الفصل الأول

التصوف الإسلامي نشوؤه وتطوره

(١) أصل التصوف

١

التصوف ليس مذهبًا محدود المعالم والمقاصد كالمذاهب الأخرى؛ بل هو — على تشابه مقاصده ونزعاته ووسائله — يختلف باختلاف المتصوفين على قدر فطرهم، ومبلغهم من العلم، وأحوالهم؛ إذ كان للوجدان فيه نصيب كبير، وللأحوال النفسية فيه أثر واضح، وقد أدرك هذا الباحثون من غير المسلمين؛ فقال جولزيهر، كما نقل عنه الأستاذ نيكلسون في مقدمته لترجمة «كشف المحجوب» للهجويري: «إن التصوف لا يمكن أن يعد مذهبًا وضع على أصول بينة في الجماعة الإسلامية، ولا يمكن جمع مسائله على طريقة مطردة.»

والحق أن الصوفية أنفسهم يكرهون الصور والأشكال، وينفرون من الحدود والقيود، وقد رووا فيما رووا من الآثار: أن الطرق إلى الله كعدد أنفس بني آدم.

وقد صدقت هذا سيرهم وطرقهم،١ ولكن مع هذا نجد بين الصوفية كلهم تشابهًا في المقاصد والوسائل والسِّير تمكِّن الباحث من أن يقول: هذا صوفي، وهذا غير صوفي، وقد تيسر للناس في العصور المختلفة أن يعرفوا الصوفية ويسموهم بهذا الاسم، ويقول الأستاذ نكلسون، في مقدمته لترجمة الهجويري: «وتبقى بعد طائفة من المذاهب محدودة يتفق عليها الصوفية على اختلاف طرقهم نشأت من تجمع آرائهم المختلفة.»

فيمكن — إذًا — أن نبين أصول التصوف في الآراء والأفعال، ونحدد بها هذا المذهب بعض التحديد.

ومهما يكن؛ فمن الممكن تعرف نشوء التصوف في جملته بين الجماعة الإسلامية وتتبع تطوره، وبيان هذا في الصفحات الآتية:

٢

اختلف آراء الباحثين في التصوف؛ أَنَشَأَ في الجماعة الإسلامية نشوءًا مستقلًّا، أم انتقل إلى هذه من الأمم الأخرى واتخذ لونًا إسلاميًّا؟

وإن كان قد نشأ في الجماعة الإسلامية غير متأثر بمذاهب خارجة، فهل أنشأه التعليم الإسلامي، أم نشَّأته أحوال مختلفة كالتي نشَّأت التصوف أو ما يشبهه في الأمم الأخرى؟

وخلاصة ما يقول الباحثون في هذا:
  • (١)

    إن التصوف كان رد فعل لفرض العقائد الإسلامية على الأمم الآرية، فكان في التصوف تخلص من عقيدة التوحيد المطلق وتخلص من التكاليف المحدودة المحكمة التي كُلف بها الإسلام، والذين يرون هذا الرأي يختلفون في الأمة الآرية التي أثرت في تصوف المسلمين، يقول بعضهم: إن التصوف في صورته التي انتهى إليها يشبه مذاهب هندية ولا سيما ودنتاسارا، وهذا التشابه يدل على أصل مشترك ينبغي أن يلتمس في الهند.

    ويرى فريق آخر أن التصوف فارسي في نشأته، ويحتجون بأن كثيرًا من الصوفية الأولين عاشوا في بلاد الفرس أو كانوا من سلالة فارسية.

  • (٢)

    ويرى باحثون آخرون أن التصوف من ناحيته الفلسفية أخذ من الأفلاطونية الحديثة أكثر من أي فلسفة أخرى، مع التسليم بأن في التصوف أمورًا نشأت في الجماعة الإسلامية كما نشأت في جماعات أخرى؛ استجابة لنزوع النفس الإنسانية إلى معرفة مبدئها ومنهاها، وتطلعها المستمر إلى الاتصال بخالقها.

    وهذا رأي براون في تاريخ الفرس الأدبي، ونيكلسون في مقدمة القصائد المختارة من ديوان شمس تبريز.٢
    ويقول براون بعد أخذه بهذا الرأي:
    ولكنا، ولو سلمنا بالصلة بين الصوفية والأفلاطونية الحديثة، نواجه أسئلة يتعذر علينا إجابتها إجابة قاطعة بما عندنا الآن من العلم، ما الذي استعار الأفلاطونيون المحدثون لفلسفتهم من الشرق — ولا سيما فارس — وقد زارها أفلوطين كما ذكر مؤرخه فرفيروس، مصرحًا أنه ذهب إليها لدرس المذاهب الفلسفية التي تُعَلَّم هناك؟ وإلى أي حد نشر آراءهم الفلاسفة السبعة من الأفلاطونيين المحدثين، الذين فروا من اضطهاد جستنيان ولجئوا إلى كسرى أنو شروان حوالي سنة ٥٣٢م.٣

    لا ريب أن الأفلاطونية الحديثة كانت في القرن التاسع الميلادي، عصر الإسلام الذهبي، معروفة جدًّا عند مفكري المسلمين؛ ولكنا لا نستطيع — حتى يجاب هذان السؤالان إجابة قاطعة — أن ننفي أن أصولها كانت معروفة في الشرق، إن لم تكن مأخوذة منه، في زمن قديم جدًّا.

  • (٣)

    والرأي الأخير أن التصوف نشأ في الجماعة الإسلامية وتطور مستقلًّا غير آخذ من الهند أو الفرس أو فلاسفة اليونان، وليس التشابه بين مذهبين دليلًا على أنهما من أصل واحد؛ فقد تؤدي الأسباب المتشابهة إلى نتائج متشابهة في الأقطار والعصور كلها.

والذي يراه المدقق في تاريخ الصوفية أن تصوف المسلمين وجد مبادئه في الكتاب والسنة، ووجد الآخذون به في الجامعة الإسلامية منذ كانت، وتطور من تصوف عمر وعلي وابن عمر وابن عمرو إلى تصوف الحسن البصري وعمرو بن عبيد وسفيان الثوري ورابعة العدوية، ثم إلى تصوف بشر الحافي ومعروف والجنيد والشبلي وأبي يزيد، ثم إلى تصوف الحلاج وابن عربي والجبلي والعطار والرومي والجامي … إلخ.

ويُرى هذا التطور متتباعًا متواصلًا؛ ولكن لا يُنكر أنه أخذ في سيره آراءً وأقوالًا وأفعالًا من النصرانية أو البوذية أو الأفلاطونية؛ فقد نشأ التصوف في الجماعة الإسلامية وتطور وتأثر بمذاهب أخرى كما يتأثر كل مذهب — كثيرًا أو قليلًا — بالآراء والمذاهب المتصلة به، ولو لم يكن للنصارى رهبانية، وللبوذيين رياضة، ولأفلوطين فلسفة؛ لنشأ التصوف في الإسلام، وتطور مع الرجال والعصور والأحوال، ولكنه حين وجد هذه الفِرَقَ استعان بما يلائم مقاصده منها.

وأحسب أن قياس التصوف بالمذاهب الأخرى المتشابهة، والنظر إلى تاريخ التصوف والمتصوفين يرجح هذا الرأي،٤ فتسليم إبراهيم بن أدهم، وحب رابعة العدوية، ومعرفة ذي النون والجنيد، وفناء أبي يزيد والحلاج، وتثليث الحلاج، ونظرية الإنسان الكامل التي بدأ بها هذا الصوفي وشرحها ابن عربي، ثم عبد الكريم الجيلي، وفلسفة السهروردي في حكمة الإشراق وهياكل النور؛ كل هذه توحي باتصال بين الصوفية والنُّساك في الأمم الأخرى، وفلسفة الأفلاطونية الحديثة، إن التشابه لا يثبت الاتصال ولكن يؤذن به؛ لا سيما في الأمور التي ليست نتيجة الفكر البشري الطبيعي والوجدان الإنساني العام؛ وهما متشابهان في الأمم؛ ولكنها نظرات فلسفية خاصة لا يجتمع عليها الباحثون اتفاقًا كفيض العالم عن الله تعالى وتسلسله في الأفلاطونية الحديثة والصوفية.
وإن نظرا إلى ناسك كإسحق النينوي ليبين لنا كيف تنتج الأفلاطونية الحديثة ممزوجة بالدين في الشرق آراء ورياضات تشبه آراء الصوفية ورياضهم.٥

وأما الصوفية أنفسهم فينكرون أن يكون استمداد طريقهم إلا من الكتاب والسنة، وينفرون من أن يتموا بأنهم يسيرون على آثار غير المسلمين من النساك، أو على آثار الفلاسفة.

وقد وكدوا هذا منذ أنكر الناس عليهم أقوالًا وأفعالًا، واجتهد أئمتهم في تبيين الوفاق الكامل بين التصوف والإسلام، أو بين الشريعة والحقيقة؛ ولكنهم يرون أيضًا أنهم يُلهمون حقائق يعجز عنها العقل، وتدرك بصائرهم ما لا يدركه سواهم فهم ملهمون، ولكن ببركة مسيرهم على الكتاب والسنة أيضًا.

وكان الصوفية في كل العصور يكرهون اسم الفلسفة: فالغزالي فندها في كتابه «تهافت الفلاسفة»، وأبان عجزها عن إدراك الحقيقة في كتابه «المنقذ من الضلال» وقد زلزلتها في الجماعة الإسلامية هجماته ولم يُجْدِهَا كثيرًا دفاع ابن رشد في كتابه «تهافت التهافت».

ثم نجد العطار يعرب عن بغضه الفلسفة فيقول: إن كاف الكفر أحب إليه من فاء الفلسفة — كما يأتي — وكذلك نجد جلال الدين الرومي يحقر الفلسفة ويفند عالمًا من دارسيها وفخر الدين الرازي، وكأنه يقصده حين يقول: «أقل أقل من حكمة اليونان اقرأ حكمة المؤمنين أيضًا.»٦
نجد بين المنتسبين إلى التصوف رجلًا يذكرنا بأفلوطين؛ هو السهروردي يحيى بن حبش المعروف باسم السهروردي المقتول (٥٤٩–٥٨٥ﻫ)، ونجد في كتابه «حكمة الإشراف» ما يشعر بالصلة بين التصوف والحكمة أي الفلسفة؛ ولكن لا ننسى أنه قُتل بتُهَم؛ منها: اعتقاده في الفلسفة القديمة.٧

ذلك موقف أكثر الصوفية من الفلسفة؛ وإن استمدوا منها وشاركوا فيها، ولكن كبار الصوفية الذين يقبلون كل شيء على أنه مظهر من مظاهر الحق، ويرون أن المهتدين والضالين متجهون إلى الله، لا يعبدون في الحق إلا إياه؛ وإن عبدوا غيره كما قال ابن الفارض:

وألسنة الأكوان إن كنت واعيًا
شهود بتوحيدي بحال فصيحة
وإن عبدوا غيري وإن كان قصدهم
سواي وإن لم يظهروا قصد نيتي
وكما قال آخر: «ليست وجوه الاثنتين والسبعين ملة إلا إلى هذه السدة، عالم حائر وليس فيها من ضل الطريق.»٨

هؤلاء لا بد أن يلقوا الفلسفة وكل مذهب بصدر أوسع، وفكر أرحب، ولكنهم مع هذا يرون أنها ليست شيئًا بجانب طريقهم التي تفيض عليهم العلم اللدني الذي لا ريب فيه، بغير توسل بالعقل الحائر الجبان.

(٢) نشوء التصوف الإسلامي وتطوره

١

الإسلام دين عمل وكدح وجهاد؛ يأمر بالتمتع في هذه الحياة دون إسراف ولا عدوان، ويعد المحسنين السلطان والمكن على هذه الأرض، وفي القرآن الكريم: يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ۚ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ۚ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ.

وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا.

وقد نهى الإسلام عن الرهبانية وحذر من الغلو في الدين والمبالغة في العبادة.

نهى الرسول عن مواصلة الصوم، والتهجد طول الليل، ونهى عبد الله بن عمر عن مواصلة الصيام والقيام وقال له: قم ونم، وصم وأفطر؛ فإن لبدنك عليك حقًّا، وإن لأهلك عليك حقًّا. وأمثال هذا كثير في هدي الرسول ولكن الإسلام مع هذا، ينهى الناس عن السكون إلى هذه الحياة الدنيا، ويبين حقارتها وقلتها في جنب الحياة الآخرة، كما في هذه الآية: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ.

وكان الرسول في سمو نفسه، وعظمة روحه يتقلل من متاع الدنيا ويحقر كثيرًا من زينتها، وزهرتها.

وكان في خاصة نفسه يكثر الصوم والتهجد ويعتكف في المسجد؛ ولا سيما في رمضان، ويلزم نفسه عبادات لا يلزم بها أصحابه؛ بل ينهاهم عنها؛ ولكن المسلمين اتخذوه القدوة المثلى في كل ما فعل، ما مثله لأمته وما خص به نفسه، فكان في هذا نزوع كثير من المسلمين إلى الزهد والتقشف والإعراض عن الدنيا، والإكثار من نوافل الصلاة والصوم.

وجاء في القرآن الكريم والحديث النبوي من الحث على الفكر والذكر، ومراقبة النفس، والتحذير من الغفلة والهوى ما دعا الملمين إلى كثير من النزعات التي جعلها الصوفية من بعد مذاهبَ وطرائقَ بينوا حدودها، ومراحلها ومقاصدها، وحسبنا من القرآن هذه الآيات: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا.

فَاصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ۖ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَىٰ * وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ۖ لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكَ ۗ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَىٰ.

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ

وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ

وكذلك نجد في القرآن آياتٍ تواتي ما كلف به الصوفية من الكلام في القرب والحب والرضا بين الله والإنسان مثل: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ، رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ، فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ.

فلما ذهب الصوفية مذاهبهم في صلة الله بالإنسان تمسكوا بهذه الآيات وأشباهها.

بل وجدوا في الكتاب الكريم ما يحتجون به لمذهبهم في وحدة الوجود على اختلاف إدراكهم فيها، وتعدد صورها عندهم في مثل هذه الآيات: اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَلِلهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ.

وكذلك في القرآن والسنة ما يقارب آراءهم في النظر إلى حقائق الأشياء، والإعراض عن الصور والأشكال، وما ذهب إليه بعض الصوفية في اختلاف الأديان والنِّحَل من أنها صور شتى لحقيقة واحدة، وطرق مختلفة تؤدي إلى مقصد واحد.

ففي تجاوز الظاهر إلى الحقيقة، والوسائل إلى المقاصد يجدون مثل هذه الآية: لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ الآية.

لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ

وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ

بل علَّمهم القرآن أن كل شيء ساجد لله وأن المؤمن والكافر ساجد طوعًا أو كرهًا: وَلِلهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ.

وحول هذا المعنى حام ابن الفارض حين قال:

وألسنة الأكوان إن كنت واعيًا
شهود بتوحيدي بحال فصيحة
وإن عبدوا غيري كان قصدهم
سواي وإن لم يظهروا قصد نيتي

هذه الآيات وأشباهها أوحت إلى المسلمين معانيَ كثيرةً سلكها الصوفية في مذاهبهم من بعد.

وزادوا عليها ما استنبطوه هم بطريقتهم في التأويل؛ ابتغاء المعاني الباطنة للآيات التي تدق على أهل الظاهر.

وليس يعنيني هنا أن أبين ما فعله بعض الصوفية في الاحتجاج لمذهبهم بما تدل عليه الآيات وما لا تدل عليه، وما نسبوه إلى الرسول والخلفاء الراشدين من أقوال وأفعال يعوزها الدليل، وإنما أردت أن أبين إلى أي حد وجه الإسلام الصوفية وكيف أمدهم حين استمدوه؛ جدالًا عن أنفسهم، وحجاجًا عن آرائهم.

وسأزيد هذا بيانًا في فصل «تصوف العطار والإسلام».

٢

كان لتعليم الإسلام، ولأسباب نفسية واجتماعية كثيرة، ولعرفان المسلمين ما عند الأمم الأخرى من عقائدَ ومذاهبَ، وإطلاعهم على كثير من سنن الأقوام الأخرى في الزهد والاعتكاف ورياضة النفس بضروب شتى؛ كان لهذا كله آثار في التصوف الإسلامي يتبينها القارئ حين يتبع نشوء التصوف وتطوره في الصفحات التالية:

هدى الإسلام الناس إلى التقوى؛ تقوى العاملين لمعايشهم، المجاهدين في هذه الدنيا، لا تقوى المترهبين، العاكفين على العبادة، الخانعين لغير الزمان، وتقلُّب الحَدَثان.

أرشد الإسلام إلى التقوى التي تحلى بها المسلمون الأولون، تقوى عمر وعلي وأمثالهما ممن يصرفون أمور الرعية، ويدبرون الحرب والسلم في المساجد، لا يفرقون بين العباد، والعمل لخير الأمة، وحمايتها والدفع عنها.

وكان إلى هؤلاء جماعة لم تشغلهم أمور الناس، فبالغوا في العبادة، وركنوا إلى الزهادة؛ كعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عمرو، وأهل الصُّفَّة.

ثم إن الفتن التي ثارت بين المسلمين، فأسالت بينهم الدماء أفزعت كثيرًا من الأتقياء، وحببت إليهم الابتعاد من مدارج الفتن جهد الطاقة، وأوحت إليهم الإشقاق مما يعرض الدين للمآثيم والشبهات؛ فبالغوا في التورع، والانقباض عن الناس.

فالثورة على عثمان وقتل هذا الشيخ الحيي التقي في حريم داره والمصحف في حجره، وما تبع هذا من وقعات الجمل وصفين والنهروان، ثم قتل الخليفة الرابع علي ابن عم الرسول وزوج ابنته في مسجد الكوفة وقد خرج لصلاة الفجر، ثم التنازع بين الأمويين ومخالفيهم من آل بيت الرسول، ومقتل السبط الشهيد الحسين بن علي في كربلاء، ثم صَلب زيد بن علي في الكوفة، وابنه يحيى بن زيد، والنزاع بين الأمويين والزبيريين واقتتالهم في العراق والشام والحجاز، ووقعة الحَرَّة، وحصار ابن الزبير في مكة وقتله على أبواب المسجد الحرام، والحوادث التي ترادفت من بعدُ على هذه الشاكلة؛ كل أولئك أوحى إلى المسلم التقي أن يفر بدينه وأوهمه أن المشاركة في أمور هذه الدنيا شركة في هذه الفتن، وارتكاس في الجاهلية التي أنجاهم الله منها، وتعرض للفتن التي روى أخبارها بعض المحدثين عن الرسول، فاجتهد بعض المسلمين أن يعتصموا بالزهد واعتزال الناس؛ فقد مضى زمن الخلافة الراشدة وجاء المُلك العضوض بمظالمه وفتنه.

ونحن نرى في أول هذه الحادثات سعد بن أبي وقاص أحد الستة أهل الشورى وقائد المسلمين في فتح بلاد العجم، يفر بنفسه بعيدًا عن الفتنة، وقد لزم جماعة من أهل بدر بيوتهم بعد مقتل عثمان فلم يخرجوا منها إلا إلى قبورهم، ونجد من بعدُ عمر بن عبد العزيز يضرب مثلًا لحياة المسلم التقي الزاهد بعد ما تبدلت بالمسلمين الأحوال.

ونشأت جماعة من المسلمين ترى أن الجماعة الإسلامية كلها فاسقة خارجة على سنن النبي فتعتزلها وتحاربها؛ وهم الخوارج، ولا شك أنه كان في المجتمع ناقمون على الأمراء ساخطون لم يغلوا غلو الخوارج فعاشوا خائفين على دينهم، متقللين من الدنيا ينتظرون الموت والنجاة.

في كتاب «البيان والتبيين» أن قرة الهمداني كان يصلي في اليوم والليلة خمسمائة ركعة، وكان يقول: «ولما قُتل عثمان حمدت الله ألَّا أكون دخلت في شيء من قتله فصليت مائة ركعة، فلما وقع الجمل وصفين حمدت الله ألَّا أكون دخلت في شيء من تلك الحروب وزدت مائتي ركعة، فلما كانت وقعة النهروان حمدت الله إذ لم أشهدها وزدت مائة ركعة، فلما كانت فتنة الزبير حمدت الله إذ لم أشهدها وزدت مائة ركعة.»٩

وأحسب أن كثيرًا من أمثال قرة أشفقوا على دينهم من الفتن فغلوا في العبادة فحرصوا على اعتزال الناس، والفرار بدينهم من متقلب الحادثات، ومفتتن الجماعات.

وكذلك كان من الناس من يلقى بذخ الأغنياء، وسَرَف الكبراء بما يناقضه في التقلل والتقشف؛ سخطًا على هؤلاء، وتسفيهًا لهم، وفرارًا مما ظنوا من التبعة في الكسب والإنفاق، ولا سيما التوسع في الثراء والمبالغة في التمتع بلذات الدنيا.

وأخذ المسلمون على عثمان تشييد القصور في المدينة، ومر أبو هريرة بمرْوان وهو يبني داره فقال:

يا أبا عبد القدوس، ابْنِ شديدًا، وأَمِّلْ بعيدًا، وعِشْ قليلًا، وكل خضمًّا، والوعد الله.

وقال الحسن: إن أهل الدنيا وإن دقدقت بهم الهماليج، ووطئ الناس أعقابهم، فإن ذل المعصية في قلوبهم.

وقد تحدث الزهاد كثيرًا عن الغِنَى والفقر، والصبر والشكر، كما قال الفضيل بن عياض:١٠ يابن آدم، إنما يفضلك الغني بيومين: أمس قد خلا، وغد لم يأتِ، فإن صبرت يومك أحمدت أمرك، وقويت على غدك، وإن جزعت يومك أذممت أمرك، وضعفت عن غدك، وإن الصبر يورث البرء، وإن الجزع يورث السقم، وبالسقم يكون الموت، وبالبرء تكون الحياة.
ودخل أبو حازم الأعرج على بعض ملوك بني مروان فكان من حوارهما أن سأله الملك: ما مالُك؟ قال: مالان. قال: ما هما؟ قال: الثقة بما عند الله، واليأس مما في أيدي الناس. قال: ارفع حوائجك إلينا. قال: هيهات، رفعتها إلى من لا تختزل الحوائج دونه فإن أعطاني منها شيئًا قبِلت، وإن زوى عني شيئًا رضيت.١١

وغلب على جماعة من هؤلاء النساك الحزن والصمت.

وصف يونسُ بن عبيد الحسنَ البصري فقال: كان إذا أقبل فكأنما أقبل من دفن حميمه، وإذا جلس فكأنه أسير قد أُمر بضرب عنقه، وكان إذا ذكرت النار عنده فكأنها لم تُخلق إلا له.

وروى الجاحظ أن رجلًا قال: صحبت الربيع بن خيثم سنتين فما كلمني إلا كلمتين، قال لي مرة: أمك ححيَّة؟ وقال لي مرة أخرى: كم في بني تميم من مسجد؟

ولما قُتل الحسين أتى قوم الربيع بن خيثم فقالوا: لنستخرجن منه اليوم كلامًا. فقالوا: قُتل الحسين. قال: فَاللهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

فقد أراد هؤلاء أن يخرج الرجل من صمته ويتكلم فيما شجر بين المسلمين، فلم يزد في جوابه على أن تلا هذه الآية.

وقال مالك بن دينار: لو كانت الصحف من عندنا لأقللنا الكلام.

وأحسبه يعني صحف الأعمال التي تُكتب فيها الحسنات والسيئات، فهو يصف الناس بكثرة الكلام الموبق، وبالحرص.

والحسن البصري خير من يمثل زهاد المسلمين ونساكهم في أوائل القرن الثاني الهجري، في عبادته وورعه وزهده، وخوفه من الله وموعظته وحكمته، وفي كلام الحسن وأمثاله أصول لما فاض به أدب الصوفية من بعد في هذه المعاني.

ومما روى الجاحظ من كلامه:

رحم الله عبدًا كسب طيبًا، وأنفق قصدًا، وقدم فضلًا، وَجِّهوا هذه الفضول حيث وجهها الله، وضعوها حيث أمر الله؛ فإن من كان قبلكم كانوا يأخذون من الدنيا بلاغهم، ويؤثرون بالفضل، ألا إن هذا الموت قد أضر بالدنيا ففضحها، فلا والله ما وجد ذو لب فيها فرحًا، فإياكم وهذه السبل المتفرقة التي جماعها الضلالة، وميعادها النار، أدركت من صدر هذه الأمة قومًا كانوا إذا حبهم الليل؛ فقيام على أطرافهم، يفترشون خدودهم، تجري دموعهم على خدودهم، يناجون مولاهم في فكاك رقابهم، إذا عملوا الحسنة سرَّتهم، وسألوا الله أن يتقبلها منهم، وإذا عملوا سيئة ساءتهم، وسألوا الله أن يغفر لهم، يابن آدم إن كان لا يغنيك ما يكفيك فليس ها هنا شيء يغنيك ما يكفيك؛ فالقليل من الدنيا يكفيك، يابن آدم لا تقل شيئًا من الحق رياءً، ولا تتركه حياءً.

وقال الحسن في يوم فطر، وقد رأى الناس وهيأتهم: إن الله — تبارك وتعالى — جعل رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلف آخرون فجابوا، فالعجب من الضاحك اللاعب في اليوم الذي يفوز فيه المحسنون ويخسر فيه المبطلون، أما والله لو أن كَشف الغطاء لشغل محسن بإحسانه، ومسيء بإساءته، عن ترجيل شعر، أو تجديد ثوب.

شاع مثل هذا الكلم على ألسن زهاد القرنين الأول والثاني من الهجرة كالحسن البصري المتوفى سنة ١١٩ ومحمد بن واسع الأزدي المتوفى سنة ١٢٠ والفضيل بن عياض المتوفى ١٨٧ وسفيان الثوري، وعمرو بن عبيد، وواصل بن عطاء، ودواد الطائي، والربيع بن خيثم، وأويس القرني، ومعاذة العدوية، ورابعة القيسية … إلخ.

وتلا هؤلاء جماعة أعظم زهدًا، وأكثر غلوًّا في القول والفعل، وأقسى على أنفسهم، وأشد تذليلًا لها، وأمْيَل إلى الاعتزال والانقطاع عن الناس، عُرفوا باسم الصوفية، وقد شاعت هذه التسمية في أواخر القرن الثاني، وفي القرن الثالث، منهم هذا الرجل العجيب الذي تناقل الصوفية أقواله واحتذوا أفعاله: إبراهيم بن أدهم البلخي، يقال: إنه كان من أبناء الملوك، وإنه زهد في النعيم، وساح في الأرض، وعاش في البراري، يقول القشيري:

ثم إنه دخل البادية، ثم دخل مكة، وصحب بها سفيان الثوري والفضيل بن عياض، ودخل الشام ومات بها، وكان يأكل من عمل يده مثل الحصاد وحفظ البساتين … وكان إبراهيم بن أدهم يحفظ كرمًا فمر به جندي فقال: أعطنا من هذا العنب. فقال: ما أمرني به صاحبه. فأخذ يضربه بسوط، فطأطأ رأسه وقال: اضرب رأسًا طالما عصى الله. فأعجز الرجل ومضى، وقال سهل بن إبراهيم صحبت إبراهيم بن أدهم فمرضت فأنفق عليَّ نفقته، فاشتهيت شهوة فباع حماره وأنفق عليَّ ثمنه، فلما تماثلت قلت: يا إبراهيم، أين الحمار؟ قال: بعناه. فقلت: فعلى ماذا أركب؟ فقال: يا أخي، على عنقي. فحملني ثلاثة منازل.

ونجد في هؤلاء رجلًا كبشر الحافي (١٥٠–٢٢٧) وأصل بشر من مرو، وهو يذكرنا بدوجين اليوناني:

يروي ابن خَلِّكَان أنه: «لُقِّبَ بالحافي؛ لأنه جاء إلى إسكاف يطلب منه شسعًا لإحدى نعليه، فقال له الإسكاف: ما أكثر كلفتكم على الناس! فألقى النعل من يده، والأخرى من رجله، وحلف لا يلبس نعلًا بعدها، وروى القشيري أن بشرًا قال: إني لأشتهي الشواء منذ أربعين سنة ما صفا لي ثمنه — يعني لم يجد ثمنه حلالًا خالصًا من الشبهة — وقيل له: بأي شيء تأكل الخبز؟ قال: أذكر العافية وأجعلها إدامًا. وقال: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب أن يعرفه الناس.

ومن هؤلاء معروف الكرخي المتوفى سنة ٢٠١، لا يزال قبره مزارًا في الكرخ من بغداد، وكان من موالي علي بن موسى الرضا.

وقد أوصى في مرض موته أن يتصدقوا بقميصه؛ ليخرج من الدنيا عريانًا كما دخلها.

ومنهم السري السقطي المتوفى ٢٥٧ تلميذ معروف وخال الجنيد، قال الجنيد: ما رأيت أعبد من السري، وروى القشيري أن الجنيد قال:

سألني السري يومًا عن المحبة، فقلت: قال قوم: هي الموافقة. وقال قوم: الإيثار. وقال قوم كذا وكذا. فأخذ السري جلدة ذراعه فمدها فلم تمتد، ثم قال: وعزته تعالى لو قلت: إن هذه الجلدة يبست على هذا العظم من محبته، لصدقت. ثم غشي عليه فدار وجهه كأنه قمر مشرق.

وروى القشيري أيضًا أنه قال: منذ ثلاثين سنة وأنا في الاستغفار من قولي: الحمد لله مرة. قيل: وكيف ذلك؟! فقال: وقع ببغداد حريق فاستقبلني رجل فقال: نجا حانوتك. فقلت: الحمد لله، فمنذ ثلاثين سنة أنا نادم على ما قلت؛ حيث أردت لنفسي خيرًا مما حصل للمسلمين.

وروى أن حيا الجرجاني دخل على السري فسأله: أملحك مدقوق؟ قال نعم. قال: لا تفلح. يعني أنه قد أعد لعيشه واهتم به فدق الملح.

وقوام سيرة هؤلاء:

  • (١)
    تسليم إلى الله في كل الأمور، وتوكل عليه حتى كان بعضهم يتحرج من أن يدعو لمريض بالمشاء، أو يعترف لنفسه بإرادة أو عمل ولو بإرشاد مصل إلى القبلة.١٢
  • (٢)

    وخوف من الله دائم لا يفارقهم ليلًا ولا نهارًا.

  • (٣)

    وسوء ظن بأنفسهم، وتحقير لأعمالهم مهما عظمت.

ولعل ما رُوي عن إبراهيم بن أدهم يبين الخلال التي تخلقوا بها؛ كلها أو معظمها.

روى القشيري أن إبراهيم قال لرجل في الطواف:

اعلم أنك لا تنال درجة الصالحين حتى تجوز ست عقبات: أولاها: تغلق باب النعمة وتفتح باب الشدة، والثانية: تغلق باب العز وتفتح باب الذل، والثالثة: تغلق باب الراحة وتفتح باب الجهد، والرابعة: تغلق باب النوم وتفتح باب السهر، والخامسة: تغلق باب الغنى وتفتح باب الفقر، والسادسة: تغلق باب الأمل وتفتح باب الاستعداد للموت.

كان الغالب على هؤلاء العبادة، والزهد، ومحاسبة النفس، والخوف، ولم يكن الجانب الفكري الفلسفي واضحًا في سيرتهم، ولا الجانب الروحي الخالص الذي يقصد إلى الفناء في الله. أثر عن بعضهم كلام في المحبة لكلام الصوفية من بعدهم؛ ولكنها كلمات قليلة متفرقة، كما روي عن معروف الكرخي أنه قال: المحبة هبة من الله، وعن السري أن جلده يبس على عظمه من حب الله.١٣

ورابعة العدوية البصرية أكثر هذه الطبقة كلامًا في المحبة وأعمقها معاني، روى عنها السهروردي أنها كانت تقول:

إني جعلتك في الفؤاد محدثي
وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي
وروى القشيري أنها قالت في مناجاتها: إلهي، أتحرق بالنار قلبًا يحبك١٤ وروى العطار أنها قالت: إلهي، اجعل الجنة لأحبائك، والنار لأعدائك، وأما أنا فحسبي أنت.

فكلمات رابعة وأمثالها عُرفت في هذه الطبقة، وكانت مقدمات لما عُرف من بعد، من كلام في الأمور النفسية الدقيقة.

ولم يتكلموا في الفناء ووحدة الوجود كثيرًا، ولكن رويت عنهم كلمات تعد النفسية طلائع لما كان من بعد، روى عن محمد الواسع أنه قال: ما رأيت شيئًا إلا رأيت فيه نور الله،١٥ وروي عن السري أنه قال: لا تصلح المحبة بين اثنين حتى يقول أحدهما للآخر: أنا. وروى القشيري عن يحيى بن معاذ الرازي المتوفى سنة ٢٥٨ أنه قال: مثقال خردلة من الحُبِّ أحب إليَّ من عبادة سبعين سنة بلا حب.١٦

وفي القرن الثالث الهجري نرى التصوف يغلب فيه المعرفة والتأمل والرياضة الروحية، والحب الإلهي المؤدي إلى الفناء، والفناء المؤدي إلى وحدة الوجود أو وجدة الشهود.

نجد العارف في مكان العابد، ونسمع الكلام في الحب والوجد والفناء والوحدة، عاش في هذا العصر ذو النون المصري المتوفى سنة ٢٤٥ﻫ ويحيى بن معاذ الرازي المتوفى سنة ٢٥٨، وأبو يزيد البسطامي المتوفى ٢٦١، وسهل بن عبد الله التستري المتوفى سنة ٢٧٣، والخراز البغدادي المتوفى ١٧٧، وعمرو بن عثمان المكي المتوفى سنة ٢٩١، والجنيد البغدادي المتوفى سنة ٢٩٧، وأبو عثمان الحيري النيسابوري المتوفى سنة ٢٩٨، وأبو عبد الله المحاسبي المتوفى سنة ٢٤٣، والحلاج المتوفى سنة ٣٠٩، والشبلي البغدادي المتوفى ٣١٢.

وحسبنا أن نعرف بعض التعريف بخمسة من هؤلاء؛ ذي النون، والبسطامي، والجنيد، والشبلي؛ ففي التعريف بهم بيان لوجهة التصوف في هذا العصر.

فأما ذو النون المصري فكان متفلسفًا وكيميائيًّا، فليس بعيدًا أن يكون في كلامه صلة بين التصوف والأفلاطونية الحديثة، ويقال: إنه أول من تكلم في المعرفة على طريقة الصوفية، ويروي عبد الرحمن الجامعي أن ذا النون أول من عبَّر بالعبارات الصوفية، وقال القشيري في الرسالة: فائق هذا الشأن، وأوحد وقته علمًا وورعًا وحالًا وأدبًا، سعوا به إلى المتوكل فاستحضره من مصر، فلما دخل عليه وعظه فبكى المتوكل ورده إلى مصر مكرمًا … وسئل عن التوبة فقال: توبة العوام تكن من الذنوب، وتوبة الخواص تكون من الغفلة.

وأما أبو يزيد فهو طيفور بن عيسى، كان جده مجوسيًّا فأسلم، وكان طليعة أهل السُّكر من الصوفية، كان يرمي بالكلام ينكره الناس حتى طُرد من البلد مرارًا، وإليه تنسب الكلمة المعروفة: ما في الجُبَّة إلا الله. ويقال: إنه أول من تكلم في الفناء. ويقول الهجويري صاحب كتاب «كشف المحجوب»: إن أول من تكلم في الفناء الخراز، وكان الجنيد يشرح كلمات أبي يزيد المنكرة؛ ليقربها إلى الناس، وفي كتاب «اللمع» لأبي نصر السراج طائفة من كلماته التي فسرها الجنيد.

قال الجنيد: «ثم إني رأيت الغاية القصوى من حاله (حال أبي يزيد) حالًا قَل من يفهمها عنه أو يعبر عنها عند استماعها؛ لأنه لا يحتمله إلا من عرف معناه وأدرك مستقاه، ومن لم تكن هذه هيئته عند استماعه فذلك كله عنده مردود»، ثم قال: «رأيت حكايات أبي يزيد رحمه الله على ما نعته ينبئ عنه أنه غرق فيما وجد منها … وهي معانٍ غرقته على تارات من الغرق كل واحدة منها غير صاحبتها.»

ومما روى عنه القشيري أن رجلًا سأله عن الزهد، فقال: ليس لزهد منزلة. فقال السائل: لماذا؟ فقال: لأني كنت ثلاثة أيام في الزهد، فلما كان اليوم الرابع خرجت منه؛ اليوم الأول زهدت في الدنيا وما فيها، واليوم الثاني زهدت في الآخرة وما فيها، واليوم الثالث زهدت فيما سوى الله، فلما كان اليوم الرابع لم يبقَ لي سوى الله فَهِمْتُ فسمعت هاتفًا يقول: يا أبا يزيد، لا تقوى معنا. فقلت: هذا الذي أريد. فسمعت قائلًا يقول: وجدت، وجدت.»

وفي هذا الكلام بيان للمرحلة التي بلغها الصوفية، فالزهد الذي كان همَّ سلفِهم صار مرحلة قصيرة يجتازها الصوفي الواله، ويراها أحقر من أن تشغله.

وقال أبو يزيد فيما روى القشيري عنه:

منذ ثلاثين سنة أصلي واعتقادي في نفسي عند كل صلاة أصليها كأني مجوسي أريد أن أقطع زناري.

ومعنى هذا — فيما أظن — أنه لم يرَ قلبه خالصًا للتوحيد، فارغًا من شوائب الشرك؛ إذ كان التوحيد عندهم أن يفنى الإنسان في الله فلا يرى سواه.

وأما الجنيد فيسمى سلطان الطائفة، قال القشيري: سيد هذه الطائفة وإمامهم. وروى القشيري أنه سئل: من العارف؟ فقال: من نطق عن سرك وأنت ساكت. وقال: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال، ولكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمتسحسنات. وقال: لو أقبل صادق على الله ألف ألف سنة ثم أعرض عنه لحظة كان ما فاته أكثر مما ناله. وقيل للجنيد: من أين استفدت هذا العلم؟ فقال: من جلوسي بين يدي الله ثلاثين سنة تحت تلك الدرجة. وأومأ إلى درجة في داره.

وفي كلام الجنيد بيان خطر الذكر والغفلة في التصوف وبيان ما يستفيده الصوفي من العلم الإلهي بالتأمل والفكر والذكر.

وكان الجنيد فقيهًا يلبس لباس العلماء ويقول: ليس الاعتبار بالخرقة؛ إنما الاعتبار بالخرقة. وكان يمثل أهل الصحو كما يمثل البسطامي أهل السُّكر، ويرى العطار أن طريقته الصالحية أحسن طرق الصوفية، ويعجب من الجنيد إذ غلبه السُّكر أحيانًا.١٧

وأما الحلاج فاسمه الحسين بن منصور، وأصله من البيضاء بفارس، ونشأ في العراق، وهو صوفي عجيب الأطوار منهم، له شعر بالعربية والفارسية، وأثبت المعرى في «رسالة الغفران» أبياتًا من شعره منها قوله:

أنا أنت بلا شك
فسبحانك سبحاني

وقد رُوي عنه كلام أنكره علماء بغداد؛ منه قوله: أنا الحق. فأفتوا بقتله؛ فصلب، فكان عند الصوفية — ولا سيما صوفية العجم — كالمسيح عند النصارى، واتخذوا كلمته شعارًا، وأشادوا بذكره، وجعلوه مثلًا للصوفي الفاني في الله.

وقد أكثر العطار ذكره في شعره، وكاد يخص به بعض منظوماته المطولة، ولحافظ الشيرازي بيت يقول فيه:

«إن تصلبني الليلة فإن دمي يخط على الأرض» أنا الحق «مثل منصور».

ومنصور اسم الحلاج المعروف بين صوفية الفرس، وهو اسم أبيه، وهو أول من تكلم من الصوفية عن اتحاد اللاهوت والناسوت، ثم أفاض فيه من بعدُ ابنُ عربي وعبد الكريم الجيلي صاحب كتاب «الإنسان الكامل».

وأما الشبلي فاسمه دلف، وهو خراساني الأصل، ولد ونشأ ببغداد، وتوفي بها، وكان من أصحاب الجنيد وكان شديدًا في رياضة نفسه، وله ثورات تشبه الجنون أحيانًا، وقال الجنيد: لكل قوم تاج، وتاج هذا القوم الشبلي. وقال الشبلي؛ وكأنه يعتذر عن بدانته:

أحب قلبي وما درى بدني
ولو درى ما أقام في السمن١٨

في القرن الثالث الهجري، تطور التصوف بأقوال هؤلاء الصوفية وأفعالهم وتميز الصوفية بهذه الأقوال والأفعال، ثم تقلب التصوف على مر الزمان في أطوار كثيرة، واختلف صوره باختلاف العصور والأقطار والأشخاص، والتصوف يأبى الحدود والقيود، ولكن آراء مشتركة، وأقوالًا متفقة، وسيرًا متشابهة جمعت هذه الصورة الكثيرة، والطرق المختلفة، والأشخاص المتباعدة في كثير من عقائدهم وسيرهم، تحت اسم جامع هو التصوف.

فابن عربي والجيلي والسهروردي من متفلسفي الصوفية، وسنائي والعطار وجلال الدين الرومي وابن الفارض من شعرائهم، والقشيري والمكي والسراج والهجويري من شراح الطريقة والواصلين بينها وبين الشريعة، وغير هؤلاء، عُرفوا على اختلاف العصور والبلدان، وعلى تباعد ما بينهم قولًا وعملًا؛ باسم الصوفية.

ولست بصدد أن أفصل القول فيما يجتمع عليه الصوفية وما يختلفون فيه، وفيما يتباعدون فيه ويتقاربون، ولكن أبين خصائص للتصوف منذ اشتد واستقل في القرن الثالث وامتاز أهله من العباد والزهاد السالفين:

في القرن الثالث وما يليه صار التصوف فكرًا وتأملًا ورياضة نفسية أكثر منه زهدًا وعبادة بدنية، فتقشف إبراهيم بن أدهم وأمثاله — وكان مما يمتاز به المتصوفة — لم يبقَ ذا خطر عظيم عند الجنيد وأضرابه، وإن بقي الزهد سمة للمتصوف كل حين، كان الجنيد يلبس لبس الفقهاء لا الصوفية فلما سُئل في ذلك قال: إنما الاعتبار بالخرقة،١٩ وأُثِر عن الشبلي وأبي حفص أنهما كانا يضيف أحدهما الآخر فيقدم له أطايب الطعام،٢٠ وقال البسطامي: الزهد لا دوام له — كما تقدم — وقال الخراز: قوت الزاهد الجوع، وقوت العارف الذكر.

وغلب على مقاصد التصوف الاتجاه إلى الله والفناء فيه ومحو الوجود المحدود المجازي في الوجود المطلق الحقيقي، ونشأ من هذا القولُ بوحدة الوجود فلم يرَ الصوفي إلا موجودًا واحدًا هو الله — تعالى — وما سواه عدم.

قالوا: ليس في العوالم كلها إلا وجود واحد هو الوجود الحق المطلق، وهو الخير المحض والجمال المحض، وما عداه ليس شيئًا.

صدر العالم عن الوجود المطلق بالتجلي؛ فقد أراد الجمال المطبق أن يعرف، وأول صفات الجمال التجلي أو كما قال أفلوطين: الظهور مقتضى الكمال.

تجلى الله — تعالى — بصفاته المختلفة فكان العالم. وفي ذلك يروي الصوفية: كنت كنزًا مخفيًّا فأردت أن أُعْرَفَ فخلقت العالم فبي عرفوني.

وليس هذا العالم ذا وجود حق بل هو عدم ظهر كالخيال في المرآة أو أشعة الشمس على البحيرة الراكدة، رُوي عن ابن عربي قال: أوقفني ربي بين يديه فقال: مَن أنت؟! فقلت: أنا العدم الظاهر. وروى الصوفية: كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان.

وقد تنزل الفيض عن الله في مراتبَ حتى بلغ عالم المادة ثم ترقت المادة فصارت نباتًا ثم حيوانًا ثم إنسانًا، فإنسانًا كاملًا وهو الحلقة التي تصل العالم بالوجود المطلق مرة أخرى.

الإنسان خلاصة العالم أو هو العالم الأصغر الذي انطوى في العالم الأكبر، أو هو روح العالم الشاعر بنفسه وبالله، وهو صلة المادة أو العدم بالوجود المطلق فهو مركب من وجود وعدم، من روح ومادة، والروح من الوجود المطلق ومن عالم الغيب فهي تحن أبدًا إلى موطنها، إلى أصلها.

ومقصد الصوفي في هذه الحياة أن ييسر للروح النجاة، وأن يسمو بها على المادة ويخلصها من سجنها ويحررها حتى تتصل بالله.

وليس الطريق إلا الرياضة والمجاهدة والتأمل والذكر التي تنسني للروح حربتها وترجعها إلى عالمها، ولهم في هذا الطريق الوعر مراحل أو مقامات يقطعها السالك بهداية المرشد حتى يبلغ غايته، فيفنى في الله وينعم بالوجود المطلق والجمال المحض والخير الخالص، وتلكم حال وراء المعرفة والعقل يتحد فيها الرائي والمرئي والعاشق والمعشوق.

وقد اتصل باعتقادهم في الوحدة أن رأوا كل ما في العالم مظاهر لله — تعالى — وأن وراء هذه المظاهر حقيقة واحدة، فكما رأوا صور العالم أو عالم الصور عدمًا رأوا صور العائد والمذاهب عدمًا، ونفذوا إلى ما وراءها من حقيقة هي جهاد النفس وتحرقها للوصول إلى الله، فاتسع صدرهم لكل رأي مخالف، وطلبوا ما وراء مظاهر الشريعة من بواطنَ، وجعلوا ما يسمونه الحقيقة باطنًا للشريعة أو روحًا لها.

وقد شرع الصوفية منذ ذلك العصر ينتظمون جماعاتٍ لها طرق مختلفة في كل منها مريدون أو سالكون وشيخ أو مرشد له السلطان المطلق على مريديه.

وكانت أقوالهم في الفناء ووحدة الوجود وغيرهما، مثار خلاف بينهم وبين علماء المسلمين، وزاد هذا الشقاق أن بعض الصوفية حقروا العلوم التي يعتز بها العلماء، وقالوا: إنها لا تغني شيئًا في تصفية النفس ووصلها بخالقها، ولا تؤدي إلى إدراك الحقائق الإلهية، وحقَّر العلماءُ الصوفيةَ؛ إذ كان كثير منهم لم يبلغوا من العلم مبلغ هؤلاء العلماء.

وزاد الناس نفورًا من الصوفية أن بعض المتصوفين حقروا المظاهر كلها، وانتهى بهم إلى التقليل من شأن التكاليف الدينية الظاهرة، وانفتح بهذا باب لضعاف النفوس فخرجوا من التكاليف وأوهموا أنفسهم — وقد استراحت إلى لذة البطالة والإباحة — أنهم بلغوا المقصود من هذه التكاليف، وأدركوا الصحة التي تُشرب من أجلها هذه الأدوية، ووجد بعض من لا يبالون بالتصوف ولا بالدين في الانتساب إلى الصوفية رخصة إلى ما يريدون، والناس في كل زمان يقبلون من الصوفية ما لا يقبلون من غيرهم؛ من قول وفعل؛ إذ نال هؤلاء ثقتهم بالتعبد والتأله، وسَموا بهذا عن الشُّبَهِ.

وقد بدأ هذا النزوع إلى التحلل من التكاليف في القرن الثالث أيضًا، روى القشيري أن رجلًا قال عند الجنيد: أهل المعرفة بالله يصلون إلى ترك الحركات من باب البر والتقرب إلى الله تعالى. فقال الجنيد: «هذا قول قوم تكلموا بإسقاط الأعمال وهو عندي عظيمة، والذي يسرق ويزني أحسن حالًا من الذي يقول هذا؛ فإن العارفين بالله — تعالى — أخذوا الأعمال عن الله — تعالى — وإليه رجعوا فيها، ولو بقيت ألف عام لم أنقص من أعمال البر ذرة إلا أن يحال بي دونها»،٢١ وقال القشيري في مقدمة الرسالة شاكيًا من صوفية زمانه، والرسالة كُتبت سنة ٤٣٧:

وارتحل عن القلوب حرمة الشريعة، فعدوا قلة المبالاة بالدين أوثق ذريعة، ورفضوا التميز بين الحلال والحرام، ودانوا بترك الاحترام وطرح الاحتشام، واستخفوا بأداء العبادات، واستهانوا بالصوم والصلاة، وركضوا في ميدان الغفلات، وركنوا إلى اتباع الشهوات وقلة المبالاة بتعاطي المحظورات، والارتفاق بما يأخذونه من السوقة والنسوان وأصحاب السلطان.

ثم لم يرضوا بما تعاطوه من سوء هذه الأفعال حتى أشاروا إلى أعلى الحقائق والأحوال، وادعوا أنهم تحرروا عن رق الأغلال، وتحققوا بحقائق الوصال، وأنهم قائمون بالحق تجري عليهم أحكامه، وهم محو وليس لله عليهم فيما يؤثرونه أو يذرونه عتب ولا ولوم، وأنهم كوشفوا بأسرار الأحدية، واختطفوا عنهم بالكلية، وزالت عنهم أحكام البشرية، وبقوا بعد فنائهم عنهم بأنوار الصمدية، والقائل عنهم غيرهم إذا نطقوا، والنائب عنهم سواهم فيما تصرفوا بل صرفوا.

ولما طال الابتلاء فيما نحن فيه من الزمان بما لوحت ببعضه من هذه القصة وكنت لا أبسط إلى هذه الغاية لسان الإنكار؛ غيرة على هذه الطريقة أن يذكر أهلها بسوء أو يجد مخالفٌ لثلبهم مساغًا؛ إذ البلوى في هذه الديار بالمخالفين لهذه الطريقة والمنكرين عليها شديدة … إلخ.

هوامش

(١) انظر «تاريخ الفرس الأدبي» للأستاذ براون ج١ ص٤٢١، ج٢ ص١٦٣.
(٢) ديوان شمس تبريزي Selaeted Poems from.
(٣) Literart History of Persia ج١ ص٤١٠ وما يليها.
(٤) انظر كتاب «التصوف الإسلامي» نيكلسون Misticism of Islam.
(٥) انظر ترجمة إسحاق النينوي: فنسنك Wensink.
(٦)
چند چند أز حكمت يونانيان
حكمت ايمانيانرا هم بخوان
(٧) «نفحات الأنس» للجامي.
(٨) روى هفتاد ودوملت جزبرين دركاه ثبست عالمي سركشته اند وهيج كس كمراه نيست.
(٩) «البيان والتبيين» باب الزهد.
(١٠) «البيان والتبيين»، كتاب الزهد.
(١١) «البيان والتبيين».
(١٢) «تذكرة الأولياء» للعطار ج١ ص٤٤، ٤٨، ٧١، ٨٧.
(١٣) «تذكرة الأولياء ج١ ص٢٧٥، ٢٧٧.
(١٤) «الرسالة»: باب المحبة.
(١٥) «التذكرة» ج١ ص٤٩.
(١٦) «الرسالة»: باب المحبة.
(١٧) «تذكرة الأولياء» ج٢ ص١٨، ٢٥.
(١٨) نفحات الأنس.
(١٩) «التذكرة» ج٢ ص١٠.
(٢٠) = ١ ص٣٢٨.
(٢١) الرسالة: الجنيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤