناك، وخرجت طوائف العسكر إلى ناحية بولاق وساحل البحر، وطفقوا يأخذون ما يجدونه من البغال والحمير والجمال، ثم طلبوا أيضًا في اليوم التالي خيول الطواحين لجر المدافع والعربات، وانتقوا منها أصلحها، واستمرت تعدية الجند إلى إمبابة أيامًا، وقد بلغ جيشه ثلاثة آلاف من المشاة وألفًا من الفرسان، ولكنه قبل أن يبدأ زحفه على دمنهور في طريقه لقتال الإنجليز بالإسكندرية، لم يلبث أن وصل إلى إمبابة مساء يوم ١٠ أغسطس الميجر «ريفارولا» Rivarola موفدًا من قبل الجنرال «فريزر» للمفاوضة من أجل عقد الصلح مع محمد علي والجلاء عن الإسكندرية.

(٢) مفاوضات الصلح

المرحلة الاستطلاعية أو جس النبض

فقد تضافرت عوامل عدة على إنهاء الاحتلال البريطاني للإسكندرية دون حاجة لاستئناف العمليات العسكرية بين حملة «فريزر» وجيش محمد علي، وتتلخص هذه أولًا في أن الإنجليز بسبب تطور الموقف السياسي والعسكري الأوروبي صاروا يريدون سحب قواتهم من الإسكندرية للانتفاع بها في ميادين أخرى، وثانيًا في أن الباشا نفسه كان يؤثر الوصول إلى اتفاق مع الإنجليز لجلائهم عن الإسكندرية سلمًا على الاشتباك معهم في معارك أخرى دامية، قد يكون النصر فيها حليفه، وقد تكون حربًا سجالًا يطول أمدها، ويتجدد بسببها ظهور تلك الصعوبات التي جعلته يرجئ زحفه على الإسكندرية حتى هذا الوقت، والتي فوتت عليه الاستفادة من الهزيمة السابقة التي لحقت بالإنجليز في واقعة الحماد، وذلك عدا ما قد يستجد من صعوبات أخرى قد تطوح جميعها بباشويته.

وليس من شك في أنَّ تقرير الإنجليز سحب حملتهم من الإسكندرية كان من العوامل الحاسمة في إبرام الصلح بينهم وبين محمد علي، غير أنَّ تعليمات الحكومة الإنجليزية نهائيًّا في ذلك لم تبلغ «فريزر» إلَّا بعد أن كانت المفاوضات بين الفريقين قد قطعت مرحلتها الأولى الاستطلاعية؛ وجسَّ كل من الفريقين نبض الآخر من حيث التعرف على الأغراض التي يتوخاها من الدخول في المفاوضة، والشروط التي قد يرتضيها أساسًا للاتفاق إذا تقرر المضي في المفاوضة جديًّا لإنهاء النزاع القائم سلمًا، ولقد كان محمد علي هو صاحب المبادأة في المرحلة الأولى الاستطلاعية.

فقد تقدم كيف أنه كان يتوقع جلاء الإنجليز عن الإسكندرية بعد هزيمتهم في الحماد، ولكنه ما إن تأكد لديه عزمهم على البقاء بها ووقف على التدابير التي اتخذوها لتحصين مواقعهم بها، حتى راح يبذل قصارى جهده لإنجاز تحصين القاهرة، وجلب النجدات من الدلاتية وغيرهم، وإنهاء تمرد ياسين بك، وتسوية مشاكله مع البكوات المماليك، واستغرقت هذه المحاولات — ولقد كانت شاقة ومضنية — زمنًا طويلًا، وصادف الباشا صعوبات عديدة شديدة، مبعثها حاجته إلى المال لسد النفقات التي تتطلبها أعمال التحصينات وترضية ياسين الأرنئودي، وقبل كل شيء دفع مرتبات الجند حتى يتسنى له تطويعهم وتنظيم صفوفهم، وتجهيزهم بما يحتاجون إليه من أسلحة ومؤن وعتاد قبل إنفاذهم لمحاربة الإنجليز، واستئناف العمليات العسكرية ضدهم، وهو قتال لو انهزم فيه جيشه لتقوَّضت عروش باشويته، ثم إن ياسين لم يلبث أن شق عصا الطاعة، وأعلن من جديد تمرده، وراح يسعى للانضمام إلى بكوات الصعيد، وعجز الباشا عن استمالة هؤلاء الأخيرين إلى الوفاء بعهدهم وإبرام الصلح معه، وكان بعد لأيٍ وعناد وبعد أن وسط لديهم الوكلاء الفرنسيين أن وعد هؤلاء بالتزام موقف الحياد في النزاع الدائر بينه وبين الإنجليز، ثم إنه إذا كان البكوات قد ذهبوا إلى بني سويف، وجعلهم الفيضان يربضون بالصعيد، فهم سوف ينزلون منه إذا استطالت الحرب وانتصر الإنجليز، ولقد أتته النجدات من الشام وغيرها فعلًا للاستعانة بها على محاربة الإنجليز، ولكن الباشا كان عليمًا بأساليب الدلاتية المجانين وما فطروا عليه من حب الشغب وإلحاق الأذى بالناس، ولا تزال البلاد تشكو من جورهم وعسفهم واعتداءاتهم، ثم إنه لا يمكن بحال الركون إليهم والاعتماد عليهم؛ لنزوعهم إلى التمرد والعصيان، وكذلك حال الأرنئود، فهم يسلبون الأهلين، وينهبون كل مكان مروا به أو قصدوا إليه، ويحقد بعض رؤسائهم — كما حقد ياسين بك — على محمد علي وصوله إلى الحكم والولاية، وبينهم من يعتقد أنه لا يقل جدارة عنه بهذا المنصب، وهو إذا كان قد استطاع اليوم تدبير المال لدفع قسم من مرتباتهم، لا هذه كلها؛ لأن هؤلاء ظلت لهم دائمًا مرتبات منكسرة، فقد يعجز غدًا بسبب أزمته المالية الخانقة عن دفع هذا البعض من مرتباتهم إليهم، ولا أمل في انفراج هذه الأزمة إذا استمرت الحرب، وطالما بقيت الاضطرابات والقلاقل التي عطلت الزراعة وكسدت بسببها التجارة، واستمر ممتنعًا عليه تحصيل المال والغلال من الصعيد لامتلاك البكوات المماليك له.

على أن استطالة أمد الحرب مع الإنجليز — كان عدا ما ذكرنا — ينطوي على خطر جسيم آخر، يهدد بالزوال باشوية محمد علي، ويأتيه من جانب الباب العالي نفسه، حقيقة جمعت محنة الحرب بين الفريقين، وأوجبت عليهما التضافر حتى يتسنى اجتيازها بسلام، ولكن أزمة النقل إلى سالونيك كانت لا تزال آثارها عالقة بذهن الباشا، وقد يعمد الباب العالي بالرغم من مشاغل حربه مع الروس والإنجليز إلى انتهاز فرصة المشاكل والمصاعب التي سوف توجدها استطالة أمد الحرب في مصر لمحاولة تدبير انقلاب آخر، قد لا ينجو من شره في هذه المرة محمد علي، وإذا كان الباب العالي قد سبق له أن اختار أحمد باشا الجزار والي عكا لباشوية القاهرة في الظروف التي عرفناها ١٨٠٤ للقضاء على الفوضى السائدة بالبلاد وقتئذٍ، وإعادة سلطان الباب العالي عليها، فليس من المستبعد أن يعمد الباب العالي بعد أن تكون الحرب قد أنهكت قوى محمد علي إلى اختيار سليمان باشا والي عكا وصيدا لطرد محمد علي من الولاية، وكان سليمان باشا رجل مكر ودهاء، لا يؤمَن جانبه، وصاحب أطماع عريضة، يدسُّ للباشوات المجاورين له ليضم ولاياتهم إلى ولايته، ويعتمد عليه الباب العالي في مؤامرته ضد الباشوات لإضعافهم، وتقع باشويته هو على حدود باشوية القاهرة من جهة الشمال الشرقي؛ أي في الطريق الذي تسلكه الجيوش التي تجيء من ناحية الشام إلى هذه البلاد، إمَّا لنجدة صاحب الحكم فيها، وإما لكسر شوكته أو طرده منها كلية؛ ولذلك فقد دأب محمد علي على التحرز من سليمان باشا، ولم تصفُ العلاقات بينهما.

ولقد شعر محمد علي بحاجته إلى النجدات من الجند من الدلاتية وغيرهم يعزز بهم جيشه، واستقدم فعلًا عددًا منهم حضروا من الشام، وقبرص إلى مصر عن طريق دمياط، الأمر الذي جعل «مسيت» — كما شهدنا — يلح في ضرورة أن تراقب إحدى سفن الأسطول ميناء دمياط لمنع نزول الجند الذين استقدمهم الباشا بها، وأكد أحد وكلاء الإنجليز «قسطنطين كاريري» عندما استجوبه «مسيت» في الإسكندرية في ١٧ يونيو بعد ذهابه إليها من القاهرة في الظروف التي مرت بنا، أن ستمائة من الجند قد وصلوا إلى القاهرة بطريق دمياط من الشام وقبرص، وأن عددًا كبيرًا غير هؤلاء محتشدون في قبرص، وأن الباشا ما فتئ يلح على حاكم هذه الجزيرة في إرسال جماعة أخرى منهم، ولا تحول صعوبة ما دون وصولهم إلى مصر؛ لأن الإنجليز لا يضعون إحدى سفنهم الحربية أمام دمياط للحيلولة دون نزولهم بها، وقد تكفل محمد علي بنفقات هذه النجدات التي استقدمها، والتي صار يطلبها هو بنفسه مباشرة ومن غير وساطة الباب العالي، وكان غرضه من ذلك عند التحاق هؤلاء الجند بخدمته أن يكونوا خاضعين له وحده، وألَّا يكونوا عامل إفساد وفتنة، ولم يشأ الباشا أن يطلب من الباب العالي نفسه أية نجدات عسكرية تأتيه من ولايات الدولة القريبة أو المتاخمة لولايته، تكون حينئذٍ تابعة لغيره من الباشوات وتحت نفوذهم، بل أن أخشى ما يخشاه كان أن يعهد الباب العالي إلى هؤلاء الباشوات، وإلى سليمان باشا على وجه الخصوص أن يبعثوا بجندهم لمعاونته على طرد الإنجليز من مصر، أو أن يحضروا بأنفسهم لتحقيق هذه الغاية؛ ولذلك فقد كان انتصار الحماد فرصة مواتية لإقناع الباب العالي بأن خطر الإنجليز ليس بتلك الجسامة التي تهدد بضياع هذا الإقليم من الدولة، وبأن هؤلاء ليسوا في تلك القوة التي يصعب على الباشا وحده التغلب عليها بما لديه من موارد ودون حاجة إلى الاستنجاد بالدولة، فأعد بيانًا أو عرضًا بهزيمة الإنجليز من إنشاء أحد الكتاب المشهود لهم بالبلاغة والفصاحة، السيد إسماعيل الخشاب البليغ النجيب والنبيه الأديب، كاتب سلسلة التاريخ أو محاضر جلسات الديوان على عهد الجنرال «منو»، وقال الشيخ الجبرتي: إنهم بالغوا في هذا العرض أو البيان، وفي ٥ مايو سافر المتسفر بآذان قتلى الإنجليز، وقد وضعوها في صندوق، وسافر بها على طريق الشام وصحبته شخصان من أسرى فسيالات الإنجليز لتنهض بشائر النصر هذه دليلًا على صدق كل ما جاء في العرض الذي دبجه يراع الخشاب، وكان «فوجلسانج» أحد هذين الضابطين اللذين أرسلهما الباشا إلى القسطنطينية.

ولكنه لم تمضِ أيام قلائل على سفر المتسفر، حتى وصل القاهرة في ١٣ مايو ططري من القسطنطينية وعلى يده مرسوم، فعمل الباشا ديوانًا لقراءته، ومضمونه أن العرضى الهمايوني قد خرج من إسلامبول لقتال الروس، وذهب إلى ناحية أدرنه، وأن بشائر النصر حاصلة، والأهم من ذلك أنه بلغ الدولة، ورود نحو الأربع عشرة قطعة من المراكب إلى ثغر الإسكندرية، وأن الكائنين بالثغر تراخوا في حربهم حتى طلعوا إلى الثغر، فمن اللازم الاهتمام وخروج العساكر لحروبهم، ودفعهم وطردهم عن الثغر، وقد أرسلنا البيورلديات إلى سليمان باشا والي صيدا وإلى يوسف باشا والي الشام بتوجيههما العساكر إلى مصر للمساعدة، وإن لزم الحال لحضور المذكورين لتمام المساعدة على دفع العدو، ولا شك في أن قراءة هذا المرسوم بحضرة الجمع على نحو ما فعل محمد علي من شأنه أن يشيع الثقة في النفوس، ويدخل الطمأنينة إلى قلوب الأهلين، حينما يعلمون أن الدولة تهتم بأمرهم، وتسعى بالرغم من مسئولياتها وحروبها في إرسال النجدات إليهم لطرد العدو من بلادهم، ولو أنه كان هناك من الأهلين — كالشيخ الجبرتي — من انعدمت ثقتهم في قدرة الدولة على دفع خطر الغزو الأجنبي عنهم، أو أن الباب العالي يعني حقًّا ما يقوله في هذه المرسومات، وأنه سوف يرسل جندًا لقتال الإنجليز، فلم يكن محل القصد في نظرهم، وعلى حد ما جاء في قول الشيخ الجبرتي نفسه من ورود هذه البيورلديات والفرامانات والأغوات والقبجيات سوى جر المنفعة لهم بما يأخذونه من خدمهم وحق طريقهم من الدراهم والتقادم والهدايا، يأخذها هؤلاء الرسل لأنفسهم ولرجال الديوان العثماني، على أن الباشا كان يدرك مدى الخطر الذي ينطوي عليه هذا الاهتمام الظاهر من جانب الباب العالي لنجدته وعزمه على إرسال يوسف باشا جنج وسليمان باشا خصوصًا بجيوشهما إلى مصر إذا لزم الحال لحضور المذكورين؛ فلم يكن المرسوم الذي قرئ في الديوان في نظره مجرد عبارات منمقة ومسطرة لا تعدو إظهار النوايا الطيبة من جانب الباب العالي، أو أنها كانت وعودًا مطمئنة فحسب، كما توهم الشيخ الجبرتي، بل كان أخوف ما يخافه أن يقرن الباب العالي القول بالعمل فيفسد عليه أمره.

وتزايدت مخاوف الباشا عندما وصل القاهرة في ٢٢ يونيو سلحدار موسى باشا قائمقام الصدر الأعظم، «وعلى يده مرسوم بالعربي وآخر بالتركي مضمونهما جواب رسالة، أرسلت إلى سليمان باشا بعكا بخبر حادثة الإنجليز، وملخصها أنه ورد علينا جواب من سليمان باشا يخبر فيه بوصول طائفة الإنجليز إلى ثغر الإسكندرية ودخولهم إليها بمخامرة أهلها ثم زحفهم إلى رشيد، وقد حاربهم أهل البلاد والعساكر، وقتلوا الكثير منهم، وأسروا منهم كذلك، وتؤكد على محمد باشا (محمد علي) والعلماء وأكابر مصر بالاستعداد والمحافظة وتحصين الثغور مثل السويس والقصير ومحاربة الكفار وإخراجهم وإبعادهم عن الثغر، وقد وجهنا لكل من سليمان باشا وجنج يوسف باشا بتوجيه ما تريدون من العساكر للمساعدة»، على أنه سرعان ما وصلت الأخبار بعد ذلك بثمانية أيام فقط (٣٠ يونيو) من ناحية الشام بأنه وقع بإسلامبول فتنة بين الينكجرية أو اليكجرية وهم الانكشارية والنظام الجديد، وكانت الغلبة للينكجرية، وأن هؤلاء قد عزلوا السلطان سليم وولَّوا السلطان مصطفى الرابع، وأن هذا قد خُطب له ببلاد الشام، وكان القائمقام موسى باشا وشيخ الإسلام عطاء الله أفندي قد حرضا الانكشارية المتذمرين من النظام الجديد على الفتنة التي أسفرت عن عزل سليم الثالث في ٢٩ مايو وتولية ابن عمه مصطفى الرابع، وقد تحقق هذا الخبر على يد ططري، وصل القاهرة في ٢ يوليو وخطب الخطباء للسلطان مصطفى على منابر مصر وبلاد مصر وبولاق، وذلك يوم ٣ يوليو، وجب على الباشا أن يبذل قصارى جهده لإجلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وحملهم على مغادرة البلاد قبل أن تستقر الأحوال بالسلطنة، ويتجدد عزم الباب العالي في العهد الجديد على إنفاذ سليمان باشا ويوسف جنج بجيوشهما لنجدة مصر وإجلاء الإنجليز عنها.

فكان لكل هذه الأسباب إذن أن آثر محمد علي المفاوضة مع الإنجليز، لعله يستطيع الاتفاق معهم سلمًا على إخلاء الإسكندرية ومبارحة القطر دون حاجة إلى استئناف القتال معهم بصورة قد يستطيل معها أمد الحرب التي كان لديه من الأسباب ما يجعله يخشى عواقبها.

ولقد تضافرت عدة عوامل من ناحية أخرى، جعلت محمد علي يتوقع نجاح مساعيه من أجل الاتفاق مع الإنجليز على مبارحتهم للإسكندرية سلمًا، إذا هو بدأ المفاوضة معهم لتحقيق هذه الغاية، فضلًا عن أن حسن المعاملة التي لقيها أسراهم في القلعة قد خلقت جوًّا طيبًا ساعد على إشاعة حسن التفاهم بين الفريقين، فقد عرفنا كيف أن «فوجلسانج» قد كتب من قلعة القاهرة إلى الجنرال «فريزر» منذ أول مايو يطنب في وصفه ما يلقاه الجرحى من عناية بفضل اهتمام الباشا بأمرهم، وهو الذي أتاح للقنصل الفرنسي «دروفتي» الفرصة لزيارتهم والإشراف على معالجتهم وإمداد الأسرى بكل ما يحتاجونه لتخفيف وطأة الأسر عليهم، كما حرص الباشا من جانبه على تزويدهم بالفرش والأمتعة اللازمة، حتى إن «فريزر» لم يجد مناصًّا من شكر «دروفتي» على ما أظهره من مروءة وشهامة، وحبا زوجه السيدة «دروفتي» بكل رعاية وكانت هذه قد بقيت بالإسكندرية ولم تلحق بزوجها عند خروجه منها إلى القاهرة، وكتب «فريزر» إلى «دروفتي» في ٧ مايو يشكره باسم حكومته على عنايته بالأسرى الإنجليز، ويعد بدفع أية نفقات يكون هذا الأخير قد تحملها بسبب هذه العناية، ويبدي استعداده لإرسال أي مواطن فرنسي يرغب «دروفتي» في حضوره إلى القاهرة، ولما كانت السيدة «دروفتي» قد طلبت الآن الانضمام إلى زوجها فقد أذن لها «فريزر» بالبقاء في الإسكندرية أو الذهاب إلى أي مكان تشاء، وأبلغ «دروفتي» أنه ينتظر ما يأمر به في هذا الشأن أو في أي شأن آخر يهتم به.

وفي هذا الجو الطيب إذن استطاع الأسرى الإنجليز أن يؤكدوا للباشا أن جيشهم لم يأتِ إلى مصر لفتحها، وإنما حضر لمنع الفرنسيين من غزوها، وتأكد لدى محمد علي حسن نوايا الإنجليز، وأنهم لم يستهدفوا من إرسال حملتهم إلى الإسكندرية إخراجه من الولاية، بما أبداه هؤلاء من استعداد طيب لإجابة رغبة الباشا في مسألة استبدال ابن أخي عمر بك أو ابن أخي صالح قوش بأحد الأسرى الإنجليز في القاهرة، وقد تقدم كيف أن «فريزر» قد رد «ماثيسون» لتعذر إجراء المبادلة بسبب رحيل الأرنئودي طرف المبادلة الآخر ضمن من أبعدهم «فريزر» إلى بلاد الروم قبل واقعة الحماد، فكان لعودة «ماثيسون» إلى القاهرة في ٢٣ مايو أفضل الأثر لدى محمد علي الذي خلى سبيله ولم يحبسه مع الأسرى، بل أطلق له الإذن أيضًا في الرجوع إلى الإسكندرية، أو إلى بلاده متى أحب واختار، ولقد روج وكلاء الإنجليز وأصدقاؤهم بالقاهرة ما صار يذيعه ويكتب فيه على حد قول «دروفتي» القواد الإنجليز أنفسهم، من حيث انتفاء أي غرض لهم في فتح مصر وامتلاكها، وراح الأسرى بدورهم يؤكدون للباشا أن بوسعه الاتفاق مع الجنرال «فريزر»، ثم دأب بعض الأفراد الملتفين حوله والذين نعتهم «دروفتي» في رسالته إلى «سباستياني» في ٢٧ مايو بقلة الذكاء — لأنه كان يسوءه وأمته في حرب مع الإنجليز أن يتم الصلح بين هؤلاء الأخيرين وبين محمد علي — على الإيحاء إليه بأن من صالحه عقد السلام معهم، فكان لذلك كله أن اعتقد الباشا أن في وسعه الوصول إلى اتفاق مع الإنجليز يسلم له هؤلاء بمقتضاه ثغر الإسكندرية.

وعلى ذلك، فقد قرر إرسال أحد تراجمته الموثوق بهم إلى الإسكندرية مصحوبًا بأحد الأسرى من ضباط الإنجليز لجس النبض، وحتى يعرض على «فريزر» مقترحات معينة أثبتها دروفتي في رسالته — سالفة الذكر — على نحو ما بلغته من محمد علي نفسه — هي تسليم الإسكندرية لقاء تعويض عنها في صورة إرجاع كل الأسرى الإنجليز، ورعاية الباشا رعاية ممتازة للمصالح التجارية البريطانية في مصر، والتعهد بمنع أي جيش أوروبي من الدخول إلى مملكته (كذا)، يأتي لغزو مصر، أو يطلب المرور منها إلى الهند، وكان من الواضح أن صياغة هذه المقترحات بالصورة التي أطلع عليها الباشا «دروفتي» لم يكن الغرض منها سوى تجريد هذا الأخير من أي حق للاعتراض على المفاوضة، وهو الحليف الذي أسدى خدمة جليلة لمحمد علي في علاقاته مع البكوات المماليك خصوصًا، عدا الخدمات الأخرى، من حيث مشاركته في تحصين القاهرة، وإسداء النصح للباشا في غير ذلك من المسائل المتصلة بالدفاع عن باشويته؛ وذلك لأن التعهد بمنع أي جيش أوروبي يأتي إلى مصر لغزوها، أو لطلب المرور منها إلى الهند، أو التعهد برعاية المصالح التجارية الإنجليزية، نظير جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وتسليمها لمحمد علي ينطوي في جوهره على ضمان للإنجليز وللفرنسيين معًا — والأولون يعلنون أنهم لا غاية لهم في امتلاكها، والأخيرون يؤكدون أنهم لا يريدون غزوها — بأن هذه البلاد سوف تقف موقف الحياد التام في النضال القائم بين الفريقين، فلا يستطيع أحدهما أن يأتي بجيوشه إليها، ويحيلها إلى موقع يناوئ منه مصالح الفريق الآخر وعملياته العسكرية، كما ينطبق ذلك أيضًا على عدم السماح للفريقين باتخاذ هذه البلاد طريقًا لإرسال جيوشهما منه إلى الهند، ثم إن التعهد برعاية المصالح التجارية الإنجليزية لا يفيد تعطيل المصالح التجارية الفرنسية في مصر، لا سيما وأن فرنسا هي الدولة التي ثبتت صداقتها لمحمد علي بفضل مؤازرة «دروفتي» له في محنته.

وزيادة على ذلك فقد راح محمد علي يفسر لهذا الأخير غرضه من محاولة الاتفاق مع الإنجليز بما عرف أنه سوف يجعل من المتعذر على «دروفتي» معارضته في اتخاذ هذه الخطوة، فكتب الأخير في نفس رسالته التي بعث بها إلى «سباستياني» في ٢٧ مايو أن الباشا قد أطلعه على هذا المشروع، وأكد له أنه ما هو إلا وسيلة لطرد الإنجليز من مصر، حتى إذا تم ما أراد تسنى له أن يعاملهم المعاملة التي يريدها، ولم يرَ «دروفتي» بُدًّا من قبول هذا التفسير الذي كان — كما سوف يتضح بعد قليل — أبعد ما يكون عن ذهن محمد علي وتفكيره، وقد علل «دروفتي» قبوله لهذا التفسير من جهة، وعدم الاعتراض على مساعي الباشا من أجل الاتفاق مع الإنجليز من جهة أخرى بقوله: إنه وجد من المصلحة عدم معارضة هذه المساعي، حتى لا يثير في ذهن الباشا شكوكًا من ناحية نوايا دولته فرنسا.

وعلى ذلك، فقد اختار محمد علي الكابتن «ديلانسي»، حتى يذهب بصحبة ترجمانه إلى الإسكندرية، وغادر هذان القاهرة في ١٣ مايو، ووصلا إلى الإسكندرية بعد ثلاثة أيام (١٦ مايو)، وقدَّم الترجمان مقترحات الباشا التي اختلفت في جوهرها اختلافًا كليًّا عن تلك التي ذكرها لدروفتي، وتستبين حقيقة هذه المقترحات مما ذكره «فريزر» و«مسيت» عنها إلى رؤسائهما، فكتب الأول إلى الجنرال «فوكس» من الإسكندرية في ١٨ مايو، أنه وصل من القاهرة والي الإسكندرية منذ يومين الكابتن «ديلانسي» من آلاي الفرنسان «الدراجون» Light Dragoons العشرين — وأحد أسرانا سيئ الحظ — يصحبه ترجمان موثوق به من قبل محمد علي باشا، يرفع علم الهدنة، والغرض الظاهر من إنفاذه معالجة بعض الشئون المتعلقة بالأسرى — الذين ما زالوا يلقون كل معاملة طيبة — ولكن الغرض الحقيقي من مجيئه على ما أعتقد، إنما هو لجسِّ النبض، حتى يقف مني على الشروط التي أراها لعقد الصلح.

وقد أبلغني الترجمان رسالة من محمد علي يقول فيها إنه فهم أننا ما جئنا لهذه البلاد بنيَّة فتحها، وإنما للاستيلاء على الإسكندرية فحسب، حتى نمنع الفرنسيين من أن يسبقونا في الاستيلاء عليها، وحتى نعمل لمناصرة وتأييد تلك الأحزاب أو الجماعات التي قد تكون رغبتها أكثر من غيرها في إنشاء صلات ودية مستديمة مع بريطانيا العظمى، وأننا قد أبدينا رغبتنا في أن تسود علاقاتنا مع المماليك على هذا الأساس، ثم إنه (أي محمد علي) يرغب أن يبلغني أنه يريد أن يكون وضعه معنا على نفس هذا الأساس بدلًا من المماليك وفي مكانهم، فهو أقوى بكثير من هؤلاء، وفي وسعه أن يساعدنا بصورة أكثر أثرًا وفعلًا في منع الفرنسيين والأتراك من دخول هذه البلاد — والفرنسيون والأتراك هم أعداؤه كما هم أعداؤنا — ثم إنه تقدم في نفس الوقت بمطلب غير معقول وغير مفهوم للدرجة القصوى هو أن نسلم إليه الإسكندرية، وأنه يمنع على كل أعدائنا لقاء ذلك الدخول إلى هذه البلاد، ولكنه يريد أن يقف إذا لم نشأ أن نفعل ذلك (أي تسليم الإسكندرية) على الجميل، أو حسن الصنيع الذي قد نرغب أو يكون في وسعنا إسداؤه إليه، وهو الذي قد بلغ من القوة حدًّا — كما يقول — يمكنه من أخذ الإسكندرية منا عنوة إذا شاء ذلك، وقد استطرد «فريزر» يقول: «ولقد كان جوابي على ذلك كله أنه مما يسعدنا أن نعيش معه في ود وصداقة؛ حيث إنه في رأيي لما يعود علينا كلينا من نفع بفضل ذلك أن تسود بيننا العلاقات الودية، وأن نتحد فيما بيننا لطرد أعدائنا المشتركين إذا حاولوا مهاجمتنا، وأن هنالك برهانًا ساطعًا على صدق العواطف الطيبة التي يظهرها الباشا نحونا في وسعه أن يقدمه هو إطلاق سراح أسرانا فورًا، وأنه يسعدني أن أعوضه تعويضًا معقولًا نظير ذلك؛ لأني أعلم أنه في حاجة ملحة ومؤلمة إلى المال، ولكنه لا يقبل مالًا يُدفع له كفدية لهؤلاء الأسرى، ولو أنه من المفروض قبوله له تحت اسم آخر، وأم فيما يتعلق بالتخلي عن الإسكندرية، فإن هذه مسألة ليست موضع بحث، وأنه إذا نحيت مسألة التخلي عنها جانبًا، في وسعه إذا تمعن في الأمر قليلًا أن يرى أنه من الأفضل كثيرًا لصالحه هو نفسه، إذا استمر امتلاكنا لها بسبب المؤازرة التي يمكننا بفضل ذلك إعطاؤها له برًّا وبحرًا إذا وقع غزو على البلاد، بدلًا من امتلاكه هو نفسه لها، على أنه سوف يسرني أن أسمع منه نوع الجميل أو حسن الصنيع الذي ينتظره منا، ثم إني أعدت تأكيداتي السابقة من حيث رغبتنا في أن تسود بيننا علاقات الود والصداقة، ولقد ذكر لي الترجمان ردًّا على جوابي هذا أن هذه التأكيدات عن رغبتنا في إنشاء العلاقات الودية معه هي كل ما ينتظره الباشا في هذا الاجتماع الأول، وأننا سوف نسمع منه مرة ثانية.

وكان تعليق «فريزر» على هذه المفاوضة أنها سوف تكسبه وقتًا آخر لإنجاز استعداداته للتحصن بالإسكندرية والدفاع عنها، وأنه قد يكون الغرض من مقترحات الباشا خديعة الإنجليز، حتى يقللوا من نشاطهم، ويخف حذرهم منه، كما أنها قد أثارت بعض الشكوك لدى أتباع الباشا الذين رأوا في هذه المفاوضة تدبيرًا سريًّا تحاك خيوطه بين «فريزر» ومحمد علي، وأما «ديلانسي» والترجمان فقد غادرا الإسكندرية يوم ١٨ مايو في طريقهما إلى القاهرة، واختتم «فريزر» رسالته بقوله: إن الترجمان قد وعد بأنه سوف يعود ثانية إلى الإسكندرية سريعًا، ورأى «فريزر» من المناسب أن يهديه هدية طيبة.»

وفي اليوم التالي (١٩ مايو) عاد «فريزر»، فكتب إلى الوزير «وندهام»، يذكر له ضمن مسائل أخرى خبر هذه المفاوضة، فقال: إن «ديلانسي» وترجمان الباشا قد وصلا إلى الإسكندرية من بضعة أيام قليلة مضت، وإن الأخير قد جاءه بكتاب تحية من محمد علي، وقائمة بأسماء الأسرى في القاهرة، ثم استمر يقول: ولقد كان إحضار هذه القائمة السبب الظاهر لمجيئه، ولكن غرضه الحقيقي — على ما يبدو — هو محاولة معرفة نوايانا بشأن هذه البلاد، ويبدو أنه أراد أن يجعل معروفًا لدينا ما يرغب فيه سيده من حيث إنشاء العلاقات الودية معنا، ولقد أجبته باحترام، وإنما في عبارات عامة أنه يسعدني أن تقوم علاقتي معه على أساس ودي، وأنه حينما يوضح عواطفه نحونا بصورة أكثر تحديدًا، أقوم من ناحيتي وبطيب خاطر بتوضيح كل ما قد يرغب في معرفته بشأن ذلك، وكان من رأي «فريزر» أنه سوف يسمع قريبًا من الباشا مرة أخرى.

وأما «مسيت» الذي خشي أن تنجح مساعي محمد علي في استمالة الإنجليز إلى الصلح والمحالفة معه، ثم إخلاء هؤلاء للإسكندرية وجلائهم عن البلاد نتيجة للصداقة الجديدة التي يسعى الباشا لعقد أواصرها معهم، فقد راح يفسر للورد «كاسلريه» في رسالته إليه بتاريخ ١٨ مايو البواعث التي دَعَتْ في نظره إلى مسعى محمد علي لكسب صداقة الإنجليز، وهي بواعث — إذا صح تفسير «مسيت» — لها بالصورة التي تعمد في رسالته إبرازها من شأنها، كما اعتقد «مسيت» أن تصرف حكومته عن التفكير في استبدال صداقة محمد علي بصداقة حلفائها القدامى البكوات المماليك، ولما كان يخشى من تأثر ما قد تتخذه حكومته من قرار فاصل في شأن حملة «فريزر» نفسها، بما صادفته هذه الحملة من هزائم على أيدي الأرنئود، فقد عزا الفشل الذي حدث إلى أخطاء عسكرية فنية في قدرة المسئولين عن عمليات الحملة تلافيها، ولا يجب في واقع الأمر أن تكون مبعث تشاؤم وتوقع تكرار الهزيمة، لا سيما وأن هناك من الوسائل ما يكفل الاحتفاظ بالإسكندرية، ودفع أي هجوم يقع عليها، وبخاصة بعد إرسال النجدات إليها، وتزويد أهلها وحاميتها بالمؤن والأغذية، واستند «مسيت» في رأيه الذي ذهب إليه من حيث ضرورة الاستمرار على مصادقة البكوات والمماليك، على أن هؤلاء لم يعقدوا صلحًا مع محمد علي، وأنهم لا يزالون بالرغم من انقطاع رسائلهم إليه مدة من الزمن على عهدهم معه، وكان في رسالته هذه أن نقل «مسيت» إلى «وندهام» خبر المفاوضة التي جرت بين ترجمان الباشا وبين الجنرال «فريزر».

وعلى ذلك، فقد استهل «مسيت» خطابه هذا إلى «وندهام» بقوله إنه يتشرف بإبلاغه أن باشا مصر قد أرسل ترجمانه الخاص إلى هذا المكان مزودًا بتعليمات تقتضيه أن يكتشف نوايا الحكومة البريطانية الحقيقية بالنسبة لهذه البلاد؛ إذ يبدو أن محمد علي باشا قد اطلع على رسالة من الجنرال «فريزر» إلى البكوات، أكد فيها قائد الحملة الأعلى لهؤلاء أنه بعيد كل البعد عن التفكير في فتح مصر، حيث تطلب منه تعليمات حكومة جلالة الملك احتلال الإسكندرية فحسب؛ كي يحول دون سقوطها في قبضة الفرنسيين، وأن يؤازر ويضفي حمايته على تلك الأحزاب أو الجماعات التي قد ترغب في إنشاء صلات ودية مستديمة مع بريطانيا العظمى، وكان بسبب هذا أن عمد باشا مصر — وهو الذي يهدف من أمد بعيد إلى الاستقلال على نحو ما ذكرت ذلك مرارًا في تقاريري إلى وزراء جلالة الملك — إلى إصدار تعليماته إلى ترجمانه بأن يبذل قصارى جهده ليحمل الجنرال «فريزر» على عقد تلك المحالفة التي عرضها هذا على المماليك معه هو نفسه، ولما كان الجنرال يرى من الحكمة كسب الوقت، فقد أعلن للترجمان أنه إذا كان سيده محمد علي يطلق سراح الأسرى الإنجليز، ويتعهد بعدم وقف أو منع الإمدادات التي تأتيه من الأغذية وما إليها، ويسمح في الوقت نفسه بفتح المواصلات وإبقائها حرة للتبادل التجاري بين الإسكندرية ورشيد والقاهرة، فإنه؛ أي «فريزر» من ناحيته سوف لا يتدخل في أمر حكومة البلاد الداخلية فحسب، بل وسوف يسدي إلى الباشا أية خدمة في مقدوره إسداؤها إليه نظير أن يقوم الباشا من جانبه بإطلاق سراح الأسرى، وأما نوع هذه الخدمة، فلو أنه لم يذكر صراحة، فالمفهوم أنه مبلغ من المال الذي يفتقر إليه الباشا بدرجة بلغت ذروتها القصوى.

وليس من شك في أن عقد معاهدة صداقة مع محمد علي قد تأتي ببعض الفائدة الوقتية، مع ذلك إتاحة الفرصة لنا لتحصين هذا المكان (الإسكندرية) بصورة تدفع عنه العدو مهما عظمت جهوده، وعامل الوقت يتكفل من ناحية بإضعاف ثقة الأرنئود في أنفسهم، وهي الثقة التي سببتها أخطاؤنا نحن، وبتقوية روح جنودنا المعنوية من ناحية أخرى، وهم الذين أضعفت النكبات الأخيرة عزائمهم، ولكن لا ترجى فائدة ينتفع بها بصورة ثابتة من محالفة تُعقد مع طراز من الرجال المرتزقة والذين لا يوثق فيهم، كهؤلاء الأرنئود، وسوف ينتهز عندئذٍ المماليك الذين يصبحون في هذه الحالة أعداء لنا كل فرصة لتحريضهم على الثورة والعصيان، أو على الأقل على الهرب من الصفوف، ثم إن الوكلاء الفرنسيين سوف يقبلون بكل غيرة وهمة على مساعدة المماليك في ذلك، ومع أنه ليس هناك ما يجعلنا نخشى على سلامة الإسكندرية، فقد تضطرب مواصلاتنا مع سائر جهات البلاد اضطرابًا عظيمًا، فصلًا عن أن الأهلين سوف يفزعهم ويرعبهم قيام محالفة من شأنها تقوية أولئك الذين استبدوا بهم وأرهقوهم بمظالمهم.

لقد سُمح للكابتن «ديلانسي» من آلاي الفرسان الدراجون العشرين، وأحد الضباط الذين أسروا في واقعة الحماد بأن يصحب ترجمان الباشا، وقد وقفت منه على بضع حقائق أرى من واجبي أن أبلغكم إياها.

فالجند الذين هاجموا قسم الجيش الذي كان بالحماد تحت قيادة الكولونيل «ماكليود» لم يزد عددهم على الألفين، وعندما تعجبت من أن ثمانمائة جندي بريطاني يبيحون لمثل هذه القوة أن تلحق الهزيمة بهم، أجاب الكابتن «ديلانسي» بأن الضباط والجنود جميعًا كان قد بلغ توقعهم الفشل درجة لا مفر معها من حدوث مثل هذه الكارثة لو أن عدد العدو كان ألفًا فقط، ولكنه مما تجب ملاحظته أن جنودنا كانوا مقسمين إلى ثلاث أو أربع فصائل صغيرة، الأمر الذي جنى منه العدو فوائد عظيمة. وعدا ذلك فإنه يستبين من تقرير الكابتن «ديلانسي» أن عملية التقهقر من الحماد لم تنفذ بحكمة.

وإنها لحقيقة مؤسية ومحزنة أن الفشل الذي أصاب جنودنا في هجومهم الأول على رشيد ومشاهدة عصابات الأرنئود المتوحشة، تقطع رءوس الجرحى، قد أحدثا أثرًا عميقًا في النفوس، حتى إن اليأس والقنوط شملا الجيش بأسره، فبولغ في تقدير قوة العدو وبسالته، وصرنا نسلم دون خجل أو حياء بأننا عاجزون عن الدفاع عن الإسكندرية، وذهب كثير من الضباط الممتازين لأيام قليلة خلت إلى أن الجلاء السريع هو الوسيلة الوحيدة التي يمكن بها إنقاذ الجيش من التحطيم والفناء، ولقد شرفني الجنرال «فريزر» باستشارتي في مناسبة وحكمة اتخاذ مثل هذا الإجراء، فأبديت معارضتي له بأقصى شدة ممكنة، الأمر الذي أرجو أن تنال موافقة جلالة الملك، وقوات باشا مصر لا تزيد على سبعة آلاف رجل يحتفظ بألفين منها في القاهرة، وفي وسعنا بمساعدة الأسطول أن نحول دائمًا دون اقتراب العدو منا من ناحية جانب المدينة الشرقي، وسوف يكفي — في رأيي — لردعه ومنعه من مهاجمتنا من ناحية الجانب الغربي، معرفته (أي العدو) لكل تلك الصعوبات التي سوف يصادفها عند عبوره الصحراء بمدافعه الثقيلة وذخائره ومؤنه، وحتى إذا سلمنا بأن في قدرته تذليل كل هذه العقبات، فماذا يمكن أن يخشاه جيش بريطاني من حوالي الأربعة آلاف مقاتل من جند من الأتراك يبلغون الخمسة آلاف؟

ومما يدعو للأسف كثيرًا أن تكون نسبة الأجانب في الجيش كبيرة، لا سيما وأن آلايًا من الآلايات التي تضم إليها أجانب يتألف برمته من مجنديهم، وإذا حدث أن تعرضت هذه المدينة (الإسكندرية) لهجوم العدو عليها، فإن الجنرال «فريزر» الذي لا يزال يرقب السكان بعين ساهرة ولا يطمئن إليهم، ولا يثق في الجنود الأجانب الذين هم تحت قيادته، لا يريد المخاطرة بالخروج من المدينة لقتال العدو، ولو أن الاشتباك في معركة مع العدو خير فرصة لاسترجاع تفوق جيشنا على جيش العدو؛ حيث أنه لا مجال لأي شك في أننا سوف ننتصر عليه انتصارًا تامًّا، نتمكن بفضله من استعادة النفوذ الذي فقدناه.

ولقد أغريت بطريق الهدايا العربان البدو ليس على إمداد المدينة بالمؤن فحسب، بل وإظهار أنفسهم كذلك في حشود كبيرة في إقليم البحيرة المجاور لنا بدرجة جعلت الأتراك حتى هذه اللحظة لا يعتبرون من الحكمة القيام بجهد نشيط لوقف ومصادرة الإمدادات التي تأتينا، ولقد ترتب على المثابرة في تزويد هذه المدينة بكل ما تحتاج إليه من ضرورات الحياة أن صارت كل مجهودات العدو لقطع مواصلاتنا مع داخل البلاد لا جدوى منها، ولا يمكن أن ينجم عنها أي انزعاج لنا؛ حيث إنه صار لدينا من المؤن الآن ما يكفينا لمدة ستة شهور.

ولم أسمع من البكوات منذ بعض الوقت، ولكنني أعرف أن إبراهيم بك وجماعته لا يزالون بالقرب من المنيا، وأن شاهين بك الألفي في مكان غير بعيد من بني سويف، ويدَّعِي الباشا وأنصاره أن معاهدة صلح وسلام قد أبرمت بين الباشا والمماليك، ولكنه يبدو أن لا أساس إطلاقًا لهذا الزعم، فلو أن معاهدة قد عقدت فعلًا بين الفريقين، لكان خبرها قد أذيع وعرفه الناس قاطبة، ولأقيمت المهرجانات احتفالًا بهذه المناسبة، ولأجيز الاتصال والتعامل بحرِّية بين القاهرة والصعيد، وذلك كله ما أعرف يقينًا أنه لم يحدث.

وقد بعث «مسيت» طي رسالته هذه إلى «كاسلريه» بصورة من كتابيه السابقين إلى «فريزر» بتاريخ ٨ مايو، وإلى «أيري» بتاريخ ١١ مايو، وفي الأول يذكر حضور النجدات إلى محمد علي من الشام وقبرص ونزولها بدمياط، ويطلب وضع سفينة مسلحة عند هذا الميناء الأخير لمنع نزول هذه النجدات بها، وقد سبقت الإشارة إلى هذا الكتاب، وفي الثاني ينقد «مسيت» تصرف القيادة في نقل بعض المؤن كالتمر والشعير والعتاد من مختلف الأنواع إلى السفن في ميناء الإسكندرية، ثم جواب أحد كبار الضباط على مستفسر من الإسكندريين عن سبب هذا بضرورة اتخاذ هذا الإجراء استعدادًا للطوارئ، مما سبب ذعر الأهلين، وكان بيت القصيد من إرسال صورة هذا الكتاب إلى «كاسلريه» ما سطَّره «مسيت» في ختام كتابه هذا، وهو أن تقرير أن الجيش على وشك الإبحار من الإسكندرية، سوف يشجع — دون شك — أعداءنا، ويوهن من عزائم أصدقائنا، إذا تبقى لنا أصدقاء فعلًا؛ ولذلك يجب — في رأيي — فعل شيء لإزالة أية فكرة عن أن في عزمنا إخلاء الإسكندرية.

تلك إذن كانت محاولة «مسيت» لإحباط مفاوضات محمد علي، ولإقناع حكومته بضرورة عدم إخلاء الإسكندرية، والمضي في سياستها التقليدية من حيث مناصرة البكوات المماليك، وعدم استبدال المحالفة مع محمد علي بالمحالفة معهم.

على أن الذي يسترعي النظر من كل هذه التفصيلات التي جاءت في رسائل «فريزر» و«مسيت» إلى كل من الجنرال «فوكس» والوزيرين «وندهام» و«كاسلريه» بشأن مفاوضات جس النبض الأخيرة بين «فريزر» وترجمان الباشا — الذي صحبه «ديلانسي»، ولو أن هذا الأخير اقتصرت مهمته — كما يبدو — على الإفاضة في وصف حسن المعاملة التي يلقاها الأسرى الإنجليز على يد محمد علي والإشادة بما يظهره الباشا من عواطف طيبة نحو الإنجليز، ورغبة صادقة في الاتفاق معهم إلى جانب التصديق على صحة القائمة التي أرسلها محمد علي بأسماء الأسرى الإنجليز في القاهرة، نقول: إن الذي يسترعي النظر من هذه التفصيلات رغبة محمد علي في عقد محالفة مع الإنجليز ضد أعدائه وأعدائهم المشتركين إلى جانب جلاء الإنجليز عن الإسكندرية ودخول هذه في حوزته، ويكشف هذان المطلبان على مدى ما بلغه تطور تفكير محمد علي من الناحية السياسية في هذه المرحلة، ووضع الأسس التي استند عليها برنامج نشاطه السياسي وقتئذٍ، من حيث العمل لضمان استقراره في الحكم والولاية وإزالة أخطر العقبات التي تعترض هذا الاستقرار، والتي كان مبعثها عدم الاطمئنان إلى موقف الباب العالي منه ومناصبة البكوات المماليك العداء له، ولقد كان عزم الباب العالي على إرسال سليمان باشا خصوصًا ويوسف جنج لنجدته آخر دليل في نظر محمد علي على أن الباب العالي بالرغم من الكوارث التي نزلت بالدولة في الداخل والخارج معًا: فتنة الانكشارية وعزل السلاطين وتوليتهم، وثورة الوهابيين في بلاد العرب، واضطراب الأحوال في سائر ولايات الدولة، واشتباك السلطنة في حربها مع الروس والإنجليز، ونزول الأخيرين في الإسكندرية واستيلاؤهم عليها، لا ينفك يحيك الدسائس له، ولا يتردد في أول فرصة مناسبة عن نقله أو عزله أو الغدر به.

وأما البكوات المماليك فقد اتضح مبلغ عنادهم، ورسوخ كراهيتهم له في قلوبهم منذ أن فشلت كل مساعيه للصلح والاتفاق معهم، حتى إنهم لم يرضوا بالوقوف موقف الحياد في النضال بينه وبين الإنجليز إلا استجابة لنداءات «دروفتي» في ظاهر الأمر على الأقل، حيث كان انقسامهم بسبب تحاسدهم وتنافسهم على الرياسة وتشاحنهم، مبعث تخاذلهم والعلة الحقيقية في عدم انضمامهم إلى الإنجليز، والتعاون معهم في عملياتهم العسكرية، وكان من أسباب عنادهم وإصرارهم على طرد محمد علي والأرنئود من القاهرة، ومن البلاد بأسرها حتى تدين لهم السلطة في هذه الولاية على غرار ما كان لهم فعلًا قبل أن ينتزع الفرنسيون منهم هذه السلطة إبان احتلالهم للبلاد، استناد فريق منهم على مؤازرة الفرنسيين أنفسهم، واستناد فريق آخر على مؤازرة الإنجليز.

ولقد جمعت المصلحة المشتركة بين الممثل الفرنسي في مصر وبين محمد علي، فاطمأن الأخير من ناحية فرنسا، وعرف كيف يفيد من ظروف الصراع الدائر بين إنجلترة وفرنسا لاستخدام «دروفتي» في تضليل البكوات وشل حركتهم، ولكن جماعة البكوات من بيت الألفي أصدقاء الإنجليز وحلفائهم، كانوا مصدر متاعب أشق وأقسى بسبب خصومة الألفي الكبير وخصومة «مسيت» له، ثم استفحل الخطر منهم، حينما احتل الإنجليز الإسكندرية، وطفق «مسيت» و«فريزر» يتراسلان مع جماعة المماليك التي عرفت حتى هذا الوقت بميولها الفرنسية، ولم يكن هناك مَعْدَى إذن عن تجريد البكوات من هذه القوة التي يعتمدون عليها — قوة الصداقة والمحالفة مع الإنجليز — إذا شاء الباشا الاستقرار في حكومته وولايته، ولقد كانت مسألة المماليك من المسائل التي احتلت مكان الصدارة في تفكير محمد علي — كما أوضحنا مرارًا — زد على ذلك أن الانهزامات الأخيرة التي لحقت بالإنجليز لم تخدع الباشا لدرجة الاستهانة بأمر هؤلاء، فهو قد عرف عنهم أنهم هم الذين ساهموا بأكثر نصيب في إخراج الفرنسيين من مصر، وفي وسعهم إذا جد الجد أن يبعثوا بنجدات قوية إلى الإسكندرية، ولن يحول حائل دون وصول هذه النجدات؛ لأن لهم السيطرة في البحر الأبيض، وفي استطاعتهم أن يضربوا حصارًا على مصر لا يقل صرامة عن حصارهم لها أيام حملة بونابرت، ثم إن نابليون العظيم صاحب الانتصارات الباهرة في القارة الأوروبية قد عجز عن هزيمتهم، وتعذر عليه غزوهم في عقر دارهم، وفشل في انتزاع السيطرة البحرية منهم، والإنجليز فوق هذا أعداء الباب العالي اليوم، وإذا كان نابليون قد عجز عن دحرهم، فكيف يتسنى للباب العالي أن يهزمهم، وإن محالفة يعقدها الباشا معهم قمينة بدفع أي اعتداء قد يقع عليه، إما مباشرة أو بطريق غير مباشرة من جانب الباب العالي، غير أن استقرار الحكم يستلزم حتمًا بسط سلطانه على باشويته بأسرها، ولا محيص لذلك عن دخول الإسكندرية أهم ثغور القطر في حوزته، ولا بد لذلك من إجلاء الإنجليز عنها، ولما كان هؤلاء قد أكدوا مرارًا وتكرارًا أنهم لم يجيئوا إلى هذه البلاد لغزوها واحتلالها، وإنما غرضهم من الاستيلاء على الإسكندرية هو منع نزول الفرنسيين بها لعدم تهديد سيطرتهم في البحر الأبيض، أو تعطيل مصالحهم التجارية في الليفانت أو إحياء خطر النزول على ممتلكاتهم في الهند من جديد، ففي وسع الباشا أن يتعهد لهم بمنع نزول الفرنسيين في هذه البلاد، أو مرورهم منها إلى الهند، وفي وسعه كذلك أن يتعهد لهم بحماية مصالحهم التجارية في مصر بل وتعزيزها، ثم إنه إذا كان «دروفتي» قد أقبل على مؤازرة الباشا بكل ما وسعه من جهد وحيلة، فقد ندر أن بعثت إليه حكومته بتعليماتها، واتخذ الوكلاء الإنجليز من ذلك سببًا لإذاعة أن «دروفتي» لا يلقى تأييدًا من حكومته لسياسته، وعلاوة على ذلك فقد أذاع هؤلاء الوكلاء دائمًا أن الفرنسيين يريدون احتلال مصر، ثم أكد أسرى الإنجليز في القلعة أن لا غرض لحملتهم سوى منع الغزو الفرنسي وهذا الاحتلال، وراح «فريزر» بدوره يؤكد ذلك في كل مناسبة وفي كل اتصالاته مع البكوات المماليك خصوصًا؛ ولذلك فإن من الخير أن تنص محالفته مع الإنجليز ضمن أهدافها على رد الفرنسيين عن هذه البلاد، بل ويقتضيه الحذر أن يطلب هو ذلك.

وثمة حقيقة أخرى، وهي أن هذه الأخطار ذاتها، سواء كان مبعثها غزو الإنجليز للإسكندرية أو الخوف من غزو آخر قد يأتي البلاد من جانب فرنسا، أو عناد البكوات المماليك وإصرارهم على طرده من الحكم والولاية، أو عدم الاطمئنان إلى نوايا الباب العالي نحوه، والخوف من تدابيره ودسائسه لانتزاع باشوية القاهرة منه، قد جعلت الباشا يمعن الفكر في خير الوسائل التي تدفع عنه الأذى، وتكفل له الاستقرار في حكومته، وكان خيرها في نظره أن يظفر لباشويته بوضع مشابه لباشويات وجاقات الغرب الثلاث؛ طرابلس وتونس والجزائر في علاقاتها مع الباب العالي (أي تأسيس الحكم الوراثي في مصر)، وهو وضع لا يمكن الظفر به إلا إذا أوجد له حلفاء أقوياء، يناصرونه في مسعاه لدى صاحب السلطان الشرعي عليه، أو يبادرون بالاعتراف به، فلا يجد الباب العالي مناصًا من التسليم بالأمر الواقع، ومع أن محمد علي لم يكشف عن نواياه هذه في مرحلة المفاوضات الأولى، وهي مرحلة لجس النبض فحسب، فقد كان هذا المشروع — دون شك أو ريب — مختمرًا في ذهنه، ولم يلبث أن كشف عنه في مراحل المفاوضات التالية، ثم إنه طفق يسعى جديًّا لدى الباب العالي لتحقيقه بعد ذلك.

فلا موضع للدهشة أو الغرابة إذن لكل هذه الاعتبارات التي ذكرناها إذا عرض الباشا على الإنجليز الآن صلحًا، يستبدل بمحالفتهم مع المماليك المحالفة معه هو، ويقوم على اعتبار الأتراك والفرنسيين أعداء مشتركين له ولهم، يحقق للإنجليز المزايا التي ذكرها ترجمانه للجنرال «فريزر»، ويحقق للباشا — كثمرة عاجلة لهذه المحالفة استيلاءه على الإسكندرية، وهي التي ظلت حتى هذا الحين خاضعة لإشراف القسطنطينية رأسًا، ويأتيه بالثمرات الأخرى التي انتظرها منه، ولم يظهر محمد علي في مفاوضته هذه بمظهر المتهافت على مصلحة الإنجليز، أو الرجل الضعيف الذي يخشى أذاهم وشرهم، فهو ما فتئ يكمل استعداداته دبلوماسيًّا بشل حركة حلفائهم المماليك وعسكريًّا بجمع الجند واستقدام النجدات وحشد الجيوش، ويعلن إليهم أن بوسعه إذا شاء ومتى شاء أن يأخذ الإسكندرية منهم عنوة، وللإنجليز أن يختاروا بين استئناف القتال أو إبرام الصلح معه، وأما إذا كانوا لا يؤثرون التحالف معه على محالفتهم مع المماليك، ولا يريدون تسليم الإسكندرية، ولا يبغون أن ينشئوا معه علاقات محبة وصداقة، فما الذي يفيده محمد علي من ترك الإسكندرية في أيدهم، وأي خدمة تلك أو جميل وصنيع في وسعهم أن يقدموهما له، يمكن أن تعوض عليه خسارة الإسكندرية، وبقاء هذه في قبضة جيوش أجنبية لدولة هي في حرب مع الباب العالي ومعه، لا ينفك ممثلوها ووكلاؤها عن تحريض البكوات المماليك وهم خصومه الألداء على قتاله لإخراجه من باشويته.

غير أن هذا الأسلوب الذي اتبعه الباشا في إشعار «فريزر» بنواياه كان من الدقة بحيث فات «فريزر» إدراك غايات محمد علي وأهدافه، فعد مقترحاته — كما رأينا — غير معقولة وغير مفهومة، وراح يوضح لترجمان الباشا المزايا التي تعود عليه من بقاء الإسكندرية في حوزة الإنجليز أنفسهم واستمرار هؤلاء في احتلالها، وخيل إليه أن مقصد الباشا من سؤاله عن الجميل أو حسن الصنيع الذي في وسع الإنجليز أن يقدموه له، أنه يبغي تعويضًا ماليًّا عن الأسرى الإنجليز الذين يطلق سراحهم، ولم يدرك غرض الباشا من مقترحاته هذه سوى «مسيت» الذي جعلته خصومته لمحمد علي وتشككه لذلك في كل ما يصدر عنه حادَّ الذهن في هذه الناحية خصوصًا، ومتيقظًا لسبر غور الرجل الذي بذل — دون جدوى — كل ما وسعه من جهد وحيلة لطرده من الولاية؛ ولذلك فقد انبرى «مسيت» يحطم مشروع المحالفة المقترحة، وهو لا يزال في مهده، وساق كل ما اهتدى إليه فكره من حجج ودعاوى لإقناع وزير خارجيته بعبث التحالف مع محمد علي، وتضحية المماليك أصدقاء الإنجليز القدماء.

ومهما يكن من أمر، فقد عاد ترجمان الباشا إلى القاهرة وبصحبته الكابتن «ديلانسي»، فبلغاها في ٢١ مايو، ومع أن «فريزر» رفض في جوابه إخلاء الإسكندرية، فقد تحدث — كما عرفنا — عن رغبته في إنشاء علاقات الود والصداقة مع محمد علي، وطلب من الأخير دليلًا على حسن نواياه، وما يكنه من عواطف طيبة نحو الإنجليز أن يبادر بإطلاق سراح أسراهم — لا بد أن يتوقع محمد علي نظير ذلك الحصول على مبلغ معقول من المال — ولم يغلق القائد الإنجليزي باب المفاوضة معه، بل سأله أن يوضح أغراضه ونواياه ويحدد مطالبه، فحققت هذه المفاوضة الغرض المباشر منها، وهو جس نبض الإنجليز، وعرف الباشا أن الإنجليز لن يتخلوا عن الإسكندرية إلا إذا أُرغموا على ذلك إرغامًا، وأن الأمل في إمكان الاتفاق والتفاهم معهم لا يزال باقيًا، ومن الممكن كسب صداقة الإنجليز — على الأقل — إذا تعذر عقد محالفة صريحة معهم متى اتَّضح لهم أن لا مفر من ضياع الإسكندرية من قبضتهم، وأن أصدقاءهم المماليك لن يحضروا لنجدتهم، وأن سلطان الباشا في القاهرة يستند على حكومة قوية الدعائم.

وقد بادر «دروفتي» بالكتابة إلى «سباستياني» في ٢٧ مايو، يبلغه ما استطاع الوقوف عليه من نتائج هذه المفاوضة، فقال: إن «فريزر» قد وجد من المناسب الدخول في المفاوضة مع محمد علي، واقترح أن تأتيه تعليمات حكومته بصدد المقترحات التي قدَّمها إليها ترجمان الباشا — وهي المقترحات التي أبلغ محمد علي نفسه فحواها إلى «دروفتي» ولم يشر فيها الباشا من قريب أو بعيد إلى المحالفة التي عرضها على «فريزر» — أن تقف الأعمال العدوانية بين الفريقين، وأن تطلق حرية المعاملات التجارية بين الإسكندرية وبين القاهرة وغيرها من مدن القطر، ثم أكد القائد الإنجليزي عدم استطاعته التخلي عن الإسكندرية، وذكر سانت مارسيل بعد أيام قلائل أول يوليو أن الإنجليز يريدون تأسيس محطات تجارية بين الإسكندرية والقاهرة، ولكن الباشا يعرف النتائج التي تترتب على إنشاء هذا الخط من المواصلات الذي من شأنه أن يمهد لحدوث أنواع من الإغراءات والمناورات ذات العواقب السيئة.

ولم يصل «فريزر» في الأيام التالية أي جواب من محمد علي بالرغم من تأكيد ترجمان الباشا له عند مبارحته الإسكندرية أنه سوف يسمع قريبًا جدًّا من سيده، فقال «فريزر» في كتابيه إلى «وندهام» وإلى «فوكس» أنه لم يبلغه أي خبر من محمد علي في القاهرة منذ رسائله الأخيرة إليهما، وفي ١٦ يونيو بعث إلى «وندهام» يقول إنه منذ رسالته بتاريخ ٣٠ مايو لم يبلغه شيء من محمد علي سواء فيما يتعلق بمسألة الأسرى، أو بالمقترحات التي عرضها علينا بطريق ترجمانه عن رغبته في إنشاء الصلات الودية معنا، وقد تقدم كيف أن «فريزر» عزا هذا السكوت من جانب محمد علي إلى انشغال هذا الأخير بمسألة ياسين بك الأرنئودي الذي قال عنه «فريزر»: إنه تارة ينحاز إلى المماليك، وتارة أخرى إلى محمد علي، وقد ذكر «فريزر» في رسالته هذه أن قتالًا قد نشب من مدة قريبة بين جند الباشا وبين جند ياسين، انتصر فيه هؤلاء الأخيرون، والحقيقة أن الباشا الذي أدرك عدم جدوى استئناف المفاوضة قبل أن يقوى مركزه بالدرجة التي تقنع الإنجليز بأنه من الخير لهم الاتفاق والصلح معه، وكان قد صرف كل جهده في الشهور القليلة التالية لإنجاز استعداداته العسكرية، وإخماد حركة العصيان التي قام بها ياسين بك، ومحاولة حمل البكوات المماليك على التزام خطة الحياد على الأقل عند استئناف العمليات العسكرية ضد الإنجليز، وهكذا ركدت المفاوضات فترة من الزمن.

على أنه إذا كان محمد علي قد انشغل في المدة التالية بمفاوضاته مع المماليك وتجهيز جيشه، وإذا كان «فريزر» قد انشغل من ناحيته بإنجاز تحصين الإسكندرية، وتقوية خطوط دفاعه عنها، وتزويدها بالمؤن والأغذية، واستقبال النجدات التي أتته مع «شربروك» في ٢٩ مايو، فقد كان «مسيت» من ناحيته دائب النشاط لتحقيق ما أخذ على عاتقه أن يفعله، وهو إبطال حصول أي اتفاق أو محالفة مع محمد علي، فراح يكتب إلى «كاسلريه» في ٢٩ مايو، وإلى «جورج كاننج» Canning في ١٣ يونيو — وزير الخارجية في وزارة «بورتلاند» Portland — ثم إلى «كاسلريه» مرة أخرى في ١٧ يونيو، ومرة ثالثة في ٢٣ يوليو، يدعو إما صراحة وإما بطريق الإيحاء أو التلميح والإشارة إلى أمور ثلاثة؛ عدم الاتفاق مع محمد علي، بل العمل بدلًا من ذلك على طرده من الحكم والولاية وإبعاده هو والأرنئود من هذه البلاد، ثم استمرار المحالفة مع البكوات المماليك والركون إلى أنهم سوف يؤازرون الإنجليز في عملياتهم العسكرية في النهاية، وأخيرًا عدم التخلي عن الإسكندرية والتمسك بها مهما كانت الظروف والأحوال؛ أي إن «مسيت» حاول أن يفرض على حكومته ذلك البرنامج الذي سعى هو من قديم إلى تحقيقه، والذي كان أحد عواقبه كل ما حل بحملة «فريزر» من هزائم، وتستبين الحجج التي استند عليها «مسيت» في تعزيز وجهة نظره بمراجعة رسائله إلى «كاسلريه» و«كاننج» في هذه الفترة.

أما رسالته الأولى إلى «كاسلريه» بتاريخ ٢٩ مايو، فكانت مناسبتها ورود رسالة إلى «مسيت» من شاهين بك الألفي، تصف ما يحدث من مكائد ومؤامرات في المعسكر المملوكي، وتوضح الأسباب التي تمنع البكوات من الانضمام إلى الإنجليز في الوقت الحاضر إما عن عجز — كما قال — وإما عن عدم رغبتهم في ذلك، وقد سبق ذكر ما تضمنته هذه الرسالة، وما جاء بخطاب شاهين الألفي إلى «مسيت»، وأما رسالته إلى «جورج كاننج» بتاريخ ١٣ يونيو، فكانت مناسبتها ما بلغه من السير «ألكسندر بول» حاكم مالطة عن إرسال حكومة روسيا أحد وزرائها للمفاوضة في الصلح مع الباب العالي، وأنه من المتوقع لذلك أن توفد الحكومة الإنجليزية أحد سفرائها إلى القسطنطينية للتعاون مع الوزير الروسي في هذه المفاوضة، فرأى «مسيت» من واجبه أن يعرض على «كاننج» بعض ملاحظاته عن الموقف السياسي في مصر.

وقد استهل «مسيت» هذا العرض بقوله: «إنَّ محمد علي — باشا مصر الحالي — مدين لدرجة كبيرة في المركز الذي يشغله الآن لمكائد ومؤامرات وكلاء فرنسا وتشجيعهم ونصحهم له، ورضي لبضعة شهور بعد استلامه أزمَّة الحكم في هذه البلاد بأن يرضخ تمامًا لإرشاداتهم، ولقد نجحت بعد ذلك في أن أثير في ذهنه الشك من ناحية إخلاص نوايا أصدقائه هؤلاء المزعومين، ولم يعد لديَّ من الأسباب بعد هذا ما يجعلني أشكو من أنه يبدي تحيزًا للأمة الفرنسية، ولكنني أخشى أن يجعله التحالف القائم الآن بين فرنسا والباب العالي، وعلى وجه الخصوص ذلك النفوذ الذي صار لكبير الوكلاء الفرنسيين «دروفتي» عليه منذ نزول الجنود البريطانيين الأخير في هذه البلاد، أقوى ارتباطًا من أي وقت مضى بمصلحة العدو (فرنسا)، حقيقة لقد رغب من أمد طويل أن يصبح مستقلًّا عن الباب العالي، وربما يتسنى إغراؤه بفصم كل علاقاته وارتباطاته مع فرنسا، لو أننا رضينا بمؤازرته مؤازرة قوية على بلوغ غرضه وتحقيق أطماعه، ولكنه من غير المحتمل — على ما يبدو — حين عودة السلام بين بريطانيا العظمى والباب العالي أن يعمد وزراء جلالة الملك (الحكومة الإنجليزية) إلى اتباع تدبير سياسي من هذا الطراز فيما يتعلق بمصر، فلقد دلت تجارب سنوات عدة على أنه طالما بقي الجيش العثماني في مصر يتألف أكبر قسم منه من الأرنئود، فمن المتعذر بتاتًا أن تحظى هذه البلاد بعهد من النظام والهدوء والسكينة، بل على العكس من ذلك، فإن ما تتصف به العصابات من الجند المرتزقة من غدر وخيانة، من شأنه أن يرمي بالبلاد في أحضان ثورات متتابعة يمتنع بسببها عن الحكومة القائمة التمتع بأي استقرار وقوة يلزمانها لمقاومة الأعداء الذين قد يغزون هذه البلاد مقاومة نشيطة فعالة.

وبسبب هذه الظروف إذن، ولأنه لا يساورني أي شك في أن حكومة جلالة الملك سوى ترى من الحكمة وأصالة الرأي الاحتفاظ بالإسكندرية على الأقل، حتى يتم عقد السلام العام، يبدو لي ضروريًّا أن تعمل الحكومة البريطانية على إرغام محمد علي والأرنئود سويًّا على إخلاء هذه البلاد، وأن تعمل على إعادة تأسيس الحكومة المملوكية بها، فبهذه الوسيلة وحدها يمكن إنهاء الحروب الأهلية التي جرَّت الخراب على هذا القطر الذي عُرف في الماضي بخصوبة أرضه، فتنتعش التجارة والزراعة مرة أخرى، وتضمن الفوائد التي سوف يجنيها الأهلون من هذا الانتعاش استعلاء نفوذنا، ولا أشك في أن البكوات لقاء إرجاع حقوقهم وامتيازاتهم القديمة إليهم، سوف يقبلون مختارين الدخول في اتِّفاق معنا من أجل الدفاع عن البلاد إذا وقع هجوم عليها.

ومنذ أن صارت للأرنئود السيطرة في القاهرة، لم يظفر الباب العالي بشيء من إيرادات مصر، ولقد أعلن الباب العالي من وقت مضى بعد هذا الحادث أن الأرنئود عصاة متمردون، ومردُّ امتلاكهم دون منازع لهذه البلاد التي اغتصبوها، إنما هو إلى وهن الباب العالي وعجزه؛ ولذلك فلا يسع الباب العالي إلا أن يشكر لجلالة الملك فضله لاستخدامه جنده في استرجاع مقاطعة كهذه، وردِّها إليه بعد أن كان قد فقدها.

ومن واجبي أن أعترف — عدا ما ذكرت من أسباب سياسية — بأن الأمل في أن يسترد الجيش البريطاني تلك السمعة اللامعة التي فقدها، هو السبب القوي الذي يدفعني إلى المناداة بضرورة طرد الأرنئود، فهل من الحق أن يُسمح لهؤلاء المتبربرين أن يستمتعوا بنصر لم يحرزوه بفضل بسالة أظهروها، وإنما جاءهم بسبب ظروف طارئة، وهل من العدل أن نتركهم دون عقاب على قسوتهم مع جرحانا في الهجوم الأول على رشيد، وهل من الحكمة أن ندع العالم بأسره يعتقد تفوق الجنود الأتراك على الجنود البريطانيين؟!

ومع ذلك، فمن واجبي كذلك ألَّا أخفي عنك أن تحقيق هذا الغرض يتطلب الآن قوات أعظم بكثير مما كان يكفي لبلوغه قبل ذلك بستة شهور، فمن المنتظر قطعًا أن يبدي الأرنئود الذين أكسبهم انتصارهم الأخير علينا ثقة كبيرة في أنفسهم بعض المقاومة، ومن المحتمل أن يرفض المماليك الانضمام إلينا، حتى نحرز تفوقًا في ميدان القتال، ولقد تم تحصين القاهرة، والباشا يبذل همته لتزويد القلعة المسيطرة على هذه المدينة بالمؤن والذخائر يوميًّا.

ولما كان من المقطوع به أن أحد أحزاب المماليك — وهو حزب البرديسي — مناصر للمصالح الفرنسية، فإني أوصي في حالة إرجاع الحكم إلى البكوات بحرمان هذا الحزب من المساهمة في هذه الحكومة، فإذا لم يسمح لرؤساء هذا الحزب بالدخول إلى القاهرة، واستمر إرغامهم على العيش في الصحراء، فهنالك ما يدعو قطعًا إلى توقع انفضاض أتباعهم من حولهم، ومن شأن ذلك أن يجعلهم عاجزين عن تعكير صفو السلام العام.»

وفي رسالته الثانية إلى «كاسلريه» بتاريخ ١٧ يونيو، تحدث «مسيت» عن مهمة مندوبي شاهين الألفي، أحمد بك وأمين بك في الإسكندرية، كما بسط مسألة «بتروتشي» الذي استطاع بفضل النفوذ الذي كسبه لدى الباشا في القاهرة، أن يبعث باليوناني «قسطنطين كاريري» إلى الإسكندرية عن طريق رشيد، حتى يدلي بمعلومات صحيحة عن عدد من النقاط التي يهم «مسيت» معرفتها، وقد سبق أن تكلمنا عن هذه الرسالة، ولما كان «مسيت» قد سجل أجوبة هذا اليوناني على أسئلته، فقد بعث طي رسالته إلى «كاسلريه» بمحضر استجواب «كاريري»، وجاء في أقوال هذا الأخير: أولًا: أن السيد «بتروتشي» قد طلب منه أن يبلغ «مسيت» بأن الباشا يميل كثيرًا للوصول إلى اتفاق مع القائد العام البريطاني «فريزر» بشأن إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، ولكنه يخشى مما قد يقدمه الوكيل الفرنسي ضده من أقوال واحتجاجات إلى الباب العالي، فقد مضى أكثر من ثلاثة شهور دون أن يصل شيء إلى الباشا من القسطنطينية، وصار لذلك في وسع الوكيل الفرنسي أن يخدعه بالطريقة التي تحلو له في كل ما يتعلق بعمليات الجيوش الروسية والفرنسية العسكرية، حتى إنه حدث قبل مغادرتي للقاهرة بوقت قصير أن أعلن الوكيل الفرنسي رسميًّا أن بونابرت قد استولى على بطرسبرج، ولكنه لما كان السيد «بتروتشي» قد أكد للباشا أنه بدلًا من الاستيلاء على بطرسبرج قد انهزم الفرنسيون على يد الروس في أكثر من موقعة، فقد رجاه الباشا أن يزوِّده بكل ما يمكنه العثور عليه من معلومات عن هذا الموضوع؛ ولذلك يرجو السيد «بتروتشي» أن تبعث إليه بتفاصيل المعارك، وثانيًا: أن التذمر سائد في صفوف جند الباشا الذين طالبوا حديثًا بمرتباتهم في صياح وضجة غير عاديين، وأن الباشا الذي لا يجد من المال ما يجيب به مطالبهم، قد عظمت همومه وصار قلقًا مشغول البال كثيرًا، وحظى السيد «بتروتشي» بثقته الكبيرة بإقراضه أربعين ألف قرش تركي، وأن عدد جنوده أقل من الثمانية آلاف، وثالثًا: وأن الأتراك قد أقاموا سورًا حول رشيد، وحصَّنوا مرتفعات أبي منضور، ووضعوا بطاريات مدفعية على ضفتي النيل عند مصب النهر، وأن عدد الجنود برشيد والجهات المجاورة لها حوالي أربعة آلاف، بعد أن نقص عددهم الذي كان من وقت قريب حوالي الخمسة آلاف، بسبب ذهاب كثيرين منهم إلى القاهرة للمطالبة بمرتباتهم، وأن الجنود الذين برشيد لا ينتوون الزحف على الإسكندرية، بل إن التحصينات التي أقاموها والتي ما برحوا يقيمونها لتنهض دليلًا على أنهم أنفسهم يخشون من وقوع هجوم عليهم.

ورابعًا: أن في رأي «كاريري» الذي كان برشيد عند الهجوم الأول عليها أن الإنجليز وقتئذٍ كانوا قد أخذوا المدينة فعلًا، وأولم «بتروتشي» وليمة غذاء للضباط الإنجليز، واندفع الأرنئود بعجلة نحو الشاطئ، فعبروا النهر في قوارب أو على ألواح أو قطع من الخشب، وجلس الجنود الإنجليز في هدوء في جماعات، كل ثمانية أو عشرة منهم معًا، ثم في الحوانيت والقهاوي، عندما صدر الأمر بالتقهقر، وأن بطاريات المدفعية الإنجليزية لم تلحق إلا أذًى بسيطًا بالمدينة أثناء الهجوم الثاني عليها؛ لأن القنابل كانت صغيرة الحجم، ولم يطلق منها سوى عدد قليل طوال كل يوم من أيام الحصار، ووقع كثير منها في النيل، وأن الإنجليز لو أنهم اتخذوا موقعًا في الدلتا تجاه رشيد لسقطت هذه في أيديهم؛ لأنه عندما ذهبت فرقة من الجند إلى الجانب الآخر من النهر لتحطيم بطارية من مدفعين، كان الأتراك قد أقاموها هناك، اعتقد الأتراك الذين خُيِّل إليهم أن الإنجليز قد جاءوا لأخذ هذا الموقع والاحتفاظ به، أن الهزيمة قد حلَّت بهم بسبب ما توقعوه من قطع خط الرجعة عليهم، وخامسًا: أن ستمائة من الجند الأتراك قد حضروا من الشام وقبرص، ونزلوا بدمياط في طريقهم إلى القاهرة، ومن المنتظر أن يصل غيرهم وعن طريق دمياط كذلك، حيث يحتشد الجند الأتراك في قبرص، ويستحث الباشا حاكمها على إرسال قسم منهم إليه بكل سرعة، ولن يجد هؤلاء صعوبة في الوصول إلى القاهرة، طالما أنه لا تقف سفينة حربية إنجليزية بالقرب من دمياط لمنع نزولهم بها، وسادسًا: أن الباشا لم ينشئ تحصينات جديدة بالقاهرة، وإنما أصلح تحصيناتها القديمة، وأعاد حفر الخندق الذي كان قد أنشأه الفرنسيون وقت احتلالهم، ثم إنه زود القلعة بالذخائر والأسلحة وما إليها، وأخيرًا: أن القاهريين عمومًا لا يعتقدون بأن صلحًا قد أبرم بين الباشا وبين إبراهيم بك وجماعته، وأن الباشا وأتباعه وأنصار الفرنسيين هم الذين يروِّجون هذه الشائعة التي لا أساس لها.

وواضح أن كل غرض «مسيت» من هذا الاستجواب ثم إرساله إلى «كاسلريه» إقناع الأخير بمبلغ ما لدى الوكلاء الفرنسيين من نفوذ على محمد علي، وهو نفوذ إذا كان يخشاه الباشا للأسباب التي ذكرها «مسيت» بدرجة تمنعه من معالجة مسألة الأسرى الإنجليز مع الجنرال «فريزر»، فمن باب أولى أن يكون من أثره انتفاء أي أمل في رعاية المصالح البريطانية الأخرى الهامة، طالما بقي هذا النفوذ الضار في البلاد، وطالما بقي في الحكم الرجل الذي وقع تحت تأثيرهم، وإذا وجد البريطانيون أن من مصالحهم البقاء بالإسكندرية، أو توسيع نطاق عملياتهم العسكرية بصورة تكفل لهم احتلال البلاد بأسرها، وإخضاعها لنفوذهم — على نحو ما كان يريد «مسيت» نفسه — فليس هناك ما يخشونه؛ لأن جنود الباشا لا يبلغ عددهم الثمانية آلاف، يسود بينهم التذمر، ويتعذر على الباشا إرضاؤهم لحاجته الملحة إلى المال، وتحصينات القاهرة ضعيفة، ومن السهل وقف ما يأتيه من نجدات، إذا ضرب الحصار على دمياط من ناحية البحر، ومن السهل كذلك الاستيلاء على رشيد إذا أحكم العسكريون تدابيرهم، فلم تتكرر الأخطاء التي وقعت في الهجومين الأول والثاني عليها، واحتل البريطانيون الجانب الآخر من النهر، ومن المنتظر أن يلقى الإنجليز كل معاونة من البكوات المماليك في هذه المرة؛ لأن هؤلاء لا يزالون يرفضون الصلح والاتفاق مع محمد علي.

واستهل «مسيت» رسالته الثالثة إلى «كاسلريه» بتاريخ ٢٣ يوليو، بالحديث عن جهوده فقال إنه كان مشغولًا بفصل بعض قبائل العرب من خدمة الباشا، وببذر بذور الشقاق والخلاف بين تلك التي استعصى عليه إغراؤها بفصم كل علاقة لها به، ولقد ترتب على مجهوداتي هذه أن أحدًا من الجنود الأتراك صار لا يجرؤ الآن على إظهار نفسه على الضفة اليسرى لفرع النيل الغربي في هذا الجانب من ناحية القاهرة، وأصبح البدو مسيطرين كل السيطرة على هذا الجزء من البلاد، حتى إنهم بعد أن كانوا يهربون البن وسائر أنواع السلع من العاصمة (القاهرة)، صاروا يحضرونها الآن إلى سوق الإسكندرية دون أن يخشوا من أية مصادرة، حقيقة تدر عليهم هذه التجارة ربحًا وفيرًا لدرجة إغرائهم بعدم المبالاة بأية أخطار قد يتعرضون لها بسبب هذه المجازفة، ولكنهم ليسوا مدفوعين في هذا العمل خاصة بحافز الأرباح المالية فحسب، الأمر الذي أجد من واجبي أن أسترعي انتباهكم إليه، وأهل مصر والباشا والوكلاء الفرنسيون أنفسهم مقتنعون جميعهم، بأننا سوف نستأنف القتال بمجرد أن تصلنا النجدات الكافية، ولقد وجدت لزامًا علي أن أعمل على تعزيز هذا الرأي الذي يكفل وحده استمالة العرب إلى إمدادنا، ويمنع الباشا من محاولة قطع مواصلاتنا مع داخل البلاد، فلو أن الأولين اكتشفوا أن نوايانا نحو مصر لا تتعدى احتلال الإسكندرية، ولو أنهم لم يفترضوا أن هذه البلاد سوف تقع في أيدينا عاجلًا أو آجلًا ليتقرر مصيرها حسبما يراه جلالة الملك البريطاني لجعلهم الخوف من عاقبة غضب الباشا عليهم في المستقبل ينفون بأغلظ الأيمان وجود أية علاقة لهم بنا، لا يجنون منها نفعًا، ولا يخشون شيئًا من نبذها، وأما أن الباشا قد صار متيقنًا من أننا نعتزم القيام بهجوم ثالث على رشيد، فينهض دليلًا على تلك البطاريات التي أقيمت بناء على أمره حولها، وذلك الجيش القوي الذي احتفظ به في الجهات المجاورة لرشيد، والذي يتسنى له استخدامه في وقف الإمدادات ومنعها عنا بالإسكندرية، إذا أمن على ترك رشيد دون وجود جيش لحمايتها، فإذا منع عنا إمداداتنا حرم أهل الإسكندرية من وسائل العيش، واضطرت الحامية إلى الاعتماد على الأغذية المملحة فحسب، وهكذا ترون — يا صاحب السيادة — أن هذين الهجومين اللذين وقعا على رشيد وباءا بالفشل وصاحبتهما الكوارث قد عادا — في واقع الأمر — علينا بنفع عظيم، ولا يجب أن أخفي عنكم أن المماليك، وهم الذين قد رفضوا حتى هذه اللحظة كل عروض الباشا من أجل الصلح معهم، وقاوموا كل مكائد ومؤامرات وكلاء وأنصار فرنسا، من المحتمل جدًّا أنهم سوف يسلكون طريقًا مغايرًا، لو أنهم ما صاروا يتوقعون منا أن نعاونهم على امتلاك القاهرة، ولا يمكن الاستمرار طويلًا على الخداع والغش الذي هو من صالحنا أن يظل كل مخلوق في مصر، ومن أي نوع كان متأثرًا به، وإذا لم يكن لدى حكومة جلالة الملك البريطاني من الأسباب ما يدعوها إلى توقع عقد الصلح قريبًا بين بريطانيا العظمى والباب العالي، فرجائي أن تتخذ الحكومة الإجراء الذي ترشدها الحكمة إليه كعمل ضروري ليس لتمكين الجيش من الاحتفاظ بموقفه الراهن من غير أن ينجم عن ذلك إرهاق لأهل الإسكندرية فحسب، بل وتأييد ذلك النفوذ الذي ظفر به في الماضي جيش جلالة الملك، والذي وضعت نصب عيني دائمًا أثناء السنوات الأربع الأخيرة المحافظة عليه تامًّا وغير منقوص، وكان في ختام هذه الرسالة أن أعلن «مسيت» خبر وفاة الكابتن «ديلانسي» — أحد الأسرى الإنجليز في قلعة القاهرة.

وفي هذه الرسالة عاود «مسيت» الحديث عن هزيمتي رشيد والحماد، فهون من أمرهما ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، وحاول أن يقيم الحجة على أنه بدلًا من أن تكون هذه الهزائم من الأسباب التي قد تستند عليها الحكومة الإنجليزية في تقرير الجلاء عن الإسكندرية، يجب أن تكون بفضل النفع العظيم الذي زعم أنه قد ترتب عليها، من دواعي البقاء بالإسكندرية، ثم توسيع نطاق العمليات العسكرية لتمكين المماليك من امتلاك القاهرة، وضرب «مسيت» على نغمة السمعة البريطانية، ووجوب التمسك بها وصولها لإغراء الوزير على الأخذ بمقترحاته، وتعزيز الجيش البريطاني في الإسكندرية، وعدم التخلي عن هذه الأخيرة ما دامت الحرب قائمة بين إنجلترة والباب العالي.

ولكن هذه الجهود جميعها ذهبت سدى، ولم يكن ضياعها إلا لسبب واحد، هو أن الحكومة الإنجليزية قد قررت اتخاذ الإجراء الذي أرشدتها الحكمة إليه، فأصدرت تعليماتها إلى الجنرال «فريزر» بإخلاء الإسكندرية والعودة بجيشه إلى قواعده في صقلية.

الإنجليز يقررون الجلاء

فقد تولى «كاسلريه» وزارة الحرب منذ أواخر مارس سنة ١٨٠٧ في وزارة الدوق بورتلاند، وكان من رأيه أن وجود جيش الجنرال «فريزر» منعزلًا بالإسكندرية، وفي حالة الضعف التي هو عليها لا يفيد سوى فائدة ضئيلة في المجهود الحربي في البحر الأبيض، ومن الواجب أن يشترك هذا الجيش بدور إيجابي في العمليات التي تقتضيها استراتيجية المحافظة على المواقع العسكرية البريطانية في البحر الأبيض، وأهمها صقلية، ومناوأة جيش نابليون الرابض في شبه الجزيرة الإيطالية، والذي ما فتئ يعمل على بسط سلطان فرنسا بها، ثم إخراج تركيا من المحالفة مع هذه الدولة الأخيرة وإقناعها بترضية روسيا، والوقوف موقف الحياد إذا تعذر حملها على الانضمام إلى إنجلترة ورسيا، وقد تأيدت هذه الفكرة لدى «كاسلريه» عندما وصل إلى لندن عن طريق فينا في أبريل سنة ١٨٠٧، خبر فشل أسطول «داكويرث» أمام القسطنطينية.

وتتضح رغبة «كاسلريه» في إسناد دور إيجابي ونشيط إلى جيش «فريزر» في العمليات المتصلة بالنضال في البحر الأبيض وإيطاليا، عندما صار لزامًا عليه معالجة الموقف بعد فشل «داكويرث»، فطلب إلى الجنرال «فوكس» في ٢٥ أبريل أن يجهز قوة للعمل في الدردنيل إذا كان من الممكن القيام بعملية عسكرية هناك من أجل تخويف الباب العالي، وتعطيل إجراءاته العسكرية، على أن تؤلف هذه القوة من الجند الذين يمكن سحبهم من صقلية ومن الإسكندرية، وقد علل «كاسلريه» هذه الخطوة بقوله: إنه يخشى وقد انسحب السير «جون داكويرث» بأسطوله من أمام القسطنطينية دون أن يفعل شيئًا حاسمًا ضد العاصمة، أن ينجح الأتراك في جمع جيش لحمايتها، وتعزيز تحصينات الدفاع عنها من جهة البحر، وذلك قبل أن يتمكن الإنجليز من جمع قوة عسكرية كبيرة في تلك الجهة، وإنه من المرغوب فيه أن يتسنى للإنجليز الوقوف على مدى استعدادات الأتراك في هذه المسألة، وأن يبذل كل مجهود تمليه الحكمة إما باستخدام القوة العسكرية، وإما باللجوء إلى وسائل أخرى لإرغام الباب العالي على أن ينفض عنه نفوذ فرنسا، ويستأنف علاقته مع بريطانيا العظمى وروسيا، ولتحقيق غرض هام كهذا، ونظرًا لضعف الجيش الفرنسي في حالته الراهنة في القارة الإيطالية كذا، من واجبي أن أتوقع أنه في وسعك ودون تعريض صقلية لخطر مبعثه الغفلة وقلة التروي لعدم توقع هجوم عليها من ناحية الفرنسيين في إيطاليا تجهيز قوة تضيف إليها جندًا من الذين يمكن الاستغناء عنهم من الإسكندرية للعمل في ميدان آخر، تتبين ملاءمة العمل فيه، ومن المحتمل أيضًا بعد إضافة هذه القوة إلى الجيش الذي يمكن الحصول عليه من القوات الروسية التي تعمل في جزيرة «كورفو»، والغرض من ذكر هذا كله أن تدخل هذه الاعتبارات في حسابك فحسب؛ حيث إن الحكومة الإنجليزية لم تصلها حتى هذه اللحظة معلومات كافية، تُمكِّنها من إرسال توجيهاتها بشأن القيام بأية عملية عسكرية معينة …

على أن «كاسلريه» لم يلبث أن نزل عن مشروع تخويف القسطنطينية باستخدام القوة العسكرية ضدها مباشرة، عندما علم بعد أيام قليلة بأمر استعدادات الدفاع التي تمت في القسطنطينية وفي الدردنيل بإرشاد الضباط والمهندسين الفرنسيين، مما يجعل متعذرًا نجاح أي عملية عسكرية، يقصد بها تخويف الإسكندرية، إلا إذا أفرد الإنجليز جيشًا وأسطولًا كبيرين لتحقيق هذه الغاية، فاضطر «كاسلريه» إذن إلى التخلي عن هذا المشروع، وبعث بتعليماته الجديدة هذه إلى «فوكس» في ٨ مايو، فقال: إنه قد وصلته منذ تعليماته الأخيرة إليه (٢٥ أبريل) تقارير من «أربثنوت» في «داكويرث» تحوي تفاصيل الفشل الذي حدث أمام القسطنطينية، ومن الواضح أن تحصينات الدردنيل والعاصمة العثمانية قد صارت تقويتها … بدرجة تجعل نتيجة ما قد يقوم من عمليات عسكرية ضد العاصمة أمرًا ميئوسًا منه إلا إذا قام بها جيش كبير جدًّا، بل وأكبر بكثير مما قد تسمح بجمعه — بالإضافة إلى مساعدة الجيوش الروس في «كورفو» — وسائلك بالصورة التي تتلاءم مع تأمين صقلية؛ ولذلك لم يعد في وسع الحكومة الإنجليزية تعليل النفس بنجاح أية عمليات عسكرية، يُستطاع بفضلها الآن تخويف العاصمة التركية، وهي لذلك تقرر حصار الموانئ العثمانية الرئيسية وتعطيل التجارة العثمانية تعطيلًا تامًّا، وقد آثرت الاعتماد على هذه الوسيلة بدلًا من اتخاذ إجراءات عدوانية، تشترك فيها القوات البرية والبحرية الإنجليزية ضد الباب العالي، وذلك لجعل الحكومة العثمانية أكثر ميلًا للتعقل والحكمة؛ ولذلك — كما استمر «كاسلريه» يقول — فقد صدرت الأوامر لقوات وحدات الأساطيل الإنجليزية في البحر الأبيض لضرب نطاق الحصار بالاتحاد مع الأسطول الروسي الموجود بالبحر الأبيض الآن على الدردنيل وميناء أزمير ومصبات النيل وعلى أي ميناء رئيسي آخر، يمكن انتقال الإمدادات منه إلى العاصمة العثمانية، كما دعا الأسطول الروسي في البحر الأسود لمراقبة البسفور والموانئ العثمانية في هذا البحر، وأوضح «كاسلريه» الغرض من هذه التعليمات الجديدة، فقال: إنه ليس تجريد «فوكس» من حرية التصرف المخول له في تعليماته السابقة إليه بأن يتخذ من الإجراءات العسكرية ما يراه ضروريًّا، حسبما يتطلب الموقف دون انتظار لتعليمات حكومته، وإنما الغرض من إرسالها إليه هو تعريفه فقط أن الحكومة الإنجليزية بفضل المعلومات التي وقفت عليها أكثر ميلًا للاعتماد على إجراءات لإزعاج العدو من محاولة مهاجمته، ولا تريد أن يفهم من إيثارها للإجراء الأول أنها تبغي منعه من تنسيق عملياته أو اتحاده مع القواد البحريين لاستخدام القوات التي تحت قيادته بالطريقة التي يراها محققة لأغراض حكومته على أحسن وجه … وعلاوة على ذلك فالحكومة الإنجليزية مستعدة لإمداده بالقوة العسكرية اللازمة، إذا رأى بالاتفاق مع قائد القوات البحرية إنشاء مركز بحري في إحدى جزر الأرخبيل لتزويد الأسطول بما يحتاج إليه من نجدات وغيرها، وذلك لحماية هذا المركز.

على أنه إلى جانب حصار الموانئ العثمانية الهامة وتعطيل التجارة العثمانية لإرهاق وإزعاج الباب العالي، لجأت الحكومة الإنجليزية إلى وسيلة أخرى لإقناع هذا الأخير بالصلح مع إنجلترة وروسيا وذلك بالمفاوضة معه، ومنذ بداية مايو ١٨٠٧ تقرر نهائيًّا إرسال السير «آرثر باجيت» Arthur Paget إلى الليفانت، ولم تختلف مهمته عن مهمة «أربثنوت» من قبل، وأصدر «جورج كاننج» وزير الخارجية تعليماته إلى «باجيت» في ١٦ مايو، وقد جاء في هذه أن مهمته دائمًا هي العمل من أجل تسوية الخلافات التي نشأت بين روسيا والباب العالي، وجعل الأخير يشعر بأهمية الظروف التي من شأنها إقناعه بأن من صالحه تجديد ارتباطاته السابقة مع روسيا وإنجلترة، ونبذ ذلك النفوذ المتفوق الذي لفرنسا عليه، وفي ١٨ مايو أصدر «كاننج» تعليمات أخرى إلى «باجيت»، نص فيها على ضرورة اشتراط إرجاع أملاك البريطانيين التي صادرتها الدولة العثمانية أو تعويضهم عنها عند عقد الصلح، وأنه لا يمكن بحال من غير ذلك موافقة الحكومة البريطانية على إخلاء الإسكندرية، أو أي إقليم آخر من أقاليم الدولة فتحته جيوشها، وعلاوة على ذلك، فقد طلب اشتراط عدم إطلاق سراح الأسرى العثمانيين إلا إذا أخلت الحكومة العثمانية سلفًا سبيل المعتقلين من رعايا بريطانيا، أو الذين وقعوا في الأسر نتيجة للحرب بينها وبين تركيا، ثم عاد «كاننج»، فحدد بصورة أكثر وضوحًا الغرض من مهمة «باجيت»، فقال في ٢٦ مايو: إن السلام هو الغرض الأول، وإن السلام مع إرضاء روسيا تمامًا هو الغرض الثاني، ثم صدرت تعليمات من وزارة البحرية إلى «كولنجوود» في ٢ يونيو حتى يترك لأحد قواده حصار قادش بينما يذهب هو بنفسه إلى الدردنيل لتأييد «باجيت» في مفاوضته ولإرضاء أمير البحر الروسي.

وكان لتأييد «باجيت» في هذه المفاوضة أن اعتبر «كاسلريه» الإجراءات التي أشار إليها في تعليماته إلى «فوكس» (أي حصار الموانئ وتعطيل التجارة العثمانية) ضرورية من حيث ضغطها على يد الباب العالي لجعل الطريق أكثر تمهيدًا لنجاح المهمة المكلف بها «باجيت»، ثم إنه كان في ضوء هذه الترتيبات الجديدة أن وجد «كاسلريه» لزامًا عليه أن يبعث بتعليمات أكثر تفصيلًا بصدد الدور الذي صار من الواجب على «فريزر» وجيشه بالإسكندرية قصر نفسه عليه في الموقف الراهن، يحدو «كاسلريه» والحكومة الإنجليزية إلى هذا ذلك التغيير الذي طرأ على استراتيجية الحرب في البحر الأبيض، كما تراها وزارة بورتلاند، والذي ترتب عليه إعادة النظر في وضع حملة «فريزر» برمته على أساس أن بقاء هذه الحملة في الإسكندرية يحول دون استخدام قسم من الجيش البريطاني في عمليات وميادين أخرى أكثر أهمية متصلة بالحرب ضد نابليون، والتي كان من عوامل النجاح فيها في نظر البريطانيين احتفاظهم بصقلية لضمان سيطرتهم البحرية في البحر الأبيض ولمناوأة الفرنسيين في إيطاليا، ولأنه حتى تستطيع حملة «فريزر» الاحتفاظ بالإسكندرية، لا مفر من إرسال نجدات قوية لها يضعف إرسالها جيش الجنرال «فوكس» في صقلية، وأخيرًا لأن الغرض من إرسال هذه الحملة لم يكن سوى احتلال الإسكندرية فحسب، وليس احتلال البلاد بأسرها، ولما كان «فوكس» قد بعث في ٦–٨ أبريل، ينقل إلى «وندهام» خبر الاستيلاء على الإسكندرية مصحوبًا بتقارير «فريزر» عن هذا الحادث، وهي تقارير طلب فيها صاحبها إمداده بنجدات كثيرة، حتى يتمكن من احتلال رشيد والرحمانية، ولما كان «فوكس» نفسه وهو ينقل هذا الخبر إلى «وندهام» قد ذكر أنه سوف يبذل قصارى جهده لإجابة «فريزر» إلى مطلبه، بإرسال نجدات إليه من صقلية، الأمر الذي لا يجب أن يفوت الوزير أنه سوف يضعف الجيش الذي تحت قيادته مباشرة، إذا اضطر إلى إرسال نجدات أخرى منه إلى «فريزر»، أو طلب من هذا الجيش القيام بأي عمل آخر، عدا الدفاع عن صقلية فحسب، فقد اضطر «كاسلريه» إلى الكتابة بإسهاب في ١٧ مايو؛ لبيان خطة الحكومة، وتحديد المسلك الواجب على «فريزر» اتباعه، ولتعليمات «كاسلريه» الجديدة هذه أهمية بالغة، من حيث إنها حددت موقف الحكومة الإنجليزية نهائيًّا ليس من احتلال الإسكندرية فحسب، بل وكذلك من تقرير مصير هذه البلاد برمتها في نظر السياسة الإنجليزية، حينما صارت الحكومة الإنجليزية مستعدة من الآن فصاعدًا للتخلي عن فتوحها في مصر، نظير حمل الباب العالي على العودة إلى موقف الحياد الذي وقفه سابقًا في النضال بين إنجلترة وفرنسا، وفضلًا عن ذلك، فإنه لا تلبث أن تزداد أهمية هذا التحديد الذي مردُّه في واقع الأمر لم يكن أصلًا إلا إلى ارتباط حملة «فريزر» ذاتها، وعندما نشأ التفكير في إرسالها لاحتلال الإسكندرية بتقلبات الموقف السياسي والعسكري في أوروبا، وعلى وجه الخصوص في إيطاليا والبحر الأبيض، إذا عرفنا أن «كاسلريه» عندما أرسل تعليماته إلى «فوكس» في ١٧ مايو ١٨٠٧ كان هو وزملاؤه في الوزارة لا يزالون يعتقدون أن جيش «فريزر» منتصر في مصر؛ لأن أخبار هزائمه لم تبلغ العاصمة البريطانية إلا خلال الأسبوعين الأولين من شهر يونيو، فقد ذكرت هذه التعليمات وللمرة الأولى أن من الواجب التهيؤ للرحيل، والانسحاب من الإسكندرية، والامتناع عن إقامة العراقيل التي قد تعطل هذا الانسحاب عند تقريره.

وثمة ملاحظة أخرى مترتبة على هذا التحول الذي حدث في الاستراتيجية الجديدة على عهد وزارة «بورتلاند» هي عدم التورط بحال من الأحوال مع البكوات المماليك بصورة تعيد إلى الأذهان ما حدث أيام الجنرال «هتشنسون» وارتباطات هذا الأخير معهم (١٨٠٠-١٨٠١) التي جعلت السياسة الإنجليزية تسير حتى هذا الوقت في الطريق التي عرفناها، فأرادت الحكومة الإنجليزية إطلاق يدها الآن، وإزالة أي عراقيل من هذا القبيل، قد تمنعها من تنفيذ الإخلاء والجلاء عن الإسكندرية عندما يتقرر ذلك نهائيًّا، بالسرعة التي تريدها من أجل تحقيق أغراض وغايات أعظم أهمية في نظرها من التردي في مثل هذه البؤرة، فكان هذا تحولًا جديدًا في سياسة إنجلترة في مصر في هذه الفترة، تخلَّى الإنجليز بسببه عمليًّا عن البكوات، حتى إنه حينما جاء موعد الاتفاق الأخير على إخلاء الإسكندرية وتسليمها إلى محمد علي، لم يذكر المندوبون الإنجليز شيئًا عن ضرورة رعاية مصالح هؤلاء أو حتى تأمينهم على سلامتهم.

وأما «كاسلريه» فقد كتب إلى «فوكس» في رسالته هذه إليه بتاريخ ١٧ مايو، أنه قد وصلته رسالة «فوكس» المؤرخة في ٦–٨ أبريل، ومعها تقارير «فريزر» عن الاستيلاء على الإسكندرية في ٢٠ مارس، ولكنه يبدو له مما جاء في هذه الرسائل أن «فريزر» قد شعر فور وصوله إلى مصر أنه مرغم حتى يؤمن غذاء أهل الإسكندرية والجند الذين تحت قيادته بها، على إرسال قوة لاحتلال رشيد والرحمانية، وأنه اعتبر ضروريًّا في هذه الظروف أن يذكر في عبارات قوية أهمية حصوله على نجدات تمكنه من الاحتفاظ بالمواقع التي يعتبرها جوهرية لاحتلال البلاد النافذ، وللدفاع عن الإسكندرية في حالة هجوم عدو قوي عليها، وكذلك يبدو من رسالة الميجور «مسيت» بتاريخ ٢٢ مارس إلى الزعماء المماليك أنه قد حدث إبلاغهم بالرغبة التي يشعر بها قائد القوات البريطانية في مساعدة الأحزاب في هذه البلاد التي قد تكون راغبة في إنشاء صلات ودية دائمة مع بريطانيا، مع بيان المصلحة التي لهم في ربط أنفسهم ببريطانيا العظمى كالوسيلة الوحيدة التي يمكن بها إطلاقًا تحقيق غاياتهم، ثم دعوتهم لإرسال شخص موثوق به إلى الإسكندرية ليدلوا إلى «فريزر» برغباتهم وما يريدونه، وهنا يشير «كاسلريه» إلى رسالة «مسيت» إلى البكوات إبراهيم وعثمان حسن وسائر زملائهما والكشاف كذلك، وقد سبق ذكر هذه الرسالة.

ثم استطرد «كاسلريه» يقول: على أنه يخشى مما ذكر أعلاه أن احتلال الإسكندرية الذي كان الغرض أصلًا من صدور القرار به ليس للتمهيد إلى احتلال أوسع لمصر، وإنما لمجرد وضع حامية بريطانية في أحد المراكز البحرية الرئيسية للاحتراس بصورة أكثر جدًّا ونفاذًا، ضد تمكين الفرنسيين من وضع أقدامهم في هذه البلاد، يخشى أن هذا الغرض لا سيما إذا جعلنا أنفسنا نتدخل تدخلًا أكثر مما ينبغي في شئون البلاد السياسية المحلية، سوف ينجم عنه إذا تحول عن هدفه الأصلي إرهاق مواردنا العسكرية بمطالب أكثر من تلك التي كنا نتوقعها عندما تقرر في أول الأمر إرسال هذه الحملة (حملة «فريزر»)، ولا أجد ما يدعوني إلى أن أذكر لكم مبلغ ما تأثرت به فعلًا من جراء فصل هذا القسم من الجيش وإرساله إلى مصر، وتعطلت بسببه قدرتنا على القيام بأية عمليات جدية ضد العدو في البحر الأبيض، بل أن من شأن تجاوز أغراضنا المحددة باحتلال الإسكندرية وتأمينها إلى العمل من أجل احتلال مصر، أن تتحطم تمامًا الآن كل قدرة لنا على الانتفاع من أي فرصة قد تسنح للعمل في إيطاليا، وربما كان ضروريًّا إذا أخذنا بعين الاعتبار هذا الغرض المحدود من إرسال حملة «فريزر»، وبخاصة عند هبوطنا الأول إلى البر وحتى تستقر الأمور، احتلال بعض المراكز ذات الأهمية الجوهرية والمتصلة بالهدف الأساسي، ثم إنه قد يكون لازمًا طوال مدة إقامتنا بالبلاد، إنشاء صلات مع أولئك الذين لهم السلطة والنفوذ، واسترضاؤهم لتأييد مصالحنا بوسائل من ذلك الطراز الذي لا يقيدنا بارتباطات تتعارض مع المبادئ التي يجب أن تشكل في آخر الأمر مسألة بقائنا في هذه البلاد، ولكنه من الأهمية بمكان عند اتخاذ مثل هذه الخطوات أن يدخل الضابط المتولي القيادة في حسابه الاعتبارات العامة التي قد يتشكل بفضلها مسلك حكومة جلالة الملك البريطاني بعدئذٍ، وأن يتجنب بكل ما وسعه من جهد اتخاذ طائفة من الإجراءات التي قد تورطه هو وحكومته في مصاعب وارتباكات في آخر الأمر، ثم بين «كاسلريه» القواعد التي يجب على مثل هذا الضابط (والمقصود هنا «فريزر») الاسترشاد بها، فقال: أولًا: حتمًا لا يجب أن يبني مسلكه على انتظار نجدات لا يمكن — تبعًا لما تتطلبه أغراض أخرى، ولا تقل أهمية عن هذه — إعطاؤها إياه دون حدوث أقصى إزعاج وإرباك ممكن، وسببٌ أكثر من هذا لإمكان الاحتراس من ذلك، إذا اتسم التصرف بطابع الحكمة، هو انتفاء ما يدعو إلى الخوف من وقوع هجوم من جانب فرنسا بحرًا، في حين أن أية قوات معادية في وسع الأتراك أن يجمعوها في داخل البلاد، لا يمكن أن تكون كبيرة، ويتعذر على جيش بريطاني من ستة آلاف رجل يعاونه أسطول متفوق التغلب عليها، وثانيًا: ومن الأهمية بمكان أن يدخل هذا الضابط في حسابه أن حكومة جلالة الملك غير متهيئة لامتلاك مصر امتلاكًا دائمًا على أساس معاهدة عند عقد الصلح؛ ولذلك فحيث إن العمل من أجل تحقيق أغراض عسكرية ذات أهمية أعظم في جهات أخرى أو أن نتيجة المباحثات المعلقة الآن مع الباب العالي قد يفضيان حتى والحرب لا تزال دائرة إلى تقدير الحكومة الإنجليزية سحب جيشها من الإسكندرية، صار لزامًا على «فريزر»، وبكل ما وسعه من جهد، اجتناب أية إجراءات قد تجعل هذه الخطوة عند اتخاذها متعارضة مع شرف وأمانة أولئك الذين في خدمته (أي وزرائه).

ولذلك، فإني أبلغكم أوامر جلالته لمطالبة الميجور جنرال «فريزر» بأن يقصر نشاطه بكل دقة ممكنة على احتلال الإسكندرية العسكري، بما في ذلك احتلال أية مراكز متصلة بها يجد احتلالها ضروريًّا ولا مَعْدَى عنه فورًا لتأمين سلامة الحامية وتوفير الغذاء لها، وأنه في حالة ما إذا ألح عليه المماليك أو غيرهم من الأحزاب الصديقة من أجل استخدام قواته لطرد الأتراك من القاهرة، أو مواقع أخرى بعيدة، عليه أن يرفض في عبارات تنم عن أعظم صداقة ممكنة مقترحاتهم مبينًا لهم في الوقت نفسه أن واجبه المباشر إنما هو البقاء في الساحل لحماية البلاد من الفرنسيين، وأن الأوامر التي لديه تمنعه حتى تصله النجدات من إرسال أي قسم من قواته في خدمات عسكرية بعيدة في داخل البلاد، ويجب عليه كذلك أن يكون متحذرًا من رهن كلمة حكومته فيما يتعلق بأي نظام للحكم، يتقرر في آخر الأمر تأسيسه في هذه البلاد، بل يقصر تأكيدات صداقته على إظهار ما تشعر به الحكومة الإنجليزية من واجب استخدام مساعيها الطيبة وبقدر ما تسمح به الظروف، في صالح أولئك الذين أسدوا خدمات لجيوشها وقت الحرب.

ثم عاد «كاسلريه»، فلخص هذه التعليمات في ختام رسالته؛ لتوضيح الغرض منها بدقة ومن غير لبس أو إبهام فقال: «إن المبادئ العامة التي تقوم عليها إنما هي تجنب أي مسلك قد يفضي إلى زيادة المطالبة بإرسال الجند، وتجنب أي إجراء قد يعطل تنفيذ رغبة الحكومة الإنجليزية في سحب جيشها من مصر في أي وقت تشاء، سواء جاء هذا كتنازل منها للباب العالي، أو من أجل تأدية خدمات عسكرية أخرى أكثر ضرورة.»

وواضح أن النقطة البارزة في هذه الرسالة هي إبلاغ «فريزر» بأن هناك احتمالًا لصدور الأمر إليه في أي وقت بالانسحاب من الإسكندرية، وأن الحكومة الإنجليزية لا تستهدف ولا تريد بحال الاحتفاظ بالإسكندرية حتى تقرير الصلح النهائي ولا امتلاك مصر، وقد وصلت إلى قرارها هذا بالرغم من الأخبار التي بلغتها عن انتصار حملة «فريزر» واستيلائها بخسارة طفيفة جدًّا على الإسكندرية، على أنه لم يمضِ شهر واحد من صدور تعليمات «كاسلريه» هذه التي ذكرناها، حتى كان قد جدَّ ما جعل الحكومة الإنجليزية تبادر بإرسال أوامرها بصورة حاسمة بإخلاء الإسكندرية فورًا والانسحاب من هذه البلاد.

فقد بعث «فريزر» في ٦، ٢٤ أبريل إلى «فوكس»، يبلغه نبأ هزيمتي رشيد والحماد، ويطلب النجدات من مال ورجال بكل سرعة، وأرسل «فوكس» بدوره هذه الأخبار إلى حكومته مع تقارير «فريزر»، ومع صورة من رسالة «فوكس» نفسه إلى هذا الأخير في ١٣ مايو، ردًّا على كتابي «فريزر» في ٦، ٢٤ أبريل، وقد علَّق على أخبار هذه الهزائم بقوله: إن أوامر الحكومة الإنجليزية كانت إذا وقعت الحرب مع تركيا أن يصير الاستيلاء على الإسكندرية، واعتبر خمسة آلاف جندي عددًا كافيًا لتحقيق هذا، ولا أعتقد أن الحكومة كانت تفكر في استخدام هذه القوة في أكثر من ذلك، ومن المحتمل أن الحكومة كانت تعرف أن فتح مصر إذا أزمعت عليه يتطلب قوة أكبر من تلك الموجودة في البحر الأبيض الآن، وليس من المقطوع به إذا أحيطت علمًا بما وقع أن ترى الحكومة من المناسب الاستمرار في امتلاك الإسكندرية بالرغم من كل الصعوبات التي صارت هذه معرضة لها بسبب حرمانها من أسباب الاتصال بسائر القطر (مصر)، وسوف يجري تبليغ الحكومة بكل ما ذكرته في تقاريرك، وما يمكن الوقوف عليه من معلومات أخرى، وفي الوقت نفسه لا أجد من حقي أن أقرر الإخلاء، بل يجب الاحتفاظ والتمسك بالإسكندرية إلا إذا أرغمنا إرغامًا على التخلي عنها، بسبب عدم وجود المؤن، والحاجة إلى الماء، أو الالتحام مع قوة عسكرية متفوقة على قواتنا، وسوف تمكنك وسائل النقل بطريق البحر وحماية الأسطول، وهما شيئان لن تجد نفسك محرومًا منهما من إخراج الجند والانسحاب في كل وقت، إذا تبين أن ذلك قد صار ضروريًّا. ووعد «فوكس» بإرسال النجدات إلى «فريزر» بالقدر الذي يعوض عليه خسارته، كما وعد بإرسال المؤن والمال، وتوقع أن يلقى التجار ما يشجعهم نظير ما يجنونه من ربح مالي — على إمداد الإسكندرية بحاجتها من الأغذية وغيرها، وكان من رأيه عند تحصين المداخل إلى الإسكندرية، والسيطرة على الملاحة في بحيرة إدكو، أنه سوف يتعذر على العدو مهاجمة المدينة، ونصحه باستمالة العرب إليه؛ حيث إن بذل المال لهم وحسن معاملتهم يفضيان إلى تزويده (أي «فريزر») ببعض الإمدادات عن طريق الصحراء، ثم إنه نصحه بالمضي في مراسلة المماليك، حتى إذا نشط هؤلاء في الجهات المجاورة للقاهرة، شغلوا الأتراك، وصرفوهم عن محاولة الهجوم على الإسكندرية، واختتم رسالته إليه بقوله: «إن ترك مصر والتخلي عنها في الوقت الحاضر، يلحق أذًى بليغًا بصالح بريطانيا ويهدمه تمامًا، ويؤكد تفوق واستعلاء فرنسا، وتتطلب رعاية مصالح الوطن والمحافظة على شرفنا العسكري بعد هذه النكبات الأخيرة التمسك بالإسكندرية الآن، وحتى تجد الحكومة الإنجليزية الوقت لاتخاذ قرار في هذه المسألة بعد بحثها.»

ولم يغير «فوكس» موقفه هذا، عندما تسلم تقارير «فريزر» التالية بتاريخ أول و٦ مايو، وكذلك صورة رسالة هذا الأخير إلى «وندهام» في أول مايو، وقد تضمنت كل هذه آراء «فريزر» عن ضرورة إخلاء الإسكندرية في النهاية — على نحو ما عرفنا — فأجاب «فوكس» من «سيراكوز» في ٣٠ مايو أنه لما كان قد صدر أمر الحكومة باحتلال الإسكندرية، فهو لا يستطيع أن يأخذ على عاتقه أن يصدر إليه أية تعليمات أخرى سوى وجوب الاحتفاظ بالإسكندرية، والدفاع عنها أطول مدة ممكنة دون المجازفة بتحطيم جيشه، وأنه يعتقد بفضل النجدات التي بعث بها إليه من مال ورجال أن في وسع «فريزر» فعل ذلك، ولكنه إذا اتضح له أن القوة المعدة ضده كبيرة لدرجة يصبح معها بقاؤه بالإسكندرية أمرًا غير عملي، فلدى «فريزر» من الوسائل ما يمكنه من الانسحاب بسلام منها. وفي رسالة أخرى من «فوكس» في نفس التاريخ (٣٠ مايو) إلى أحد العسكريين البريطانيين، قال إنه بالرغم مما جاء في تقارير «فريزر» عن هزائم الجيش، وعن حاجته الملحة إلى النجدات المختلفة، وجسامة الصعوبات التي تواجهه في الإسكندرية، واعتقاده أي «فريزر» بضرورة إخلاء الإسكندرية عاجلًا أو آجلًا، فهو لا يستطيع أن يتحمل مسئولية الموافقة على إخلاء الإسكندرية إذا كان هناك احتمال للاحتفاظ بها، حتى يقف على رأي وقرار حكومته بشأن ذلك، ولو أنه يتفق في الرأي مع «فريزر»، على أنه من المتعذر من غير إرسال قوات كبيرة، يؤلف الفرسان قسمًا لا يستهان به منها إلى هذه البلاد لاحتلالها بصورة دائمة، حيث قد اتضح أن الميجور «مسيت» كان مخطئًا لدرجة بعيدة في معلوماته عن الحالة السائدة في البلاد.

على أن «فوكس» عندما بعث بتقارير «فريزر» سالفة الذكر وبصورة من جوابه عليها (رسالة «فوكس» إلى «فريزر» في ١٣ مايو)، لم يلبث أن أوضح لحكومته أنه لا يتسنى لها الاحتفاظ بالإسكندرية بعد الهزائم الأخيرة إلا إذا أنفذت إلى «فريزر» جيشًا كبيرًا لا مَعْدَى عن أن يسبب أخذه من قواته هو في صقلية ضعف جيشه بها، فقال: إنه يسوءه أن يبعث إلى الوزير «وندهام» بأخبار الهزيمة التي حلَّت بجيش «فريزر»، وأنه يرجو أن يستطيع هذا الأخير البقاء بالإسكندرية، والدفاع عنها بفضل النجدات التي سوف يرسلها إليه، حتى يتضح ما يصح عزم الحكومة عليه بصدد البقاء بالإسكندرية أو إخلائها، ثم شرع يقول: وإنه لمن شأن حكومة جلالة الملك أن تقرر ما إذا كانت ترى من الحكمة سحب القوَّات الحالية من مصر، فإن الاحتفاظ بالإسكندرية في وجه الصعوبات التي يبدو أنها قائمة الآن، أو إرسال جيش إلى هذه البلاد يمكننا من الاستمرار في امتلاكها بصورة تبعث على الاحترام، وعلى درجة من القوة تكفي لاحتلال كل المواقع الضرورية لتأمين سلامتنا، فضلًا عن حماية وتعضيد المماليك وغيرهم ممن يرغبون في تأييد المصالح البريطانية في مصر، يبدو لي أنه لا يمكن تحقيقه إلا إذا كان لدينا جيش من خمسة عشر ألف رجل من بينهم ألف من الفرسان، وأفهم أنه سوف يتضح لكم أن لا شيء يضر بقوات جلالة الملك مثل احتمال هزيمة جيشه على يد العدو وإرغامه على إخلاء البلاد أو وقوعها في قبضة العدو، ولكنني لا أكاد أرى ضرورة، تلجئني إلى بيان مقدار الضعف الكبير الذي سوف يلحقه بالجيش هنا (في صقلية) إلى جانب ما حدث من إرسال الأورطة التي أُرْسِلت إلى جزيرة مالطة لإخماد تمرد آلاي «فروهبرج» Forhberg بها على نحو ما ذكرت في رسالتي بتاريخ ٤ مايو، إرسال هذه النجدات إلى الإسكندرية، وفي ١٣ يونيو كتب «فوكس» إلى «كاسلريه» من «مسينا»، بعد أن أرسل إليه نسخًا من رسائل «فريزر» عن مفاوضات ترجمان محمد علي معه، وتحسن الموقف خلال شهر مايو بالإسكندرية، أنه يصعب عليه وهو على هذه المسافة البعيدة منه أن يصدر إليه تعليمات بشأن مسلكه مع محمد علي والبكوات المماليك، ولكنه سوف يوصيه على كل حال بأن يظل على علاقات طيبة مع الفريقين دون التورط مع أحدهما بشكل يُسبِّب امتعاض الفريق الآخر منه، وأن يكون متحذرًا جدًّا من ناحية محمد علي، وقد أرفق «فوكس» مع رسالته هذه تقرير الكابتن برجوين الذي سبقت الإشارة إليه عن تعذر الدفاع عن الإسكندرية في الظروف الراهنة، كما أوفد الكابتن «ثاكري» Thackary وهو من الضباط الملمين تمامًا بآراء كبير المهندسين الميجور برايس Bryce عن حالة تحصينات الدفاع بالإسكندرية، وقد سبق لهذا الأخير أن خدم في مصر أثناء الحرب الأخيرة (١٨٠١)، واكتسب خبرة كبيرة.

ومع أن «فوكس» بادر في ٢٣ يونيو بإرسال ما وصله من تقارير من «فريزر» عن تحسُّن الموقف في الإسكندرية، وقال تعقيبًا على ما جاء بهذه التقارير: إنه يستدل من اللهجة التي كُتبت بها أن الجيش الذي تحت قيادة «فريزر» في الإسكندرية، قد صار الآن موقفه مأمونًا تمامًا، كما صار مزودًا بالمؤن تزويدًا طيبًا، إلا أن تقارير «فريزر» السابقة عن هزيمتي رشيد والحماد، وتوضيحات «فوكس» عن ضرورة إرسال جيش من خمسة عشر ألف مقاتل إلى الإسكندرية إذا شاءت الحكومة الاحتفاظ بها، مع بيان ما ينجم عن فصل هذه القوة من جيشه بصقلية من إضعاف لهذا الجيش نفسه، قد حتم على الحكومة الإنجليزية الاختيار نهائيًّا بين الاحتفاظ بالإسكندرية، ويتطلب ذلك إرسال هذا الجيش الكبير إليها، وهذا ما لم يكن في مقدورها، أو الاحتفاظ بصقلية لضرورات الموقفين العسكري والسياسي في أوروبا، والإفراج عن القوة المحجوزة بالإسكندرية لاستخدامها في ميادين أخرى أعظم أهمية بالنسبة لاستراتيجية الحرب العامة، فلم تجد الحكومة الإنجليزية مناصًّا من تقرير خطتها النهائية، وعندئذٍ آثرت التخلي عن الإسكندرية على ضياع صقلية من يدها، ومن المحتمل كذلك إذا ضعف جيش «فوكس» بهذه الأخيرة ضياع الإسكندرية وصقلية معًا وفي وقت واحد؛ ولذلك فإنه بمجرد أن وقفت هذه الحكومة على أخبار هزيمتي رشيد والحماد وحاجة «فريزر» إلى النجدات القوية، وعرفت آراء «فوكس» في هذا الموضوع منذ أن وصلتها تقاريره الأولى خلال النصف الأول من شهر يونيو أصدرت أوامرها فورًا بسحب الجند البريطانيين من الإسكندرية إن لم يكن قد بدأ انسحابهم منها فعلًا بسبب الهزائم الأخيرة والصعوبات التي صار يواجهها «فريزر»، فبعث «كاسلريه» بهذه الأوامر القاطعة إلى «فوكس» في ١٤ يونيو ١٨٠٧ في كتاب طويل، لا يدع مجالًا للشك في أن مصير حملة «فريزر» كان مرتبطًا ومن مبدأ الأمر، على نحو ما ذكرنا مرارًا، كان مرتهنًا بتطورات الموقف في أوروبا من الناحيتين العسكرية والسياسية.

فجاء في كتاب «كاسلريه» ما نصه: «لقد وصلنا تقريركم (مخاطبًا «فوكس») من «مسينا» بتاريخ ١٤ مايو مع الرسائل المرفقة به، وقد عرضت هذه على الملك، وقد تلقى جلالته باهتمام بالغ ما سرده «فريزر» عن الهجومين الفاشلين اللذين قاما بهما الجند البريطانيون بخسارة كبيرة ضد رشيد، على نحو ما جاء ذكره مفصلًا في كتاب الميجور جنرال «فريزر» إلى الوزير «وندهام» بتاريخ ٦ أبريل، ولكم بتاريخ ٢٤ من الشهر نفسه، ويوافق جلالته على الإجراءات التي اتخذتموها من حيث إرسال النجدات والإمدادات التي وجدتم أنها قد تكون كافية لإعطاء «فريزر» الفرصة للاستمرار في امتلاك الإسكندرية، حتى تتضح رغبات جلالته بشأن ذلك؛ ولذلك أبلغكم الآن أوامر جلالته فيما يتعلق بتوجيه مسلككم، إذا لم يكن قد تم فعلًا إخلاء مصر قبل وصول هذه إليكم.

يبدو مما وضح من حوادث للآن، أنه لا يمكن فصل احتلال الإسكندرية عن امتلاك رشيد والرحمانية وربما دمياط كذلك، وأنه حتى بامتلاك هذه الأماكن الأخيرة، ليس هناك ما يدعو لتوقع الاحتفاظ بالإسكندرية في أمان، ما دمنا في حرب مع الباب العالي من غير اتساع نطاق العمليات العسكرية بصورة تشمل احتلال مصر بأسرها، وإخضاع القوات الأرنئودية والعثمانية الموجودة بالبلاد الآن، وتقولون إنَّ النجدات التي بعثتم بها إلى «فريزر» إنما هي بالقدر الذي قد يمكن من الاحتفاظ بالإسكندرية حتى تستبين رغبات جلالة الملك، ولكنه حتى يتسنى احتلال جميع المواقع الضرورية لتأمين موقفنا في هذه البلاد، لا مناص في رأيكم من استخدام جيش لا يقل عن ١٥٠٠٠ مقاتل من بينهم ١٠٠٠ فارس؛ لتحقيق هذه الغاية في الظروف الراهنة، ولكنه بالرجوع إلى القوات التي لدينا الآن في البحر الأبيض يتضح — إلا إذا كان جلالته متهيئًا لإرسال قوة، يتألف أكثرها من الجند الموجودين بأرض الوطن — أنه لا مَعْدَى عن الاختيار بين إخلاء مصر أو التخلي عن صقلية، ومن المستحيل الاحتفاظ بمصر وصقلية معًا وفي وقت واحد، بل ومن المحتمل فقْد الاثنين كليهما إلى جانب فقد الجيش نفسه كذلك إذا حاولنا برعونةٍ النضال ضد الصعوبات التي تكتنف تحقيق الغرض الأول (أي الاحتفاظ بمصر)، وحيث إن هذا هو الوضع الحقيقي للمسألة، فلا شك في أنكم قد استخلصتم من تعليماتي الأخيرة إليكم أنه لا مجال للتردد في اختيار الطريق الذي يجب تقريره، لقد كان الغرض الرئيسي من تلك التعليمات هو جعل امتلاك الإسكندرية — من وجهة النظر السياسية — تابعًا لأمن صقلية وسلامتها، وللغرض الأكبر أهميته من حيث القدرة على القيام بعمل عدواني ضد العدو في إيطاليا. ومهما كان مبلغ إدراك الملك حينذاك لما سوف يترتب عليه فصل قوة كبيرة كهذه، وإرسالها إلى مصر كوسيلة لحمل الباب العالي على قبول تسوية معنا، من أثر سيئ على قدرة جيشكم على القتال والقيام بعمليات عسكرية نشيطة، فإنه لم يكن راغبًا وقتذاك في جعل الإسكندرية تفلت من أيدينا، وإنما بشريطة أن يستطيع الجنود الذين بها الاحتفاظ بهذا الموقع، ولقد كانت رغبة جلالته في الوقت نفسه من جهة أخرى ألَّا يستحيل تحقيق هذا الغرض إلى عامل يستنفد تدريجًا قوات جيش جلالته في صقلية.

ولا يبعد بحال من الأحوال أن يكون الميجور جنرال «فريزر» قد وجد نفسه على نحو ما يؤخذ من تقريره، مرغمًا على سحب جنده من مصر قبل أن تتمكن النجدات المرسلة من الوصول إليه، ومن المحتمل — من ناحية أخرى — أنه لا يزال بالإسكندرية، وأن تلقاه بها النجدات المرسلة إليه من صقلية، وإنكم بسبب صعوبات موقفه المستمرة — ولا سيما بعد أن يكون قد وصلكم كتابي المؤرخ في ٢١ مايو — تكونون قد قرَّرتم استدعاء جيش الميجور جنرال «فريزر» دون انتظار لتعليمات أخرى من لندن، فإذا لم يكن هذا ما وقع فعلًا، فإني أبلغكم إرادة جلالة الملك، وهي أن تتخذوا فورًا الإجراءات اللازمة لسحب الجنود البريطانيين من مصر، والتنبيه عليهم بالعودة إلى قواعدهم السابقة في صقلية.»

ثم إن «كاسلريه» طلب في ختام رسالته هذه إلى «فوكس» أن يبلغ هذه الأوامر التي تلقاها إلى السير «آرثر باجيت» بسفينة سريعة، إذا كان هذا قد غادر صقلية في طريقه لتأدية المهمة المكلف بها (أي المفاوضة مع الباب العالي) وأن يبلغه كذلك أن حكومته قد خصَّصت لحين صدور أوامر أخرى أسطولًا صغيرًا للتجول قريبًا من الساحل المصري لمنع وصول أية إمدادات من مصر إلى القسطنطينية، وفي ١٦ يونيو أصدرت البحرية البريطانية تعليماتها إلى أمير البحر اللورد «كولنجوود» بوضع قوة بحرية بالقرب من الساحل المصري لتحقيق هذا الغرض الأخير، وخيرته في عدم فعل ذلك إذا اتضح له أن حصار الدردنيل وميناء أزمير يكفي دون حاجة لوضع قوة عند مصبات النيل تكفي لمنع خروج الإمدادات من مصر إلى القسطنطينية، إلا إذا وجد من الحكمة توقيًا لما قد يحدث استمرار هذه القوة البحرية بالقرب من الساحل المصري، على اعتبار أن ذلك من الإجراءات العامة التي يجب اتخاذها من قبيل الحيطة والحذر من إرسال الفرنسيين جيشًا إلى مصر.

وأما هذه التعليمات القاطعة بضرورة سحب الجنود والجلاء فورًا عن الإسكندرية، فقد وصلت «فوكس» بمسينا في ١٠ يوليو، ووجب عليه أن يبلغها بدوره إلى «فريزر» دون إبطاء، ولكنه حدث أن السير «آرثر باجيت» الذي غادر إنجلترة في طريقه لتنفيذ مهمته في ٣ يوليو، كان قد وصل هو أيضًا إلى «مسينا» في ١٠ يوليو بعد أن قابل «كولنجوود» في قادش، وتحدث إليه في أغراض مهمته، ووصل الاثنان إلى أن الهزائم التي لحقت بجيش «فريزر» في مصر، من شأنها أن تصعب مفاوضاته مع الباب العالي.

وعلى ذلك فإنه ما إن وقف على أوامر حكومته الأخيرة بصدد الجلاء عن الإسكندرية، حتى راح يحاول إرجاء إرسال هذه التعليمات إلى «فريزر» فترة من الوقت، حتى لا تتأثر مفاوضته تأثرًا سيئًا بسبب هذا الإجراء، واستمال إلى تأييده في هذا الرأي كلًّا من السير «جون مور» Moore الذي خلف «فوكس» في القيادة بصقلية وقتئذٍ، والأميرال كولنجوود. ويؤخذ من رسائل «باجيت» إلى «كولنجوود» في ١٠ يوليو، ثم إلى «كاننج» وزير الخارجية في ١٢ يوليو، ثم من الجنرال «مور» إلى «كاسلريه» وزير الحربية في ١٣ يوليو، ومن «كولنجوود» إلى «مور» في ١٩ يوليو، إن الأسباب التي استند إليها «باجيت» ووافق عليها الأخيران: تتلخص أولًا: في أن الأوامر التي صدرت إلى «فوكس» في ١٤ يونيو، إنما صدرت — حسب اعتقاده — تحت تأثير فكرة خاطئة هي تعذر الاحتفاظ بالإسكندرية، ثم عدم إفراغ صقلية من الجنود المتوقع استخدامهم في عمليات عسكرية ضد العدو في إيطاليا، فناقش هاتين المسألتين في كتابه إلى «كاننج» بإسهاب، مفندًا صحة الزعم الأول بدعوى أن الأخبار التي وصلت أخيرًا من «فريزر» إلى الجنرالين «فوكس» ومور تؤكد أنه صار في وسع «فريزر» الاحتفاظ بالإسكندرية، بالرغم من الصعوبات التي من المتوقع أن يصادفها هذا من جانب العدو، وذلك بفضل ما صارت تذخر به الإسكندرية من إمدادات من مختلف الأنواع، فضلًا عن أن تعليمات «كاسلريه» إلى «فوكس» في ٨ مايو، وتعد الحكومة بمقتضاها بإمداده بقوات أخرى إذا رأى من الملائم إنشاء مركز بحري بالاتفاق مع «كولنجوود» في إحدى جزر الأرخبيل، كإجراء يتطلبه حصار الدردنيل وميناء أزمير، من شأنها أن تعزز ما ذهب إليه «باجيت» من حيث إمكان الاحتفاظ بالإسكندرية؛ لأنه قد طلب إلى «فريزر» وقتئذٍ — كما قال «باجيت» — أن يفصل قسمًا من جيشه لاحتلال إحدى الجزر اليونانية إذا سأله «كولنجوود» أن يفعل ذلك، وأما فيما يتعلق بالمسألة الثانية، فإن الموقف في صقلية لا يمكن للأسف أن يبعث على الأمل في إمكان بدء أية عمليات عسكرية ضد العدو في مملكة نابولي في المدة المنتظر أن يجري في أثنائها سحب جنود «فريزر» من الإسكندرية ووصولهم إلى صقلية، حتى ولو فرض أن تأجل انسحابهم زيادة على المدة التي يتوقع «باجيت» إبقاءهم بها، وثانيًا: فإن انسحاب «فريزر» بجيشه من الإسكندرية سوف يفقده السلاح الوحيد الذي يستطيع الانتفاع به في الضغط على الباب العالي أثناء مفاوضته معه، وثالثًا: فإنه حتى يتسنى له تنفيذ تعليمات «كاننج» إليه في ١٨ مايو الخاصة بممتلكات البريطانيين المصادرة وأسراهم ومعتقليهم في تركيا، لا يجب حرمان «باجيت» من ميزة استمرار الإنجليز في احتلال الإسكندرية أثناء مفاوضته؛ لأن إرجاع الإسكندرية للدولة إذا فشل في مفاوضته من أجل السلام مع تركيا، سوف يكون حينئذٍ الثمن الذي به يمكن تحقيق إعادة أملاك البريطانيين إليهم، أو دفع تعويض لهم عنها، وإطلاق سراح أسراهم، لا سيما وأن الحصار المطلوب فرضه على الموانئ العثمانية، اللهم إلا إذا استثنينا الإسكندرية وحدها، لم يكن قد بدئ بعد، ورابعًا: أنه لا خطر على جيش «فريزر» بالإسكندرية إذا تأجل الإخلاء؛ لأن الجيش — كما قال «كولنجوود» — منذ عودته من رشيد والحماد إلى الإسكندرية قد تحسن موقفه باستمرار، حتى صرنا الآن القوة الوحيدة ذات الاحترام في مصر، فالباشا يخشاه، والبكوات المماليك يطلبون رضانا والعربان يظهرون نحونا قطعًا كل إخلاص ومحبة، والنكوص على أعقابنا الآن يطوح بالمفاوضات ويقضي عليها.

وعلى ذلك، فقد وجد الجنرال «مور» لزامًا عليه أن يبلغ «فريزر» أوامر حكومته بشأن الإخلاء مشفوعة بما قرَّ عليه رأيه هو و«باجيت» نفسه فور وصوله إلى جزيرة «تينيدوس» وبدء المفاوضة بالاشتراك مع المندوبين الروس مع مندوبي الباب العالي، فكتب إليه من «مسينا» في ١١ يوليو، يطلعه على فحوى تعليمات «كاسلريه» في ١٤ يونيو، والأسباب التي حدت بالسير «آرثر» إلى طلب تأجيل الإخلاء فترة من الزمن، ثم استطرد يقول: «وسوف تلاحظون وجوب الاحتفاظ بسرية هذه الأوامر عن الانسحاب من الإسكندرية، حتى تبلغكم تعليمات السير «آرثر باجيت»؛ لأنه لو عُلم العزم على إخلاء الإسكندرية قبل أوانه لبطل الغرض من تأجيل الإخلاء كلية؛ ولذلك فمن الواجب قبل كل شيء أن تظل ترتيباتك سرية، ولا تعدو تلك التي لا تثير أية شكوك من ناحية نوايانا الأخيرة، وتساعدك في الوقت نفسه على تنفيذ الإخلاء عند تقريره دون أي إبطاء»، ثم وجه إليه تعليماته بصدد الإجراءات اللازم اتباعها لنقل المهمات والعتاد البريطانية، على أن ينتظر تعليمات «باجيت» فيما يتعلق بتلك الخاصة بالحكومة العثمانية، أو التي حصل عليها عند استيلائه على الإسكندرية، ثم قال: «وإذا نجح «باجيت» في مفاوضته وعقد الصلح، فظني أن الإسكندرية سوف تسلم إلى الأتراك في حالتها الراهنة، أو التي كانت عليها عند استيلاء البريطانيين عليها، وأما إذا فشلت المفاوضات، فقد يكون في وسعك أن تصل إلى اتفاق مع الباشا محمد علي أو مع الأرنئود؛ لتسليم الأسرى الذين بأيديهم وكذلك المدافع وما إليها وما يكونون قد استولوا عليه، ولكنه يجب عليك مهما كانت الظروف أن تأتي بما قد تكون نصبته من مدافع بريطانية أو استخدمته من أدوات في أعمال التحصينات بالإسكندرية، وإذا ترك الأمر لتصرفك، ولا يكون هذا إلا في حالة واحدة؛ أي عند إخفاق المفاوضات التي يضطلع بها «باجيت»، فمن واجبك أن تبذل قصارى جهدك للوصول إلى أفضل مساومة نظير إطلاق سراح الأسرى وغير ذلك، وهذه الأوامر لا تحول بحال ما دون تنفيذ التعليمات التي أرسلها الجنرال «فوكس» لك بشأن فصل قوة ضعيفة من جيشك للاستيلاء على إحدى جزر الأرخبيل إذا وجد أمير البحر «كولنجوود» ذلك مناسبًا، ولك أن تفعل هذا إما فورًا وإما وقت الإخلاء حسبما تمليه ضرورات الموقف»، واختتم «مور» رسالته هذه بقوله: إن أوامر مشابهة من أجل إخلاء الإسكندرية سوف يبعث بها «كولنجوود» إلى الكابتن «هالويل» وإن على «فريزر» أن يطلعه على كل الأحوال على هذه المسألة سرًّا.

وأما السير «آرثر باجيت» فقد وصل إلى «تينيدوس» في ٢٨ يوليو، ولقي بها «بوزو دي بورجو» Pozzo di Borgo زميله الروسي في المفاوضة المنتظرة، وكان هذا موجودًا بها منذ ٢٤ مايو، كما وجد أسطولًا روسيًّا بقيادة «سنيافين» Seniavin يرسو عند هذه الجزيرة، وآخر بقيادة «جريج» Greig بالقرب من جزيرة «لابان» Lapins، ولحق به «كولنجوود» ببعض قطع الأسطول، وبدأ مفاوضته، ولكن سرعان ما اعترضت مفاوضته هذه صعوبات عدَّة حكمت عليها بالفشل، أهمها أن المندوب الروسي لم يظفر من الديوان العثماني بطائل، ثم لم تلبث أن جاءت الأنباء في ٢٣ أغسطس بأن نابليون قد عقد مع القيصر إسكندر الأول صلح «تلست» Tilst منذ ٧ يوليو، ووصلت الأوامر إلى «سنيافين» بوقف القتال ضد تركيا، فقصد أسطوله — وكان قد انضم إلى أسطول «كولنجوود» بناءً على رغبة الأخير بالقرب من جزيرة «إيمبرو» Imbro منذ ١٣ أغسطس — إلى «تينيدوس» إشارة إلى انفصال مصالح روسيا من الآن فصاعدًا عن مصالح بريطانيا، فبقي «باجيت» في مفاوضاته مع الأتراك منفردًا، أضف إلى هذا أنه على الرغم من الثورة التي حدثت في القسطنطينية، وأطاحت بعرش سليم الثالث — وهي الثورة التي سبقت الإشارة إليها — لم يطرأ تغيير على موقف الأتراك الذين ظلوا خاضعين كذلك في العهد الجديد لنفوذ فرنسا، وتمتع «سباستياني» السفير الفرنسي بنفوذ كبير في القسطنطينية، وعمد الأتراك إلى المراوغة والمماطلة في مفاوضتهم مع «باجيت»، مستندين دائمًا في ذلك إلى أنه لم يقع رسميًّا إعلان للحرب بين تركيا وإنجلترة، فلا داعي إذن للدخول في مفاوضة أو تعيين مندوبين لها من أجل البحث في استرجاع علاقات المودة والصداقة بينهم وبين الإنجليز، وأنه يكفي إخلاء الإسكندرية وانسحاب السفن الحربية الإنجليزية من السواحل العثمانية لعودة المياه إلى مجاريها، وتنفيذ المعاهدات القديمة بين الفريقين، وفضلًا عن ذلك فقد نفد صبر «كولنجوود» من مماطلة الأتراك وتسويفهم، وبخاصة عندما جاءت الأخبار من صقلية تنذر بأن الثورة على وشك الوقوع بها، وأن تغييرات هامة سوف تجري في البرتغال وإيطاليا لصالح الإمبراطور نابليون، وأن جيشًا فرنسيًّا كبيرًا يزحف صوب إيطاليا الجنوبية لطرد الإنجليز من صقلية، وأن جزيرتي «كورفو» و«كتارو» Cattaro قد حصل التنازل عنهما لفرنسا، وهكذا صارت صقلية مهددة بالسقوط في يد العدو، وهي التي حرص الإنجليز على التمسك بها، فكان لذلك كله أن أنذر «كولنجوود» الأتراك، ومن غير أن يستشير «باجيت» في ذلك في ٤ سبتمبر بضرورة وصولهم إلى قرار حاسم في بحر أسبوع واحد، فيما إذا كانوا يريدون حقًّا المفاوضة الجدية من أجل عقد الصلح مع الإنجليز وتجديد صداقتهم معهم.
ومع أن «باجيت» كان قد ساءه اتخاذ «كولنجوود» لهذه الخطوة دون استشارته، فقد نفد صبره هو الآخر مع الأتراك، وتبين له عبث الاستمرار على المفاوضة معهم، وكان «باجيت» وقت أن كان لا يزال الأمل يداعبه في إمكان نجاح مفاوضته معهم، قد بعث إلى «فريزر» من «إيمبرو» برسالتين في ٣٠ أغسطس، يطلب منه فيهما رسميًّا إنجاز استعداداته للتهيؤ لمغادرة الإسكندرية، وإخلائها عند أول سانحة، ولكنه ما لبث الآن أن صح عزمه على إرسال أوامره القاطعة في ١٦ سبتمبر إلى «فريزر»، يطلب منه الجلاء والانسحاب من الإسكندرية فورًا، وكان مبعث هذا الأخير أن «سنيافين» كان قد غادر بأسطوله «تينيدوس» إلى «كورفو» منذ ٦ سبتمبر، وذاعت الأخبار بأنه قد صار التنازل عن بعض سفنه إلى فرنسا، كما أن أخبارًا قد جاءت «مور» في صقلية في ١٥ سبتمبر، تفيد بأن الحالة بها قد تحرجت لدرجة تدعو لتجمع القوات الإنجليزية بها بكل سرعة، ولم يتردد «كولنجوود» لحظة بسبب هذه الأخبار عن الإبحار إليها في ١٦ سبتمبر؛ وعلى ذلك، فقد كلف «باجيت» الضابط «مورييه» Morier بالذهاب إلى الإسكندرية، يحمل أمره القاطع بالإخلاء إلى «فريزر»، ويحمل عدا ذلك رسالتين إلى باشا مصر محمد علي؛ إحداهما منه في ١٦ سبتمبر، والأخرى من القبطان باشا السيد علي بك الجزائري — ولم تكن المفاوضات قد توقفت بعد مع الباب العالي — يطلب «باجيت» والقبطان فيهما منه إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، وكان هذا هو كل ما أسفرت عنه مفاوضات «باجيت» الذي لم يلبث أن قطعها نهائيًّا في أكتوبر، وانتهت بذلك مهمته بالفشل.

وأما «مورييه» فقد بلغ الإسكندرية في ٢٢ سبتمبر، ليعلم أن «فريزر» قد تفاوض مع محمد علي، واستطاع الحصول على شروط مرضية جدًّا نظير الجلاء عن الإسكندرية، كما وجد أن إبحار الجنود البريطانيين قد بدأ فعلًا يوم وصوله إليها.

المرحلة الأخيرة

فقد تقدم كيف اعتبر «فريزر» غير معقولة وغير مفهومة، تلك المقترحات التي قدَّمها ترجمان محمد علي إليه في مايو ١٨٠٧، من أجل الصلح على أساس جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وتسليمها إلى محمد علي لقاء أن يطلق الباشا سراح أسراهم، وأن يعقد محالفة ضد أعدائهم وأعدائه على السواء من فرنسيين وعثمانيين، وأسفر جسُّ النبض في هذه المرحلة عن تيقن محمد علي أن الإنجليز لن يتنازلوا مختارين عن الإسكندرية، ولو أنهم يظهرون في الوقت نفسه ميلًا لاستئناف علاقات المودة والصداقة معه، ولم يغلقوا باب التفاهم والاتفاق على الأقل فيما يتعلق بمسألة إطلاق سراح أسراهم، ثم كيف أن محمد علي قد شغل بعد ذلك بإنجاز استعداداته من الناحيتين السياسية والعسكرية تهيؤًا للزحف على الإسكندرية، فتوقفت المفاوضات بينه وبين «فريزر»، واستمرت معطلة مدة، حتى إذا فرغ الباشا من تجهيزاته، وانتقل إلى إمبابة يوم ٨ أغسطس، حضر «ريفارولا» من جانب الجنرال «فريزر» لاستئناف المفاوضة معه.

وأما السبب الذي جعل «فريزر» يقرر المبادأة من جانبه في فتح باب المفاوضة هذه المرة مع محمد علي، فهو أن «فوكس» بعث إليه بالتعليمات التي أصدرها «كاسلريه» إلى هذا الأخير في ١٧ مايو، فوصلت هذه إلى «فريزر» في يوليو، وقد أجاب عليها هذا في ٢٤ يوليو، وكان أهم ما استرعى نظره منها احتوت عليه من تعليمات — كما قال — تبين احتمال حدوث الجلاء عن البلاد وإخلاء الإسكندرية، وتوصيه بضرورة عدم الارتباط بأية وعود غير حكيمة تسيء إلى شرف حكومته، وتكون سببًا في توريطها في نشاط قد يعوق سحب جيشها من البلاد عندما يصح عزمها على إصدار قرارها النهائي بالخروج من هذه البلاد.

وقد كان هذا التحذير الأخير كافيًا لأن يحمل «فريزر» على إرسال صورة طي رسالته السالفة الذكر إلى «فوكس» في ٢٤ يوليو من منشوره الأصلي الذي أذاعه عند هبوطه إلى الشاطئ المصري واستيلائه على الإسكندرية؛ لبيان الغرض من مجيء حملته إلى هذه الديار، ثم إرسال آخر ما وصله من كتب الرؤساء المماليك، كما أن الإشارة إلى احتمال إخلاء الإسكندرية وإلى أنه ليس في عزم حكومته امتلاك مصر، قد جعلته يبغي من ناحية أخرى جس نبض محمد علي، في خير الشروط التي يستطيع الظفر بها منه لقاء الجلاء عن الإسكندرية عندما يصدر إليه الأمر بإخلائها، وكما اتخذ محمد علي من مسألة تبادل الأسرى ذريعة لجسِّ نبض «فريزر» وبدء المفاوضة معه، فقد اتخذ هذا الأخير مسألة إطلاق سراح الأسرى الإنجليز ذريعة لاستئناف المفاوضة مع الباشا والوقوف على حقيقة نواياه نحو الإنجليز عمومًا، فعمد إلى إرسال «ريفارولا» إليه، والأخير من أصل كورسيكي، التحق بالخدمة في آلاي صقلية.

وقد وصل «ريفارولا» إلى معسكر الباشا في إمبابة — كما عرفنا — يوم ١٠ أغسطس، ولما كان محمد علي بالرغم من استعداداته لا يزال يؤثر — للأسباب التي بسطناها — الاتفاق مع الإنجليز على قتالهم، فقد رحب بهذه الفرصة المواتية لاستئناف المفاوضة معهم لعله يظفر باتفاق يُمكِّنه من الاستيلاء على الإسكندرية سلمًا، ويكسب بفضله صداقة الإنجليز والتحالف معهم، فأطلق أحد عشر مدفعًا تحيَّةً لقدوم هذا المفاوض الجديد، وأكرمه بإنزاله هو وصحبه في خيمة بمخيمه بإمبابة، واستعد للمفاوضة معه دون إبطاء، ولكنه سرعان ما وقع لهؤلاء حادث عاقهم عن مقابلة الباشا فورًا، ذكره الشيخ الجبرتي في حوادث ٥ جمادي الثانية ١٢٢٢ الموافق ١٠ أغسطس ١٨٠٧، فقال: «وفي خامسه حضر قابجي من طرف الإنجليز وصحبته أشخاص، فأنزلهم الباشا في خيمة بمخيمه بإمبابة فرقدوا بها ليأخذوا لهم راحة، وناموا، فلما استيقظوا فلم يجدوا ثيابهم، وسَطَا عليهم السُّرَّاق فشلحوهم، فأوصلوا إلى حارة الفرنساوية، فأتوا لهم بثياب وقفوات لبسوها.»

وقد اهتم «دروفتي» بهذه المفاوضات التي جرت في إمبابة، وحاول أن يقف على حقيقتها من الباشا الذي لم يشأ إطلاعه على تفاصيلها، لنفس الأسباب التي ذكرناها عند الكلام عن مهمة ترجمان محمد علي والكابتن «ديلانسي» في الإسكندرية، ولكن «دروفتي» الذي خشي من عواقب هذه المفاوضة وما سوف ينجم عنها من أذى يلحق بالمصالح الفرنسية إذا عقد الصلح بين الباشا والإنجليز، واستطاع هؤلاء استمالة محمد علي إلى تعزيز نفوذهم في مصر، لم يلبث أن أخذ يسعى بوسائله الخاصة لمعرفة ما دار بين الفريقين في إمبابة، ثم بعث بالمعلومات التي وقف عليها إلى السفير الفرنسي في القسطنطينية في رسالتين بتاريخ ١٦، ١٩ أغسطس.

وعلل «دروفتي» في رسالته الأولى السبب الذي حدا — في نظره — بالجنرال «فريزر» إلى إيفاد مندوبه إلى محمد علي، بأنه عدم تشدد الباشا في منع المؤن والمتاجر من الدخول إلى الإسكندرية؛ حيث أعطى «بتروتشي»، بوصفه قنصل السويد، تسهيلات عدة مكنته من إرسال مركبين إليها، وسقتا بالبضائع لحسابه، فشجع هذا القائد الإنجليزي على استئناف المفاوضة مع محمد علي، ثم ذكر «دروفتي» ما حدث فقال: إن الجنرال «فريزر» قد بعث مع مندوبه أي «ريفارولا» بكتاب يطلب فيه إطلاق سراح الأسرى الإنجليز في نظير التعهد بأن هؤلاء لن يحملوا سلاحًا بعد ذلك ضد تركيا طوال مدة هذه الحرب بين هذه الأخيرة وبين إنجلترة، وعلاوة على ذلك فقد أفهم محمد علي أن بوسعه المباحثة مع هذا الضابط في شروط الصلح التي تناسبه، وعرف «دروفتي» جواب الباشا على هذه المقترحات، وفحواه أن محمد علي قد اشترط كأساس للدخول في أية مفاوضة مع الإنجليز إخلاء هؤلاء للإسكندرية وجلاءهم عنها.

ولما كان «ريفارولا» قد أحضر معه قدحًا للقهوة مرصعًا بالماس هدية من «فريزر» إلى محمد علي، فقد أهدى هذا الأخير القائد الإنجليزي أربعة خيول مطهمة، ولم يشأ الباشا غلق باب المفاوضة، كما أنه أراد من جهة أخرى إشعار «ريفارولا» بأنه مصرٌّ على انتزاع الإسكندرية عنوة من أيدي الإنجليز إذا رفض هؤلاء تسليمها إليه طوعًا، فقال: إن هؤلاء سوف يتلقَّون منه جوابًا أخيرًا على مقترحاتهم لدى وصوله إلى دمنهور، وفي ١٧ أغسطس غادر «ريفارولا» إمبابة عائدًا إلى الإسكندرية.

واستطاع «دروفتي» أن يحصل على معلومات أوفى عن هذه المفاوضة لم يلبث أن بعث بها إلى «سباستياني» في ١٩ أغسطس، وكان في رسالته هذه أن شكا «دروفتي» من تحذر الباشا وحيطته في أحاديثه معه، وامتناعه من إخبار «دروفتي» بحقيقة الرد الذي أجاب به على مقترحات الجنرال «فريزر» حتى إن «دروفتي» صار يسعى بوسائله الخاصة — كما قدَّمنا — لمعرفته، وقد تكللت جهود «دروفتي» بالنجاح لدرجة أنه استطاع ليس الوقوف على تفصيلات هامة لما جرى في إمبابة فحسب، بل وكشف البواعث — كذلك — التي جعلت الباشا راغبًا في الاتفاق مع الإنجليز ومحالفتهم، ولبيانات «دروفتي» هذه التي بعث بها إلى «سباستياني» أهمية أخرى كبيرة؛ أولًا: من حيث إنها تكشف كذلك عن تقصير حكومته في تزويده بالتعليمات التي كان يلح في المطالبة بها، الأمر الذي اتخذ منه خصومه السياسيون في هذه البلاد سبيلًا لتجريحه والطعن عليه لدى محمد علي، ثم إن هذه البيانات ثانيًا: توضِّح الطريقة التي عالج بها القنصل الفرنسي ما قد يترتب على الاتفاق، إذا تمَّ بين محمد علي و«فريزر» من نتائج متصلة بوضع الباشا السياسي في علاقاته مع الباب العالي من ناحية، ومع الدول الأجنبية من ناحية أخرى.

فقد بدأ «دروفتي» بياناته هذه بقوله: إن جوابه على مقترحات القائد الإنجليزي كان مفرغًا في عبارات فحواها أنه لم يفقد الأمل بتاتًا في إمكان الوصول إلى اتفاق مع الإنجليز على الرغم من غزوهم لأرضه، وأنه يوافق على تسليم أسراهم إليه بشريطة أن يجلوا عن الإسكندرية، وأنه بمجرد التفاهم على هذا الاتفاق المبدئي، يشرع في المفاوضة معهم للوصول إلى اتِّفاق تجني منه السياسة الإنجليزية ومصالح الأمة الإنجليزية التجارية في مصر فوائد عظيمة، ثم استطرد «دروفتي» يقول إنه علم أن الباشا في مقابلته الأخيرة مع «ريفارولا» قد قدم له دليلًا على رغبته في عودة السلام هو أنه ترك دائمًا المؤن تأتي إلى الإسكندرية بواسطة طرق كان في وسعه إغلاقها، ثم إنه صرح له بأنه ينبغي أن تسود العلاقات الطيبة بينه وبين جميع الدول الأوروبية ما دامت هذه لا تقترب من مملكته؛ أي لا تريد به شرًّا، ثم إنه جعل «ريفارولا» يدرك أنه (أي الباشا) يدخل في مشروعاته استدعاء جيش فرنسي لنجدته إذا وجد أنه يعجز عن الاستيلاء على الإسكندرية بالقوات التي لديه فقط.

وأما «ريفارولا» فقد ذكر «دروفتي» أنه جعل الباشا يأمل في إمكان الوصول إلى اتفاق مع «فريزر»، وأكدَّ له أنه سوف يعود لمقابلته بمجرد أن يقترب من الإسكندرية.

وعلَّق «دروفتي» نفسه على هذه المعلومات التي ظفر بها بقوله: «وهكذا يتضح أن تسليم الأسرى لم يكن في واقع الأمر إلا حجة تذرع بها «ريفارولا» للقيام بمهمته التي غرضها الحقيقي جسُّ نبض الباشا لمعرفة نواياه الصحيحة، وما إذا كان لا يزال مصممًا على التمسك بتلك الأغراض التي ذكرها ترجمانه أثناء مباحثاته مع القائد الإنجليزي في شهر مايو.

ولا شك أن الباشا قد لقي تأييدًا في هذه المفاوضة من جانب القنصلين: الإنجليزي والروسي، «روشتي» و«بتروتشي»، ولما كان هذان قد نجحا في استمالة كل أفراد حاشية محمد علي، وخصوصًا الترجمان الذي اشترياه بالمال، فلا يبعث على الدهشة أنهما نجحا كذلك في جعل الباشا يقبل المشورة التي أظهرت الوصول إلى اتِّفاق وتسوية مع الإنجليز كخير وسيلة لتحقيق ذلك الاستقلال الذي يصبو إليه، وأما فيما يتعلق بهذا الموضوع الأخير، أجد من واجبي أن أذكر لكم أن هذا الباشا لم يتردد بتاتًا في إفهامي، أنه إذا استطاع طرد الإنجليز من مصر، فسوف يأمل حينئذٍ نظير دفع خراج سنوي إلى الباب العالي في الحصول من هذا الأخير على قدر من التحرر من سلطانه مشابه لذلك الذي تمتع به أوجاقات الغرب.»

وكان من رأي «دروفتي» أن نجاح المفاوضات بين محمد علي والجنرال «فريزر» ليس بالأمر العسير؛ لأسباب عدة، منها: أن القائد الإنجليزي يذكر دائمًا في اتصالاته مع محمد علي أن حكومته قد أرسلته إلى مصر لغرض واحد فقط، هو منع الفرنسيين من النزول بها، ثم إن الوزير الإنجليزي الجديد (والمقصود هنا «كاسلريه») وهو الذي يقال عنه إنه قد رفع عقيرته بعدم الموافقة على هذه الحملة — يشعر بأن إرسال جند إلى مصر من شأنه تزويد أكثر من دولة بالأسباب التي سوف تتذرع بها لطرد الإنجليز منها، ويفيد محمد علي من هذه الظروف كثيرًا، حتى إنه كثيرًا ما هدد القائد الإنجليزي بأنه سوف يطلب من الإمبراطور نابليون نجدة، يستعين بها لإخراج الإنجليز من الإسكندرية، أضف إلى هذا كله الصعوبات التي تصادفها الحكومة الإنجليزية في نقل قوات كبيرة إلى مصر، حتى ولو كان ذلك لتعزيز حامية الإسكندرية فحسب، بصورة تبعث على الاحترام، وهي قوات تنقص يوميًّا بسبب قسوة المناخ، ولا سبيل لسد هذا النقص من جراء ما يقع من حوادث ذات شأن عظيم في أوروبا، تتطلب قبل كل شيء آخر عناية الإنجليز التامة بها، ومن المتوقع أن تجعل معركة «إيلاو» Eylau — في ٨ فبراير ١٨٠٧ — وما ترتب عليها من نتائج إنجلترة الغادرة تشعر بأنه قد حان الوقت الذي صار لزامًا عليهم فيه ألَّا يقصروا فتوحاتهم على ما يتناسب مع ما لديهم من قوات برية، وهذه الأسباب — في رأي «دروفتي» — هي التي جعلت الوزارة الإنجليزية تجد مفيدًا لها إنشاء الصلات الطيبة مع محمد علي، وهي صلات توفي الغرض منها، هذه اللحظة بذاتها، إن لم يكن بصورة أفضل وأكمل من تلك التي أرادتها الوزارة الإنجليزية القديمة مع البكوات المماليك.

وتكلم «دروفتي» عن أهمية الاتفاق المنتظر بين محمد علي و«فريزر» فقال: «وواقع الأمر سوف ينطوي على إخلاء الإسكندرية بناءً على اتفاق هو من نوع معاهدة (مبرمة بين محمد علي والإنجليز) على الاعتراف بذلك الاستقلال الذي يبغيه الباشا، وسوف يضمن عند الحاجة تزويده بالنجدات اللازمة لقتال العدو المشترك، وببعض المنح المالية لسد مطالب جيشه، ومن ناحية أخرى فإن هذا الاتفاق سوف يزود الإنجليز بالوسائل التي تمكنهم من تموين مالطة وأساطيلهم في البحر الأبيض، فضلًا عن تأمين حرية العلاقات التجارية بين مصر وإنجلترة وحماية التجارة الإنجليزية في هذه البلاد، وتسهيل المواصلات مع الهند وغير ذلك، وإنه ليبدو لي أن مثل هذه المعاهدة عند إبرامها سوف تحقق الأغراض التي توخاها الإنجليز من إرسال حملتهم على مصر أي حملة «فريزر»، إن لم يفُق أثرها من هذه الناحية على ما كان يتوقعه هؤلاء من إرسال هذه الحملة.»

واعتقد «دروفتي» أن الباشا سوف يقبل يقينًا الاتفاق مع الإنجليز بسبب ميوله التي لاحظها نحو الاستقلال، فقال: «ويبدو أن كل ما ذكرته من طموح محمد علي ومشاريعه الاستقلالية من شأنه أن يؤيدني فيما ذهبت إليه من حيث عدم استبعاد قبول الباشا للمقترحات التي عرضها عليه الإنجليز طبقًا للخطة التي رسمت لكم خطوطها إجمالًا»، ومع ذلك، ومهما كانت الأحوال والظروف فقد أخذ «دروفتي» على عاتقه — كما ذكر في رسالته هذه — أن يبذل قصارى جهده لعرقلة مساعي الإنجليز أعداء فرنسا، وإبطال مشروعاتهم، ثم كان عندئذٍ أن راح «دروفتي» يشكو من الوضع الذي أوجدته به حكومته من جراء عدم إرسالها تعليماتها إليه، فقال: «ومن الوسائل التي يعتمد عليها «روشتي» و«بتروتشي» وأمثالهما في النَّيل من سمعته والحطِّ من شأنه لدى محمد علي، قولهما أن «دروفتي» لم يصله أي خطاب من وزيره بينما تصل الرسائل باستمرار إلى «روشتي» من حكومته، بل وكثيرًا ما يأتي بها إليه ططري خاص، الأمر الذي ينهض دليلًا — كما يقولون — على أن «دروفتي» وكيل لا يكاد يكون لآرائه أي وزن لدى حكومته، ولا يستحق لذلك أن يكون أهلًا لوضع أي ثقة فيه.»

تلك إذن كانت المعلومات التي جمعها «دروفتي» عن مفاوضات إمبابة، وتعليقاته عليها، ولعل أبرز ما ذكره «دروفتي» في رسالته هذه بالنسبة للدوافع التي تجعل محمد علي في نظره راغبًا في الاتفاق مع الإنجليز، ميول الباشا الاستقلالية التي فسرها القنصل الفرنسي بمسعى محمد علي من أجل الحصول على وضع مشابه لذلك الذي تتمتع به وجاقات الغرب، في علاقاتها مع الباب العالي، والمعروف عن هذه أنها كانت تخضع خضوعًا اسميًّا للسلطان العثماني، ولا يتدخل هذا في شئون الحكم بها، على نحو ما سيأتي ذكره مفصلًا في موضعه.

ومن الواضح أن الباشا، وهو الذي لم يركن كثيرًا إلى إمكان الظفر بهذا الوضع الذي يريده من الباب العالي بسهولة، كان يجد في مؤازرة الإنجليز له خير ضمان لبلوغ هذه الغاية، طالما قد رضي بالتعاون معهم ضد فرنسا لمنعها من غزو مصر، فاعتبر الأتراك — حلفاءها وقتئذٍ وأعداء الإنجليز — أعداءه كذلك، ويترتب على محالفته نفسه مع الإنجليز أن يبادر هؤلاء بإبطال أية محاولة قد يقوم بها الباب العالي لإخراجه من الحكم في مصر، وثمة مزية هامة أخرى لم يفت إدراكها «دروفتي» أيضًا هي أن حصول الاتفاق مباشرة بين محمد علي وبين الإنجليز، وسواء قبل الأخيرون المحالفة معه أو رفضوها، من شأنه ما دام قد حدث عن غير طريق الباب العالي صاحب السيادة الشرعية عليه، وصاحب هذه البلاد قانونًا، أن يمهد للاعتراف بذلك الوضع الممتاز الذي أراده محمد علي لباشويته في مصر على غرار باشويات أو نيابات وجاقات الغرب، وكان عقد المعاهدات من السلطات التي مارستها هذه الأخيرة في ممارسة شئونها وفي علاقاتها مع الدول الأجنبية.

وقد سهل على «دروفتي» جمع هذه المعلومات التي ذكرها في رسالتيه هاتين، زيارته للباشا في معسكره بإمبابة مع المشايخ والعلماء وأعيان القاهرة، و«روشتي» يوم ١١ أغسطس لتحية محمد علي الذي أقام احتفالًا وعمل شنكًا مساء يوم ٢٠ أغسطس، ثم أصدر أمره بالرحيل صوب دمنهور في صبيحة اليوم التالي، وبدأ جيشه بالزحف إليها وفي طريقه إلى الإسكندرية قريب الزوال يوم ٢١ أغسطس.

وحدث عند وصول الباشا إلى الرحمانية أن بعث يطلب الشيخ إسماعيل عبد اللطيف شيخ دسوق وصاحب الرسالة المعروفة إلى الجنرال «ستيوارت» في ١٦ أبريل أثناء حصار الإنجليز لرشيد في هجومهم الثاني عليها، فأرسل إليه طائفة من العسكر، فلما أتوا إليه امتنع، وقال: ما يريد الباشا مني؟ أخبروني وأنا أدفعه إن كان غرامة أو كلفة، فقالوا: لا ندري، وإنما أمرنا بإحضارك، فشاغلهم بالطعام والقهوة، ووزع بهائمه وحريمه والذي يخاف عليه، وفي الوقت وصلت مراكب وبها عساكر وطلعوا إلى البر، فركب شيخ البلد خيوله وخيالته واستعد لحربهم، وحاربهم وأبلى معهم، وقتل منهم عدة كبيرة، ثم ولى هاربًا، فدخل العسكر إلى البلد ونهبوها، وأخذوا ما وجدوه في دور أهلها، وكان انتقام الأرنئود شديدًا من خيانة الشيخ وعصيانه، فعبروا مقام السيد الدسوقي، وذبحوا من وجدوه من المجاورين، وفيهم من طلبة العلم العواجز.

ومنذ ٢ سبتمبر كتب «دروفتي» من القاهرة إلى «سباستياني» أن الإنجليز بالإسكندرية يستعدون لإخلائها، وأن محمد علي قد اتخذ مقره العام بدمنهور، وأنه استطاع قبل هذا التاريخ القيام بعمليات استطلاعية حتى القطع أو الحد الذي بين بحيرتي المعدية ومريوط، ولو أن الإنجليز قد قابلوه بإطلاق المدافع عليه من زوارق مدفعيتهم الواقفة في هاتين البحيرتين.

على أن الباشا عندما دخل إلى دمنهور وجد في انتظاره بها رسولًا موفدًا من قبل الجنرال «فريزر» يسأله جواز مرور لضابط من رتبة عالية يذهب إلى دمنهور للمفاوضة مع سموه في أمور على غاية من الأهمية، وبعبارة أخرى للاتفاق على شروط الجلاء عن الإسكندرية.

(٣) اتفاق الجلاء عن الإسكندرية

فقد تسلم «فريزر» في ٣٠ أغسطس التعليمات التي بعث بها إليه السير «جون مور» من «مسينا» في ١١ يوليو، وفيها يخبره — كما علمنا — بضرورة الاستعداد منذ الآن لإخلاء الإسكندرية حتى يتسنى تنفيذ ذلك فورًا بمجرد سماعه من السير «آرثر باجيت»، ويرجو إذا فشلت مفاوضات «باجيت» مع الأتراك أن يتمكن «فريزر» من الوصول إلى اتفاق مُرضٍ مع محمد علي والأرنئود على أساس تسليم الإسكندرية إلى هؤلاء في نظير تسليم الأسرى الإنجليز، وما يكونون قد استولوا عليه من مدافع ومهمات أثناء حربهم مع جيش «فريزر».

فكان بناءً على هذه التعليمات أن شرع «فريزر» ينقل العتاد الثقيل وسائر المهمات التي لا تدعو الحاجة إليها إلى السفن سرًّا ودون أن يثير أية شكوك — كما قال — في أذهان السكان من ناحية أغراض الإنجليز ونواياهم، ولو أنه اضطر في الوقت نفسه إلى إبقاء بعض المهمات الضرورية لاستخدامها في عمليات الميدان والدفاع عن الإسكندرية؛ لأن الباشا كان قد أحضر إلى دمنهور وقتئذٍ قسمًا كبيرًا من قواته التي بالقاهرة لتحقيق الغرض الذي أعلن عنه، وهو غرض لا يدل على حكمة كبيرة، من حيث تجريدنا من الإسكندرية.

ثم إن «فريزر» لم يلبث أن تسلم يوم ٣ سبتمبر رسالتي «باجيت» المحررتين من جزيرة «إيمبرو» في ٣٠ أغسطس، يطلب هذا فيهما منه التهيؤ للانسحاب من الإسكندرية فور وصول الأمر إليه بذلك، وقد ذكر له «باجيت» الأسباب التي دعته إلى إصدار تعليماته هذه إلى «فريزر» وهي — كما ذكرنا — توقعه الوصول قريبًا إلى إبرام معاهدة مع الباب العالي سوف تكون نتيجتها المباشرة إخلاء مصر، على أن «باجيت» لم يلبث أن ذكر في إحدى رسالتيه هاتين أنه يعتقد عمومًا أن الواجب يقتضي «فريزر» عدم إضاعة وقت طويل على الأقل في بدء عملية إنزال الجند إلى السفن استعدادًا للرحيل، ثم أضاف أنه لا مانع من أن يستعين «فريزر» بالمعلومات التي ذكرها له بشأن مفاوضاته مع الباب العالي، وتأكيد القبطان باشا له بأن الأسرى الإنجليز سوف يُطْلق سراحهم فورًا، في تدبير الوسيلة التي يراها هو أكثر ملاءمة وأجدى نفعًا في تنفيذ الوعد الذي أعطاه القبطان باشا لصالح الأسرى البريطانيين.

ولما كان «ريفارولا» قد عاد من مفاوضته مع محمد علي في إمبابة يحمل للقائد الإنجليزي تصميم الباشا على ضرورة جلاء الإنجليز عن الإسكندرية قبل أي اتفاق يعقد بينه وبينهم سواء بشأن أسراهم أو بشأن غير ذلك من الأمور، فقد صحَّ عزم «فريزر» بوصفه قائد القوات البرية و«هالويل» بوصفه القائد البحري بالإسكندرية على الاستجابة لرغبة محمد علي، والموافقة على إخلاء الإسكندرية لقاء تسليم الأسرى البريطانيين من جهة، وإصدار عفو شامل من جانب محمد علي عن أهل الإسكندرية، وكل أولئك الذين عاونوا الإنجليز من أهل البلاد أثناء حملتهم.

وكان مبعث هذا الشرط الأخير أن الإسكندريين سرعان ما أفزعهم تقرير الإنجليز الانسحاب من الإسكندرية، وصاروا يخشون انتقام الباشا منهم، إذا سلمت إليه مدينتهم بعد مناصرتهم لأعدائه، واستبد بهم الفزع على وجه الخصوص من توقع ما سوف يلقونه على أيدي الأرنئود عند دخولهم إلى مدينتهم من اعتداء على أرواحهم وأموالهم، وتعريض مدينتهم لكل ضروب السَّلب والنَّهْب التي اشتهر عن الأرنئود اقترافها في كل مكان يحلُّون به، لا سيما وأنهم كانوا قد منعوهم من الدخول إلى الإسكندرية للدفاع عنها، ومكنوا بدلًا من ذلك للإنجليز احتلالها، وصاروا الآن لا يرون خلاصهم إلا في بقاء هؤلاء بمدينتهم أو تسليمها إلى حامية عثمانية، لا يتوقعون أن تعصف بهم.

وتصدى للدفاع عن الإسكندريين وعن قضيتهم كل من «هالويل»، و«فريزر» و«مسيت»، وعقدوا آمالًا كبيرة على أن «باجيت» في مفاوضاته مع الباب العالي سوف يتسنَّى له اشتراط تأمين هؤلاء على سلامة أرواحهم وأموالهم وإنقاذهم من انتقام الأرنئود منهم، فكتب «هالويل» إلى «كولنجوود» في ٢٠ أغسطس أنه قد أدهشه عند عودته إلى الإسكندرية أمس بعد تغيبه عنها ثلاثة أيام في أبي قير أن يجد حالة من الاضطراب والفزع تَسُود المدينة على أثر رواج إشاعة بأن الجنود البريطانيين سوف يخلون مصر، ولا يمكن وصف الرعب الذي استولى على أهل الإسكندرية، كما استبد بهم لدرجة اليأس الخوف من التخلي عنهم؛ ليقعوا فريسة لغضب الأرنئود الجنوني، ويبدو أن سبب ذيوع هذا النبأ عن رحيلنا هو ما اتبع في إنزال المهمات والعتاد من كل الأصناف إلى السفن في سرعة غير حكيمة ودون إخباري، كما كانت علائف الفرسان من بين الأشياء التي نقلت إليها، فضباط الجيش يتحدثون في ثقة عن انتظار الرحيل فورًا، وكان من نتيجة الإجراءات السالفة الذكر على يد المسئولين في الحملة أن باع الضباط خيولَهم وحميرَهم، وابتاعوا المواشي تهيؤًا لنقلها على ظهر سفن النقل وأخذها معهم، ولما كان السكان قد شاهدوا هذه الاستعدادات فقد هاجت خواطرهم بالضرورة وسيطر عليهم الفزع؛ ولذلك فقد وجدت من جانبي أن أبعث إليكم فورًا بالسفينة الحربية «أبولو» لأبلغكم مخاوف أهل الإسكندرية ورغائبهم.

فهؤلاء إنما ترغبهم في حالة إبرام الصلح بين إنجلترة وتركيا فكرة التَّخلِّي عنهم دون اشتراط شيء في صالحهم، ويرتعدون خوفًا من مغادرتنا لهذه البلاد قبل أن تأتي حامية من القسطنطينية لتسلم المدينة وقلاعها؛ حتى تحميهم من غضب الأرنئود وتهورهم، وهم (أي الأرنئود) الذين لا يمكن بحال تهدئة غضبهم هذا على أهل الإسكندرية بسبب ما أظهروه من ولاء ومحبة لنا؛ ولذلك فرجائي ألَّا أكون قد تجاوزت حدود واجبي إذا أبديت لكم ما أعقده من آمال كبار وباهتمام زائد على إمكان الوصول إلى ترتيب في حالة عقد الصلح مع تركيا، يتسنى بمقتضاه للجنود البريطانيين عدم مغادرة الإسكندرية حتى تصل إليها حامية عثمانية من القسطنطينية لتحل محلهم، وهذا كل ما يرجوه أهل الإسكندرية التعساء، ولا جدال في أنه يحق لهم بفضل ما أظهرناه نحن من ضروب الصداقة، وأكدناه بتصريحاتنا لهم أن يتوقعوا منا العناية بأمرهم. وأيد «كولنجوود» كل ما طلبه «هالويل».

وأما «فريزر» فقد كتب في اليوم نفسه إلى السير «آرثر باجيت» أن «هالويل» قد أبلغه هذه اللحظة بعزمه على إرسال إحدى سفنه فورًا إلى «كولنجوود» لإحاطته علمًا بمقدار الفزع الذي ساد بين الإسكندريين نتيجة لذيوع الخبر عن عزم البريطانيين على إخلاء البلاد والجلاء عن الإسكندرية، ثم راح يؤيِّد رجاء «هالويل» في ضرورة إرسال حامية عثمانية إلى الإسكندرية عند عقد الصلح مع الباب العالي، حتى تتسلم المكان من البريطانيين، وتحول بذلك دون تعرض الإسكندريين لغضب الأرنئود وانتقامهم منهم.

وأما «مسيت» فقد أبدى نشاطًا كبيرًا في هذه الأزمة، وراح يجمع إمضاءات أكبر عدد ممكن من أعيان ووجوه الإسكندرية على مذكرة من سكان الإسكندرية إلى السير «آرثر باجيت»، يطلبون فيها نفس المطالب التي ذكرها «فريزر» و«هالويل» في كتابيهما إلى «باجيت» و«كولنجوود»، ثم شفع «مسيت» هذه المذكرة بكتاب منه إلى «باجيت» بتاريخ ٢٢ أغسطس، يشرح فيه له مقدار الرعب الذي استولى على أهل هذه المدينة من جرَّاء توقعهم إخلاء الجيش البريطاني لها، ثم راح يذكر لباجيت بعض الحوادث التي قد يجهلها هذا تنويرًا له في هذه المسألة، منتهزًا هذه الفرصة في الوقت نفسه للحملة على محمد علي، فقال إنه كان بفضل ما لدى حاكمها أمين أغا من آراء حرة أن حفظت الإسكندرية من الكوارث التي ترتبت على سقوط مصر في قبضة الأرنئود الذين استولوا على حكومتها ضد رغبات الباب العالي، ولقد حاول محمد علي في السنوات الماضية الاستيلاء على الإسكندرية، ولقي في ذلك معاونة كبيرة من الوكلاء الفرنسيين، حيث يستحيل عليه بدون الإسكندرية تحقيق مشروعاته التي يبغي منها جعل نفسه مستقلًّا عن الباب العالي، ولم يمنعه من بلوغ مأربه، ويحد من أطماعه سوى نوايا أمين أغا الطيبة، وكتابات الأهلين إلى الباب العالي، حتى إذا أعلنت روسيا الحرب على تركيا اعتقد محمد علي أن الفرصة قد سنحت لإدخال حامية من الأرنئود إلى الإسكندرية، ولكن الإسكندريين قاوموا ذلك، فإنهم ما إن علموا أنه قد صار إرسال جماعة من الأرنئود إلى رشيد مأمورين بالذهاب إلى الإسكندرية، حتى هبَّ الإسكندريون يتسلَّحون دون إبطاء، وأظهروا عزمهم على الدفاع عنها إلى النهاية، وكان في هذا اليوم نفسه أن ألقت القافلة الإنجليزية بمراسيها بالقرب من الميناء الغربية، وهبط الجنود إلى البر في الليل التالي دون مقاومة، ثم سلمت الإسكندرية إلى ألف ومائة رجل من غير مدفعية، وقد ترتب على ذلك كله أن صار الإسكندريون مكروهين من محمد علي ورجال بطانته، ولا شك في أنهم سوف يتعرضون لكل صنوف القسوة والوحشية إذا استولى الباشا ورجاله على مدينتهم، ثم إن «مسيت» لم يفته تحريك مخاوف «باجيت» — وشأنه في هذا شأن سائر مواطنيه — من استعلاء النفوذ الفرنسي في هذه البلاد، وغزو الفرنسيين لها، فقال في ختام رسالته إنه يدهشه إخلاء الإسكندرية والحرب لا تزال دائرة مع فرنسا، فضلًا عن أن وجود الأرنئود وحكومة محمد علي في مصر سوف يفضي إلى تفوق النفوذ الفرنسي بدرجة عالية جدًّا، يصبح معه من الخطر حتى سكنى البريطانيين في مصر.

وحمل مذكرة الإسكندريين ورسالة «مسيت» هذه إلى السير «آرثر باجيت» أمين بك الألفي، أحد رسل شاهين الألفي إلى «فريزر» في الإسكندرية أثناء شهري يونيو ويوليو، وكان البكوات قد أوفدوه لمقابلة السفير الإنجليزي، يطلب وساطته لدى الباب العالي في صالحهم، فوصل إلى «تينيدوس» في أول أكتوبر، وقابل «باجيت»، وسلَّمه المذكرة وكتاب «مسيت» له.

وأما رسالة «فريزر» إلى «باجيت» ورسالة «هالويل» إلى «كولنجوود»، فقد حملتهما السفينة أبولو إلى جزيرة «إيمبرو»؛ حيث كان لا يزال بها «باجيت»، فتسلمها هذا مساء يوم أول سبتمبر، ولقيت أقوال «فريزر» و«هالويل» قبولًا لديه، وقرر بعد تبادل الرأي مع «كولنجوود» إلغاء الأمر الذي كان قد أصدره يوم ٣٠ أغسطس بشأن المبادرة بالإخلاء فورًا، وهو الأمر الذي وصل إلى «فريزر» بالإسكندرية يوم ٣ سبتمبر — كما عرفنا — ولكن «باجيت» لم يَلْبَث أن أضاف إلى ذلك قوله إنه لما كان يدرك تمامًا ما هنالك من ضرورة قصوى لتعزيز الجيش الموجود بصقلية ونجدته بكل القوات الممكنة، فإنه يطلب إليه أن يبعث إلى صقلية بأكبر قسم من جيشه، ويؤكِّد له في الوقت نفسه أن «كولنجوود» سوف لا يسأله إرسال أية قوات مما لديه إلى جزر الأرخبيل، وعلاوة على ذلك، فقد ترك لفريزر حرية التصرف في اختيار أجدى الوسائل التي يمكن بها استمالة محمد علي إلى إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، ووعد في ختام رسالته بالاهتمام بأمر الإسكندريين، واستخدام كل نفوذه في صالحهم، إذا جرت المفاوضات بينه وبين الحكومة العثمانية بصورة أكثر انتظامًا مما حدث حتى هذا الحين.

على أن إلغاء أمر الإخلاء الذي كان مبعثه الاهتمام بالإسكندريين وإنقاذهم من غضب الأرنئود، لم يبطل استعدادات «فريزر» للجلاء عن الإسكندرية، أو يثنيه عن عزمه في المضي في مفاوضته مع محمد علي؛ وذلك لأن إلغاء أمر الإخلاء وصل «فريزر» يوم ٦ سبتمبر، وكان هذا فور وصول تعليمات «باجيت» الأولى إليه قبل ذلك بثلاثة أيام، قد أوفد رسولًا إلى محمد علي بدمنهور يطلب — كما عرفنا — جواز مرور لضابط يذهب إلى معسكر الباشا لإبرام الصلح معه، ثم إنه كان قد وضع بالاشتراك مع «هالويل» منذ ٥ سبتمبر مسودة الاتفاق المزمع عقده، وعين الميجور «ريفارولا» لحمل هذه المسودة إلى دمنهور والمفاوضة مع الباشا بصدد الشروط التي تضمنتها، بل أن «ريفارولا» كان قد بدأ رحلته فعلًا إلى دمنهور عندما تسلم «فريزر» تعليمات «باجيت» الأخيرة بشأن إلغاء الأمر السابق بالإخلاء؛ ولذلك فقد جاءت هذه التعليمات متأخرة وبعد فوات الوقت — على حدِّ قول «فريزر» — وصار لا يسعه الآن النكوص على عقبيه، بعد أن قطع شوطًا كبيرًا في مفاوضته مع الباشا، ومهما قويت رغبته في تناول المسائل التي ذكرتها تعليمات «باجيت» الأخيرة ومعالجتها بكل عناية.

ولكنه لما كان «فريزر» و«هالويل» نفساهما قد اهتما بمسألة الإسكندريين، وحرصا على إنقاذهم من انتقام الأرنئود منهم، فقد ضمنا الشروط التي عزما على عرضها على محمد علي في المسودة التي حملها «ريفارولا» إليه شرطًا يكفل حماية الإسكندريين وتأمينهم على أرواحهم وأملاكهم عند جلاء الإنجليز عن مدينتهم واحتلال الأرنئود لها.

وأما الشروط التي اقترحها «فريزر» و«هالويل» على الباشا، فقد كانت أربعة، صِيغَت في العبارات الآتية:
يتعهد الميجور جنرال «فريزر»، والكابتن «هالويل»، قائد قوات جلالة الملك البريطاني البرية والبحرية، بإخلاء مدينة وموانئ الإسكندرية وفق الشروط التالية:
  • أولًا: يطلق فورًا سراح جميع أسرى الحرب البريطانيين في مصر، بما في ذلك كل أولئك الذين قد يكونون رقيقًا في أيدي الأفراد، ويرسلون بطريق النيل حتى بوغاز رشيد؛ حيث يجري إنزالهم هناك في سفينة تنقلهم من هذه البلاد.
  • ثانيًا: يصدر عفو عام عن سكان الإسكندرية وغيرهم من أهل البلاد، دون نظر إلى الماضي فيما يتعلق بمسلكهم السابق في أي شيء منه، ويؤمنون على أرواحهم وأموالهم؛ حيث إن الضرورة وحدها هي التي اضطرتهم إلى اتخاذ الطريق الذي سلكوه.
  • ثالثًا: وإذا قامت صعوبات أو وجدت شكوك تستلزم تفسيرًا لتذليلها وإزالتها، أو إذا قبل سمو والي مصر هذه المعاهدة بحذافيرها، فسوف يبعث الميجور جنرال «فريزر» في كلا الحالين بالميجور جنرال «شربروك» التالي له في القيادة، أو أي ضابط آخر مساوٍ له (أي لفريزر) في الرتبة لمقابلة الباشا في أي مكان يعينه سموه بين القطع (بين بحيرتي المعدية ومريوط) ودمنهور، مزودًا بالسلطات التي تمكنه من إعطاء التفسيرات اللازمة لإزالة ما قد ينشأ من صعوبات، وإبرام المعاهدة أخيرًا.
  • رابعًا: يعلن الطرفان وقف القتال فور الموافقة على هذه الشروط، ويسمح لأحد ضباط الباشا من ذوي الرتب العالية بالمجيء هو وأتباعه إلى الإسكندرية لإتمام الترتيبات الضرورية.
وقد حمل «ريفارولا» هذه المقترحات إلى دمنهور، ومع أن الباشا قد قبلها فورًا من حيث الأساس الذي قامت عليه، وهو جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وتسليمهم إياها له لقاء إطلاق سراح الأسرى، فقد أثيرت بعض المسائل المتعلقة بتفاصيل الاتفاق النهائي، وطلب الباشا قدوم «شربروك» للبحث في تسويتها، فأوفده «فريزر» إليه وبصحبته الكابتن «فيلوز» Fellowes وظل معهما «ريفارولا»، وبحث ثلاثتهم مع محمد علي هذه المسائل لإيجاد حلٍّ لها.

فقد طلب إلى محمد علي أن يقدم ضمانًا على قيامه بتنفيذ شروط المعاهدة المزمعة فيما يتعلق بتسليم الأسرى الإنجليز نظير الجلاء عن الإسكندرية، ثم إنه لما كان قد بِيع عدد من هؤلاء كرقيق، فقد لزم الاتفاق على ترتيب بشأن فك سراحهم عند العثور عليهم، وترحيلهم إلى أقرب المراكز الإنجليزية في البحر الأبيض، أضف إلى هذا أنه كانت هناك مسألة أمين بك الألفي تتطلب حلًّا لها، فقد ذهب إلى «تينيدوس» — كما ذكرنا — لمقابلة «باجيت»، وعني الإنجليز بتدبير أمر عودته إلى مصر وعدم تعرضه للأذى عند رجوعه إليها، ولكن هذه جميعها لم تكن مسائل يصعب الاتفاق عليها، وفي ١٤ سبتمبر ١٨٠٧، وقع محمد علي باشا والميجور جنرال «شربروك» والكابتن «فيلوز» على اتفاق الجلاء عن الإسكندرية.

وتألف هذا الاتفاق من خمس مواد جاء فيها أنه لما كان الميجور جنرال «فريزر» قائد القوات البرية لصاحب الجلالة ملك بريطانيا، والكابتن «هالويل» قائد أسطول جلالته المرابط تجاه الساحل المصري، قد فوضا تفويضًا تامًّا الميجور جنرال «شربروك» والكابتن «فيلوز» من ضباط البحرية الملكية لعقد وتوقيع معاهدة لإخلاء الإسكندرية، فقد اتفق صاحب السمو جليل الشأن محمد علي باشا والي مصر، والميجور جنرال «شربروك» والكابتن «فيلوز» — سالفا الذكر — على المواد الآتية:
  • أولًا: يوقف القتال فورًا من الجانبين.

    ويقوم القوَّاد البريطانيون بإخلاء الإسكندرية، على أن يتم إخلاؤها في مدى عشرة أيام من التوقيع على هذه المعاهدة، مع ترك جميع القلاع والمتاريس والمدافع والمهمات وما إلى ذلك بالحالة التي هي عليها الآن، على أن يسلم صاحب السمو محمد علي باشا إلى القوَّاد البريطانيين مصطفى بك صهر الباشا، وإسحاق بك عم الباشا، وسليمان أفندي مهردار الباشا أو حامل الأختام لينقلوا إلى سفينة حربية بريطانية، يبقون بها كرهائن إلى أن يتم تنفيذ هذه المعاهدة.

  • ثانيًا: يطلق فورًا سراح جميع أسرى الحرب البريطانيين في مصر، بما في ذلك أولئك الذين قد يكونون رقيقًا في أيدي الأفراد، ويرسلون بطريق النيل إلى بوغاز رشيد؛ حيث ينزلون إلى سفينة بريطانية، (وهذه المادة مطابقة تمامًا للمادة الأولى ومقترحات «فريزر» و«هالويل» السابقة).
  • ثالثًا: يُصدر عفو عام عن سكان الإسكندرية وغيرهم من أهل البلاد، دون نظر إلى الماضي فيما يتعلق بمسلكهم السابق في أي شيء منه، ويُؤمَّنون على أرواحهم وأموالهم؛ حيث إن الظروف وحدها هي التي اضطرتهم إلى اتخاذ الطريق الذي سلكوه، (وهذه المادة مطابقة للمادة الثانية من المقترحات).
  • رابعًا: لما كان أمين بك الألفي قد أبحر من الإسكندرية أثناء احتلال القوات البريطانية لها، فإن صاحب السمو محمد علي باشا يعد إذا عاد أمين بك الألفي إلى هذا الميناء بأنه لا يناله سوء، بل ويؤذن له بالذهاب في أمان مع أتباعه — على ألَّا يزيد عدد هؤلاء على الاثني عشر شخصًا — وأمواله إلى أي مكان يبغي الذهاب إليه.
  • خامسًا: ومع أن صاحب السمو قد قطع على نفسه عهدًا مُطالب بتنفيذه من حيث تسليم كل أسرى الحرب البريطانيين، وكذلك أولئك الذين صاروا رقيقًا في هذه البلاد فورًا، ولكن نظرًا لأن كثيرين من هؤلاء الأخيرين مبعثرون، ومن المحتمل أن بعضهم موجود في أماكن بعيدة بعدًا عظيمًا، فقد تقرر بقاء وكيل بريطاني بالإسكندرية بعد إخلائها؛ ليتسلمهم كلما صار العثور عليهم وإحضارهم؛ ولهذا الوكيل أن ينال من صاحب السمو كل حماية ومساعدة في الحصول على الأسرى الرقيق، ويسمح له بأن يرسل كل من يوجد منهم إلى أية سفينة حربية بريطانية في هذا الميناء، أو يرسلهم بأية وسيلة أخرى من وسائل النقل، قد تتيسر له إما إلى صقلية وإما إلى مالطة.

أُبرمت هذه المعاهدة في معسكر صاحب السمو جليل الشأن محمد علي باشا — والي مصر — بالقرب من دمنهور في اليوم الرابع عشر من شهر سبتمبر عام ١٨٠٧، الموافق ١١ رجب سنة ١٢٢٢ هجرية، إمضاءات: محمد علي باشا، «شربروك»، «فيلوز».

وبذلك انتهت المفاوضات الطويلة، والتي استمرت متقطعة أربعة أشهر بتمامها، بدأها محمد علي بجسِّ نبض الإنجليز في مايو، وختمها «فريزر» انتهت بإبرام اتفاق الجلاء عن الإسكندرية، أن كتب يثني على الباشا ثناءً مستطابًا لما أظهره أثناء هذه المفاوضات من روح تتسم بالعدل والسماحة، حتى إنه كي يطمئن الإنجليز على أن أذى لن يلحق بالإسكندريين أو غيرهم من الأهلين الذين صادقوهم أثناء الاحتلال، لم يدع فرصة تمر دون أن يعلن تعهده القاطع، وكما أثبته في المعاهدة المبرمة، بالصفح والعفو عن هؤلاء دون نظر إلى سلوكهم الماضي.

(٤) موقف «دروفتي»

على أنَّ النشاط الذي بدا في معسكر الباشا بدمنهور في الأيام القليلة التي سبقت عقد المعاهدة، لم يلبث أن استرعى نظر «دروفتي»، ومنذ أن نما إليه أن «ريفارولا» — كما قال — قد صدق وعده وعاد إلى دمنهور، ومقيم بمعسكر الباشا، وساور «دروفتي» القلق عندما جاء إلى القاهرة يوم ١١ سبتمبر أحد ضباط محمد علي ليأخذ إلى دمنهور ضابطين من الأسرى الإنجليز الموجودين بالقلعة، ويحملان رتبة الكابتن، كما وصلت «بتروتشي» دعوة من الباشا حتى يصحب هذين الضابطين إلى دمنهور، ثم إنه وصل أمر الباشا إلى كتخدا بك «طبوز أوغلي» بالتهيؤ لإرسال كل الأسرى حتى أولئك الذين كانوا أرقاء في أيدي الأفراد العاديين، فبعث «دروفتي» بترجمانه إلى كتخدا بك يستفسر منه عما حدث، فكان جواب هذا الأخير أن محمد علي قد عقد الصلح مع الإنجليز، وأن هؤلاء سوف يخلون في أيام قليلة الإسكندرية، والسفن المهيأة لنقل الأسرى من القاهرة إلى رشيد، واقفة على قدم الاستعداد للنزول بهم في النيل إليها.

ويبدو أن الباشا كان معتقدًا بأن المفاوضات التي بدأها «ريفارولا» بتسليمه مقترحات «فريزر» و«هالويل» في دمنهور سوف تنتهي بالاتفاق بينه وبين الإنجليز، وأنه شرع — حتى قبل إبرام المعاهدة — يتهيأ لإرسال الأسرى؛ كسبًا للوقت ولتحقيق الجلاء عن الإسكندرية بكل سرعة، فقد ذكر الشيخ الجبرتي في حوادث ٤ رجب ١٢٢٢، الموافق ٧ سبتمبر ١٨٠٧، أنه في هذا اليوم قد وردت مكاتبات من الباشا بوقوع الصلح بينه وبين الإنجليز، واتَّفقوا على خروجهم من الإسكندرية وخلوها ونزولهم منها، وأرسل يطلب الأسرى من الإنجليز؛ وعلى ذلك فقد أصدر أمره قبل توقيع المعاهدة إلى كتخدا بك للاستعداد لنقل الأسرى بطريق النيل إلى رشيد.

فكان عندئذٍ أن اعتقد «دروفتي» أن الحكومة الإنجليزية قد قبلت مقترحات محمد علي، التي عرضها ترجمانه على «فريزر» بالإسكندرية في شهر مايو؛ أي الجلاء عن هذه الأخيرة في نظير إطلاق سراح الأسرى الإنجليز، وكان من رأي «دروفتي» أن الحكومة الإنجليزية سوف تجد نفسها مرغمة في آخر الأمر بسبب ما يجري في أوروبا على قبول هذه المقترحات التي رفضها «فريزر» وقتذاك؛ وعلى ذلك، فقد اعتقد «دروفتي» بعد أن وصله جواب الكتخدا بك على استفساره، بأن الحكومة الإنجليزية قد أصدرت أوامرها بإخلاء الإسكندرية فعلًا، وصار يهمه الآن أن يقف على حقيقة هذه المسألة وتفاصيل ما جرى بين الباشا والمندوبين الإنجليز، ثم رعاية المصالح الفرنسية بالإسكندرية ذاتها والسهر على أمن الفرنسيين والإيطاليين بها في الأيام الأولى من دخول الأتراك إليها، فبادر بإرسال «مانجان» يوم ١٤ سبتمبر إلى معسكر الباشا في دمنهور؛ للوقوف على حقيقة الموضوع، كما كلفه بالذهاب إلى الإسكندرية في حالة دخول الأتراك إليها للقيام بالمهمة التي سبق ذكرها.

ووصل «مانجان» إلى دمنهور يوم ١٥ سبتمبر؛ أي في اليوم التالي لعقد المعاهدة، ولم يكن المندوبون الإنجليز قد غادروا المعسكر بعد، فقصد «مانجان» إلى خيمة ترجمان الباشا الذي قابله في حيرة وارتباك ظاهرين، وعاد يبلغه أن الباشا يرجو تأجيل المقابلة معه حتى الغد؛ لأنه يخشى أن تثير مقابلته له استياء الإنجليز الذين في وسعهم وضع ما يشاءون من عراقيل لتأجيل جلائهم وخروجهم من مصر، وفضلًا عن ذلك، فإن «شربروك» و«فيلوز» عندما شاهدا «مانجان» في المعسكر، بادرا بالذهاب إلى الباشا، يطلبان منه عدم مقابلته، فراح «مانجان» يذكر لترجمان الباشا أنه إنما حضر لإنهاء مسألة التجار الفرنسيين الذين لهم حقوق بوصفهم دائنين للميري والجمرك، وأنه يبغي بعد ذلك الذهاب إلى الإسكندرية للسهر على مصالح وأحوال مواطنيه بها عند دخول الأتراك إليها.

وكتب «مانجان» في تقريره إلى «دروفتي» عن مهمته بتاريخ ١٧ سبتمبر، أنه قابل محمد علي يوم ١٦ سبتمبر، بعد مغادرة المندوبين الإنجليز للمعسكر، وقد بدا وعلامات الارتياح ظاهرة على وجهه، وأخذ يتحدث إليه عن الدعاوى التي احتج بها لرفض مقابلة «مانجان» في اليوم السابق، فقال محمد علي إنه لا يستطيع في الظرف الراهن العمل ضد مصالحه، ولكنه في اللحظة التي يجلو منها الإنجليز عن الإسكندرية سوف يعاملهم دائمًا كأعداء لحكومته، ثم استطرد «مانجان» يقول: ويتحذر الباشا من الاصطدام مع أعدائنا في شيء مهما ضؤل، فهو حريص على مداراتهم بدرجة أنه رجاني أن أبقى حتى وقت رحيلهم في مكان لا يجعلني قريبًا منه؛ لأن الجنرال الإنجليزي — وهو أحد المندوبين — عندما شاهد وصولي إلى المعسكر غضب غضبًا شديدًا — كما قال الباشا — وأراد رفض المعاهدة؛ ولذلك فإن الباشا يخشى أن تجدَّ صعوبات بسببي تحول دون تنفيذ المعاهدة.

وعلى ذلك، فقد نقل «مانجان» خيمته، وكانت قريبة من خيمتي ترجمان الباشا و«بتروتشي»، ونصبها في معسكر «محو بك» الذي رحب به، ثم لم يلبث محمد علي أن أطلعه على المعاهدة التي بادر «مانجان» بإرسال نصوصها إلى «دروفتي».

وتختلف نصوص المعاهدة التي أطلع الباشا عليها «مانجان» في بعض التفصيلات عن النصوص التي تضمنتها المعاهدة التي أُبْرمت فعلًا، فقد جاءت مادتها الأولى مبتورة وخالية من مسألة الرهائن لضمان تنفيذ المعاهدة، ثم نصَّت المادة الثانية عند ذكر تسليم الأسرى الإنجليز على استثناء أولئك الذين يريدون منهم البقاء في هذه البلاد، كما اختلفت المادة الثالثة في منطوقها ومدلولها عما جاء في نظيرتها في المعاهدة المبرمة فعلًا، حيث نصَّت هذه على عدم إزعاج سكان الإسكندرية جميعهم، والأوروبيين المقيمين بها، مهما تنوعت الأعذار؛ لإلحاق الأذى بهم وإزعاجهم، ثم زادت المادة الرابعة المتعلقة بأمين بك الألفي على ما جاء بشأنه، تحديد المكان الذي ذهب إليه وهو «تينيدوس»، وبدلًا من السماح له بالذهاب إلى أي مكان يريده عند عودته، ذكرت هذه المادة صراحة إجازة ذهابه إلى معسكره أي إلى إخوانه بالصعيد، وأخيرًا جاء نص المادة الخامسة مغايرًا تمامًا للنص الذي تضمنته المعاهدة المبرمة، فقد ذكرت هذه: «وإذا ظهرت بعض الصعوبات الصغيرة في فترة من الزمن قدرها عشرة أيام (أي من تاريخ عقد المعاهدة)، يجرى تسوية هذه بالطرق الودية، كما أن صاحب السمو لا يرفض كذلك إجابة ما قد يُقدَّم إليه من مطالب مبعثها الود والصداقة.»

ومع أن بعض المواد التي جاءت بهذه المعاهدة التي أطلع محمد علي عليها «مانجان»، كانت متعلقة بمسائل حصل التفاهم عليها فعلًا بين الفريقين؛ كاستثناء تسليم أسرى الحرب الذين يريدون بمحض اختيارهم البقاء في البلاد، أو يعتنقون الدين الإسلامي — وهذا ما لم تذكره هذه المعاهدة، أو تلك التي أبرمت فعلًا — فالواضح أن الباشا لم يطلع «مانجان» على المعاهدة الحقيقية، ويفسر هذا ما ذكره «مانجان» نفسه عن رغبة الباشا في مداراة الإنجليز، ولخوفه إذا ترامى إلى هؤلاء أن صداقة الباشا لأعدائهم قد بلغت حدًّا جعله يطلعهم على تفاصيل اتفاقهم معه أن يعمد هؤلاء حينئذٍ إلى إثارة صعوبات تفضي إلى تعطيل الجلاء عن الإسكندرية، بينما يحرص هو من ناحية كل الحرص على جعلهم يعجلون بجلائهم عنها، ولما لم يكن خافيًا عليه الغرض من مجيء «مانجان» إلى دمنهور، ورفض الباشا مقابلته إلا بعد ذهاب المندوبين الإنجليز، فقد أراد إزالة ما يكون قد ساوره من شكوك حول نواياه نحو فرنسا في الوقت الذي كان لا يريد الباشا فيه خسران صداقة هذه الدولة على حساب صداقة جديدة مع دولة لم يظهر وقتئذٍ أي دليل على أنها راغبة في الاستجابة إلى عروضه الأكثر أهمية؛ أي عقد محالفة معه ضد أعدائه وأعدائها من فرنسيين وأتراك، وهو ما جاء ضمن المقترحات التي حملها ترجمان الباشا في شهر مايو إلى «فريزر»، واعتبرها هذا وقتذاك غير معقولة وغير مفهومة.

على أنه لما كانت المعاهدة التي أطلع الباشا «مانجان» عليها قد خلت من أية نصوص متعلقة برعاية المصالح التجارية البريطانية والتعهد بمنع أي جيش أوروبي من الدخول إلى مملكته، يأتي لغزو مصر، أو يطلب المرور منها إلى الهند على نحو ما عرفه «دروفتي» عن بعض مقترحات الباشا عند بداية المفاوضات في شهر مايو، ووقف عليه وقتذاك من محمد علي نفسه، فقد ساورت «مانجان» الشكوك في أن المعاهدة التي أطلعه عليها الباشا الآن تشمل كل النتائج التي أسفرت عنها المفاوضة، وكتب في تقريره أنه من المحتمل وجود بعض مواد سرية ملحقة بهذه المعاهدة.

وكان عند عودة محمد علي إلى القاهرة بعد جلاء الإنجليز عن الإسكندرية وزيارة الباشا لها في ظروف سوف يأتي ذكرها أن تجدد الحديث بين «دروفتي» وبين محمد علي عن هذه المعاهدة، في مقابلة طويلة نقل خبرها «دروفتي» إلى «سباستياني» في ١٠ أكتوبر فقال: إن الباشا بعد عودته إلى القاهرة بيومين قابله، وبدأ هو (أي محمد علي) الحديث معه ببيان الضرورة القصوى التي حملته على إبعاد «مانجان» من معسكره العام بالقرب من دمنهور، ثم كذلك الظروف الملحة التي دعته إلى طلب سلفة من ثلاثين كيسًا من التجار الإيطاليين بالإسكندرية، وقد حرص الباشا عند ذكر هذه المسألة الأخيرة على استرضاء «دروفتي» بإظهار ما وطد العزم عليه من رعاية المصالح الفرنسية، فاستطرد يقول إنه قد أصدر أمره إلى الدفتردار لدفع هذا المبلغ كله إليهم بكل سرعة بينما ينتظر الآخرون من رعايا الدول الأخرى حتى تدفع لهم مبالغهم من حساب جمارك الإسكندرية.

ويقول «دروفتي» إنه انتهز هذه الفرصة للاحتجاج بلهجة قوية على ما قد صار يبدو من عدم مراعاة وقلة مبالاة في المدة الأخيرة نحو وكلاء الحكومة الفرنسية على عكس ما صار يحدث مع وكلاء الدول المعادية أو المحايدة ويقصد القنصل الفرنسي هنا «بتروتشي» و«روشتي» على وجه الخصوص، ولكن الباشا علل ما حدث بأن الظروف وحدها هي التي اقتضت ذلك، وقال إنه يرغب مخلصًا في أن تستمر علاقاته بي تسودها المحبة والانسجام كما كانت من قديم، وفضلًا عن ذلك فقد حرص الباشا على إخبار «دروفتي» بأن القواد الإنجليز أرادوا إقناعه بأن جيشًا فرنسيًّا سوف يحضر قريبًا إلى مصر، ولم يدع الباشا فرصة ﻟ «دروفتي» حتى يرد على هذا الكلام، بل استمر في حديثه إلى أن قال إنه بمثل الأتباع والجيش اللذين له لا يناسبه بتاتًا أن يقبل استبدال أي حكومة أخرى، أو أي مكان آخر في تركيا بباشوية القاهرة، وقد علق «دروفتي» على هذه العبارة بأنه كان الأحرى به أن يقول إنه لن يشعر أنه آمن على نفسه وحكمه في أي مكان آخر أكثر مما يشعر به وهو في مصر.

ويكشف حديث الباشا هذا مع «دروفتي» في القاهرة، كما يكشف حديثه السابق مع «مانجان» في دمنهور عن حقيقة الأغراض التي كان يهدف إليها الباشا من اتفاقه مع الإنجليز، وهي أغراض سبق أن أوضحناها عند الكلام عن مرحلة جس النبض الأولى في المفاوضات التي جرت بينه وبينهم، وتتلخص في رغبة محمد علي أن يستطيع بتسوية خلافاته مع الإنجليز على أساس جلاء هؤلاء عن الإسكندرية ودخول هذه في حوزته، فيحرم الباب العالي من قاعدة هامة، يتسنى له حبك مؤامراته فيها ضد حكومته، أو يرسل إليها أساطيله بقيادة القبطان باشا، تحمل واليًا جديدًا يحل محله في حكم البلاد، وأمرًا بإبعاده من مصر، ونقله إلى باشوية أخرى، نقول: إن محمد علي أراد بتسوية خلافاته مع الإنجليز التمهيد لعقد محالفة معهم، تؤمنه على باشويته في مصر ضد الأتراك أنفسهم قبل أي شيء آخر، ثم ضد أي غزو قد يأتيه من جانب الدول الأجنبية، ومنها فرنسا ذاتها، أضف إلى هذا كله أنه طالما بقي الإنجليز أصدقاء للمماليك، فقد انتفى كل اطمئنان لدى الباشا من ناحية الإنجليز والمماليك على السواء، وظلَّ قائمًا في نظره خطر تجديد الأولين محاولتهم لغزو البلاد، واستمرار مناصرتهم للبكوات في مسعاهم من أجل استرجاع سلطانهم المفقود في حكمها.

ويزيد اتضاح هذه الحقائق عند الوقوف على ما يصح تسميته بالجانب السري من المفاوضات التي جرت بين محمد علي و«فريزر».

(٥) الجانب السري من المفاوضات

فقد تقدم كيف بدأ محمد علي محاولاته لإقناع الإنجليز بعقد محالفة معه، وقت أن بعث بترجمانه مع «ديلانسي» في شهر مايو إلى الإسكندرية لمقابلة «فريزر»، وكيف أخفقت هذه المحاولة الأولى، ولكنَّ استئناف المفاوضات لم يلبث أن أحيا أمل الباشا في إمكان بلوغ غايته، فانتهز فرصة وجود «شربروك» و«فيلوز» بمعسكره لإبرام المعاهدة، وراح يتحدث إليهما من جديد في أمر هذه المحالفة، ولما كانت عروضه السابقة من حيث رعاية المصالح التجارية البريطانية وتمكين النفوذ البريطاني في مصر، ومنع الفرنسيين من النزول في هذه البلاد، والدفاع عنها ضد أي اعتداء قد يقع عليها من جانبهم، لم تكفِ جميعها لإقناع الإنجليز بالمزايا التي سوف تكون لهم من التحالف معه، فقد عرض عليهم الآن نفس ما ظل أحد أحزاب المماليك برئاسة شاهين بك الألفي يؤكده للميجور «مسيت» وللجنرال «فريزر»، وهو وضع نفسه تحت حماية بريطانيا، ثم إنه لم يلبث أن لوح للإنجليز بمزية أخرى ونفع عاجل، يرجو به استمالتهم إلى عقد هذه المحالفة معه، فوعد بتموين سفنهم سرًّا طوال مدة الحرب، إذا اقتربت هذه من الإسكندرية تطلب تزويدها بالمياه العذبة من النيل أثناء تجوالها في البحر الأبيض، وطلب الباشا في نظير هذا كله أن يستخدم الإنجليز ما لديهم من قوات بحرية للدفاع عن الإسكندرية إذا حاول الأتراك أو الفرنسيون، أو حاولت جيوش أية دولة أخرى مهاجمة الإسكندرية بحرًا.

وقد دلَّت رغبته في أن يعاونه الإنجليز على دفع أي هجوم قد يقع عليه من ناحية الأتراك، وهي نفس الرغبة التي أبداها بواسطة ترجمانه في شهر مايو، على أن الباشا قد صح عزمه قطعًا على الظفر بذلك الاستقلال الذي أشار إليه «مسيت» في تقاريره مرات كثيرة، وبالوضع الذي ذكره «دروفتي» في تقاريره هو الآخر إلى «سباستياني»، أي الاستقلال على نمط ما هو قائم فعلًا في وجاقات الغرب، وذلك بأن يستقل في شئون الحكم الداخلية، ويثبت في ولايته، ولا تربطه بالباب العالي سوى تبعية السيادة الرسمية التي لا يرمز لوجودها سوى دفع الخراج السنوي فحسب، والأهم من هذا كله أن يصبح الحكم في مصر وراثة في أسرته.

فمن المعروف أن وجاقات الغرب تتألف من طرابلس الغرب وتونس والجزائر، سمِّيت بالوجاقات نسبة إلى الأوجاق أو الوجاق، وهو الطائفة من الجند، والمقصود هنا هو وجاق اليكجرية أو الانكشارية، وجاق السلطان، وهم الذين كانت قد صارت لهم الغلبة بعد فتح العثمانيين في القرن السادس عشر لهذه البلاد التي أهلها من البربر، فاستأثر الانكشارية بالسلطة الفعلية في وجاقات الغرب، فصاروا يولون ويعزلون «الدايات» في الجزائر حسب أهوائهم، ويستبد «الدايات» بالحكم، ولا يربط أحدهم بمقر السلطنة العثمانية سوى ما يبعث به «الداي» من الهدايا إلى القسطنطينية علامة على خضوعه للسدة السلطانية، ودفع الخراج، وتدهور نفوذ الدولة حتى انعدم كلية في تونس وطرابلس الغرب، فحكمت في تونس الأسرة أو الدولة الحسينية نسبة لمؤسسها المولى حسين بن علي منذ ١٧٠١، وكان الحكم وراثيًّا في هذه الأسرة، ويعاصر هذه الحوادث في مصر من حكامها الباي حمودة باشا (١٧٨٢–١٨١٤)، وحكمت في طرابلس الغرب الأسرة القره مانلية، نسبة إلى مؤسسها أحمد بك القرمانلي منذ ١٧١١، وكان الحكم وراثيًّا في هذه الأسرة كذلك، وكان الحاكم وقتئذٍ يوسف باشا القره مانلي (١٧٩٥–١٨٣٥)، وكان كل هؤلاء الدايات في الجزائر والبايات في تونس والباشوات في طرابلس الغرب مستقلين في شئونهم الداخلية عن سلطان الدولة العثمانية، بل ويستقلون عنها كذلك لدرجة بعيدة في علاقاتهم الخارجية مع الدول الأجنبية، ولا يربطهم بالسلطان العثماني سوى التبعية الاسمية.

وذلك إذن هو الوضع أو الاستقلال الذي طمح إليه محمد علي، وأراد التهيؤ لبلوغه بكسب صداقة الإنجليز، واستمالتهم إلى التحالف معه، وكانت رغبته في الظفر به من الباب العالي طوعًا أو كرهًا مبعث تلك المفاوضة السرية التي أجراها مع الإنجليز إلى جانب مفاوضته العلنية معهم، والتي انتهت بعقد اتفاق الجلاء عن الإسكندرية.

وقد كشف عن هذا الجانب السري من المفاوضات الجنرال «فريزر» في رسالة له بعث بها إلى الجنرال «مور» من «مسينا» في ١٦ أكتوبر، جاء فيها ما نصه: «أرجو أن تسمحوا لي بأن أبسط لكم ليكون موضع نظركم فحوى محادثة جرت بين باشا مصر والميجور جنرال «شربروك» والكابتن «فيلوز» أثناء قيامهما بمهمتهما لدى سموه، ولديَّ ما يجعلني أعتقد، من هذه المحادثة ومن اتصالات خاصة كثيرة أخرى كانت لي معه، بأنه جادٌّ وصادق فيما يقترحه.

لقد أبدى محمد علي باشا والي مصر، رغبته في أن يضع نفسه تحت الحماية البريطانية، ووعدنا بإبلاغ مقترحاته إلى الرؤساء في قيادة القوات البريطانية؛ كي يقوم هؤلاء بإبلاغها إلى الحكومة الإنجليزية للنظر فيها.

ويتعهد محمد علي من جانبه بمنع الفرنسيين والأتراك، أو أي جيش تابع لدولة أخرى من الدخول إلى الإسكندرية لغزوها من طريق البحر، ويعد بالاحتفاظ بالإسكندرية وامتلاكها كصديق وحليف لبريطانيا العظمى، ولكنه لا مناص له من انتظار أن تعاونه إنجلترة بقواتها البحرية إذا وقع هجوم عليه من جهة البحر؛ لأنه لا يملك سفنًا حربية.

ويوافق محمد علي باشا في الوقت نفسه على تزويد كل السفن البريطانية التي تقف على بعد من الإسكندرية بما قد تحتاج إليه من ماء النيل عند إعطائها إشارة — يصير الاتفاق عليها — تدل على ذلك، فينقل الماء عندئذٍ إلى السفن التي تطلبه في قنجات، يحضرها الباشا لهذا الغرض، ولما كان من المرغوب فيه أن يجري نقل الماء إلى السفن في ظلام الليل، فلا ينتظر حدوث ذلك في غير الأوقات التي تكون فيها حالة الجو طيبة.

ويجب أن يكون مفهومًا أنه بمجرد أن يتم إخلاء الجنود البريطانيين للإسكندرية، يبدأ بأسرع وقت ممكن إنزال أسرى الحرب إلى السفن وإبحارهم، وأنه عندما يتأكد لدى الرؤساء في قيادة القوات البريطانية أن جميع أسرى الحرب، ثم من أمكن العثور عليه من أسرى الحرب الذين بيعوا كرقيق، قد أنزلوا إلى السفن، يقوم هؤلاء الرؤساء بإرجاع الأشخاص الذين سلمهم الباشا إليهم كرهائن في أمن وسلام، وإذا حدث أن أحدًا من أسرى الحرب، أو الذين بيعوا كرقيق قد اعتنق الإسلام، ثم أراد البقاء في البلاد، فله أن يفعل ذلك، ولكنه يجب أن يستجوب مثل هؤلاء فيما يتعلق بإسلامهم ورغبتهم في البقاء شخص يعينه الرؤساء في قيادة القوات البريطانية — وبحضور أحد ضباط الباشا — فإذا أعلن عندئذٍ أنه إنما أراد ذلك بمحض اختياره، فلن يطلب البريطانيون استرجاع مثل هذا الرجل.

وتسلم الإسكندرية إلى كتخدا بك عندما تكون آخر طائفة من الجند البريطانيين قد صارت على وشك الإبحار من الإسكندرية، ويسمح لعدد كافٍ من جند الباشا بالمرور من القطع بين المعدية ومريوط؛ لتمكينه من توطيد سلطته والمحافظة على الأمن والسلام في الإسكندرية.

ويقوم الرؤساء في قيادة القوات البريطانية بإسداء كل مساعدة؛ لتمكين هؤلاء الجنود من عبور القطع بجلب السفن إلى هذا المكان، وإذا اتَّضح أن هناك صعوبة في الحصول على عدد كافٍ منها، يسمح للسفن التي تأتي بأسرى الحرب إلى بوغاز رشيد بالذهاب إلى القطع للقيام بهذه المهمة.»

وواضح من كل هذه المسائل التي ذكرها «فريزر» أن الباشا قد عني بشيئين: عقد محالفة دفاعية مع الإنجليز، وتعجيل جلاء هؤلاء عن الإسكندرية حتى يتسنى له دخولها بكل سرعة والاطمئنان إلى امتلاكها نهائيًّا.

وإذا كان الإنجليز لم يشاءوا عقد محالفة دفاعية مع محمد علي ضد الأتراك والفرنسيين أعدائهم وأعدائه على السواء، وأن يكونوا بمعنى آخر الأداة التي يستطيع بها محمد علي في هذه المرحلة المبكرة من حياته السياسية الطويلة، أن ينتزع من الباب العالي الاستقلال الذي يصبو إليه، وأن يتمتع بالوضع الذي أراده مشابهًا لذلك الذي كان لوجاقات الغرب، فقد حقق الغرض الآخر والمباشر الذي هدف إليه، وهو امتلاك الإسكندرية، فوضع بذلك الأساس الأول لتوطيد سلطانه في ولايته، ثم التفرغ بعد ذلك لإدراك استقلاله سواء تم له هذا الاستقلال في نطاق الدولة العثمانية أو بالانفصال عنها كلية.

وأما الخطوة التالية لإبرام اتفاق دمنهور، فكانت التهيؤ لدخول الإسكندرية.

(٦) الإسكندرية في حوزة محمد علي

فقد جرى تسليم الأسرى بكل سرعة يوم ١٢ سبتمبر، وبدأ إخلاء الجنود البريطانيين للإسكندرية، ونزولهم إلى السفن في اليوم التالي، ثم بدأ خروج هذه من الميناء القديمة يوم ١٤ سبتمبر، وما وافى يوم ١٩ سبتمبر حتى كان قد تم إخلاء الإسكندرية.

وكان الباشا لرغبته في امتلاكها دون إبطاء قد عيَّن كتخدا بك «طبوز أوغلي» حاكمًا لها، وقضى هذا جملة أيام ببركة غطاس مع طليعة جيش الباشا المعد لاحتلال المدينة، ثم احتل القطع يوم ١٧ سبتمبر، وفي اليوم نفسه دخل إلى الإسكندرية مع خمسين من رجاله ليجد بعض الإنجليز لا يزالون يحتلون القلاع والمراكز الرئيسية.

وأرسل «طبوز أوغلي» خبر احتلاله الإسكندرية إلى الباشا، فغادر هذا دمنهور فورًا على رأس ألفين من جنده، وواصل السير الليل كله حتى وصل إلى بحيرة المعدية، ووجد عند القطع الكابتن «هالويل»، ينتظر في قارب وصول الباشا لزيارته تحية له، وعسكر الباشا في هذا المكان، وفي صبيحة اليوم التالي (٢٠ سبتمبر سنة ١٨٠٧) دخل الباشا الإسكندرية على دوي المدافع التي أطلقت من طبياتها تحية له، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تطأ قدما محمد علي فيها أرض الإسكندرية، وبادر القناصل والأعيان وكبار التجار والمشايخ والعلماء ورؤساء الجند بتقديم التحية، ثم نزل الباشا يزور المدينة وتحصيناتها وأبوابها وقلاعها ومخازنها.

وكان أول ما استرعى انتباه الباشا أن الخزانة بالإسكندرية خالية من المال، فأمر بفحص حسابات الجمارك وسجلات احتكارات الصودا وأصناف السوائل، وتبين من هذا الفحص أن الأموال المحصلة منها والتي كان يجب أن تمتلئ بها خزانة الحكومة بالإسكندرية، قد بُدِّدت، فلم يكن هناك مَعْدَى حينئذٍ عن تدبير قدر من المال لسد مطالب الإدارة الجديدة على وجه السرعة، ولدفع مرتبات الأرنئود قبل أي شيء آخر؛ وعلى ذلك، فقد أخذ من التجار الأوروبيين بالثغر سلفة قدرها عشرون ألف ريال إسباني أو سبعة ومائة ألف فرنك، تقوم جمارك الإسكندرية بسدادها لأصحابها من إيراداتها، وكانت هذه هي السلفة التي تحدث الباشا في موضوعها مع «دروفتي» عند عودته إلى القاهرة على نحو ما سبق ذكره.

وكان أثناء تغيب الباشا عن القاهرة أن وصل إلى دمياط قابجي يسمى نجيب أفندي، يحمل هدايا من السلطان العثماني إلى محمد علي وكبار رجال حكومته مكافأة للباشا على بلائه الطيب وانتصاره على الإنجليز، فبلغ بولاق يوم ١٤ سبتمبر، وعندما علم بوجوده بناحية البحيرة ذهب إليه لمقابلته، ويقول الشيخ الجبرتي: إن هذا الرسول قابل الباشا بدمنهور، ولكن غيره من المعاصرين يذكرون أن الباشا كان بالإسكندرية عندما تسلم هو ورجاله هدايا السلطان إليهم، وهي لخصوص الباشا قفطان وسيف، وشلنج وخلع لكبار العسكر حسن باشا، وطاهر باشا، وعابدين بك، وعمر بك الأرنئودي، وصالح قرش قوج، وأما الجنود الذين أبدوا بسالة أثناء النضال مع الإنجليز، فقد كوفئوا بنياشين فضية علقوها على عمائمهم.

ثم حدث أثناء وجود الباشا بالإسكندرية كذلك أن وصل إلى دمياط أحد ضباط الباب العالي، يصحبه إبراهيم بك بن محمد علي الذي كان القبطان صالح باشا قد أخذه رهينة إلى القسطنطينية في أكتوبر سنة ١٨٠٦؛ حتى يدفع محمد علي مبلغ الأربعة آلاف كيس التي وعد بدفعها إلى الباب العالي؛ نظير تثبيته في الولاية عند انتهاء أزمة النقل إلى سالونيك، فدلت إعادة إبراهيم على رضاء السلطان عن الباشا وتقديره لجهوده، وبلغ إبراهيم القاهرة بصحبة هذا القابجي باشا يوم ٢٦ سبتمبر.

ولم تخلُ إقامة الباشا في الإسكندرية من المتاعب، فقد تمرد الأرنئود في الأيام الأولى من شهر أكتوبر؛ بسبب رداءة المياه المجلوبة من الصهاريج، وقلة الأغذية والمؤن بالمدينة، ورفعوا عقيرتهم مطالبين بالمرتبات المتأخرة لهم، ووقعت الاضطرابات، ولكن الباشا لم يلبث أن أعاد النظام إلى نصابه بفضل ما دفعه للجند من السلفة التي أخذها من التجَّار الأوروبيين، ثم سرعان ما وصلته أنباء أخرى مزعجة عن فعال الجند الذين بالقاهرة؛ لأنه ما إن ارتفع خطر الغزو الأجنبي وزال الخوف من نفوسهم، حتى استأنفوا فعالهم الذميمة، وقد تزايدت الآن جرأتهم ووقاحتهم، فعمَّ البلاء في القاهرة وسادت الفوضى بها، فأفحش العساكر في التعدي على الناس، وغصب البيوت من أصحابها، ولم يستثنوا من ذلك أعيان الناس والمقيمين بالبلدة من الأمراء والأجناد المصريين وأتباعهم المماليك ونحوهم، وآذوا مشايخ العلم، ولم يفِد هؤلاء احتجاجهم بأنهم مسلمون، وأنَّ النصارى واليهود يكرمون قسسهم ورهبانهم، حيث أجابهم الجند أنتم لستم بمسلمين؛ لأنكم كنتم تتمنون تملك النصارى لبلادكم وتقولون أنهم خير منا، ونحن مسلمون ومجاهدون طردنا النصارى وأخرجناهم من البلاد، فنحن أحق بالدور منكم، وصاروا يفرضون الغرامات على الوجهاء والأعيان نظير ترك دورهم لهم، فما إنْ بلغت هذه الأخبار محمد علي حتى قرر العودة إلى القاهرة.

فغادر الباشا الإسكندرية بطريق البر إلى رشيد، حيث أمضى بها ساعات قليلة أصدر في أثنائها الأوامر والتعليمات اللازمة لإنشاء سور يحيط بها، ثم نزل في النيل قاصدًا إلى القاهرة، وحدث عند زفتيه أن انقلبت السفينة الصغيرة التي كان بها الباشا، وبصحبته حسن باشا طاهر، وسليمان أغا صالح وكيل دار السعادة سابقًا، وصاحب الدور المعروف أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، ثم تمرد ياسين بك الأرنئودي، فأشرف ثلاثتهم على الغرق، وتعلق بعضهم بحرف السفينة، ومع أنَّ الباشا كان يحسن السباحة، فقد لازم رفيقيه محاولًا إنقاذهما حتى لحقت بهم سفينة أخرى، فطلب من نوتيتها الاهتمام بحسن باشا وسليمان أغا، وأمَّا هو فقد سبح إلى الشاطئ، واستأنف الجماعة سيرهم فوصلوا إلى ساحل بولاق يوم ٥ أكتوبر.

وأمَّا الإنجليز، فقد تمَّ إخلاؤهم للإسكندرية — كما قدمنا — يوم ١٩ سبتمبر، وما إنْ تسلموا أسراهم حتى أبحرت بهم الناقلات إلى «مسينا» في ٢٢ سبتمبر، وتمَّ إبحار سائر جيش الحملة من خليج أبي قير في ٢٥ منه، وقد ترك «فريزر» بالإسكندرية «بتروتشي» مندوبا بريطانيًّا؛ للإشراف على جميع أسرى الحرب الذين بيعوا للأفراد كرقيق، وترحيلهم من البلاد، ثمَّ ملاحظة المصالح البريطانيَّة في الوقت نفسه، وقد جرد الآن «بتروتشي» — وهو مالطي — من عمله كنائب قنصل لبريطانيا في رشيد، وبقي له عمله كقنصل للسويد فحسب، وعين «فريزر» مساعدًا له في مهمته أحد التجَّار الإنجليز، ويدعى «هود» Hood، وكان قد اضطرَّ إلى مغادرة القسطنطينية مع السفير الإنجليزي السابق بها «أربثنوت»، واعتقد «فريزر» أنه بفضل ما له من معرفة بعادات وتقاليد البلاد لإتقانه اللغة التركية، سوف يكون ذا نفع عظيم في مركزه الجديد هذا، وقد سمى «فريزر» كذلك مالطيًّا يدعى «أني» Anny وكيلًا بريطانيًّا بالإسكندرية.

وقد ترتب على جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، أن غادر هذه كثير من أولئك الذين اعتقدوا — كما قال «فريزر» وهو يبعث برسالته إلى «كاسلريه»، من على ظهر الباخرة تيجر في ٢٦ سبتمبر في طريقه إلى صقلية — أنهم صاروا موضع كراهية عظيمة؛ بسبب صداقتهم ومعاونتهم للإنجليز، وقد لجأ بعض هؤلاء إلى البريطانيين حتى يحملوهم على ظهر سفنهم معهم، بينما هاجر عديدون من سكان الإسكندرية، مسلمين ومسيحيين على السواء، ومن بين هؤلاء الأخيرين أسر لبنانية كثيرة ذهبت إلى الشام، كما قصد بعض المهاجرين إلى وجاقات الغرب، ونزح قسم كبير من فقراء الإسكندرية إلى الصحراء؛ ليعيشوا مع البدو في خيامهم، وقد حذا حذو هؤلاء المهاجرين كثيرون من أهل رشيد كذلك.

ومن بين الذين هاجروا من الإسكندرية الشيخ محمد المسيري، وقد نزل كتخدا بك طبوز أوغلي بداره عند دخوله الإسكندرية، ثمَّ الشوربجي أو رئيس قضاة الإسكندرية سيدي قاسم غرياني، وأمَّا الشيخ إبراهيم باشا — زوج كريمة الشيخ محمد المسيري، وأحد الموقعين على اتفاق تسليم الإسكندرية إلى الإنجليز في ٢٠ مارس — فقد آثر أن يقبل قدمي محمد علي؛ يطلب الصفح منه على الهجرة من الإسكندرية، فعفا عنه الباشا وأمنه على حياته، وخلع عليه فروة ثمينة.

ثم كان من بين أولئك الذين اضطروا إلى مغادرة الإسكندرية أعضاء البعثة البريطانية — بطبيعة الحال — الكابتن «تابرنا» السكرتير العام، ويوسف عزيز الترجمان الأول، و«أرنست مسيت» رئيس البعثة، وقد غادر هؤلاء الإسكندرية بعد إخلائها في ١٩ سبتمبر، وأبحروا مع الجيش إلى صقلية فبلغوها يوم ١٦ أكتوبر، وكان «فريزر» نفسه قد سبقهم إليها منذ ١١ أكتوبر.

ووجد «مسيت» متسعًا من الوقت وهو بصقلية؛ ليؤيد قضايا أولئك الذين صادقوا الإنجليز، واعتبرهم حلفاء لهم، وكانوا في رأيه في حاجة إلى المساعدة، ولا يجب على البريطانيين أن يتخلوا عنهم وعن قضيتهم بعد انسحابهم من هذه البلاد، فانبرى الآن لمساعدة قاسم غرياني، وأمين بك الألفي، وتأييد قضية المماليك عمومًا بقدر طاقته، وسلك في هذه المسألة الأخيرة نفس طريق الإيحاء والتمويه التي سلكها في السابق كلما أراد أن يزيل من ذهن رؤسائه عبث الاعتماد على البكوات؛ بسبب الخلافات السائدة بينهم وقصورهم عن إدراك ما فيه صالحهم، فبعث وهو بمسينا برسالة مطولة إلى «كاسلريه» في ٢١ أكتوبر، تحدث فيها عن استحقاق سيدي قاسم غرياني لكل مساعدة، وهو الذي اضطرَّ بسبب صداقته للإنجليز إلى الهجرة من الإسكندرية، وترك أمواله وأملاكه التي صادرتها حكومة الباشا.

وكان مما ذكره «مسيت» لتأييد مساعيه في صالح هذا الشيخ، أنَّ الحكومة البريطانية كانت قد منحت سيدي قاسم غرياني عشرة شلنات معاشًا يوميًّا؛ مكافأة له على الخدمات التي أداها أثناء الحملة البريطانية الأولى على مصر (١٨٠١)، وأجد من العبث محاولة إيفائه كل حقه من المديح والثناء؛ بسبب الجهود المتصلة التي بذلها إبان وجود الجنود البريطانيين بقيادة الميجور جنرال «فريزر» بالإسكندرية، ولكني أستطيع أن آخذ على عاتقي باطمئنان القول بأن الفضل إنما ينسب إليه، وإلى ما أبداه من همة في حصول الجيش على المؤن والأغذية التي حصل عليها أخيرًا بكثرة وفيرة، ولقد وعد الليفتنانت جنرال السير «جون مور» سيد قاسم غرياني بمضاعفة المعاش المعطى له، وذلك ابتداءً من يوم ٢٥ سبتمبر، ولا أشك في أنكم سوف تؤيدون وعد السير جون، والحقيقة أنَّ عشرين شلنًا يوميًّا لا تكاد تكفي لإعالة رجل في مثل مكانته مع أسرته، وأرجو أن ترى الحكومة البريطانية أنه مما يتفق مع كرامتها أن تعوض هذا الشيخ تعويضًا مناسبًا عن الأضرار التي لحقت به نتيجة لما أظهره من ولاء نحو المصالح البريطانية.

وتحدث «مسيت» في رسالته هذه كذلك عن المماليك، فاستهلَّ حديثه عنهم بملاحظة من المستغرب صدورها عنه، حيث قال: «إنه يمكن الآن اعتبار أنَّ المماليك كحزب أو جماعة سياسيَّة، قد عفت آثارهم أو كادت، فقد وقع الخلاف بينهم قبل إخلاء الإسكندرية بوقت قصير حول توزيع القرى، وتحاربوا وسقط أثناء القتال تسعة منهم، أحدهم خليفة عثمان بك البرديسي.» ولكنَّ هذا الاستغراب لا يلبث أن يزول عندما نجد «مسيت» يحاول إسناد هذا الفشل الذي أصابهم إلى جلاء الإنجليز عن البلاد، فقد استمرَّ يقول: وليس هناك أي شك في أنَّ إبراهيم بك سوف يبذل الآن قصارى جهده لعقد السلام مع الباشا، حيث قد انعدم لديه كل أمل في انتظار أية مساعدة من الحكومة البريطانية.

أمَّا عن أمين بك الألفي، فإنه ما إنْ ذاع الخبر في النصف الأخير من شهر أغسطس بأن الإنجليز يعتزمون إخلاء الإسكندرية، حتى لقي كل تشجيع من «مسيت» للذهاب إلى «تينيدوس»؛ لمقابلة السير «آرثر باجيت» يسأله التوسط لدى الباب العالي في صالح البكوات أثناء مفاوضة «باجيت» مع العثمانيين، وحتى يبسط له وضع المماليك ونواياهم ورغائبهم، وقد سبق كذلك أن ذكرنا أنَّ «مسيت» حمل أمين الألفي مذكرة والتماس الإسكندريين إلى «باجيت» مشفوعة برسالته إليه بتاريخ ٢٢ أغسطس، فوصل أمين إلى «تينيدوس» في أول أكتوبر، وقابل «باجيت» وسلمه رسائل «مسيت»، واعتقد «باجيت» أنَّ محمد علي يؤيد المصالح الفرنسيَّة، وصح عزمه إذا أتيحت له الفرصة ودخل القسطنطينية، أن يبذل قصارى جهده لحمل الديوان العثماني على نقل أو إخراج محمد علي من باشوية مصر، وقد تحدث إليه أمين الألفي كذلك عن مهمته، ولكن «باجيت» لم يستطع فعل شيء له؛ لفوات الوقت، وقد راح يذكر في كتاب له إلى وزير الخارجيَّة «جورج كاننج» في ٤ أكتوبر وقائع بعثة أمين هذه، ويؤخذ مما ذكره عنها أنَّ أمين الألفي عندما وقف على فشل «باجيت» في مفاوضته مع الباب العالي، تزايد شعوره بحرج موقفه، وصار لا يجرؤ على الذهاب إلى القسطنطينية أو العودة إلى الإسكندرية؛ لأنه من المحتمل أن تكون هذه قد انتقلت الآن إلى يد محمد علي، والعلاقات بين الباشا والبكوات سيئة، ثمَّ إنَّ أمين بك لم يشأ المكث في «تينيدوس»؛ خوفًا من أن يلحق الأذى بمصلحته إذا عرف الباب العالي أنه موجود بها؛ وعلى ذلك، فقد طلب أمين أن يسمح له بالذهاب إلى مالطة، وأجابه «باجيت» إلى رغبته، وفي ٢ أكتوبر أبحر أمين إلى مالطة فوصلها في نوفمبر.

وراح أمين — وهو بمالطة — يؤكد لحاكمها السير «ألكسندر بول» صداقة البكوات للإنجليز وولاءهم لهم، واعتماد المماليك على مساعدة هؤلاء لهم، وتذكيرهم الإنجليز بالوعود التي بذلوها للبكوات، ثمَّ طلب من بول مساعدته على الذهاب إلى طرابلس الغرب؛ لسؤال حاكمها يوسف باشا القره مانلي معاونته على العودة بطريق الصحراء إلى مصر، وكان بعد انقضاء ثلاثين يومًا تقريبًا من وجوده بمالطة، أن كتب أمين الألفي إلى «مسيت» بتاريخ ٢ ديسمبر سنة ١٨٠٧، يقص عليه ما حدث له منذ مغادرته للإسكندرية إلى مجيئه إلى مالطة، ويرجوه إبلاغ كل هذه التفاصيل إلى حكومته، ثمَّ عاد يؤكد صداقة البكوات لبريطانيا، فقال: «ولا شك في أنكم قد عرفتم أثناء وجودكم بالإسكندرية، كم من مرة عرض علينا فيها محمد علي مقترحات مختلفة لقبول الصلح معه، ولكننا لاعتمادنا على مساعدة الإنجليز لنا قد رفضنا الشروط التي عرضها علينا أكثر من عشرين مرة، ولا جدال في أنَّ وقوفكم على هذه الحقائق سوف يمكنكم من تأييد ما ذكرته، وسوف يجعلكم قادرين على أن تؤكدوا للحكومة البريطانية صداقتنا لها.» ثمَّ رجاه في ختام رسالته أن يبعث برده إلى «برجز» في مالطة؛ لأن أمين الألفي — كما قال — على وشك السفر إلى طرابلس، حيث يتوقع أن يسمع من «مسيت» وهو بها.

ولكن «مسيت» الذي يلوح أنه أدرك الآن عجزه تمامًا عن فعل شيء جدِّي في صالح البكوات، لم يلبث أن أجاب على رسالة أمين من «مسينا» في ٨ يناير سنة ١٨٠٨ يبدي له أسفه؛ لأن السفير الإنجليزي في القسطنطينية لا يقدر على تسوية الخلافات القائمة بين بريطانيا العظمى والباب العالي، وأن يفعل شيئًا في صالح المماليك، ولا جدال في أنَّ فشل السفير في هذا الأمر الأخير إنما مرده إلى الظروف الراهنة، ووعد «مسيت» بإبلاغ ما جاء في رسالة أمين؛ استجابة لرغبته إلى حكومته التي لا شك في أنها سوف تنتهز أول فرصة مناسبة لتعمل على ما فيه فائدة البكوات، وتمنى لأمين عودة آمنة إلى مصر، ورجاه في ختام رسالته أن يذكره إلى أصدقائه المماليك.

وبعد أسبوع بعث «مسيت» من «مسينا» في ١٦ يناير سنة ١٨٠٨ بترجمة رسالة أمين الألفي إلى «كاسلريه»، وصورة من رده عليه، وكان أمين عندئذٍ في طريقه إلى طرابلس.

وبذلك أسدل الستار على نشاط «مسيت» من هذه الناحية، ولم يعد «مسيت» إلى مصر إلَّا في أواسط سنة ١٨١١، فبقي حتى عام ١٨١٥ يمثل مصالح دولته، ولكنه كان وقتئذٍ مريضًا مقعدًا يُحمل على كرسي متحرك، على أنه حين عودة «مسيت» إلى مصر ثانية، كان غريمه الأكبر محمد علي قد قضى على المماليك منذ مارس ١٨١١ في مذبحة القلعة المعروفة، واستطاع في السنوات التالية لجلاء الإنجليز عن الإسكندرية أن يوطد دعائم باشويته، ومع هذا، فما كان يتسنى للباشا فعل ذلك، أو حتى البقاء في باشويته لو أنَّ الفشل لم يلحق بحملة «فريزر»، وبقي الإنجليز في الإسكندرية.

(٧) أسباب فشل حملة «فريزر»

ولقد كان «مسيت» مسئولًا لحدٍّ كبير عن فشل هذه الحملة؛ للأسباب العديدة التي ذكرناها في سياق الكلام عن هزيمتي الإنجليز في رشيد والحماد، وعن علاقات هؤلاء بالبكوات المماليك، ولأنه كان أكبر داعية لمشروع احتلال البريطانيين للإسكندرية، بل ولاحتلال البلاد بأسرها، ولم يفِد تسلُّم محمد علي لأزمَّة الحكم في مصر شيئًا في تغيير نظرته إلى الأمور، فظلَّ مصممًا على رأيه وتزايد نشاطه في الترويج لاحتلال الإسكندرية وسائر بلاد القطر، على اعتبار أنَّ طرد محمد علي والأرنئود من الحكم واسترجاع المماليك لسلطانهم ونفوذهم القديمين، قد صار الآن لا غنى عنه لصون المصالح البريطانية في مصر ودعمها، ولقد شاهدنا كيف كان «مسيت» إلى جانب هذا كله مسئولًا عن جعل «فريزر» يزج بقواته المعينة لاحتلال الإسكندرية فحسب في مغامرات عسكرية عادت بالوبال على الحملة، وذلك عندما راح «مسيت» يصر على أنَّ احتلال رشيد والرحمانية ضروري لتموين الإسكندرية، ولتمكين البريطانيين من الاحتفاظ بها.

على أنَّ الأخطاء العديدة التي ارتكبها «مسيت»، والتي سببت فشل الحملة وكانت من العوامل الهامَّة — وإنْ لم تكن بطريق مباشرة — في جعل الحكومة الإنجليزيَّة تقرر الجلاء عن الإسكندرية في الظروف التي شرحناها جميعها، لا يجب أن تطغى على حقيقة أخرى هي أنَّ «مسيت» لم يكن وحده الذي اعتقد بأنه من المتعذر الاحتفاظ بالإسكندرية من غير الاستيلاء على رشيد والرحمانية، فقد كانت هذه الفكرة ذاتها فكرة قديمة أخذ بها العسكريون من أيام حملة البريطانيين الأولى على مصر، فرددها «هتشنسون» الذي كتب وقتذاك إلى «الجين» في ٢٥ يناير سنة ١٨٠١، أنه لا يمكن الاحتفاظ بالإسكندرية إلَّا إذا عدت مأمونة كل وسائل الاتصال بينها وبين الجهات الزراعية التي بجوارها، وذلك عن طريق السيطرة على مصبات النيل، ثم رددها «دراموند» من بعده، فظلَّ هذا يؤكد منذ عام ١٨٠٣ بأن امتلاك رشيد ضروري لتموين الجيش الذي يعهد إليه باحتلال الإسكندرية، ثم إنَّ «مسيت» نفسه كان قد كتب إلى «وندهام» منذ ١٤ أغسطس ١٨٠٦، أن الإسكندرية تعتمد في غذائها وتموينها على رشيد، فهذا جميعه ينهض دليلًا على وجود نوع من إجماع الرأي في هذه الناحية، ولقد كان هذا الرأي الذي أخذ به «مسيت» ضمن من أخذوا به مبعث الخطأ الأساسي الذي قرر مصير هذه الحملة من الناحية العسكريَّة خصوصًا.

فلا جدال في أنَّ التفكير الذي اقترن بإخراج حملة «فريزر» إلى حيز الوجود، كان تفكيرًا خاطئًا من أساسه، سواء من ناحية التناقض الذي ظهر بين تحديد الغرض الذي تعين لهذه الحملة تحقيقه، وبين وضع هذا الغرض نفسه موضع التنفيذ، وعلى نحو ما اعتقد «مسيت» على وجه الخصوص أنه الطريقة المثلى، بل والتي يتسنى بها وحدها تحقيقه، ولقد كان «مسيت» الرجل الذي نصت التعليمات المعطاة إلى «فريزر» على وجوب استشارته والعمل بنصائحه، بوصفه خبيرًا ذا دراية بالشئون المحلية؛ وعلى ذلك فإنه بينما لم يدر في خلد حكومة جرنفيل عندما أصدرت تعليماتها بشأن هذه الحملة في نوفمبر ١٨٠٦، أنَّ احتلال الإسكندرية ومناصرة الأحزاب الموالية لإنجلترة في مصر (أي المماليك)، أن تحقيق هذين الغرضين سوف يقتضي توسيع نطاق العمليات العسكريَّة لاحتلال رشيد أو الرحمانية، أو غيرهما من المواقع في داخل البلاد، كان «مسيت» الذي وجب على قائد الحملة الإنصات لما يبديه من آراء لها قيمتها — يفسر أغراض حكومته على غير الوجه الذي قصدته هذه منها، ولا يدور في خلده هو الآخر أنه قد غاب عن حكومته أنَّ احتلال الإسكندرية يتطلب الاستيلاء على رشيد والرحمانية، على نحو ما نادى به العسكريون، وكذلك السياسيون من سنوات عدة سابقة.

وعلى ذلك، فإنه بينما تألفت الحملة من قوات محدودة، تكفي في نظر الحكومة لتنفيذ التعليمات التي أصدرتها، ولم يكن في مقدورها — علاوة على ذلك — إعداد قوات أكبر من تلك التي بعثت بها لاحتلال الإسكندرية؛ وذلك لحاجتها الملحة إلى وجود جيش قوي بصقلية، فقد وجدت حملة «فريزر» بعد الاستيلاء على الإسكندرية أنها إنما تواجه في واقع الأمر واجب القيام بعمليات عسكرية أوسع نطاقًا مما كانت تفترضه الحكومة التي سيرتها على هذه البلاد، فكان هذا التناقض بين وجهتي النظر من الأسباب الرئيسيَّة التي أدت إلى فشل الحملة.

أضف إلى هذا أنَّ الفكرة التي قام عليها إرسال هذه الحملة إلى مصر، من حيث منع الفرنسيين من النزول إلى مصر والحيلولة دون غزوهم لها، لم تكن في حد ذاتها فكرة صائبة، ولم يكن مبعثها سوى ذلك الفزع التقليدي الذي استبد بالعسكريين والسياسيين البريطانيين على السواء من ناحية الفرنسيين ورغبتهم في امتلاك هذه البلاد مرة ثانية، فمع أنَّ نابليون كان مشغولًا بحروبه ومشاريع فتوحاته الواسعة في القارة الأوروبيَّة، وكان لدى الإنجليز من القوات البحرية والقواعد الاستراتيجيَّة الهامَّة في البحر الأبيض، لا سيما في صقلية ومالطة، ما يحول دون سبق الفرنسيين في احتلال مصر إذا تهيئوا لفعل ذلك، فقد آثرت الحكومة الإنجليزيَّة احتجاز قسم من جيشها في الإسكندرية على استخدام هذه القوات في ميادين أخرى أكثر اتصالًا من الناحية العسكريَّة بمطالب الحرب الدائرة.

ثم إنَّ مهاجمة الأتراك في أملاكهم البعيدة عن مقر السلطنة، كان وسيلة خاطئة لتخويفهم، وردعهم عن الانحياز إلى جانب أعداء إنجلترة وحليفتها روسيا، أو حملهم على الوقوف موقف الحياد في الحرب بين هاتين الدولتين وبين فرنسا، فلم يكن منتظرًا أن يستقدم الأتراك لنجدتهم قوات من مصر، وهذه يغزو الأعداء أرضها، ولا كان من المنتظر أن يبعث الأتراك بنجدات إليها ينتزعونها من جيوشهم المشتبكة في قتال مرير مع الروس، فلا يتسنى للبريطانيين في الحالة الأولى إحراز أي تفوق عددي على الأقل على جيش محمد علي في مصر، ولا يجب أن يتوقع الروس حدوث نقص في قوات الأتراك الواقفة لقتالهم، وقد زاد من خطل هذا الرأي أنَّ العامل الحاسم في تشكيل سياسة الأتراك إنما كان مرتبطًا بمدى ما يلحق بأي الفريقين: إنجلترة وروسيا من جانب، وفرنسا من جانب آخر من هزائم، أو يحرزه من انتصار، وقد شاهدنا كيف أنَّ «سباستياني» ظلَّ صاحب النفوذ الأول في القسطنطينيَّة، ولم يفزع الأتراك غزو الإنجليز واستيلاؤهم على الإسكندرية، وكانت الإجراءات التي اتخذوها من حيث الاهتمام بالدفاع عن مصر، إجراءات عادية لا تتجاوز إصدار الأوامر للباشوات القريبين من مصر لإرسال النجدات إليها، واستحثاث محمد علي وأهل البلاد على الدفاع عنها.

ولقد كان مما يصح اتخاذه مبررًا لإرسال حملة «فريزر»، أن يكون الغرض منها التمهيد لاستيلاء البريطانيين على مصر، والاحتفاظ بها لأنفسهم في النهاية، ولكنَّ الخطة التي أملت على الحكومة الإنجليزيَّة فكرة إرسال هذه الحملة، كانت في صميمها جزءًا ثانويًّا من مشروع أوسع نطاقًا، أرادت به في زعمها التأثير على مجرى الحوادث في الميدان الأوروبي، فكان من المفروغ منه ومنذ البداية، أن يرتهن تقرير مصير هذه الحملة بما قد يجدُّ من تطورات في الموقف الأوروبي من الناحيتين العسكريَّة والسياسيَّة؛ ولذلك كان خطأ كبير أن تفصل الحكومة الإنجليزيَّة قوة من خمسة آلاف جندي في أواخر عام ١٨٠٦ من جيش صقلية، للقيام بدور الحامية التي لا تعدو مهمتها في حساب الحكومة الإنجليزيَّة مجرد حراسة هذه البلاد من غزو محتمل.

فكان من رأي السير «جون مور» وهو يكتب في يومياته بتاريخ ٥ فبراير سنة ١٨٠٧ عن الاستراتيجيَّة التي كانت مبعث إرسال هذه الحملة، أنها صدرت عن فكرة خاطئة؛ لأن مهاجمة الأتراك في مقاطعاتهم البعيدة ليس الوسيلة التي يمكن بها التأثير عليهم كثيرًا، وإذا كانت مصر هي ما نبغي أن تكون نصيبنا إذا وقع تقسيم أملاك الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، ففي وسعنا عندئذٍ أخذ الإسكندرية في أية لحظة نريدها، ولا يستطيع الفرنسيون سبقنا في النزول بها، ولكنه لا يجب علينا الآن وفي هذه اللحظة بذاتها والحرب دائرة أن نحتجز جنودنا في حاميات بعيدة؛ لأن هذا الإجراء بحرماننا من جيش يمكن استخدامه في ميادين أخرى يجردنا من المزايا التي لنا بفضل تفوقنا البحري عند الرغبة في الدخول في عمليات عسكريَّة هجوميَّة.

ثم كان من نفس هذا الرأي كذلك مدير المهمات في جيش صقلية «بنبري»، فقد اعتبر قرار الحكومة الخاص بإرسال حملة «فريزر» إلى مصر، قرارًا خاطئًا؛ لأن هذا الإجراء لن يترتب عليه سحب أي جندي عثماني أو فرنسي من الجيوش المستخدمة في الحرب ضد روسيا.

وإذا كانت الاستراتيجية التي انبنى عليها إرسال حملة «فريزر» إلى مصر استراتيجية خاطئة، فقد كانت الاستعدادات التي أجريت لإرسال هذه الحملة محل نقد كثيرين، فإن أحدًا من الجنود أو الضباط الذين جاءوا إلى مصر، لم يكن يعرف شيئًا عن هذه البلاد، بالرغم من وجود عديدين بالجيش البريطاني ممن زاروا مصر وعرفوها أثناء الاحتلال البريطاني الأول في عام ١٨٠١، وقد ترتب على هذا النقص، أن اعتمد القواد البريطانيون كل الاعتماد في معلوماتهم عن طبيعة البلاد، وعادات أهلها وتقاليدهم وميولهم، وعن المماليك وأحزابهم واختلافاتهم وأغراضهم، على «مسيت» الذي قام عندئذٍ بدور المستشار السياسي للحملة، مع ما نجم عن ذلك من نتائج سبق ذكرها.

ولقد تضافرت أخطاء فنيَّة عسكريَّة عديدة على إلحاق الفشل بعمليات الحملة سواء في هجومها الأول ضد رشيد، أو أثناء حصارها بعد ذلك في واقعة الحماد المعروفة، وقد تحدثنا عن هذه الأخطاء في سياق الكلام عن هذه المعارك، ولعلَّ أهم هذه الأخطاء أنَّ «فريزر» لم يبعث في هذه الحملات بأكثر القوات التي لديه، فاحتجز بالإسكندرية عددًا من الجند يفيض على حاجة الدفاع عنها، في حين كان الواجب يقتضيه إرسال أعظم قوة ممكنة لإدراك نصر حاسم، يتوقف على الظفر به قبل كل شيء مجيء البكوات من الصعيد للتعاون معه.

وقد كتب السير «جون مور» تعليقًا على فشل الهجوم الأول على رشيد: «لقد كان بودي لو أنَّ «فريزر» بدلًا من إرسال ١٤٠٠ رجل بقيادة «ووكوب» إلى رشيد والرحمانية، قد ترك بضعة مئين فحسب لحراسة الإسكندرية وأبي قير والقطع (بين المعدية ومريوط)، وسار هو بنفسه على رأس القسم الأعظم من جيشه إلى رشيد والرحمانية، فإنه لو فعل ذلك لوجد نفسه حينئذٍ في بلاد غزيرة الخصب، يستطيع أن يأخذ منها كل ما تحتاج إليه الإسكندرية من مؤن وأغذية وكيفما شاء، ووجود جيشه بهذه الجهات يكسبه من هذه الناحية ذاتها مزايا كبيرة، فهو نفسه سوف يكون عندئذٍ بالمكان الذي هو مصدر المؤن والأغذية، ويجنبه هذا أيضًا كل المشاق المتصلة بتدبير وسائل النقل ومشكلاته، وتلك مزية لا يستهان بها إذ من الممكن حينئذٍ تدبير وسائل النقل هذه إلى الإسكندرية دون مخاطرة، والقهقرى أو الانسحاب إلى الإسكندرية أمر مأمون دائمًا.»

ويؤكد الناقدون صواب ما ذهب إليه «مور»؛ لأن العمليات العسكريَّة التي حدثت بقيادة «ووكوب»، وهي عمليات كان — كما شاهدنا — خطأ الإشراف عليها ظاهرًا، لم تلبث أن انتهت بالكارثة المعروفة، فقد انهزم الإنجليز شر هزيمة في رشيد (٣١ مارس)، واسترجع الأرنئود رشيد بعد فقدها، ودلَّ ما حدث على أنَّ الإجراءات والترتيبات التي اتخذتها القيادة العليا عند تقرير الهجوم عليها، ثم تلك التي اتخذها «ووكوب» نفسه، لم تكن كافية لتأمين الاحتفاظ بالمدينة بعد الاستيلاء عليها.

ولقد سبق أن أوضحنا كيف أنَّ هذه الهزيمة الأولى كانت عاملًا حاسمًا في تقرير موقف البكوات، فبدلًا من أن يهب هؤلاء لنجدة أصدقائهم وحلفائهم، سرعان ما جعلتهم هذه الهزيمة يقررون من الآن فصاعدًا التمسك بأهداب الحيطة والحذر، والتزام الحياد الذي مكن محمد علي من إرسال قوة كبيرة لنجدة رشيد، ومهد لهزيمة الإنجليز الساحقة في الحماد.

ولا جدال في أنَّ المماليك بامتناعهم عن النزول من الصعيد — مهما كان مبعث هذا الامتناع — قد تسببوا كذلك في هزيمة «ستيوارت» وضباطه في الحملة الثانية على رشيد، وهي الحملة التي كان لرداءة نظام المخابرات الذي أوجده «مسيت» أثر كبير في هزيمتها أيضًا، ففوت المماليك على أنفسهم وإلى الأبد فرصة استرجاع الحكم والسلطان في مصر، كما قرروا مصير حملة «فريزر» ذاتها، فلو أنهم أجمعوا رأيهم على النزول من الصعيد، وانضم فرسانهم إلى جيش «فريزر»، وتكتلت قوى الفريقين، لاستحال على محمد علي مقاومة هذه القوات المتحدة ضده، ولتيسر عندئذٍ تهديد القاهرة ذاتها، إنْ لم يكن الاستيلاء عليها، ولصحت أحلام «مسيت» الذي أراد بكل ما وسعه من جهد وحيلة أن يخرج الحملة عن طوقها الأول؛ أي مجرد احتلال الإسكندرية إلى عملية يقصد بها امتلاك البلاد بأسرها، ولا شك لذلك في أنه لو تمَّ هذا الاتحاد — الذي نشده «مسيت» وظلَّ «فريزر» يطلبه — بين البريطانيين والمماليك، لكانت الحملة قد اتخذت قطعًا اتجاهًا آخر، ولتقرر مصيرها على صورة أخرى.

على أنَّ مصير حملة «فريزر» كان مرتهنًا كذلك — وكما ذكرنا — بتطور الموقف العسكري والسياسي في أوروبا، وهو ما دعا «كاسلريه» في وزارة «بورتلاند» التي خلفت وزارة جرنفيل، أن يعيد النظر في تلك الاستراتيجية القديمة التي أفضت إلى إرسال داكويرث بأسطوله إلى مياه القسطنطينية، وإرسال «فريزر» بجيشه إلى الإسكندرية، ومع أنه ليس هنالك ما يدعو لتكرار الكلام عن الأسباب التي دعت إلى تغيير الاستراتيجية التي ابتدعتها الحكومة الإنجليزيَّة السابقة، أو إعادة القول في تفاصيل الخطة الجديدة، فثمة حقيقة لا يجوز إغفالها عند ذكر العوامل التي أفضت إلى إخفاق الحملة، تلك أنَّ السياسة التي ارتبطت بها الحكومة الإنجليزية — سواء على عهد وزارة جرنفيل أو وزارة «بورتلاند» — كانت فيما يتعلق بشئون الليفانت — تركيا ومصر على وجه الخصوص — سياسة خاطئة جملةً وتفصيلًا.

وذلك أنه فيما يتعلق بتركيا، ربطت إنجلترة سياستها ربطًا وثيقًا بسياسة روسيا، حتى إن فشل أي هاتين السياستين كان معناه بالضرورة فشل الأخرى، ولقد كان نصيب سياسة روسيا الفشل الذريع، حيث حطمت انتصارات نابليون عليها كل سمعة لها في القسطنطينية، فضلًا عن أنَّ سمعة الروس في العاصمة العثمانيَّة لم تكن أصلًا كبيرة؛ بسبب ادعاءاتهم العريضة على الولايات الدانوبية خصوصًا، وأطماعهم الأشعبية في أملاك الدولة، ولما أراد الإنجليز مؤازرتهم بالضغط على الباب العالي ليقبل إنهاء خلافاته معهم، بعثوا بأسطول «داكويرث» إلى المياه العثمانيَّة، وقد تقدم كيف كانت هذه مظاهرة فاشلة، وأضاع «داكويرث» فرصة القيام بعمل جدِّي، بانسياقه في مفاوضات لا جدوى منها ولا طائل تحتها، وعبثًا ما حاولت إنجلترة بعد هذا الفشل الأول إصلاح الموقف، بفرض الحصار على الدردنيل وعلى الموانئ العثمانيَّة، وبدء مفاوضات على يد سفير جديد، هو السير «آرثر باجيت»، فقد كان الأتراك تقووا وقتئذٍ بدرجة جعلتهم يماطلون ويسوفون، حتى إذا عقد نابليون مع القيصر معاهدة «تلست»، واستقلَّ الروس في خططهم عن الإنجليز، وازداد الخطر على مراكز الإنجليز في البحر الأبيض وفي صقلية خصوصًا من جانب الفرنسيين المنتصرين في الميادين الأوروبيَّة، لم يعد هناك مناص من تكتيل قواتهم في صقلية واستدعاء حملة «فريزر» لهذا الغرض، وانتهت مفاوضات «باجيت» مع الأتراك بالفشل.

وأمَّا فيما يتعلق بمصر، فقد أخطأت إنجلترة خطأً جسيمًا منذ أن بنت سياستها على إمكان التعاون مع المماليك؛ لتأسيس نفوذها ودعمه في هذه البلاد، وذلك بالرغم مما كان هنالك من براهين كثيرة على أنَّ هؤلاء لا يقدرون على الحكم ولا يصلحون له، ولم يفطن الإنجليز إلى أنَّ القوة التي بوسعها مساعدتهم مساعدة فعالة، والتي سوف يكون المستقبل لها هي محمد علي، لا المماليك، ففاتهم مغزى الانقلاب الذي أوصل محمد علي إلى الحكم في مايو ١٨٠٥، بل أنهم بدلًا من مؤازرة هذه القوة الجديدة التي برزت من ميدان الفوضى السياسيَّة الضاربة أطنابها في البلاد، سرعان ما راح وكلاؤهم يكيدون لها، فأساءوا به الظن وشكوا في نواياه، واعتبروه مبيعًا لفرنسا، وجعلهم الفزع المتسلط عليهم من الغزو الفرنسي لهذه البلاد، يناوئونه سياسيًّا بكل ما أوتوا من جهد وحيلة، حتى إذا تأزمت علاقاتهم مع الباب العالي، واتتهم الفرصة لشن الحرب عليه وقتاله، ولم يكن خافيًا أنَّ التعليمات التي أعطيت لفريزر بمؤازرة الأحزاب الصديقة لإنجلترة وهم المماليك، كان معناها عند تنفيذها إخراج محمد علي من الحكم والولاية، ولم يكن الغرض من إرسال حملة «فريزر» إبعاد الفرنسيين من مصر والحيلولة دون غزوهم لها، ومع أنهم كانوا لا يريدون قطعًا احتلال البلاد بأسرها، بل احتلال الإسكندرية فحسب، فقد اعتمدوا من ناحية أخرى على عودة البكوات إلى الحكم؛ ليبسطوا نفوذهم على البلاد عن طريقهم، ولا سبيل لتحقيق هذه الغاية إلَّا بطرد الأرنئود وإقصاء محمد علي من الباشوية، ولم يحُل دون ذلك سوى غلط استراتيجية الإنجليز أنفسهم في المقام الأول، ثم عدم كفاءة ومهارة قوادهم العسكريين، وأخيرًا انعدام كل فهم أو إدراك سياسي لدى المماليك، فبدلًا من التعاون المنتظر بين الفريقين، ترك الإنجليز والمماليك أنفسهم ينهزمون فرادى على يد جيش محمد علي الذي خرج من هذا النضال وقد تزايدت قوته، وصار بفضل امتلاكه للإسكندرية سيد البلاد الحقيقي، وسهل عليه بعدئذٍ القضاء على كل العناصر المناوئة لسلطانه، وهكذا منيت سياسة الإنجليز في مصر بالفشل الذريع، وهو فشل يسترعي النظر، من حيث إنه أفضى بسبب الهزائم التي لحقت بهم من جراء امتناع المماليك — على وجه الخصوص — عن مساعدتهم إلى زيادة إقناع «كاسلريه» بضرورة سحب حملة «فريزر» من مصر، ولأن كل تلك الجهود التي ثابروا عليها دون هوادة منذ احتلالهم الأول لهذه البلاد، قد باءت جميعها بالفشل، وكان جلاؤهم عن الإسكندرية خاتمة المطاف لهذه السياسة.

ولقد كان — بلا جدال — دخول الإسكندرية في حوزة محمد علي، أهم النتائج التي أسفرت عنها حملة «فريزر»، فقد ظلَّت الإسكندرية حتى هذا الوقت خاضعة رأسًا في حكومتها للقسطنطينية، فكانت لذلك بمثابة الحلقة التي تربط بين باشوية مصر وعاصمة الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، والمنفذ الذي يبسط منه الباب العالي نفوذه على هذه البلاد كلما تسنى له ذلك، أو البؤرة التي يدبر فيها ضباطه ورجاله مكائدهم ضد الباشوات العثمانيين أو البكوات المماليك، إذا قوى شأن هؤلاء وأولئك لتقويض سلطانهم، فكان معنى انضمام الإسكندرية إلى الولاية ودخولها في نطاق باشوية القاهرة، أنه قد انفصمت الآن تلك الحلقة القديمة التي ربطت بينها وبين القسطنطينية، وأن انعدم ذلك الاتصال المباشر بين مقر السلطنة وبين باشوية محمد علي، وأنه قد تعذر على أعداء الباشا وضباط الباب العالي، أن يجدوا في مصر وكرًا يحبكون منه دسائسهم ضد نفوذه وسلطانه، ولقد كان من أثر التجارب السابقة التي مرت بمحمد علي أثناء أزماته المتلاحقة مع الباب العالي منذ أن وصل إلى الحكم والولاية، وهي التجارب ذاتها التي جعلته يرفض أي اتفاق مع الإنجليز إلَّا على أساس جلائهم عن الإسكندرية، وحملته على أن ينشد لنفسه في مصر وضعًا مشابهًا لوضع حكام وجاقات الغرب، وأن يسعى جهده أثناء مفاوضته مع الإنجليز لعقد محالفة معهم ضد أعدائهم وأعدائه على السواء من فرنسيين وأتراك، نقول: إنه كان من أثر هذه التجارب أن اعتبر محمد علي امتلاك الإسكندرية فتحًا حقيقيًّا، وكان الإنجليز أنفسهم هم الأداة التي مكنته من ذلك، وقد أدرك المعاصرون قيمة هذا الفتح الثمين، من حيث إيذانه بتوطيد حكم محمد علي ودعم أركان باشويته، فقال الشيخ الجبرتي عند الحديث عن الظروف التي خرجت فيها حملة «فريزر» من مصر — وكان حديثًا مقتضبًا موجزًا لبعد الشيخ عن مقر المفاوضات، ولعدم إذاعة شيء عنها: «إنَّ الباشا بجلاء الإنجليز ودخول الإسكندرية في حوزته، قد استقرَّ واطمأن خاطره، وخلص له الإقليم المصري.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤