مقدمة

١

فريد الدين العطار شاعر فارسي من أئمة شعراء التصوف، يعد هو وسلفه مجد الدين سنائي، وخلفه جلال الدين الرومي أكبر شعراء الفرس المتصوفين، وقد شاع ذكرهم وعظمت مكانتهم حتى كشفوا مَن جاء بعدهم من شعراء الصوفية العظماء.

وقد قُرن هؤلاء الثلاثة بعضهم ببعض أنهم أسبق شعراء التصوف زمانًا، وأن جلال الدين الرومي؛ وهو آخرهم وأكبرهم، قرن نفسه بصاحبيه مرارًا.

عني جلال الدين في شعره بذكر سلفيه وشرح أقوالهما، وقال: «كان العطار وجهًا، وسنائي عينيه، وجئنا على أثر العطار وسنائي.»١
وقال: «طوف العطار مدن العشق السبعة، ولا تزال في منعطف جادة واحدة.»٢

ولما درست الأدب الفارسي واطلعت على أقوال شعراء الفرس الصوفية بدا لي أن أكتب عن واحد من هؤلاء الشعراء، فاخترت فريد الدين العطار، وكان هذا الاختيار طموحًا واعتدادًا بالنفس وهجومًا على المشاق، فالعطار الذي نظم زهاء أربعين منظومة في التصوف لا بد له من دراسة طويلة يتداولها باحث بعد آخر حتى تجمع كتبه كلها وتصحح ويستخرج منها تصوفه.

فلما وقعت في بحر هذا الشاعر راعني لجة، وهالني موجه، فجهدت حتى رجعت إلى الساحل، وقنعت بأن أصف سعة الماء واضطرابه، وتتابع أمواجه، وعراكها الدائم، وما يقذف الموج حينًا من جواهره أو حيوانه؛ لم أستطع ركوب أثباجه إلى مجاهله، ولا الغوص في لججه إلى قاعه، ولكنني لم أصف إلا ما شهدت، ولم أقل إلا ما تحققت.

ففي الصفحات القليلة الآتية وَصْف موجز لشاعر مكثر فياض وحسبي أن أعرف بهذا الصوفي العظيم في اللغة العربية على أي وجه من وجوه التعريف.

٢

موضوع هذا الكتاب التصوف كما بينه فريد الدين العطار الصوفي الكبير والشاعر الفارسي العظيم.

وللعطار كما قلت زهاء أربعين منظومة في التصوف كثير منها ينتظم آلافًا من الأبيات، وبعضها مفقود؛ فليس ممكنًا أن يستخرج الباحث صورة كاملة واضحة من تصوف العطار، والتصوف نفسه يأبى التحديد والإحاطة.

فقصارى الباحث أن يتناول أمهات المسائل التي يدور عليها تصوفه مأخوذة مما تناله اليد من كتبه المطبوعة والمخطوطة، غير معرج على الفروع التي يعسر إحصاؤها، والجزئيات التي تأبى على العد.

٣

ولا بد لفهم تصوف العطار من تمهيد أبين فيه التصوف؛ كيف نشأ وكيف تطور، وأجمل المسائل الكبرى التي اجتمع عليها كبار الصوفية منذ بلغ التصوف أشده، واستبانت فلسفته، واتضحت مقاصده إلى أن نشأ العطار.

ويزيدنا حاجة إلى هذا التمهيد أننا نبحث عن تصوف شاعر لا يصنع فكره وشعوره وضع المسائل العلمية، تحدد وتبحث، وتبين المقدمات فيها والنتائج؛ ولكن يبين عن عقله ووجدانه في فيض الشعر وحماسته وفي صوره وجازاته، فإن لم يكن القارئ عارفًا بتاريخ التصوف ومقاصده ووسائله انبهم عليه كثير مما يقول الشاعر.

٤

ولا بد من تأريخ العطار على قدر ما تأذن الآثار القليلة من سيرته التي رواها المؤرخون أو نمت عليها أقواله في منظوماته؛ لنعرف — جهد الطاقة — البيئة التي نشَّأته، والحوادث التي يشير إليها أحيانًا، والأحوال التي عاش فيها، والأسباب التي أدت به إلى الطريق التي سلكها أو زادت ميله ونزوعه إلى سلوكها.

٥

وكذلك يحسن أن نبين الصلة بين التصوف والأدب في الأدبين العربي الفارسي والآداب الإسلامية الأخرى؛ فإننا بصدد صوفي شاعر صور كل آرائه وعواطفه وتجاربه في الشعر.

٦

فلزم أن يشمل هذا الكتاب على الموضوعات الآتية:
  • (١)

    التصوف الإسلامي؛ نشوؤه وتطوره.

  • (٢)

    وصِلَة التصوف بالأدب.

  • (٣)

    وتاريخ فريد الدين العطار.

  • (٤)

    والتصوف كما بيَّنه فريد الدين مع بيان موضع آرائه من التصوف العام كلما احتاج البحث إلى هذا البيان.

هوامش

(١)
عطار روى بودوسنائي دوچشيم أو
ما أزپى عطار وسنائي آمديم
(٢)
هفت شهر عشق را عطار كشت
ما هنوز درخم يك موچه إيم

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤