الجزء الثاني

الجزيرة في عهد الإسلام

(١) الفتوحات الإسلامية

قبل أن يظهر الإسلام بقليل كانت الديار الشرقية سبب الاهتراش والامتراش والقِرَاع والنزاع بين الفُرس والرومان؛ فتارة تكون البلاد بِيَد قوم، وطورًا بيد قوم آخرين، ولم تكد تفرغ من الفتن والهرج والمرج، فآنَ لدولة ثالثة أن تدخل بينهما؛ ليكون لها القول الفصل في «المسألة الشرقية»؛ أي مسألة التملُّك على هذه الديار، ليزول سبب الخلاف بين الدول الطامحة بأبصارها إليها. وفي ذلك العهد لم يَدُرْ في خَلد أحد أن ينهض العرب من ديارهم، وينفُضوا عن أذيالهم الرمال التي علقت بها منذ عصور متطاولة، ويُشَمِّروا عن ساعدهم ليهجموا على الديار المجاورة لهم وينتزعوها من أيدي الفُرس والرومان معًا. كان الفكر الغالب بين أمم ذلك العهد أن البلاد تصير إلى يد الأقوى، ولا تقوى اليد إلا لمن يُزاول العلوم والفنون ويعالجها؛ إذ القوة المادية تتلاشى أمام القوة العلمية التي من شأنها أن تُكيد للعدو المكايد، وتُسقطه في ما تنصبه له من الشِّباك والحبائل. ولذا كان الظن يحمل العقلاء على أن مصير بلاد الشرق يكون بيد اليونان إذا عادوا فقبضوا على ناصية العلوم، أو إلى الرومان إذا زال من بينهم الشقاق، وحافظوا على ما ورثوه من معارف اليونان. وأما العرب فكانوا بعيدين عن كل فكر؛ لأن رمال بلادهم كانت تثور بوجوههم إذا ما أرادوا قطع المفاوز التي كانت في ديارهم، وتحول دون كل أمنية تنشأ في صدورهم.

فما أعظم ما كان من عجب كبار الدنيا حينما علموا أن قد قام بين العرب في سنة ٦٢٢ب.م رجل يدعو الناس إلى دين جديد هو دين الإسلام الذي امتدَّ في البلاد العربية بسرعة البرق الخاطف، ثم أخذ ينتشر إلى ما جاوره من الديار، حتى إن الإنبراطور هرقل ملك الروم رأى بعد بضع سنوات من تخليص سورية من أيدي الفُرس أنها خرجت من قبضته وانتقلت إلى أبناء إسماعيل (٦٣٢–٦٣٨)، وبعد سنتين (٦٣٩-٦٤٠) سقطت مصر من أيديهم، ولم يبقَ إلَّا ديار العجم لم تقع في قبضتهم، غير أن سيول المغازي الإسلامية كانت تتدفَّق مُتَّجِهة إلى جبال إيران، ولم تضمحل الدولة الساسانية فقط (٦٤١)، بل أخذ ظل المجوسية يتقلَّصُ شيئًا فشيئًا من تلك الديار، حتى لم يبقَ فيها من أصحاب ذلك الدين إلَّا جماعات قليلة، أقامت جماعة منها في ديارها الأصلية الفارسية محافظة على دينها القديم، وفرَّت جماعات أخرى منها إلى ديار الهند، فتناسلوا فيها إلى يومنا هذا، وهم يُعرفون هناك باسم «الفُرس».

نشأ الإسلام طفلًا صغيرًا ثم ترعرع، ثم اشتدَّ حتى انتشر في الأرض طولًا وعرضًا، وأصبح مُتَّسعه أعظم من مُلْك الإسكندر؛ لأنك تراه قد امتدَّ من بلاد الحجاز إلى ربوع الشام إلى الجزيرة إلى إيران إلى قلب آسية الوسطى من جهة، وإلى ديار مصر وعلى طول إفريقية الشمالية إلى بلاد الأندلس من الجهة الأخرى.

(٢) عود الجزيرة إلى النهضة

احتلَّ الجزيرة منذ القديم أممٌ جاءتها من أقطارٍ مختلفة، وكان الكلدان والآشوريون قد هبطوها قادمين إليها من ديار العرب في فجر التاريخ. وكانت الجزيرة تنتعش كلما نزل بها قوم جديد. فاتفق لها في عهد الخلفاء الراشدين ما اتَّفق لها في سابق الأحقاب؛ فإن أبا بكر الصديق أنفذ إلى العراق خالد بن الوليد المخزومي، فافتتحه في سنة ١٢ھ (٦٣٢-٦٣٣م)، وفي عهد عمر بن الخطاب فتح عياض بن غنم الجزيرة كلها (شمالي العراق) في سنة ١٨ و١٩ھ (٦٣٩-٦٤٠م) على صُلح الرها؛ وهذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من عياض بن غنم ومَن معه من المسلمين لأهل الرها:

إني أمَّنتُهُم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم ومدينتهم وطواحينهم، إذا أدَّوا الحق الذي عليهم، ولنا عليهم أن يُصلحوا جسورنا ويُهدوا ضالنا، شهد الله وملائكته والمسلمون.

هذا مُجمل ما يُقال عن حالة العراق في عصر الخلفاء الراشدين؛ فهذه النهضة هي اليوم أشبه بالإفاقة منها بالنهضة، إلا أننا أطلقنا عليها اسم النهضة بالنظر إلى أنها بدء ما تصير إليه في عهد الخلفاء العباسيين الذين أيقظوها يقظة صادقة من رقدتها المتطاولة، وأعادوا إليها شيئًا من مجدها الزاهر وعزها الداثر.

(٣) سطوة الأمويين

كان سبب ابتداء دولة بني أمية أن الحسن بن علي بن أبي طالب خلع نفسه من الخلافة، وسلَّم أمرها إلى معاوية بن أبي سفيان بن حرب بن أمية سنة ٤١ھ (٦٦١)، وسُمِّي ذلك العام الذي وقع فيه الاتفاق «عام الجماعة»؛ لأن الأمة اجتمعت فيه بعد الفرقة على إمامٍ واحد، فبعث معاوية نُوَّابه في البلاد، واستقر له الملك وصَفَت له الخلافة. وفي أيام الأمويين نفذت كلمة العرب في ثلاث قارات، وهي: آسية، وأفريقية، وأوروبة؛ فقد ملكوا في آسية من قِفَار جبل الطور إلى فلوات ما وراء النهر، ومن وادي كشمير إلى منحدر الطورس على بحر الروم، ووضعوا أيديهم على أنحاء آسية الصغرى (الأناضول)، كقليقية، وكبدوكية، والبنطس، وسائر ديار مملكة الأكاسرة، بل ملكوا بسرعة ما عجزت عنه الأكاسرة الساسانية في مدة طويلة؛ إذ أوفدوا قُوَّادًا ففتحوا ما وراء نهري جيحون والسند، وبلاد بُخارى والصغد، وجعلوهما كورة واحدة. ثم كورة ما وراء النهر، ودانَ لهم مَن كان على بحر جرجان من الأهالي، وهم سكان خوارزم، وملكوا في أوروبة بلاد الأندلس، ما عدا بعض مضايق في أستورية. واحتلوا سبتمانية (في جنوبي بلاد غالية؛ أي فرنسة)، وجزيرة قُبرص، وجزائر ميورقة، ومنورقة، وأقريطش، ورودس، وملكوا في شمالي أفريقية جميع البلاد الممتدَّة من مضيق جبل طارق بن زياد إلى برزخ السويس، وكانت حاضرة الخلفاء الأمويين دمشق الشام، التي بنى فيها الوليد الأول مسجدًا عُدَّ من عجائب المصنوعات، وهدمه بعد ذلك عدو العرب الأزرق، تيمور لنك في سنة ٧٠٠ھ/١٣٠٠م.

(٤) أعمال العباسيين

الخلفاء العباسيون جميعًا من ولد العباس بن عبد المطلب، عم النبي العربي، وكان بنو العباس متحزِّبين لعلي بن أبي طالب في خلافته، فلما استأثر الأمويون بالحكم بعد قتل ابن أبي طالب أخذوا ينتهزون الفرص لنبذ طاعتهم والقيام مقامهم، ولم يجهروا برغائبهم؛ خشية بطش الأمويين بهم، إلى أن قام محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، فأخذ يبث دعاته سرًّا، فنجح بعض النجاح، إلا أنه أدركته الوفاة سنة ١٢٦ھ/٧٤٤م، فعهد بنشر الدعوة إلى أبنائه: إبراهيم الإمام، وأبي العباس الذي لُقِّبَ بعد ذلك بالسفاح لسفكه الدماء، وأبي جعفر، الملقَّب بالمنصور، فجاهر دُعاة العباسيين بما تُكِنُّه صدورهم، وكان على رأسهم أبو مسلم الخراساني، ودعوا لإبراهيم الإمام، فلما سمع بذلك الخليفة الأموي استشاط غضبًا وبعث مَن قبض عليه، فأُخذ سنة ١٢٩ھ/٧٤٧م، وحُبس حتى مات، لكن موت الإمام لم يُفِد بني أميَّة فائدة؛ إذ قام بعده أخوه أبو العباس السفاح، ودعا الناس إلى مُبايعته، وأتى الكوفة. وكانت كلمة أبي مسلم الخراساني قد عَلَت بالدعوة لبني العباس، فاجتمع للسفاح جيش لُهام، فسار به لمحاربة مروان بن محمد الملقَّب بالحِمَار، قاتل أخيه، فكسره في جُمادى الآخرة سنة ١٣٢ھ (كانون الثاني سنة ٧٥٠) على الزاب الأعظم، لكن مروان تمكَّن من الفرار من الزاب، حتى وصل قرية بوصير في ديار مصر، فنزل في كنيسة للقبط هناك، فلما علم بقدوم أعدائه عليه حاربهم، وقتل منهم ثلاثمائة رجل، ثم جُرح جروحًا بليغة، فحمل عليه رجل فقتله، ثم جاء آخر فاحتزَّ رأسه — وكان من أهل البصرة — ثم بعث برأسه إلى دمشق، فنُصِب على باب مسجدها، وفي الآخر بُعِث به إلى السفاح؛ فخرَّ ساجدًا لله عند رؤيته إيَّاه، وتصدَّق بعشرة آلاف دينار.

لكن وَقَع في قلب أبي العباس خوف ممَّن بقي من بني أمية لئلَّا يُثاروا بدم المقتول؛ فصمَّم على استئصال شأفتهم. فلما كان بعض بني أمية مجتمعين في الحيرة في مجلسه، وبنو هاشم دون سريره على الكراسي، وبنو أمية على الوسائد، أمرَ الخراسانية بقتلهم، فأخذتهم بالكافر كوبات (بالهراوات أو الدبابيس) فأُهمدوا، وكان أبو العباس في أثناء ذلك دعا بالغداء حين قُتلوا، وأمر ببساطٍ فبُسِط عليهم، وجلس فوقه يأكل وهم يضطربون تحته، فلما فرغ من الأكل قال: ما أعلمني أكلتُ أكلةً قطُّ أهنأ ولا أطيب لنفسي منها، فلما فرغ قال: جُرُّوا بأرجلهم، فأُلقُوا في الطريق يلعنهم الناس أمواتًا كما لعنوهم أحياء، فكانت الكلاب تجرُّ بأرجلهم، وعليهم سراويلات الوَشْي حتى أنتنوا، ثم حُفِرَت لهم بئر فأُلقوا فيها. هذا ما كان من أمر بعض منهم ممَّن كانوا في الحيرة، وأما البعض الآخر الذين كانوا في دمشق فإن الوليد بن معاوية بن مروان بن الحكم خليفة مروان قُتل في اجتياح المدينة، وبعث يزيد بن معاوية وعبد الله بن عبد الجبار بن يزيد، إلى أبي العباس، فقتلهما وصلبهما، ثم دعى مَن بقي منهم على نهر أبي فطرس من فلسطين، وأظهر لهم عبد الله بن علي — قائد جُند العباس — أنه يُريد أن يفرض لهم العطاء، فلما اجتمعوا وهم نيِّف وثمانون أميرًا، خرج عليهم مَن في الكمين فقتلوهم، ولم يفلت من هذه المجزرة سوى عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، الذي جدَّد معالم الخلافة بالأندلس. ولم يشأ السفاح أنْ يُقيم في ديار الشام مولده، بل اتخذ الأنبار (اليوم أم البر عند الأعراب، أو أم برا) مباءةً لخلافته، حتى مات فيها بالجُدَري سنة ١٣٦ (٧٥٤م)، وعمره ثلاث وثلاثون سنة.

(٤-١) المنصور

فخلفه أخوه المنصور، وكان عالمًا بليغًا، وحازمًا جليلًا، فلما أنعم نظره في مَن حوله، رأى في العراقيين جميعهم حزبًا قويًّا يميلون إلى العَلويِّين، ويودُّون أن تكون الخلافة لهم لا للعبَّاسيِّين؛ فأخذ يخاف من أمرين: الأول من أن يُغتال، والثاني من أن تنتقل الخلافة إلى آل البيت فتنحصر فيهم، فأخذ يضرب أخماسًا لأسداس ليأمن على الأمرين معًا، فبلوغًا للأمر الأول أخذ يُقصِي عنه العرب ويُقَدِّم عليهم الموالي، والأتراك، والخراسانية؛ لأنهم كانوا دُعاة هذه الدولة وأنصارها، الذين استُعين بهم على بني أمية في ديار العجم وجرجان وما إليهما من البلاد، وقد وجد على العراقيين أشد مما وجد أخوه على بني أمية، حتى لو استطاع أن يقرضهم من هذه الديار لفعل، والعياذ بالله. وقرَّب أيضًا منه النصارى لهذه الغاية عينها؛ لعلمه أنهم لا يستطيعون أن يؤذوه إذا ما أغدق عليهم الخيرات والمبرات، لا بل اتخذ كثيرًا منهم نُدماء له على غصصٍ من قلوب الذين يميلون في تحقيرهم إلى رفض سلامهم وكلامهم. ومما فعله أيضًا لقمع العراقيين أنه قلَّل أُعطية الجند ليأمن عصيانهم واستغناءهم عنه، وأجرى فواضله على مَن لم يكن له غرض في السياسة ولا يُعنى بأمرها، بل غايته العلم والأدب، وكان يُقَلِّم أيضًا أظفار أُمراء البلدان وعُمَّالها بأن يتدارك عزلهم قبل أن ترسخ قدمهم في ولايتهم، ويستولي على ما يصل إليه من أموالهم، ويجعله في البيت الذي سمَّاه «بيت مال المظالم»؛ قصدًا لتحقيرهم وإعجازهم عن القيام عليه بفتنة أو مخالفة، لا حُبًّا في جمع المال واذخاره كما توهَّمه بعضهم، ثم طمع في هذه السياسة إلى أن يأخذ التجار بالشدَّة، فوضع على حوانيتهم ضريبة كما يفعل اليوم الإفرنج في بلادهم، إلا أن بين عمله وعملهم فرقًا في الغايات، وهذه الضريبة ممَّا لم يسبق له عهد في الإسلام. وزد على ذلك أنه زاحمهم في إعطاء الدَّين بالربا؛ حتى يقطع عنهم باب الارتزاق والتعَيُّش، مع علمه بأن التجارة من السلطان مفسدة للعمران ومدعاة الرعية إلى الخُسران، وأن الله يمحق الربا ويُربي الصدقات، غير أنه تجوَّز كل ذلك بلوغًا لمآربه واستمالةً للشعب الأدنى إليه، وهو السواد المهم، فرفع عنهم الخراج، ورقا على الحنطة والشعير، وصيَّره عليهم مُقاسمة، فاستفاد بعمله هذا فائدتين: تقريب سواد الناس منه، واذخار أرزاق الجند وعلف الخيل عنده؛ حتى لا يطمع فيه طامع. ومما فعله من آخر أعماله لتأمين حياته وإقصاء المغالين عنه، نقل دار الخلافة إلى موضعٍ جديد يُحصِّنه كل التحصين؛ لأنه كان يخاف من أن أهل الكوفة يُفسدون جنده، ويحملونهم على ممالأة أهل البيت؛ فجمع المنجمين ليعلم هل من خطر عليه بعد بناية بغداد. فلما أعلمه نوبخت إذا اختطها يسلم من شر العدو، أخذ بعمارتها وأركبها دجلة، ولمَّا كان الخوف قد أخذ من قلبه كل مأخذ، حصَّنها بمائة وثلاثة وستين برجًا أنزلها في سورٍ متين بين الشوارع والطرق، بحيث يمكن إقفال الدروب في الليل وإقامة الحُراس عليها. ثم إنه حوَّل الأسواق إلى الكرخ في أعلى الزوراء؛ حتى لا يبقى بجواره مَن لا يأمن منه، وراح قومه يقولون إن رسول الروم أشار بذلك عليه، ففعل كل ذلك لكي لا يُغتال.

وأما ما فعله ليتخلص من العلويين، فإنه بثَّ العيون والأرصاد، ونَصَب لهم الشِّباك والحبائل ليقتلهم الواحد بعد الآخر؛ ففي السنة التي أسَّس فيها بغداد (١٤٥ھ/٧٦٢م) قتل محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، وإبراهيم أخاه، وليس له في ذلك فخر؛ لأن ضعف العلويين كان ناشئًا من تفرُّق كلمتهم، ومُحاولة كلٍّ منهم الاستئثار بالخلافة، وتشتُّت دُعاتهم على آراء لم تجمعهم غاية واحدة، وانقطاع بعضهم عن بعض منفردين إلى نفوسهم فيما يطلبون به من ثأر شهدائهم، وإلا لو اجتمعوا لما استطاع فتيلًا، وهو لم يتجرَّأ على قتل هذين العلويَّين البريئَين إلا من بعد أن قتل قبلهما يزيد بن عمر بن هبيرة، وعمه عبد الله بن علي بن عبد الله بن عباس، ولا سيما أبا مسلم الخراساني مُحبهم ومُؤيد طلبهم، وفي كل ذلك لم يُطالبه أحد بدمهم.

فأنت ترى من هذا كله أن المنصور كان خليفة عضوضًا، لا يراعي إلًّا ولا عهدًا، وذا سياسة تشبه سياسة دُهاة الإفرنج في هذا القرن، وبذلك حفظ نفسه وسرير خلافته من الدمار، وكانت وفاته في سنة ١٥٨ھ/٧٧٥م عن ٦٣ عامًا.

(٤-٢) المهدي

ما مات المنصور إلا وتنفَّس العراقيون عامة والبغداديون خاصة الصُّعداء ترويحًا لأنفسهم؛ لأنهم كانوا يكرهونه أشد الكره لِمَا كان قد اتَّصَف به من الخصال الذميمة، والأخلاق الجبروتية. وجلس ابنه المهدي على سرير الخلافة بحيلة من الربيع، وذلك أنه أوهم الناس عند موت المنصور بأنه حيٌّ لم يَمُت، فبايعوه على قِلًى من نفوسهم؛ إذ كانوا يرهبون ظُلم أبي جعفر، ومع ذلك فإنهم كانوا يُفضِّلونه على أبيه. وكان المهدي صاحب نُسك وورع، ولبس الصوف، وعمَّ الناس بأقصدِ العدل والمعروف، واستمالهم إليه، وحبَّب نفسه لهم، وكان يُسمَّى «راهب بني العباس»؛ لدينه وتُقاه، وهو الذي أمر بتتبُّع الزنادقة وإفنائهم ولو كانوا من أكابر الأدباء من الشعراء؛ فقد أمر بقتل صالح بن عبد القدوس، وبشَّار بن برد؛ وغيرهما. وهو أول الخلفاء في تقريب أهل العلم والدين المبنيين على صادق الفضل والفضيلة؛ فهو غارس هذين النبتتين في جنة الخلافة العباسية، وكان مَن سبقه ممن تربَّع على سرير الخلافة لا يلتفت إليهما، مع أنهما رُكناه المكينان. وكان يتخذ لأهل العلم والأدب في كل سنة أيامًا كالمواسم، يعرضون فيها عليه بضاعتهم من فنٍّ أو علم أو صناعة، ثم يُجيزهم عليها بما طُبع عليه من واسع الفضل والكرم. وممَّا سبق به المهدي سائر الخلفاء والأمراء من بني العباس أنه أدخل الصيد في جُملة ملاهيه، فجمع بذلك إلى رعاية الأُمَّة أُبَّهَة المُلك، فكان يخرج إلى صيده في العِدد المزينة والمواكب العظيمة، وهذا لا يُعاب على الملوك إلا متى أفرطوا فيه، وكانوا أقرب به إلى البَطر منهم إلى النزهة والرياضة. ومن أعمال المهدي بنايته جامع الرصافة، والكعبة، وتأسيس عيسا باذ، وإقامته ديوان المظالم، وديوان الأزمة، وإزالة ضرائب الخراج وردُّه الضِّياع على أصحابها، وكان قد ظلمهم إيَّاها أبو جعفر إلى غيرها، وبقي مُثابِرًا على البر حتى موته، وكان ذلك في ١٢ المحرم من سنة ١٩٩ھ/٨١٤م عن ٤٣ سنة.

(٤-٣) الهادي

وجلس بعده على سرير الخلافة ابنه الهادي، وكان المهدي قد خلع في حياته عيسى بن موسى عن ولاية العهد، مما دل على أن الاستئثار بالمنافع هو من طبع العباسيين، وأن نار الفتن في الإسلام مُتأجِّجَة من اختلاف الرأي في مبايعة الخليفة، وطمع كل طائفة من الطامحين إليها بالاستئثار بالمنافع دون غيرها. ولم يشتهر الهادي بشيء يُذكر سوى أنه تتبَّع الزنادقة وقتل منهم عددًا غير يسير، وكان يُحب اللهو، ويُكثِر من مُجالسة النساء؛ حتى قُصف عمره من فرط تَمَتُّعه بهن وولعه بالطرب واللهو، ومات بعد خلافته بسنة وشهر وعمره ٢٣ سنة، وذلك في سنة ١٧٠ھ/٧٨٦م.

(٤-٤) هارون الرشيد وبغداد

وقام بعده أخوه هارون الرشيد، وهو الذي أُبقي له الذكر المُخَلَّد في ديار العراق؛ لأنه إذا كان المنصور باني بغداد، فالرشيد رافع لواء مجدها، ومُؤسِّس حضارتها الصادقة؛ فلقد شعر بذكائه الثاقب ودهائه النادر المثال أن المملكة لا تقوم إلا على أربع دعائم: العدل، والعلم، والإحسان، والمال. فمدَّ بساط العدل بأنه ساوى بين رعاياه وإن اختلفت مذاهبهم ومشاربهم وأديانهم، فإنه لم يذل النصارى؛ إذ اتخذ أطباءه منهم، ولم يحتقر الصابئة؛ إذ كان منهم تراجمته وكُتَّابه، ولم يتعرض للمجوس بسوء، ولم يؤذِ الهنود البوذيين؛ إذ كان هندي في قصره وكان من أكبر أطبائه، وعدل فيهم جميعًا، وأخذ بالحِلم في رعايته للناس كأنه يُخالف أبا جعفر في سياسة التحزُّب لقومٍ على قوم، أو لقومٍ دون قوم، وكان يذهب مُتنكِّرًا في الأسواق ليتسمَّع ما يقوله الناس عنه، وليُصلِح ما كان يراه في نفسه من الأود والاعوجاج. وأما العلم فإنه كان على جانبٍ عظيم منه، بل كان من مميزاته، وكان مُطَّلِعًا على دقائقه ومُقرِّبًا لذويه، ولما ثبت لديه ما للبرامكة من شغفهم به، ووقوفهم على أنواع المعارف، وما يتذرعون به من الوسائل لبثِّها في البلاد وتعميمها بين العباد؛ قرَّبهم منه أشد القُربَى، وبغداد لم تبلغ ذاك الشأو من الرُّقي البعيد والكمال الفريد إلا بالبرامكة، والدليل على ذلك أننا نرى هذه الحاضرة بعد أن نكب الرشيد أولئك الوزراء العظام أخذت تتدهور من أوج عزِّها، بدون أن تتريث في تدهورها،١ نعم، إن التدهور لم يكن سريعًا في بادئ الأمر؛ أي في عهد المأمون بن الرشيد؛ لأن المأمون كان خريج البرامكة، فكان يعرف من أين تُؤكل الكتف وكيف يسير بالبلاد وأهلها، أما بعد المأمون فكان التدهور سريعًا.

وأما الإحسان فمما لا يُحتاج إلى إثباته؛ فإن المؤرخين والإخباريين جميعهم يذكرون عنه أنه كان إذا حجَّ يحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحجَّ أحجَّ ثلاثمائة بالنفقة التامة والكسوة الفاخرة، وكان يتصدَّق في كل يومٍ من صلبِ ماله بألف درهم بقدْر زكاته، وكان لا يَضيع عنده إحسان مُحسن، وكان يجود بالأموال الطائلة على أهل الأدب والشعر ما هو أشهر من القمر، وبمبالغ لا تكاد تُصدَّق لكثرتها ووفرتها. وأما المال فإن الرشيد كان قد اتخذ لإنمائه جميع الوسائل التي أوَّلها التجارة، ولا تجارة حيث لا أمان في السُّبُل والطرق؛ ولهذا قام بتأمينها وإبعاد الذعَّار واللصوص عنها حتى تمكَّن التجار من السفر إلى البلاد القاصية، ليجلبوا منها ما ليس في حاضرتهم، فحملوا من جزائر جمكوت (اليابان) أنواع الثياب الحريرية، والآنية الرقيقة الحسنة الطلاء، والمصنوعات الدقيقة على الخشب الفاخر؛ ومن السيلي (شبه جزيرة كورية) أبا فخذين (نوع من العقَّار يُستعمل في الطب القديم)، والإبريسم النادر المثال؛ ومن الصين الغرِّيب والكمكان والند والستور والسروج والغضار والدار صيني والخولنجان؛ ومن تبت المسك والعود؛ ومن كشمير الشال والثياب المحكمة النسج؛ ومن ترمذ الكاغد الذي لا يُحاكى ولا يُقلَّد؛ ومن الهند والسند القسط والقنا والقرنفل والفاغية والخيزران والكافور والعود والجوزبوا والفلفل والزنجفيل والكبابة والنارجيل وثياب القطن والقطيفة والفيلة؛ ومن سرنديب (سيلان) أنواع الياقوت، والحجارة الكريمة، والبلور والألماس والدر، والسنباذج الذي يُعالج به الجواهر؛ ومن بلاد فارس الآنية والخمر، والحديد والرصاص والأسلحة والمصوغات؛ ومن اليمن العطر والميعة والبخور والمر؛ ومن البحرين ونجد الحنَّاء واللؤلؤ؛ ومن بلاد واق واق الذهب والآبنوس؛ ومن كله الرصاص القلعي؛ ومن ديار الجنوب البقم الداري؛ ومن بحر الروم المرجان أو البسد؛ ومن ديار الروم المصطكى والجلود، والغلمان والجواري؛ ومن أنحاء الروس جلود الثعالب والقاقم والفنك والخز، يأتي بها الروس إلى بغداد عن طريق الشام أو جرجان، ثم تُنقل إلى داخل البلاد أو إلى أصبهان، فيُتجَرُ بها وبما ذكرناه من البياعات.

ومما يُعَدُّ من مصادر الغِنَى والثروة، ترقية الصناعة، وقد أفرغ الرشيد كنانة سعيه لإعلاء شأنها، ودفعت زوجه زبيدة الناس إلى أن يُزاولوها ويعالجوها بإتقان وسارت في مقدمتهم؛ فإنها صنعت بساطًا من الديباج على صورة كل حيوان من جميع الضروب، وصورة كل طائر من ذهب، وأعينها من يواقيت وجواهر، وأنفَقَت عليه نحوًا من مليون دينار، واتخذت الآلة من الذهب المرصَّع بالجوهر، وأمرت بأن يُصنع لها الرفيع من الوشي، حتى بلغ الثوب الذي اتُّخذ لها من الوشي خمسين ألف دينار، واتخذت القِبَاب من الفضة والآبنوس والصندل، وكلاليبها من الذهب الملبَّس بالوشي والديباج والسمور وأنواع الحرير، واتخذت لها خفًّا مُرصَّعًا بالجوهر ترصيعًا عجيبًا، وكل ذلك كان من صنع مَهَرَة البغداديين. ومن صنعهم أيضًا أنهم بنَوا للخليفة المنصور قُبَّة عظيمة عُرفَت بالقبة الخضراء، ووضعوا عليها تمثالًا تُديره الريح، كان على صورة فارس في يده رمح، فكان الخليفة إذا رأى ذلك الصنم قد استوى قِبَل بعض الجهات ومدَّ الرمح نحوها، علِمَ أن بعض الخوارج يظهر من تلك الجهة، فلا يطول الوقت إلا وتوافيه الأخبار بأن خارجيًّا نجم من تلك الجهة أو كما قال. وفي أيامه صُنعَت تلك المزولة العجيبة التي أهداها الخليفة إلى شرلمان — إنبراطور الفرنجة — وكذلك الشطرنج البديع النقش الذي صنعه أحد النصارى، واسمه يوسف الباهلي كما يُرَى اسمه منقوشًا على الأداة، وكان من ألطاف الخليفة إلى الإنبراطور المذكور. ومما يدل على أن الصناعة وسائر الفنون بلغَت أقصى الشأو في عهد الرشيد، القصور التي بُنيت في عهده، وكلها مُنَجَّدة بأفخر الفِراش والرياش، مما يكفينا مئونة الإطالة في هذا البحث.

ومن منابع الثروة التي تفيض بالأموال الطائلة «الزراعة»، والظاهر أنها بلغت في عهد الرشيد مبلغًا لم يُقاربه في ما سبق من أزمان الخلفاء، وأصدق دليل على ذلك دخل الغلال في عهده؛ فقد كان حاصل السواد (أعلى الجزيرة وأسفلها) ستين مليون درهم، وكان في زمن الحجاج عشرين مليون درهم لكثرة جوره وظلمه. وزيادة هذا الدخل لم يكن إلا بعد شق الأنهر وتنشيط الزراعة، وتأمين الحدود، واتخاذ الآلات اللازمة لمثل هذه الأمور.

ومما لا يُنكَر من موارد الثروة، ترتيب جباية الأموال من خراجٍ وضرائب وعشور، فكان مجموع المحمول إليه في كل سنة نحوًا من خمسمائة مليون درهم من الفضة، وعشرة آلاف مليون دينار من الذهب، فحمل الناس كثرة هذا المحمول على أن يعدلوه بالوزن لا بالعدد، فيقولون إنه يبلغ ستة أو سبعة آلاف قنطار من الذهب، إلا أن هذا إعياء ينتهي بالتفريط إلى المغالاة؛ لأن زنة القنطار ثلاثون ألف دينار، ولا يُحتمل أن يكون في العالم ألفا مليون دينار في ذلك العهد، ولو فرضنا صحة وجودها آنئذٍ لما صح أن تُحمل كلها إلى بيت المال ولا يبقى منها شيء في أيدي الناس لمعاملاتهم، فإن كان زعمهم بعيدًا عن الصدق فلا أقل من كونه يدل على الكثرة، وأن المال كان يُحمل إلى بغداد بالصبر لوفور الخير.

وما كان يدخل بيت المال في عهد الرشيد لم يكن يدخل نصفه في خزائن الأمويين والعباسيين الذين سبقوه، فلا يبعُد أن كان عُمَّالهم يُبقون عندهم من الأموال ما لا يحملونه إليهم، لاختلاف تقديرها بين ثمانية وأربعين درهمًا من الأغنياء، وأربعة وعشرين من الصُّنَّاع وأهل الحِرَف، واثني عشر من أهل الفاقة والإعواز دون أن يكون في الدواوين عمل ذلك. فلما قام جعفر البرمكي بالوزارة أقرَّ على العمال ما هو مفروض عليهم من جِزية وخراج وصدقات وغير ذلك، حتى أخذ يُقيد الدخل في الدواوين من قبل أن يقبضه؛ ولذلك لم يبقَ للغش سبيل، إلا فيما يُؤخذ من المكوس على البياعات، والزيادة في النفقات التي يتصرف فيها العمال، وليس هو إلا القليل في جانب الكثير من دخل الدولة.

ولقد امتدَّت دولة الرشيد في عهده امتدادًا لم يُسبق له نظير؛ فلقد أصبحَت رقعتها تنبسط من الهند وفرغانة في الصين، إلى طرف المغرب الأقصى من ناحية الزقاق. كذلك كان امتدادها في زمن أبيه لا تنقص عنه إلا بما ضُم إليها من الديار التي غَلَب عليها الروم في غزواتٍ مُتواترة؛ إذ كان شأنه وقتالهم في حالٍ دائمة كما كان شأن الخلفاء في مناوأتهم منذ صدر الإسلام إلى عهد المهدي، فلما وُلِّي هذا أخرج إليهم الرشيد وهو فتًى، فركب في عدةٍ وأهبة لم يكن مثلها في الإسلام، وجاشت في نفسه نخوة الجهاد، حتى اتَّسَم بِسمة المقاتلة في الجيش وحمل الرمح في يده، وكان يومئذٍ على عرش القسطنطينية ملكة اسمها «إيريني» لم تُطِق مقاومته، فهزم جُندها، وتفرَّق المسلمون في البسائط يجاهدون ولا يُبقون على أحدٍ من الروم، حتى إذا نزل بجوار القسطنطينية وشرع في ضربها بالنار، خافَت عليها من الحريق، فصالحته على كليكية، وحملَت إليه الجزية التي كان يحملها أسلافها إلى الخلفاء.

ولمَّا وُلِّي الرشيد وقع في نفس الروم أن يتخلَّصوا من ربقة الطاعة في عهد نقفور ملكهم، فكتب هذا إليه ما نصه:

من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعدُ: فإن هذه المرأة وضعتك موضع الشاه، ووضعَت نفسها موضع الرخ، وينبغي أن تعلم أني أنا الشاه وأنت الرخ، فأدِّ إليَّ ما كانت المرأة تؤدِّه إليك.

فكتب إليه الرشيد على ظهر كتابه:

من عبد الله هارون أمير المؤمنين، إلى نقفور كلب الروم، أما بعدُ: فقد فهمتُ كتابك، والجواب ما تراه لا ما تسمعه، والسلام على مَن اتَّبَع الهُدى.

ويُقال إنه كتب: «الجواب ما تراه لا ما تسمعه، وسيعلم الكافر لمن عُقبى الدار.» وعلى أثر ذلك زحف الرشيد بخيله ورَجْله، فكانت له اليد العليا عليه، واضطرَّ الروم إلى المسالمة والموادعة، وأوجبوا على نفوسهم حمْل الجزية، ولقد غزاهم غزوات جمَّة ولم يُخفِق في واحدةٍ منها.

والخلاصة: كان هارون الرشيد في عهده كما كان أوغسطس قيصر ملك الرومان في عصره، وما يكون لويس الرابع عشر ملك الفرنسويين في القرن الثامن عشر للميلاد. على أن الذي يُلام عليه الرشيد إلى أبد الدهر هو نكبته للبرامكة، وإفناؤه لهم عن آخرهم، وبذلك هدم الدولة العربية وحضارتها، وأهوى بها من حالقٍ إلى أسفل سافلين. وقد ذهب الناس في سبب هذه النكبة مذاهب شتَّى، منها: أن الرشيد نكب البرامكة؛ لأن جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي خالط العبَّاسة أخت الرشيد، وهذا لا حقيقة له، فلو فرضنا أن ما يُنسب إلى جعفر قد وقع فإن الرشيد ما كان يقتل إلا المُذنب نفسه؛ إذ يعلم أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وهل يمكن له — وهو العاقل المُحنَّك — أن يقتل الأسرة كلها بذنبِ واحدٍ منها؟! فهذا الرأي إذًا فطير. وذهب آخرون إلى أن سبب النكبة هو امتلاء صدر الرشيد حسدًا مما رآه في جعفر من الهمة البعيدة في تنشيط العلماء، وتعريب كتب الأجانب، فأراد أن يمحو ذكر البرامكة بإبقاءِ ذِكره، وهذا أيضًا رأي فج؛ لأن قتل الرجال لا يمحو آثار الأبطال، بل يزيدها ذكرًا ومجدًا وتخليدًا. وذهب ابن خلدون بعد تفنيد بعض هذه الآراء إلى أن سبب النكبة كان من استبدادهم بالدولة واحتجابهم أموال الجباية، وهذا أيضًا ضعيف؛ لأنه لو كان الأمر كما يزعُم الناقد المذكور لكان اكتفى الرشيد بخلعهم من الوزارة ومصادرة ما بيدهم من الأموال الطائلة وعزلهم عن كل وظيفة، لا قتلهم.

وذهب فريقٌ من الناقدين إلى أن سبب هذه النكبة كان التجاء الناس في جميع أمورهم إلى البرامكة دون أمير المؤمنين، وهذا أيضًا لا يُوجب القتل، ولو صدق أن سواد العوام كانوا يلتجئون إليهم في دعاويهم وظلاماتهم لكان كفى الرشيد أن ينزع منهم وظائفهم، فيُصبحوا من الرعايا، فلا يلتفت إليهم أحد. والذي نراه نحن أن سبب هذه النكبة العُظمى هو سياسي، وهو تحزُّبهم لأهل البيت؛ فقد قال الرشيد يومًا لأبي معاوية: «هممتُ أنه من يثبت خلافة علي بن أبي طالب فعلت به وفعلت به.» وقد قال جبريل بن بختيشوع طبيب الرشيد المقرب منه إن الرشيد تحوَّل عليهم بتمحُّل الفضل بن الربيع الذي يتعصَّب على أهل البيت، ويذكر له ما على باب البرامكة من الجيوش والغلمان والمواكب، ويُخوِّفه استفحال ملكهم في خراسان وفارس، ويُوهمه تمحُّلهم في إزالة الأمر من يده، وأن مال الدولة وجندها في أيديهم، فلما تحقَّق الأمر صمَّم على إبادتهم؛ لأنهم جميعًا كانوا على هذه الفكرة، يشهد على ذلك أن العلويين الذين ساروا إلى المغرب نزحوا بإيعاز البرامكة؛ إذ كانوا لهم متحزبين ومتعصِّبين، وهم الذين قلَّدوهم الولايات بدون أن يتعمدوا ضرر الرشيد، بل تمكينًا لدعائم الدولة الإسلامية في العالم، ومُشاطرتهم بعض الولايات ليلهوا بها عن الطموح إلى الخلافة ودس الدسائس وإحداث الفتن.

ومُجمل الكلام أنه كان للرشيد محاسن ومساوئ، وهي تكاد تتعادل، ومن آثاره الجليلة أنه اتخذ المصانع والآبار والبرك والقصور في طريق مكة، وبنى الثغور ومدَّن المدن، وحصَّن فيها الحصون، مثل طرسوس، وأذنة، وعمَّر المصيصة ومرعش، وأحكم بناء حرب (على طريق حاج صنعاء)، إلى غيرها من دُور السبيل والمواضع للمرابطين. ومما أدخله الرشيد في عالم الحضارة ثم تبعه ملوك الإفرنجة على اختلاف طبقاتهم وبلادهم، واليوم أخذ يتبعه جميع المتمدنين في ديار الإفرنج: الألعاب الرياضية البدنية، والألعاب الفكرية. فالرشيد هو أول خليفة لعب بالصولجان في الميدان، ورمى بالنشاب بالبرجاس، ولعب بالكرة والطبطاب، وهو اللعب الذي قد أُغرم به الإنكليز أشد الغرام، وقرَّب الحُذَّاق والمَهَرة في هذه الألعاب، حتى عمَّ الناس ذلك الفعل حصولًا على الجوائز التي كان يُحسن بها الرشيد على المبرزين فيها، وطمعًا بنظر الخليفة إليهم، وكان أيضًا أول مَن لعب بالشطرنج من آل عباس، وكذلك بالنرد (الطاولة)، وقدَّم اللُّعَّاب وأجرى عليهم الأرزاق، فسمَّى الناس أيامه لنضارتها وخصبها «أيام العروس».

وكانت وفاته في طوس سنة ١٩٣ھ/٨٠٩م، وكانت خلافته نيِّفًا وثلاثًا وعشرين سنة، وكان عمره خمسًا وأربعين سنة وشهرين و١٦ يومًا، ودُفن هناك بطوس.

(٤-٥) الأمين

وقام بعده ابنه الأمين في ١٩ جُمادى الآخرة سنة ١٩٣ھ/٢١ نيسان سنة ٨٠٨، وكان ذا قوة مفرطة، وبطش، وشجاعة معروفة، وله فصاحة وبلاغة وأدب وفضيلة، لكن كان سيئ التدبير، كثير التبذير، ضعيف الرأي، أرعن، لا يصلح للإمارة، فأول ما بُويع بالخلافة أمر ثاني يوم ببناء ميدان جوار قصر المنصور للَّعِب بالكرة، وكان حسُنَ له خلع أخيه المأمون من ولاية العهد وتولية ولده موسى، فكاتبه يستدعيه إلى بغداد، فعرف السبب واستدعاءه فامتنع، ونفذ عسكره صحبة طاهر بن الحسين، ونفذ الأمين أيضًا عسكرًا، فالتقوا فانكسر عسكر الأمين وغُنمت أموالهم، ونزل عسكر طاهر بن الحسين على بغداد مُحاصرًا لها، وكان الأمين متشاغلًا بلهوه ولعبه، وذاك مُجِدًّا في القتال والحصار واستمالة العساكر والوجوه، إلى أن ظفر بالأمين فقتله ليلة الأحد خامس المحرم سنة ١٩٨ھ/٦ أيلول سنة ٨١٣م بالجانب الشرقي، وقد عبر في سفينة، فأُمسك وحُمل رأسه إلى المأمون وهو بخراسان، ودُفن جسده في مقابر قريش، وكانت خلافته ٤ سنين و٤ أشهر، وليس له عَقِب في الخلافة والخلفاء من ولد أخيه المعتصم.

(٤-٦) المأمون

في السنة التي قُتل فيها محمد الأمين (١٩٨ھ) ورد كتاب من المأمون بعد قتل أخيه بخلع القاسم بن هارون الرشيد، وفيها بُويع المأمون البيعة العامة في ١٥ المحرم (١٦ أيلول سنة ٨١٣)، والمأمون هو أعظم خليفة عباسي قام في بغداد، وإن تكن الشهرة لأبيه هارون، فقد قال السيوطي: كان أفضل من رجال بني العباس حزمًا وعزمًا، وحلمًا وعلمًا ورأيًا، ودهاءً وهيبةً وشجاعة، وسؤددًا وسماحة، وله محاسن وسيرة طويلة، أدَّبه اليزيدي، وجمع الفقهاء من الآفاق، وبرع في الفقه والعربية وأيام الناس، ولما كبر عُني بالفلسفة وعلوم الأوائل ومهر فيها، فجرَّه ذلك إلى القول بخلق القرآن. ولم يلِ الخلافة من بني العباس أعلم منه، وكان فصيحًا مفوَّهًا، وكان يُقال لبني العباس فاتحة، وواسطة، وخاتمة، فالفاتحة: السفَّاح، والواسطة: المأمون، والخاتمة: المعتضد. وكان معروفًا بالتشيُّع، حتى إنه خلع أخاه المؤتمن من العهد، وجعل وليَّ العهد من بعده «علي الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق»، حمله على ذلك إفراطه في التشيُّع، حتى قيل إنه همَّ أن يخلع نفسه ويفوِّض الأمر إليه، وهو الذي لقبه الرضى، وضرب الدراهم باسمه، وزوَّجه ابنته، وكتب إلى الآفاق، وأمر بترك السواد ولبس الخضرة، فاشتدَّ ذلك على بني العباس وخرجوا عليه، وبايعوا إبراهيم بن المهدي، ولُقِّب المبارك، فجهَّز المأمون لقتاله، وجرت أمورٌ وحروب، وسار المأمون إلى نحو العراق فلم ينشب علي الرضى أن مات في سنة ثلاث ومائتين، وبلغ إبراهيم بن المهدي تسلُّل الناس من عهده، فاختفى في ذي الحجة، فكانت أيامه سنتين إلا أيامًا، وبقي في اختفائه مدة ثماني سنين، ووصل المأمون إلى بغداد في صفر سنة أربع، فكلَّمهُ العباسيون وغيرهم في العود إلى لبس السواد وترك الخُضرة، فتوقَّف ثم أجاب إلى ذلك. ا.ھ.

وقال صاحب كتاب «خلاصة الذهب المسبوك»: «كان المأمون شهمًا أبيَّ النفس، أخذ من جميع العلوم بقسط، وضرب فيها بسهم، واستخرج كثيرًا من كُتب الطب وتُرجمت له، واستخرج إقليدس وتُرجم له، وعقد المجالس للمناظرة بين أهل العلم في الأديان والمقالات، وغزا الروم، وفتح فتوحات كثيرة، وكان جوَّادًا موصوفًا بالحلم، وعفوه عن إبراهيم بن المهدي — عمه — وقد نازعه رداء الملك بعد أن بُويع له بالخلافة مشهور، وعفوه عن الفضل بن الربيع الذي جلب الحرب بينه وبين أخيه الأمين معلوم، وعن الحسين بن الضحَّاك، وقد بالغ في هجائه وأطنب في تقبيح ذكره تعصُّبًا لأخيه الأمين مفهوم.»

وقال القاضي صاعد بن أحمد الأندلسي: «إن العرب في صدر الإسلام لم تُعْنَ بشيءٍ من العلوم إلا بلغتها ومعرفة أحكام شريعتها، حاشا صناعة الطب، فإنها كانت موجودة عند أفراد منهم، غير منكورة عند جماهيرهم، لحاجة الناس طرًّا إليها، فهذه كانت حالة العرب في الدولة الأموية، فلما أدال الله تعالى للهاشمية وصرف الملك إليهم، ثَابَت الهمم من غفلتها، وهبَّت الفِطَن من مِيتتها. وكان أول من عُنِي منهم بالعلوم الخليفة الثاني أبو جعفر المنصور، وكان مع براعته في الفقه كَلِفًا في علم الفلسفة، وخاصة في علم النجوم. ثم لمَّا أفضَت الخلافة فيهم إلى الخليفة السابع عبد الله المأمون بن هارون الرشيد تمَّم ما بدأ به جده المنصور، فأقبل على طلب العلم في مواضعه، وداخل ملوك الروم، وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلسفة، فبعثوا إليه منها ما حضرهم، فاستجاد لها مَهَرة الترجمة، وكلَّفهم إحكام ترجمتها، وتُرجمت له على غاية ما أمكن، ثم حرَّض الناس على قراءتها، ورغَّبَهم في تعليمها، فكان يخلو بالحُكماء، ويأنس بمناظراتهم، ويلتذُّ بمذاكراتهم؛ علمًا منه بأن أهل العلم هُم صفوة الله من خلقه، ونُخبته من عباده؛ لأنهم صرفوا عنايتهم إلى نَيْل فضائل النفس الناطقة، وزهدوا فيما يرغب فيه الصين والترك ومن نزع منزعهم من التنافس في دقة الصنائع العملية، والتباهي بأخلاق النفس الغضبيَّة، والتفاخر بالقوى الشهوانية؛ إذ علموا أن البهائم تشركهم فيها وتَفْضُلهم في كثيرٍ منها.

فمن المُنَجِّمِين في أيام المأمون: حبش الحاسب، المروزي الأصل البغدادي الدار، وله ثلاثة أزياج، وأحمد بن كثير الفرغاني، صاحب المدخل إلى علم هيئة الأفلاك، وعبد الله بن سهل بن نوبخت، كبير القدْر في علم النجوم، ومحمد بن موسى الخوارزمي، وما شاء الله اليهودي، ويحيى بن أبي المنصور، ولمَّا عزم المأمون على رصد الكواكب تقدَّم إليه وإلى جماعة من العلماء بالرصد وإصلاح آلاته، ففعلوا ذلك بالشماسية ببغداد، وجبل قاسيون بدمشق. ومن الحكماء: يوحنا بن البطريق الترجمان، مولى المأمون، كان أمينًا على ترجمة الكتب الحكمية، حسن التأدية للمعاني، ألكن اللسان في العربية، وكانت الفلسفة أغلب عليه من الطب. ومن الأطباء: سهل بن سابور، ويُعرف بالكوسج، ويوحنا بن ماسويه، وجيورجيس بن بختيشوع، وعيسى بن الحكم، وزكريا الطيفوري، وجبريل الكحَّال؛ وغيرهم وهم كثيرون.»

تُوفي المأمون يوم الخميس عاشر شهر رجب ٢١٨ھ (٢ آب ٨٣٣) بالقُرب من طرسوس، فحمله ابنه العباس وأخوه المعتصم إليها، فدفناه في دار خاقان، خادم الرشيد، وكان ذاهبًا يُريد غزو بلاد الروم، وكان عمره سبعًا وأربعين سنة وستَّة أشهر وعشرة أيام، وخلافته عشرين سنة، ولا عقب له في الخلافة، والخلفاء من ولد أخيه المعتصم.

(٤-٧) المعتصم

والمعتصم هو ابن الرشيد، وُلد يوم الاثنين ١٠ شعبان من سنة ١٧٠ (١٩ ت١ سنة ٧٩٦م)، وأراد الناس أن يُبايعوا العباس بن المأمون، فأبى هذا، وسلَّم الأمر إلى عمه المعتصم، فتوجَّه إلى بغداد مُسرعًا، فوافاها غُرة شهر رمضان ٢١٨ھ/٢٠ أيلول سنة ٨٣٣م، وأقام بها سنتين، ثم توجَّه إلى موضع سُرَّ مَن رأى (سامراء)، فبناها واتخذها دار مُلك له. وله بسامراء الآثار الحسنة والأبنية العظيمة. قيل إن مساحتها سبعة فراسخ، وحفر نهر الإسحاقي، وعمل تل المخالي، وبنى سورًا للصيد، وبنى الجامع الكبير وأنفق عليه خمسمائة ألف دينار، وجعل وجوه حيطانه مرايا، بحيث يرى القائم في الصلاة مَن يدخل من خلفه، وبنى المنارة التي يُقال إنها من إحدى عجائب الدنيا. وهو أول خليفة أدخل الأتراك الديوان، وكان يتشبَّه بملوك الأعاجِم ويمشي مشيهم، وبلغَت غلمانه الأتراك ثمانية عشر ألفًا، وألبسهم أطواق الذهب والديباج، وكانوا يطردون الخيل في بغداد، فضاقت بهم المدينة، وتأذَّى منهم الناس، فبنى المعتصم «سُرَّ مَن رأى». وكان غيورًا على الدين، فقد قتل من الخُرَّمية ستين ألفًا، وكان أشد من أخيه المأمون في القول بخلق القرآن. وفي سنة ٢١٩ (٨٣٤م) أحضر المعتصم أحمد بن حنبل وامتحنه بالقرآن، فلمَّا لم يُجب بكونه مخلوقًا أمر به فجُلد جلدًا شديدًا حتى غاب عقله، وتقطَّع جلده. وقال أبو الفرج الملطي: «كان أبو هارون البكاء من العلماء المنكرين لخلق القرآن، يُقِرُّ بكونه مجعولًا لآية وردت، وهي: إِنَّا جَعَلْنَاه قُرْآنًا عَرَبِيًّا، ويسلِّم أن كل مجعول مخلوق، ويُحجم عن النتيجة ويقول: «لا أقول مخلوق، ولكنه مجعول.» وهذا عجبٌ عُجاب. وغزا المعتصم بلاد الروم، ففتح عمورية، وقتل من نصاراها ثلاثين ألفًا، وأسر ثلاثين ألفًا.» وفي سنة ٢٢٧ تُوفي المعتصم يوم الخميس لثماني عشرة مضت من ربيع الأول (٧ ك٢ سنة ٨٤١) عن ثمانية بنين وثماني بنات، وكانت خلافته ثماني سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام حسابًا هجريًّا؛ ولهذا سُمي المُثَمَّن، وكان عمره ٤٨ سنة، ودُفن بسامراء.

(٤-٨) الواثق

وقام على سرير الخلافة بعده ابنه الواثق بالله، وكانت أمه رومية اسمها قراطيس، وُلد لعشرٍ بقَيْن من شعبان سنة ١٩٦ھ /٢٧ نيسان سنة ٨١٢م ووُلِّي الخلافة بعهدٍ من أبيه. بُويع له في ١٩ ربيع الأول سنة ٢٢٧ (٨ ك٢ سنة ٨٤٢). وفي سنة ٢٢٨ استخلف على السلطنة أشناس التركي وألبسه وشاحين مجوهرين وتاجًا مجوهرًا، وهو أول خليفة استخلف سلطانًا. وكان من الخلفاء القائلين بخلق القرآن، وقد ضرب بيده في بغداد عنق أحمد بن نضر الخُزاعي لقوله بالخلاف، ثم صلَب جُثته في سُرَّ مَن رأى، واستمرَّت جثته مُعلَّقة ست سنين، إلى أن وُلي المتوكل فأنزلها ودفنها. وكان يُحسن إلى الطالبيين، حتى إنه لم يَمُت فيهم واحدٌ وهو فقير. وكان وافر الأدب، مليح الشعر، وكان أعلم الخلفاء بالغناء، وله أصوات وألحان عملها نحو مائة صوت، وكان حاذقًا بضرب العود، وأُحرِقَت الكرخ في أيامه، وتشاغل الأغنياء بعمارة منازلهم، وعجز الفقراء عن عمارة أملاكهم وانتقلوا عنها، فأطلق للفقراء منهم مليون درهم معونةً لهم على إصلاح دُورهم. وفي عهده غزا المسلمون في البحر جزيرة صقلية، وفتحوا مدينة مسينة في عهد الملكة ثئودورة، وكانت ملكة بعد ثئوفيل ملك الروم، وابنها ميكائيل بن ثئوفيل، وهو صبي. ومات الواثق بداء الاستسقاء يوم الأربعاء ٢٧ ذي الحجة من سنة ٢٣٢ (١٥ آب سنة ٨٤٧م)، ودُفن بسامراء، وكانت خلافته ٥ سنين و٣ أشهر و١٥ يومًا.

(٤-٩) المتوكل

هو ابن المعتصم بن الرشيد، وُلد سنة ٢٠٧ (٨٢٢م)، وبُويع له بالخلافة في ذي الحجة سنة ٢٣٢ (تموز سنة ٨٤٧م) بعد الواثق، فأظهر الميل إلى السُّنة ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وكان يُظهِر مِن سبِّ علي بن أبي طالب والاستهزاء بذكره كثيرًا، بخلاف ابنه المنتصر، فإن الأغلب عليه التشيُّع وحُب علي. والمتوكل هو الذي أخمد المعتزلة، وكانوا في قوةٍ ونماء إلى أيام المتوكل، ولمَّا مرض الواثق ائتمر إيداخ ومحمد بن عبد الملك الزيات في قتل المتوكل في التنور وفي الماء البارد على رأي مَن يغلب أمره على الآخر، فلما قام المتوكل بأمر الخلافة عُذِّب محمد بالتنور الذي صنعه ليُعذب فيه الناس، وكان من حديد وداخله مسامير غير مثنية، وكان يُسجَر بحطب الزيتون حتى يصير كالجمر، ثم يُدخَل الإنسان فيه، وعُذِّب إيداخ بالماء البارد على ما كان يريده للمتوكل. وفي سنة ٢٣٥ ألزم المتوكل النصارى بلبس الغل. وفي سنة ٢٣٦ أمر بهدم قبر الحسين وهدم ما حوله من الدُّور وأن يُعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته وخُرِّب وبقي صحراء. وكان المتوكل معروفًا بالتعصُّب، فتألم المسلمون من ذلك، وكتب أهل بغداد شتمه على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء، وكان منهمكًا في اللَّذات والشراب، وكان له أربعة آلاف سريَّة عرفهن كلهن، واتفق أن الترك انحرفوا عن المتوكل لأمور، فاتفقوا مع ابنه المنتصر على قتله، فدخل عليه خمسة منهم وهو في جوف الليل في مجلس لهوه، فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان في ٥ شوال سنة ٢٤٠ / ٢٨ شباط سنة ٨٥٥)، فكانت مدة خلافته ١٤ سنة و٩ أشهر، ودُفن بسُرَّ مَن رأى.

(٤-١٠) المنتصر

قام بأمر الخلافة بعده ابنه المنتصر، بُويع له في الصبيحة التي قُتل فيها أبوه، وخلع أخويه من البيعة التي أخذها أبوهما لهما على الناس، وكانت ولادته في سُرَّ مَن رأى في شهر ربيع الأول، من أَمَة أم ولد روميَّة في سنة ٢٢٤ (ك٢ سنة ٨٣٩م)، ولما ولِّي صار يسبُّ الأتراك ويقول: «هؤلاء قتلة الخلفاء.» وقيل أنه جلس في بعض الأيام للَّهو، وقد استخرج من خزائن أبيه فُرُشًا، فأمر بفرشها في المجلس، فرأى في بساط ديباج دائرة فيها فارس وعليه تاج، وحوله كتابة فارسية، فطلب مَن يقرأ ذلك، فأُحضر رجل، فنظره فقطَّب. فقال: ما هذه؟ قال: لا معنى لها. فألحَّ عليه. فقال:

أنا شيرويه بن كسرى بن هرمز، قتلتُ أبي فلم أتمتع بالملك إلا ستَّة أشهر.

فتغيَّر وجه المنتصر، وأمر بإحراق البساط، وكان منسوجًا بالذهب، وكان الأتراك قد همُّوا بقتله فعجزوا عنه، فتحيَّلوا إلى أن دسُّوا إلى طبيبه ابن طيفور ٣٠ ألف دينار في مرضه، فأشار بفصده، ثم فصده بريشة مسمومة، فمات في ٥ ربيع الآخر سنة ٢٤٨ (٩ حزيران ٨٦٢م) عن ٢٦ سنة أو دونها، فلم يتمتع بالخلافة إلا أشهرًا معدودة دون ستة أشهر، ودُفن بالجوسق في سامراء.

(٤-١١) المستعين

فبايع الأمراء وأكابر المماليك الأتراك للمستعين بالخلافة ليلة الاثنين لستٍّ خَلَوْن من شهر ربيع الآخر، وعمره إذ ذاك ٢٨ سنة؛ لأن ولادته كانت في سُرَّ مَن رأى في ٧ رجب ٢٢١ (٢٧ حزيران ٨٣٦م)، ولم يُوَلُّوا أحدًا من ولد المتوكل لئلَّا يُطالب بدمه. وكان مُغرمًا بحب النساء، واستمر في الخلافة إلى أول سنة ٢٥١، فتنكَّر له الأتراك لمَّا قتل وصيفًا وبغا ونفى باغر التركي الذي قتل المتوكل، ولم يكن للمستعين مع «وصيف» و«بغا» إلا أن يقول ما يقولان؛ ولهذا قيل فيه:

خليفةٌ في قفص
بين وصيف وبغا
يقولُ ما قالا له
كما تقول الببغا

أُلجئ المستعين إلى خلع نفسه في ١٣ المحرم سنة ٢٥٢ (٤ شباط ٨٦٦م)، وكانت خلافته ٣ سنين و٨ أشهر، وقُتل بعد الخلع بالقادسية قُرب سامراء، قتله بغا التركي، وأخذ رأسه فحمله إلى ابن عمه المعتز، ودُفن بسُرَّ من رأى عن ٣٠ سنة وثلاثة أشهر، ولا عقب له في الخلافة.

(٤-١٢) المعتز

وُلد المعتز في ١٦ شهر ربيع الأول من سنة ٢٣٣ (٣١ ت١ ٨٤٧ م)، أمه رومية أم ولد، اسمها قنجة، ويُروى قبيحة. بُويع له بالخلافة بعد خلع ابن عمه المستعين، وبعد مبايعته بالخلافة أخرج أخاه المؤيَّد من الجوسق، وخلع عليه خلعة الملك، ثم بَلَغه عنه أنه يريد الوثوب عليه فحبسه، ثم وُجد بعد ذلك ميتًا في حبسه. وهو أول خليفة أحدث الركوب بحلية الذهب، وكان الخلفاء قبله يركبون بالحلية الخفيفة من الفضة، وكان المعتز مستضعفًا مع الأتراك، فبعثوا إليه يقولون له: اخرج إلينا. فبعث يقول: قد شربت دواء وأنا ضعيف. فهجم عليه جماعة، وجرُّوا برجله، وضربوه بالدبابيس في يومٍ صائف وهم يلطمون وجهه ويقولون: اخلع نفسك. فخلعها. ثم إن الملأ أخذوه إلى الحمام بعد خلعه بخمس ليالٍ وأدخلوه إياه، فلما اغتسل عطش فمنعوه الماء، ثم أُخرج وهو أول ميت عطشًا، فسقوه ماءً بثلج فشربه وسقط ميتًا، وذلك في شهر شعبان في سامراء، فدُفن فيها في موضعٍ يُقال له السميذع عن ٢٣ سنة. وكانت مدة خلافته ٤ سنين و٦ أشهر و١٤ يومًا.

(٤-١٣) المهتدي

قام على سرير الخلافة يوم خُلع ابن عمه المعتز بالله، وكانت ولادته في سنة ٢١٨ (٨٣٣م). أمه أم ولد يُقال لها قرب، ويُروى: وردة. قال المهتدي عن نفسه: «ما زلت أقول القرآن مخلوق، صدرًا من خلافة الواثق، حتى أقدم علينا أحمد بن أبي دواد شيخًا من أهل أذنة، فرجعتُ عن هذه المقالة.» وكان المهتدي ورعًا متعبدًا عادلًا قويًّا في أمر الله، بطلًا شجاعًا، لكنه لم يجد ناصرًا ولا مُعينًا، ووُجد له سَفَط فيه جُبَّة صوف وكساء، كان يلبسه بالليل ويُصلي فيه، وكان قد اطَّرح الملاهي وحرَّم الغناء، وحسم أطماع أصحاب السلطان عن الظلم، وأمر أن يُحدَّ شارب الخمر كائنًا مَن كان. وكان شديد الإشراف على أمر الدواوين، يجلس بنفسه ويجلس الكُتاب بين يديه فيعملون الحساب. وكان الأتراك قد اتفقوا على خلعه لما كان نهاهم عن جميع المنكرات التي اعتادوها، فحاربوه، فقاتل عن المهتدي المغاربة والفراغنة والأشروسنية، وقُتل من الأتراك في يومٍ واحد أربعة آلاف. ودام القتال إلى أن هُزم جيش الخليفة، وأُمسِكَ هو فعُصر على أنثييه فمات. وذلك في رجب سنة ٢٥٦، ودُفن بدار محمد بن خاقان بسُرَّ مَن رأى إلى جانب المعتز. فكانت خلافته ١١ شهرًا و١٧ يومًا، وعمره ٣٧ سنة و٤ أشهر و١٠ أيام. وكان لمَّا قامت الأتراك عليه ثار العوام وكتبوا رقاعًا وألقوها في المساجد، ومن جملة ما فيها:

يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العادل المضاهي لعمر بن عبد العزيز أن ينصره الله على عدوه.

(٤-١٤) المعتمد

ثم قام بالأمر بعده ابن عمه: أحمد المعتمد على الله بن المتوكل. وُلد سنة ٢٢٩ (٨٤٣م)، أمه أم ولد يُقال لها فَنَان، ويُروى: قِينان، رومية. وبُويع له بالخلافة يوم قُتل ابن عمه المهتدي بسُرَّ مَن رأى، وكان له اسم الخلافة، ولأخيه الموفَّق ابن المتوكل تدبير المُلك. ولما مات الموفق قام بتدبير شئون الملك بعده ابنه أحمد المعتضد بن الموفق، وغلب على عمه المعتمد كما كان أبوه غالبًا عليه، وكان المعتمد يطلب الشيء اليسير فلا يناله، ولم يكن له سوى الاسم. وكان منهمكًا في اللهو واللَّذات، يسكر ويعض يده. تُوفي يوم الاثنين ١٥ رجب ٢٧٩ (١٢ ت١ سنة ٨٩٢م) فجأة ببغداد، وحُمل إلى سامراء ودُفن بها. ومدة خلافته ٢٣ سنة و٦ أيام، وعمره ٥٠ سنة.

(٤-١٥) المعتضد

المعتضد بالله: هو ابن الموفَّق بن المتوكل. وُلد في سُرَّ مَن رأى في ذي القعدة سنة ٢٤٢/كانون الثاني ٨٥٧م. أمه أم ولد اسمها خفير، وقيل: صواب، وقيل: حرز، وقيل: ضرار، وقيل: ضفير، لم تُدرِك خلافته. بُويع له بالخلافة يوم الاثنين ١٢ رجب سنة ٢٧٩ (٩ ت١ سنة ٨٩٢). وكان ذا رأي وحزم وشجاعة، وعدل في الرعية، حتى إنه تقدَّم إلى كافة أصحابه وخواصه أن يلزموا الطريقة المُثلى، وأمرهم بأخذ أصحابهم بمثل ذلك، وقرَّر أنه مَن تعدَّى الواجب وأفسد وتناول أحدًا من الرعية بأذًى، كان هو المؤاخَذ بذلك المقابل عليه دون الجاني، وشاع ذلك في الأجناد، وانكفوا وسلكوا أحسن مسلك، وحجَّ وغزا. وفضائله كثيرة، وآثاره عظيمة، وهو أول مَن سكن دار الخلافة ببغداد وانتقل من سامراء. وكنا قد سبقنا فقُلنا إن المعتصم هو الذي كان قد انتقل إليها من بغداد، وكل مَن جاء بعده — أي الواثق، والمتوكل، والمنتصر، والمستعين، والمعتز، والمهتدي، والمعتمد — سكنوا جميعًا سامراء. وكان سبب رجوع المعتضد إلى بغداد أن قصر الحسن بن سهل انتقل إلى بوران ابنته وزوجة المأمون، فاستنزلها المعتضد عنه، فرمَّمَته وفرشته بأجلِّ الفرش، وملأت خزائنه بما يخدم به الخلفاء، وربَّت فيه الجواري والخدم وما تدعو إليه الحاجة، ثم انتقلت عنه وراسلته بالانتقال فانتقل، ووجد فيه ما استحسنه واستكثره، ثم إنه أضاف إلى القصر ما جاوره ليُوَسِّع الدار بذلك، وعمل عليه سورًا. وكان المعتضد يُسمَّى السفاح الثاني؛ لأنه جدَّد مُلك بني العبَّاس، لكنه كان كثير إتيان النساء، ومات من الإفراط فيهن، وذلك نهار الاثنين ٢٢ ربيع الآخر سنة ٢٨٩ھ (٧ نيسان سنة ٩٠٢) في قصره المعروف بالحسني في بغداد، ودُفن ليلًا في دار محمد بن طاهر في الجانب الغربي من الدار المعروفة بدار الرخام، وكانت مدة خلافته ٦ سنين و٦ أشهر و٢٠ يومًا. وكان من آثاره الحسنة القصر المعروف بالتاج، أو الحسني، المشرف على دجلة بدار الخلافة (في بغداد)، وما وراءه من القباب والمجلس.

(٤-١٦) المكتفي

المكتفي: هو ابن المعتضد، وُلد في غُرَّة شهر ربيع الآخر سنة ٢٦٤ (١١ ك١ سنة ٨٧٧م) أمه أم ولد تركية اسمها جيجك. بُويع له بالخلافة بعد موت أبيه المعتضد في شهر ربيع الآخر سنة ٢٨٩ (٩٠٢م)، وأخذ له أبوه البيعة في مرض موته، ولمَّا سار إلى منزله أمر بهدم المطامير التي كان قد اتخذها أبوه لأهل الجرائم، وكان يميل إلى حُب علي بن أبي طالب، بارًّا بأولاده. مات المكتفي شابًّا في ليلة الأحد ١٢ ذي القعدة سنة ٢٩٥ (١٤ آب ٩٠٨م).

(٤-١٧) المقتدر

المقتدر بالله: هو ابن المعتضد، وُلد في رمضان سنة ٢٨٢ (ت١ سنة ٨٩٥م)، وأمه رومية، وقيل تركية، أم ولد، اسمها شغب، وقيل غريب، أدركت خلافته. بُويع بالخلافة يوم مات أخوه المكتفي وهو ابن ١٣ سنة، ولم يَلِ الخلافة من قبْله أصغر سنًّا منه. وعمل الصولي كتابًا في جواز ولايته، واستدلَّ بأن الله تعالى بعث يحيى بن زكرياء ولم يكن بالغًا، وخُلع مرتين وأُعيد، وفي إحدى المرَّتين بُويع عبد الله بن المعتز، وكان ابن المعتز أكثر العباسيين فضلًا وأدبًا ومعرفة موسيقى، وأشعر الشعراء مطلقًا في التشبيهات المبتكرة الغريبة المرقصة التي لا يشق غباره فيها أحد، ولمَّا بايعوه بالخلافة سمُّوه الغالب بالله. ثم أرسل المقتدر وقبض على ابن المعتز، وقتله في حبسه، واستقام له الأمر. وفي المرة الثانية اجتمع القُوَّاد والجُند والأكابر والأعيان والأصاغر مع يونس ونازوك، وتشاوروا على خلع المقتدر، فألزموه بأن كتب رُقعة بخطه بخلع نفسه، ففعل، وأُشهد عليه بذلك، ومضى ابن حمدان إلى دار ابن طاهر، فأحضر أخاه محمد بن المعتضد، ولُقِّب بالقاهر بالله بعد أن بايعوه، وذلك في منتصف المحرم من سنة ٣١٩ (العشر الأُوَل من شباط سنة ٩٣١)، ثم بعد يومين تغيَّر الجُند واختلفوا وقتلوا نازوك، وأقاموا القاهر من مجلس الخلافة، وأُعيد المقتدر وجُدِّدت له البيعة، وذلك بعد يومين. وفي أيامه أمر اليهود والنصارى ألا يركبوا إلا بالأكف، وألا يُستخدموا في وظيفة. وفي عهده قُتل الحسين الحلَّاج، وفي زمنه فُتح مارستان أم المقتدر، وكان مبلغ النفقة فيه في العام الواحد سبعة آلاف دينار. وفي سنة ٣٠٦ صار الأمر والنهي لحرم الخليفة ولنسائه لركاكته، وآل الأمر إلى أن أمرت أم المقتدر بمثل القهرمانة أن تجلس للمظالم وتنظر في رقاع الناس كل جمعة، فكانت تجلس وتحضر القُضاه والأعيان، وتبرز التواقيع وعليها خطُّها. وكان المقتدر جيِّد العقل، صحيح الرأي، لكنه كان مؤثرًا للشهوات والشراب مبذِّرًا، وكانت النساء غلبن عليه، فأخرج عليهن جميع جواهر الخلافة ونفائسها، وأعطى بعض حظاياه الدُّرة اليتيمة، ووزنها ثلاثة مثاقيل، وأعطى زيدان القهرمانة سبحة جوهر لم يُرَ مثلها، وأتلف أموالًا كثيرة، وكان في داره أحد عشر ألف غلام خَصِي، غير الصقالبة والروم والسود. قُتل يوم الأربعاء ٢٧ شوال سنة ٣٢٠ (١ ت٢ سنة ٩٣٢م) بالشماسية، وقد خرج لقتل مؤنس، فلمَّا التقى الجمعان رَمَى بربريٌّ المقتدرَ بحربة، فسقط إلى الأرض، ثم ذبحه بالسيف ورفع رأسه على رُمح وسلب ما عليه، وبقي مكشوف العورة حتى سُتر بالحشيش، ثم حُفر له بالموضع ودُفن وأُخفِي قبره. وكانت خلافته منذ بُويع إلى أن قُتل أربعًا وعشرين سنة و١٥ يومًا، وكان عمره ٣٨ سنة.

(٤-١٨) القاهر

هو ابن المعتضد، مولده في ٥ جمادى الأولى من سنة ٢٨٧ (٩ أيار ٩٠٠م)، أمُّه أمُّ ولد، اسمها قبول، ويُقال فتنة. لمَّا قُتل المقتدر أُحضر هو ومحمد بن المكتفي، فسألوا ابن المكتفي أن يتولى، فقال: لا حاجة لي في ذلك، وعمِّي هذا أحقُّ به. فكُلِّم القاهر فأجاب فبُويع، ولُقِّب القاهر بالله، كما لُقِّب في سنة ٣١٧ھ، وأول ما فعل أن صادر آل المقتدر وعذَّبهم، وضرب أم المقتدر حتى ماتت في العذاب، ونسي هذا الخليفة ما يفعل الله بالقَتَلة وما يُخبِّئه له الزمان في مطاوي ثوبه الضافي، وكأنه لم يتذكر ما مرَّ به من العِبَر في تاريخ أجداده. وممَّن قتلهم أيضًا جماعة من أكابر الدولة، وذلك أنه في سنة ٣٢١ شغب عليه الجُند، واتفق مؤنس وابن مقلة وآخرون على خلعه بابن المكتفي، فتحيَّل القاهر عليهم إلى أن أمسكهم وذبحهم، وطيَّن على ابن المكتفي بين حائطين، وأما ابن مقلة فاختفى فأُحرقت داره، ونُهِبَت دُور المخالفين، فزِيد في ألقابه: المنتقم من أعداء دين الله، ونُقِش ذلك على السكة. وأمر بتحريم القيان والخمر، وقبض على المغنين، ونفى المخانيث، وكسر آلات اللهو، وأمر ببيع المغنِّيات من الجواري على أنهن سوادج، وكان مع ذلك لا يصحو من السُّكر، ولا يفتُر من سماع الغناء. وفي سنة ٣٢٢ قتل القاهر إسحاق بن إسماعيل النوبختي الذي كان قد أشار بخلافته، ألقاه على رأسه في بئر وطُمَّت، وذنْبه أنه زايَد القاهر قبل الخلافة في جارية واشتراها، فحقد عليه. وفي السنة المذكورة تحرَّك الجُند عليه؛ لأن ابن مقلة في اختفائه كان يوحشهم منه ويقول لهم: إنه بنى لكم المطامير ليحبسكم؛ وغير ذلك، فأجمعوا على الفتك به، فدخلوا عليه بالسوق فهرب، فأدركوه وقبضوا عليه في ٦ جمادى الآخرة (٢٥ أيَّار ٩٣٤م)، وبايعوا أبا العباس أحمد بن المقتدر، ولقَّبُوه الراضي بالله.

قال محمود الأصبهاني: «كان سبب خلع القاهر سوء سيرته وسفكه الدماء، فامتنع من الخلع، فسَمَلُوا عينيه، أن كحَّلوه بمسمار محميٍّ فسالتا على خديه.» وقال الصولي: «كان أهوج، سفَّاكًا للدماء، قبيح السيرة، كثير التلوُّن والاستحالة، مُدمِن الخمر، ولولا جودة حاجبه سلامة لأهلك الحرث والنسل، وكان قد صنع حربة يحملها فلا يطرحها حتى يقتل بها إنسانًا.» وقال المسعودي: «أخذ القاهر من مؤنس وأصحابه مالًا عظيمًا، فلما خُلع وسُمِل طُولب بها فأنكر، فعُذِّب بأنواع العذاب، فلم يُقِر بشيء، فأخذه الراضي بالله فقرَّبه وأدناه، وقال له: قد ترى مطالبة الجُند بالمال، وليس عندي شيء، والذي عندك فليس بنافعٍ لك، فاعترف به. فقال: أما إذا فعلت هذا فالمال مدفون في البستان. وكان قد أنشأ بستانًا فيه أصناف الشجر حُملَت إليه من البلاد، وزخرفه وعمل فيه قصرًا، وكان الراضي مغرمًا بالبستان والقصر، فقال: وفي أيِّ مكان المال منه؟ فقال: أنا مكفوف لا أهتدي إلى مكان، فاحفر البستان تجده. فحفر الراضي البستان وأساسات القصر، وقلع الشجر فلم يجد شيئًا. فقال له: وأين المال؟ فقال: وهل عندي مال؟ وإنما كانت حسرتي في جلوسك في البستان وتَنَعُّمك، فأردت أن أفجعك فيه. فندم الراضي وحبسه، فقام إلى سنة ثلاث وثلاثين، ثم أطلقوه وأهملوه، فوقف يومًا في جامع المنصور في بغداد بين صفوف الخلق وعليه مبطنة (جبة) عنَّابيَّة وقد ذهب وجهها وبقي بعض قطن بطانتها وهو يقول: «تصدَّقُوا عليَّ، بالأمس كنتُ أمير المؤمنين، وأنا اليوم من فقراء المسلمين.» وكان ذلك في أيام المستكفي ليُشَنِّع عليه، فمُنع من الخروج إلى أن مات في منزله بدار ابن طاهر بالحريم، سنة ٣٣٩ في ٣ جمادى الأولى عن ٥٣ عامًا.» وكانت خلافته ٦ سنين و٦ أشهر و٧ أيام، ودُفن إلى جانب أبيه المعتضد.

(٤-١٩) الراضي

هو ابن المقتدر، بُويع له بالخلافة يوم خُلع عمه القاهر. وكان مولده في رجب سنة ٢٩٧ (آذار ٩١٠م) بالدار بالبدرية. أمه أم ولد روميَّة اسمها ظلوم، أدركت خلافته. انتدب الأمير محمد بن رائق، وجعله أمير الأمراء، وفوَّض إليه تدبير المملكة، وخلع عليه وأعطاه اللواء، ومنذ ذلك اليوم بطل أمر الوزارة ببغداد ولم يبقَ إلا اسمها، والحكم للأمراء والملوك المتغلِّبين، وكل مَن حصل بيده بلد مَلَكه ومانَع عنه، فتمزَّقت أعضاء الخلافة كلَّ ممزَّق. فالبصرة وواسط الأهواز في يد عبد الله البريدي وأخويه. وفارس بيد عماد الدولة بن بُويه. والموصل وديار بكر وديار ربيعة وديار مضر في يد بني حمدان. ومصر والشام في يد الإخشيد بن طغج. والمغرب وإفريقية في يد المهدي. والأندلس في يد بني أمية. وخُراسان وما والاها في يد نصر بن أحمد الساماني. واليمامة وهجر والبحرين في يد أبي طاهر القرمطي. وطبرستان وجرجان في يد الديلم. ولم يبقَ في يد الراضي وابن رائق سوى بغداد وما والاها، فبطلت دواوين المملكة ونقص قدْر الخلافة وضعُف ملكها وعمَّ الخراب لذلك، وأصبح المسمَّوْن بأمير المؤمنين في الدنيا ثلاثة: العباسي في بغداد، والأموي في الأندلس، والمهدي صاحب المغرب في القيروان.

وفي سنة ٣٢٦ خرج «بجكم» على «ابن رائق» فظهر عليه، واختفى ابن رائق، فدخل «بجكم» بغداد، فأكرمه الراضي ورفع منزلته ولقَّبه بأمير الأمراء، وقلَّده إمارة بغداد وخُراسان. وفي سنة ٣٢٧ أطلق القرمطي طريق الحاج على أن يُؤدى له عن كل حمل خمسة دنانير، فحجَّ الناس، وهي أول سنة أُخذ فيها المكس من الحُجَّاج. وفي سنة ٣٢٩ اعتلَّ الراضي لكثرة غشيانه للنساء، وكانت علَّته الاستسقاء والتنحنُح، فتُوفي ليلة السبت ١٥ ربيع الأول بعد أن قاء دمًا كثيرًا (١٩ ك١ سنة ٩٤٠) وهو ابن ٣٢ سنة وأشهُر. وكانت خلافته ٦ سنين وعشرة أشهر. قال الخطيب: «كان للراضي فضائل، منها أنه آخر خليفة له شِعر مدوَّن، وآخر خليفة خطب يوم الجمعة، وآخر خليفة جالس النُّدماء، وكانت جوائزه وأموره على ترتيب المتقدمين، وآخر خليفة سافر بزيِّ القدماء.»

(٤-٢٠) المتقي

ثم قام بالأمر بعده أخوه أبو العباس إبراهيم المتقي بالله بن المقتدر، بُويع له بالخلافة بعد موت أخيه الراضي وهو ابن أربع وثلاثين سنة. وكانت ولادته في شعبان سنة ٢٩٧ (نيسان سنة ٩١٠م). أمه أم ولد، اسمها خلوب، وقيل زهرة، أدركَت خلافته. وكان فيه صلاح وكثرة صيام، كثير العدل بين الملوك، وله صدقات جمَّة، وكان فيه دين وعبادة وحفظ عهد، وغير مُكترث لجمع المال ولا حفظه كما فعل مَن تقدَّمه. ومن وفائه وحفظ عهده أنه كانت له جارية قبل خلافته، فلم يتغيَّر عليها، ولا ابتاع غيرها، وكان قد امتنع عن قبول الخلافة إلا برضى القاهر، وقال له: «يا عَمِّ، أنت تعلم أنني مُخيَّر، فإن خلعت نفسك وسلَّمتها جلستُ، وكان الاسم لي فيها والمشورة إليك.» فسرَّه قوله وضمَّه إلى صدره وقال له: «يا ابن أخي، ظلمني أخوك الراضي، وقد طِبْتُ نفسًا بقولك.» ثم خلع نفسه وأنفذ إليه مائة ألف دينار من دفائن كانت عنده. وفي أيامه عمر جامع براثا (هو اليوم مسجد المنطقة على طريق الكاظمية)، وصُلِّيَت فيه الجمعة في جمادى الأولى من سنة ٣٢٩ (شباط ٩٤١م)، وفي سنة ولايته سقطت القبة الخضراء في بغداد، وكانت تاج المدينة ومأثرة بني العباس، وهي من بناء المنصور، ارتفاعها ثمانون ذراعًا، وتحتها إيوان طوله عشرون ذراعًا في عشرين ذراعًا، وقد مرَّ وصف ما عليها من تمثال الفارس، فسقط رأس هذه القُبَّة في ليلة ذات مطر ورعد. وفي سنة ٣٣١ وصلت الروم أرزن وميا فارقين ونصيبين، فقتلوا وسبَوا، ثم طلبوا منديلًا في كنيسة الرها (وهو المنديل الذي مسح به المسيح وجهه فارتسمت صورته فيه) على أنهم يُطلقون جميع مَن سَبَوا، فأُرسِل إليهم وأطلقوا الأسرى.

وفي هذه السنة سار توزون التركي (طوسون) فقصد بغداد، فدخلها في رمضان، فخلع عليه المتقي وولَّاه أمير الأمراء، ثم وقعت الوحشة بين المتقي وتوزون، فذهب الخليفة حتى صار في الرقة، فحضر هُناك الإخشيد بعد أن بلغه مُصالحة توزون، فقال للخليفة: أنا عبدك وابن عبدك، وقد عرفت الأتراك وفجورهم وغدرهم، فالله الله في نفسك، سِر معي إلى مصر فهي لك وتأمن على نفسك. فلم يقبل. فرجع الإخشيد إلى بلاده، وخرج المتقي من الرقة إلى بغداد في ٤ المحرم سنة ٣٣٣، وخرج للقائه توزون، فالتقيا بين الأنبار وهيت، فترجَّل توزون وقبَّل الأرض، فأمره المتقي بالركوب فلم يفعل، ومشى بين يديه إلى المخيم كالذليل الحقير، فلما نزل فيه في السندية قبض عليه علي بن مقلة ومَن معه، ثم كُحل الخليفة بمسمار محمي، وأُدخل بغداد مسمول العينين، وقد أُخذ منه الخاتم والبُردة والقضيب، وأحضر توزون عبد الله ابن المكتفي وبايعه بالخلافة، ولُقِّب المستكفي بالله، ثم بايعه المتقي المسمول، وأشهد على نفسه بالخلع من ذلك لعشرٍ بقين من المحرم، وقيل من صفر. ولم يحُل الحَول على توزون٢ حتى مات. وأما المتقي فإنه أُخرج إلى جزيرة مُقابلة للسندية، فسُجن بها إلى أن مات، وكانت مدة سجنه ٢٥ سنة، وكانت وفاته في شعبان سنة ٣٥٧ (يساوي تموز ٩٦٨م). وفي أيام المتقي كان ابن حمدي اللص ضمنه ابن شيرازاد لمَّا تغلَّب على بغداد في سنة ٣٣٢، اللصوصية بها بخمسة وعشرين ألف دينار في الشهر، فكان يكبس بيوت الناس علنًا في النهار، وبالمشعل والشمع بالليل، ويأخذ الأموال، وإذا قاومه المسروق قتله قتلًا لساعته، وكان هذا اللص رئيس جماعة حسنة التنظيم، كثيرة المفاسد، فكان الناس يتحارسون ليلًا بالبوقات، وكان ابن شيرازاد يستوفي ضمانه الشهري من ابن حمدي بالروزات (أي قسطًا يوميًّا، جمع روزة)، فعظُم شرُّه حينئذٍ، وهذا ما لم يُسمع بمثله. ثم إن أبا العباس السكورج الديلمي صاحب الشرطة ببغداد ظفر بابن حمدي ووسطه (أي شقَّه نصفين من الوسط) في جُمادى الآخرة من السنة المذكورة.

وكانت مُدة خلافة المتقي ٣ سنين، وعمره ستِّين سنة وأيامًا، ودُفن في دار إسحاق بدار البطيخ من محال الجانب الغربي من بغداد.

(٤-٢١) المستكفي

هو ابن المكتفي، وُلد في صفر سنة ٢٩٢ھ (١٧ ك١ سنة ٩٠٤م) بالقصر الحسني، أمه أم ولد اسمها «غُصن»، وقيل «أملح الناس»، لم تُدرك خلافته. بُويع له بالخلافة يوم خُلع ابن عمه المتقي وعمره إذ ذاك أربعون سنة. ومن العجيب أن هؤلاء الخلفاء يرون كيف يموتون بيد الأتراك ولا يفعلون شيئًا ليحتاطوا منهم لأنفسهم، ولا يتخذون الوسائل الفعالة لسحقهم ومحقهم، ويعلمون أيضًا أن موتهم يكون من شر المِيتات، ويقبلون مع ذلك الخلافة والإمارة التي لم يبقَ لهم منهما إلا الاسم فقط. وفي أيام هذا الخليفة مات توزون التركي أمير الأمراء في بغداد. أما كاتبه أبو جعفر محمد، وقيل زيرك بن شيرازاد، فإنه طمع في المملكة، ووافقه على مطامعه العسكر والجيوش، فاستقلَّ بتدبير الأمور، فخلع عليه الخليفة خوفًا من شره. ثم دخل أحمد بن بويه بغداد، فاختفى ابن شيرازاد ودخل ابن بُوَيْه دار الخلافة فوقف بين يدي الخليفة، فخلع عليه ولقَّبَه: «مُعِزُّ الدولة»، ولقَّبَ أخاه عليًّا: «عماد الدولة»، وأخاهما الحسن: «ركُن الدولة»، والألقاب المُعَظَّمة إذا ما ظهرت في دولة دَلَّت على انحطاطها وقُرب زوالها؛ إذ تذهب الحقائق الصادقة ويبقى فيها الرسوم والآثار الكاذبة. ولم يكتفِ الخليفة بذلك، بل ضرب ألقابهم على السكة، ولقَّب الخليفة نفسه: «إمام الحق»، وضرب ذلك على السكة أيضًا.

ثم إن معز الدولة قَوِي أمره، وحجر على الخليفة، وقدَّر له كل يوم برسم النفقة خمسة آلاف درهم فقط، وهو أول مَن ملك العراق من الديلم، وأول مَن أظهر السعاة ببغداد، وغوى المصارعين والسباحين، فانهمك شُبَّان بغداد بتعلُّم المصارعة والسباحة، حتى صار السبَّاح يسبح وعلى يده كانون وفوقه قِدْر، فيسبح حتى ينضج اللحم! ثم إن مُعز الدولة تخيل من المستكفي فتحيَّل في قتله، وذلك أن «عَلَمَ» — قهرمانة الخليفة، وهي التي سعت في خلافته — صنعت دعوة دعت إليها الديلم، فافترص مُعز الدولة هذه الفرصة للفتك بها وبخليفتها لِمَا يعلم فيها من الذكاء والدهاء، فادَّعى أنها تُريد مجاذبتهم في نكث عهدهم، فدخل جماعة من الديلم في ٢٢ من جمادى الآخرة سنة ٣٣٤ على المستكفي وهو على سدَّته، فقبضوا على القهرمانة وقطعوا لسانها بعد أن تقدم اثنان من الديلم إلى الخليفة، فمدَّ يده إليهما ظنًّا أنهما يُريدان تقبيلها، فجذباه من السرير حتى طرحاه إلى الأرض وجرَّاه بعمامته، وهجم الديلم على دار الخلافة إلى الحرم ونهبوها، فلم يبقَ فيها شيء، ومضى مُعز الدولة إلى منزله، وساقوا الخليفة ماشيًا إليه، فخُلع وسُملَت عيناه، فضمَّه مُعز الدولة إلى المتقي بالله والقاهر بالله، فصاروا ثلاث أثافي العمى، ثم أحضروا الفضل بن المقتدر، وأجبروا المستكفي على مُبايعة المطيع لله، فسلَّم عليه بالخلافة، وأَشهَد على نفسه بالخلع، ثم سُجن إلى أن مات يوم الخميس ١٦ من شهر ربيع الآخر سنة ٣٣٨، ودُفن بالرصافة. وكانت مُدَّة خلافته إلى أن خُلع سنة وأربعة أشهر، وعُمره ٤٦ سنة وشهرين، وكان يتظاهر بالتشيُّع، والتشيُّع لم يكن يومئذٍ إلا مسألة سياسية، لا دينية.

(٤-٢٢) المطيع

المطيع لله هو ابن المقتدر بن المعتضد، وأمه أم ولد اسمها شملة، وقيل: شعلة، وقيل: شغلة. وُلد سنة ٣٠١ في ٢٤ المحرم (٣١ آب ٩١٣) بالقصر الحسني، بُويع له بالخلافة في ١٢ جمادى الآخرة سنة ٣٣٤ (٢٠ كانون الثاني ٩٤٦)، وكان عمره يومئذٍ ٣٤ سنة، وكان تدبير المملكة بيد مُعز الدولة بن بُويه، وفي أيام المطيع تُوفي المعز، وقام بعده ولده بختيار، وقلَّده المطيع موضع والده وخلع عليه، واستقلَّ بالأمور، وفي أيامه انقطعت الخطبة في مصر عن بني العباس. وفي سنة ٣٥٠ (٩٦١م) بنى معز الدولة ببغداد دارًا هائلة عظيمة أساسها في الأرض ست وثلاثون ذراعًا. وفي سنة اثنين وخمسين يوم عاشوراء (٤ شباط سنة ٩٦٣م) ألزم معز الدولة الناس بإغلاق الأسواق ومنع الطباخين من الطبخ، ونصبوا القباب في الأسواق، وعلَّقوا عليها المسوح، وأخرجوا نساء منتشرات الشعور يلطُمن في الشوارع ويُقِمْنَ المآتم على الحُسين، وهذا أول يوم نيح عليه في بغداد، واستمرت هذه العادة سنتين.

وفي ربيع الآخر سنة ٣٥٩ (شباط ٩٧٠م) شرع في بناء الجامع الأزهر في مصر، وهو أشهر جامع في الإسلام في يومنا هذا. وفي سنة ٣٦٢ صادر السلطان بختيار الخليفة المطيع، فقال المطيع: أنا ليس لي غير الخطبة، فإن أجبتم اعتزلت، فشدد عليه حتى باع قماشه وحمل إليه ٤٠٠ ألف درهم، وشاع أن الخليفة صُودر. وفي سنة ٣٦٣ (٩٧٣م) قَلَّد المطيع القضاء أبا الحسن محمد بن أم شيبان الهاشمي بعد أن تمنَّع، فصار في البلد الواحد أربعةٌ مشتركون كلٌّ منهم بلقب قاضي القضاة، ولعل أحد نواب أولئك كان في حكمه أضعاف ما كان في حكم الواحد من قضاة القضاة الآن، ولقد كان قاضي القضاة إذ ذاك أوسع حُكمًا من سلاطين هذا الزمان. وفي السنة المذكورة حصل للمطيع فالج، وكان سبكتكين التركي أكبر حجاب مُعز الدولة، عظم المنزلة عند سيده حتى بلغت أقصاها، وخاف الخليفة منه على نفسه، فخلع نفسه طوعًا لا كرهًا، وسلَّم الأمر إلى ولده الطائع لله في يوم الأربعاء ٢٣ ذي القعدة من سنة ٣٦٣ (١٦ آب ٩٧٤م)، فكانت مدة خلافته ٢٩ سنة وأشهُرًا، وصار بعد خلعه يُسمى: الشيخ الفاضل. قال الذهبي: وكان المطيع وابنه مُستضعفَين مع بني بُويه، ولم يزل أمر الخلفاء في ضَعفٍ إلى أن استُخلف المقتفي لله، فانصلح أمر الخلافة قليلًا، وكان دست الخلافة لبني عبيد بمصر أميَز، وكلمتهم أنفَذ، ومملكتهم تُناطح مملكة العباسيين في وقتهم، وخرج المطيع إلى واسط مع ولده، وتوفِّي في دير العاقلول الذي بين مدائن كسرى والنعمانية على بُعد ١٥ فرسخًا من بغداد بالقُرب من دير قنى المشهور، وكانت وفاته في المحرم سنة ٣٦٤ (أيلول ٩٧٤م)، ودُفن بالرصافة في تُربة عملها لنفسه عن ٦٣ سنة، وكان بين خلعه وموته شهران لا غير.

(٤-٢٣) الطائع

هو ابن المطيع — على ما مرَّت الإشارة إليه — وكان مولده في سنة ٣١٧، أمه أم ولد، اسمها عتب، ويُروى: عنب، ويُقال بل كان اسمها هزار، أدركَت خلافته، وكان عمره لما تولى الخلافة ٤٨ سنة، ولم يَلِ الخلافة قبله أسنُّ منه، وفوَّضَ أمور المملكة إلى عَضُد الدولة، فلما خرج هذا من التولية أنفذ إلى الطائع هدية على ٥٠٠ حمال، من جملتها ٥٠ ألف دينار في عشرة أكياس ديباج أسود، وألف ألف درهم في مائتي كيس، و٥٠٠ ثوب أنواعًا، و٣٠ صينية مُذَهَّبة، فيها العنبر والمسك والكافور والعود الهندي والند، إلى غيرها من الثياب والدواب، لكن ما هذه كلها وأضعاف أضعافها بالآلاف بجنب الخسارة العظمى التي خسرها الخليفة ببيع قوَّته وسطوته لواحدٍ من الأعجام!

لكن الطائع كان صاحب تنعُّم، وما كان يهمه أمر الخلافة؛ إذ كان يطلب الراحة لنفسه والتلذُّذ بنسائه، فكان قد جمع بين بنت عضُد الدولة، وبنت عز الدولة بختيار، وأصدق كل واحدةٍ منهما مائة ألف ساد (نوع من ثياب الكتان)، وعضد الدولة أول من خوطب بالإسلام بالملك شاهنشاه (من ألقاب القدماء الفُرس)، وأول من خُطب له على المنابر مع الخلفاء، وأول من ضُرب الطبل أو الدبداب على بابه أوقات الصلوات الثلاث، وفي أيامه عُمِّرَت بغداد؛ لأنها كانت خَرُبَت بانفجار البثوق، فأمره الطائع، فتولَّى بنفسه سد بثوق النهروان، فسدها في سنة ٣٦٧ (٩٧٧م)، وأثَّر عضد الدولة في أيام الطائع آثارًا جميلة، وعمارات كثيرة، وغرس الأشجار، وأخر الخراج، ورُفِعَتِ الجباية عن قوافل الحجيج، وكَثُرَ دَرُّ الأقوات والرسوم والصلات للفقهاء والعلماء والفقراء والأدباء، ورغب الناس في الاشتغال بالعلوم لكثرة الهبات والعطاء؛ ولهذا لم يُجمع في زمنٍ من الأزمان كما اجتمع في الدولة البُويهية من سائر أرباب العلوم والفنون والصنائع، وكانت في أيامه الارتفاعات جَمَّة، والأموال وافرة، ومن آثاره التي يُتحدَّث بها: البيمارستان العضدي بالجانب الغربي من بغداد في خراب دار ابن حمدان، وكان «بجكم» قبله حاول ذلك فلم يقدر عليه، وعمل قنطرتي الصراة، وسور مدينة يثرب، وعمل غير هذا من المصانع والآثار الخالدة. وفي سنة ٣٦٧ التقى عز الدولة وعضُد الدولة، فظفر عضد الدولة وأخذ عز الدولة أسيرًا، وقتله بعد ذلك، فخلع الطائع على القاتل خلع السلطنة، كأنه يشجعه على ارتكاب المنكرات، ولا يعلم أن هذه الخلع بعد القتل تُجرئ عضد الدولة أو تُجرئ ابنه نصرًا الملقب ببهاء الدولة على خلعه يومًا كما سنراه، ولم يكتفِ بأن خلع عليه خلع السلطنة، بل توجَّه بتاج مجوهر وطوَّقه وسوَّره على ما جرتِ العادة عليه في ذلك العصر، وقلَّده سيفًا، وعقد له لواءين بيده، أحدهما مفضض على رسم الأمراء، والآخر مذهب على رسم وُلاة العهود، ولم يُعقد هذا اللواء الثاني لغيره قبله، وكتب له عهدًا وقُرئ بحضرته، ولم يبق أحد إلَّا تعجَّب، ولم تجرِ العادة بذلك، إنما كان يُدفع العهد إلى الولاة بحضرة أمير المؤمنين، فإذا أخذه قال أمير المؤمنين: «هذا عهدي إليك فاعمل به.» وفي سنة ٣٧٥ھ/٩٨٥م همَّ صمصام الدولة بن عضد الدولة الذي ولي الملك وولاية العهد بعد وفاة أبيه في سنة ٣٧٢ أن يجعل المكس على ثياب الحرير والقطن مما يُنسج ببغداد ونواحيها، ووقع له في ضمان ذلك مليون درهم في السنة، مما يدل على أن صناعة الأنسجة أو الحياكة كانت قد بلغت مبلغًا عظيمًا في دار السلام، لكن اجتمع الناس في جامع المنصور على صورة ما نسميه اليوم «بالمظاهرة، أو المعالنة الوطنية»، وعزموا على المنع من صلاة الجمعة، وكاد البلد يُفتتن، فأعفاهم من ضمان ذلك.

وفي سنة ٣٧٦ قصد شرف الدولة أخاه صمصام الدولة فانتصر عليه وكحله، ومال العسكر إلى شرف الدولة، فقدِمَ ببغداد وركب الطائع إليه يُهنئه بالبلاد، وعهد إليه بالسلطنة، وتوَّجه وقُرِئ عهده والطائع يسمع. إلى هذه الدرجة وصل ضعف الخليفة، أن يُكافئ أعظم مكافأة في الأرض لمن يجترح إثمًا هو كالقتل بل أشنع! وفي سنة ٣٧٨ھ/٩٨٨م أمر شرف الدولة برصد الكواكب السبعة في سيرها كما فعل المأمون. وفي سنة ٣٧٩ھ مات شرف الدولة، وعَهِدَ إلى أخيه «أبي نصر»، فجاءه الطائع إلى دار المملكة يُعزيه، فقبَّلَ الأرض أبو نصر غير مرة ثم ركب إلى الخليفة، وحضر الأعيان، فخلع الطائع على أبي نصر سبع خُلع، أعلاها سوداء وعمامة سوداء، وفي عنقه طوق كبير، وفي يده سواران، ومشى الحجاب بين يديه بالسيوف المشهورة، ثم قبَّل الأرض بين يدي الطائع، وجلس على كرسي وقُرئ عهده، ولقَّبه الطائعُ «بهاء الدولة وضياء الملة». وبعد سنتين قام بهاء الدولة على الطائع كما هو المنتظر من كل زنيمٍ لئيم رفع قدره، وخلعه. وتحرير الخبر: أن الخليفة حبس رجلًا من خواص بهاء الدولة، فجاء هذا وقد جلس الطائع في الرواق متقلِّدًا سيفًا، فلما قرب بهاء الدولة قبَّل الأرض دهاءً ورياءً وخبثًا ونكرًا، ثم جلس على كرسي، فتقدم أصحاب بهاء الدولة، فجذبوا الطائع من سريره، وتكاثر عليه الديلم، فلفُّوه في كساء، وأُصعد إلى دار السلطنة، وارتج البلد، ورجع بهاء الدولة وكتب على الطائع أيمانًا بخلع نفسه، وأنه سلَّم الأمر إلى القادر بالله، وأشهد عليه الأكابر والأشراف، وذلك في ١٩ شهر شعبان ٣٨١ھ/١ ت٢ سنة ٩٩١م، وأنفذ إلى القادر بالله ليحضر، وكان بالبطيحة، واستمر الطائع في دار القادر بالله إلى أن مات ليلة عيد الفطر سنة ٣٩٣ھ (٣٠ أيلول ١٠٠٣م)، ودُفن في تربة بالرصافة، وكان شديد الانحراف على آل أبي طالب، وسقطت الهيبة في أيامه جدًّا حتى هجاهُ الشعراء. وكانت خلافته ١٧ سنة و٩ أشهر، وعمره ٧٨ سنة.

(٤-٢٤) القادر

وقام بعده أبو العباس أحمد ابن الأمير إسحاق بن جعفر المقتدر، مولده في سنة ٣٣٦ھ (يساوي ٩٤٧م)، أمه أم ولد، اسمها يُمن، وقيل تمنى، وقيل: دُمنة، مولاة عبد الواحد بن المقتدر، وكانت من أهل الدين والصلاح. بُويع له بالخلافة بعد خلع الطائع، وكان في البطيحة فقدم بغداد في ١١ رمضان ٣٨١ھ (يساوي ٢٢ ت٢ سنة ٩٩١م)، وكان رجلًا دَيِّنًا كثير التهجُّد والصدقات، حَسَن الطريقة، وقد صَنَّفَ كتابًا في الأصول، ذكر فيه فضائل الصحابة، وإكفار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن، وكان ذلك الكتاب يُقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي وبحضرة الناس، وله شعر أيضًا. وفي سنة ٣٨٢ (يساوي ٩٩٢م) ابتاع الوزير أبو نصر سابور أردشير دارًا بالكرخ في محلة «بين السورين»، ومن أحسن محالها وأعمرها، وسمَّاها «دار العلم»، ووقفها على العلماء، ووقف بها كتبًا كثيرة لم تكُن في الدنيا أحسن كتبًا منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المُعتبرين وأصولهم المحرَّرة، وهي التي أُحرقت بعد ذلك فيما أحرق من محال الكرخ عند ورود طغرل بك أول ملوك السلجوقية إلى بغداد سنة ٤٤٧ھ (يساوي ١٠٥٥م). توفي القادر في ١١ ذي الحجة من سنة ٤٢٢ (يساوي ١٩ ت٢ ١٠٣١م) عن ٨٧ سنة، ومدة خلافته ٤١ سنة و٣ أشهر، ودُفن بدار الخلافة إلى أن نُقل تابوته إلى تُربة الرصافة التي عليها شغب أم المقتدر، وهو أول خليفة دُفن فيها.

(٤-٢٥) القائم

هو ابن الخليفة المتوفى، وُلد يوم الجمعة ١٧ ذي القعدة سنة ٣٩١ (يساوي ١٠ ت١ سنة ١٠٠١م)، أمه أم ولد أرمنية، اسمها «بدر الدُّجَى»، وقيل «قطر الندى»، أدركَت خلافته. وولي الخلافة عند موت أبيه، وكان ولي عهده في الحياة، وهو الذي لقَّبه بالقائم بأمر الله، وخُطب له سنة ٤٢١ (يساوي ١٠٣٠م) بدار الشجرة من دار الخلافة، وكان القائم وَرِعًا دَيِّنًا زاهدًا عالمًا، قوي اليقين بالله، كثير الصدقة والصبر، كثير العبادة، مُتهجِّدًا، لا ينام إلا مغلوبًا عليه، ونُقل عنه أنه ما نام على فراش ولا تدثَّر بدثار منذ وُلِّيَ الخلافة، فعوتب في ذلك، فقال: «سمعتُ الدعاة يقولون بالصوَّام القوَّام، فاستحييتُ من الله أن أُوصف بصفة ليست فِيَّ.» وكان لمحبة أرباب الدين يُغيِّر زيه، ويحضر مجلس أبي الحسن القزويني في محلة الحربية ويُكثر غشيانه، وكانت له عناية بالأدب، ولم يكن يرتضي أكثر ما يُنشأ بالديوان حتى يُصلح فيه أشياء، وفي أيامه قدم أبو طالب محمد بن ميكال السلجوقي المعروف بطغرلبك بغداد، استدعاه القائم من خراسان، وذلك عند ضعف بهاء الدولة؛ أي نصر بن عضد الدولة، عن مصالح الدول القائمية، وهو آخر من كان من ملوك الدَّيلم، كما أن طغرلبك هو أول من دخل بغداد من ملوك السلجوقية، وكان السبب في ذلك أن أرسلان التركي البساسيري أمير الجيوش كان قد عظم أمره لعدم نظرائه، وتهيبته أُمراء العرب والعجم، ودُعِيَ له على المنابر، وجبى الأموال، وخرَّبَ القرى، ولم يكن القائم يقطع أمرًا دونه.

ثم صحَّ عنده سوء عقيدته، وبلغه أنه عزم على نهب دار الخلافة والقبض على الخليفة، فكاتب الخليفة أبا طالب محمد بن ميكال سلطان ترك الغز، المعروف بطغرلبك وهو بالري يستنهضه في القدوم، فقدم في سنة ٤٤٧، فذهب البساسيري إلى الرحبة وتلاحق به خلق من الأتراك، وكاتب صاحب مصر فأمده بالأموال، استعان بها على الجمع والتجنيد، فاجتمع له أوباش الناس، وزحف البساسيري من الموصل وقد انضمَّ إليه كل قاطع طريق وراغب في النهب والغارة، فقدم بغداد في سنة ٤٥٠ (١٠٥٨م) ومعه أتباعه، وكان قد قصدها من ناحية الأنبار، وملك الجانب الغربي، ونزل على دجلة مقابل باب الطاق، وعقد جسرًا وعبر إلى الجانب الشرقي ونزل بالزاهر، ثم زحف بمن معه ودخل البلد، فخاصم عامة البلد وضعفوا عنه، فأضرم النيران في الأسواق ونهب، وانتهى إلى دار الخلافة، فنهب منها ما قدر عليه، وخرج الإمام القائم بأمر الله في نفرٍ من خَدَمِهِ فحماه قُريش بن بدران أمير الموصل، وكان مع البساسيري، وعبر في خدمته إلى الجانب الغربي، وسيَّره محروسًا إلى عانة، وأنزله على عمٍّ له هو مهارش بن مجلى، فقام بخدمته مدة مقامه عنده، وذلك سنة كاملة. ثم إن طغرلبك فرغ من قتال أخيه تبال حتى ظفر به وقتله، وبلَغَهُ ما جرى في بغداد، فتوجَّه إليها بعساكره، وأنفذ إلى القائم من أعاده إلى بغداد، وكان لمَّا عرف البساسيري قُرب طغرلبك من بغداد خرج عنها هاربًا نحو واسط، فأتبعه طغرلبك عسكرًا ظفروا به وأحضروا رأسه، ودخل الخليفة يوم الاثنين ٢٥ ذي القعدة سنة ٤٥١ (٣ ك٢ سنة ١٠٦٠م)، ولمَّا وصل القائم إلى باب النوبي، نزل طغرلبك عن دابته، وأخذ بِلجام بغلة القائم، ومشى بين يديه حتى نزل بباب الحجرة وخدم وعاد، وأعاد الله القائم بأمره إلى مستقر عزِّه، وذلك بعد سنة كاملة، وأُقيمت الخطبة في غيبته للمصريين في كل الجوامع إلا جامع الخليفة، وزِيدَ في الأذان «حيَّ على خير العمل»، وبقيَت عامة بغداد تضرِب البساسيري مثلًا في تفخيم الأمر، فيقولون: «كأنه قد جاء برأس البساسيري.» وإذا كرهوا أمرًا من ظلم أو عسف قالوا: «الخليفة إذًا في عانة حتى يفعل كذا.» وفي سنة ٤٥٤ (١٠٦٣م) زوَّج الخليفة بنته لطغرلبك بعد أن دافع بكل ممكن، وانزعج واستعفى، ثم لَانَ لذلك برغم منه، وهذا أمر لم ينلهُ أحد من ملوك بني بويه مع قهرهم الخلفاء وتحكُّمهم فيهم، وقدم طغرلبك في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، فدخل بابنة الخليفة، وأعاد المواريث والمكوس، وضمن بغداد بمائة وخمسين ألف دينار، ثم رجع إلى الريِّ فمات بها في رمضان، وأقيم في السلطنة بعده ابن أخيه عضد الدولة ألب صاحب خراسان، وبعث إليه القائم بالخلع والتقليد، وهو أول من ذكر بالسلطان على منابر بغداد، وبلغ ما لم يبلغه أحد من الملوك، وافتتح بلادًا كثيرة من ديار النصارى، واستوزر نظام الملك، فأبطل ما كان عليه الوزير قبله (عميد الملك) من سب الأشعرية، وانتصر للشافعية، وأكرم إمام الحرمين، وأبا القاسم القشيري، وبنى النظامية، وهي أول مدرسة بُنيت في بغداد للفقهاء.

وفي سنة ٤٦٥ (١٠٧٢م) قُتل السلطان ألب أرسلان، وقام في الملك بعده ولده ملكشاه، ولُقِّبَ «جلال الدولة»، وردَّ تدبير المُلك إلى نظام الملك، ولقَّبه «الأتابك»، وهو أول مَن لقبه، ومعناه: «الأمير الوالد». وفي سنة ٤٦٦ (١٠٧٣م) كان الغرق العظيم ببغداد، وزادت دجلة ثلاثين ذراعًا، ولم يقع مثل ذلك قط، وهلكت الأموال والأنفس والدواب، وركبت الناس في السفن، وأُقيمت الجمعة في الطيار (ضرب من السفن كانت سابقًا في دجلة) على وجه الماء مرتين، وأقام الخليفة يتضرَّع إلى الله، وانهدم مائة ألف دار أو أكثر. وفي سنة ٤٦٧ / ١٠٧٥ مات الخليفة ليلة الخميس ١٣ شعبان (٤ نيسان)، وذلك أنه افتصد ونام، فانحلَّ موضع الفصد وخرج منه دم عبيط كثير، فاستيقظ وقد انحلَّت قوته، فطلب حفيده ولي العهد عبد الله بن محمد ووصَّاه، ثم توفي ودُفن في حُجرة كانت برسم جلوسه بدار الخلافة، ثم نُقل إلى تُربة الرصافة، وقبره كان يُزار يومئذٍ ويُتبرَّك به، وكانت مدة خلافته ٤٤ سنة و٨ أشهر، ولم يبلغ هذه المدة خليفة قبله، وكان عمره ٧٥ سنة و٩ أشهر، ومدة خلافته وخلافة أبيه القادر بقدر مدة جميع خلفاء بني أمية؛ لأنها خمس وثمانون سنة، وكانوا أربعة عشر من معاوية إلى محمد بن مروان، فإن أيام الدول لا تطُول إلا بالعدل، ولا تُحفظ إلا بإزالة الظلم.

وفي عهده انقرضت دولة بني بُويه، وقامت دولة السلجوقيين، فلا بد من أن نذكر شيئًا عن كلٍّ منهما.

دولة بني بويه (أو دولة الديلم)

نشأت هذه الدولة الشيعية في بلاد فارس لانتشار دعوة المطالبين بالخلافة للعلويين، بعد أن ثبت لهم أن العباسيين لا يريدون أن يشاركوا فيها أحدًا من غير بيتهم، وكان قد قام عدة دعاة يطالبون بالخلافة، فقاتلهم بنو العباس حتى أفنوهم، ثم نهضت شرذمة في بلاد فارس وجرجان وطبرستان وخرجت على العباسيين، حتى كانت لها جيوش وقوَّاد، وأغلب هذه الجيوش والقُوَّاد من الديلم، وهم جيل من الفُرس. فلما انقرضت دولة أولئك العلويين الخارجين على بني العباس بقي منها القُوَّاد الذين كانوا على رءوس الجيوش ولهم حولٌ وطولٌ وشوكةٌ يستولون بها على كثير من البلاد والممالك، ومن أولئك القُواد: أسفار ابن شيرويه، وماكان بن كالي، ومرداويج بن زياد، وليلى بن النعمان، وكان بنو بويه قوادًا من أتباع أولئك القواد فكانوا في أمرهم مع ماكان بن كالي، ثم انفصلوا عنه وانضموا إلى مرداويج. فلما رأوا نجاحهم وأن الأقدار معهم والسعد يخدمهم فارقوه على أن يحاربوا لأنفسهم لتمكين سلطتهم في البلاد، فنجحوا حتى تغلبوا على ممالك أولئك القواد بعد محاربات جمَّة، كان الفوز فيها أليفهم، فطمعوا حينئذٍ فيما هو وراء هذا النصر، حتى تغلبوا على الخلفاء، فكان لهم الأمر والنهي والتصرف في الخيانة والمكوس وتجييش الجيوش، وأبقَوا للخلفاء الاسم والدعاء على المنابر والتعليم على المناشير وكتابة أسمائهم على سكة الدراهم والدنانير، بل انتهت بهم القِحَة إلى تقدير الراتب للخليفة، ومنعه عن التدخل بأمور المملكة أو السلطنة، فكان الخلفاء في مدة ملكهم كُرات تتقاذفها صوالجهم على ما شاءت أهواؤهم أو هجس في خواطرهم، فكانوا يعزلون ويسملون ويقتلون ويعذِّبون مَن أرادوا من الخلفاء، ويُنَصِّبون على سرير الخلافة مَن أحبوا. ولمَّا كانوا في أوج عزهم انتحلوا لهم نسبًا حتى رقوه إلى بهرام جور من الملوك الأكاسرة، وقد وافقهم على رأيهم بعض المصانعين المملقين تزلُّفًا منهم، فوضع أبو إسحاق الصابئ كتابًا سمَّاه «التاجي»، ولا عجب من هذا الأمر، فإن انتحال الحديثي النعمة الشرفَ الرفيع لأنفسهم وموافقة الناس لهم على رأيهم أمرٌ قديمٌ في الشرق منذ عهد البابليين والآشوريين، وهو راسخ الأصول إلى يومنا هذا، يعمُّ الرفيع والوضيع. على أن المرجَّح هو أن أبا شجاع بُويه بن فناخسرو يتصل نسبه بمهرنرسي وزير بهرام جور الأول، ولم يتأثل ملك هذه الدولة إلا بسعي أولاد أبي شجاع المذكور الثلاثة؛ أي في سنة ٣٢١ھ/٩٣٣م، ولم ينقرض إلا سنة ٤٤٧ھ/٩٥٨م، فتكون دولتهم قد دامت ١٢٦ سنة قمرية. أما أولاد أبي شجاع فهم: أبو الحسن علي بن بويه الذي لُقِّب عماد الدولة، وأبو علي الحسن بن بويه الملقَّب بركن الدولة، وأبو الحسين أحمد بن بويه والملقَّب بعز الدولة. وقد بسطنا فيما سبق من الكلام ما كان لهؤلاء الإخوة من النفوذ في وقتهم، ومن الأعمال التي أتوها حتى ملكوا العراقين والأهواز وطبرستان وجرجان، وما كان من السيطرة على العباسيين حتى اشتهر أمرهم. ولما دخل معز الدولة بغداد سنة ٣٣٤ھ/٩٤٥م وخلع المستكفي بالله، أراد أن ينزع الخلافة من العباسيين ويُقَلِّدها العلويين، ولما أوشك أن يُبايع واحدًا من أهل البيت قال له بعض خواص أصحابه: «ليس هذا برأي؛ فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله لقتلوه مستحلِّين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك مَن تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه.» فأعرض عن ذلك وأقام المطيع خليفة بدل المستكفي المخلوع.

ومما ساعد البويهيين في سعدهم ورفع منار عزمهم عثورُ كبيرهم عماد الدولة على أموال طائلة، كانت منها في سقف البيت الذي كان فيه عماد الدولة نفسه، ومنها وديعة ١٢ صندوقًا وجدها عند خياط أطروش، ومنها كنز ساخت فيه قوائم فرسه، ثم إن هؤلاء الملوك أرادوا أن يُعارضوا دولة بني العباس في ضخامتها وجلالتها ومكانتها، وحاولوا أن يتبسطوا في الحضارة والعمران والبذخ والزهو. والملوك إذا أرادوا هذه الأمور أو أن يُمعِنوا في العزة والعظمة عالجوها باستنطاق المستقبل، ليعرفوا ما يُخبئه لهم الزمان في مطاوي لياليه من مكنونات الأسرار، أو ليقفوا على مدة أعمارهم في هذه الدنيا، ثم يتطاولون إلى البحث عمَّا وراء هذا الكون ليشرفوا على ما في هوَّته من مذخر غوامضه، وهذا كله لا يُحققه لهم إلا العلم والتنقير عن مستورات الطبيعة ومحتجباتها؛ ولهذا أخذوا ينشرون ألوية المعارف والصنائع في البلاد، ويبثون في الأمة روح السعي للكمال والمحمدة، فنشَّطوا العلماء والأدباء والحكماء والشعراء، فكان عصرهم من أبهى العصور؛ إذ نبغ فيه أعظم المشاهير، حتى إن القارئ ليسأل نفسه إذا ما وقف على أسماء أولئك النوابغ: أي عصرٍ كان أنفع للحضارة والعلم والعمران؟ أعصر الرشيد والمأمون؟ أم عصر بني بُويه؟ على أن المُطالع لا يستطيع أن يحكُم في هذه المسألة إلا إذا وقف على أسماء بعض أولئك العبقريين الدواهي الذين منهم:

الخرقي شيخ الحنابلة، وأبو بكر الشبلي الصوفي، وابن القاضي إمام الشافعية، وأبو بكر الصولي، والهيثم بن كليب الشاشي، وأبو جعفر النحَّاس، وأبو نصر الفارابي، وأبو إسحاق المروزي إمام الشافعية، وأبو القاسم الزجاجي النحوي، والدينوري صاحب المجالسة، والمسعودي صاحب مروج الذهب، وابن درستويه، وأبو علي الطبري أول مَن جرَّد الخلاف، والفاكهي صاحب تاريخ مكة، والمتنبي، وابن حِبَّان صاحب الصحيح، وأبو علي القالي، وأبو الفرج صاحب الأغاني، والسيرافي النحوي، وابن خالويه، والأزهري إمام اللغة، وابن العميد، والفارابي صاحب ديوان الأدب، والرفاء الشاعر، وأبو علي الفارسي النحوي. وكان أيضًا في العصر البويهي: رأس الوزراء الصاحب بن عباد، ورأس الأشعرية أبو إسحاق الإسفرائيني، ورأس المعتزلة القاضي عبد الجبار، ورأس الشيعة الشيخ المقتدر، ورأس الكرامية محمد بن الهيصم، ورأس القراء أبو الحسن الحمامي، ورأس المُحَدِّثين الحافظ عبد الغني بن سعيد، ورأس الصوفية أبو عبد الرحمن السُّلمي، ورأس الشعراء أبو عمر بن دراج، ورأس المجوِّدين ابن البواب، ورأس الملوك محمود بن سبكتكين، ورأس الزنادقة الحاكم بأمر الله، ورأس اللغويين الجوهري، ورأس النُّحاة ابن جنِّي، ورأس البُلَغاء بديع الزمان الهمذاني، ورأس الخُطباء ابن نباتة، ورأس المفسرين أبو القاسم بن حبيب النيسابوري، ورأس الخلفاء القادر بالله، فإنه من أعلامهم، تفقَّه وصَنَّف.

ثم جاء بعد هذه الطبقة طبقة لا تقل عنها شأنًا ولا علمًا، منها: أبو الفضل الفلكي، والقدوري شيخ الحنفية، وابن سينا شيخ الفلاسفة، ومهيار الشاعر الذي لا يُجارَى، والبراذعي المالكي صاحب التهذيب، والثعلبي المفسر، والماوردي، وابن حزم الظاهري، وابن سيده صاحب المُحكم، والخطيب البغدادي، وابن رشيق صاحب العُمدة، وعبد القاهر الجرجاني، والأعلم النحوي. ولو أردنا سرد أسماء فطاحل ذلك العصر لطالَ بنا الكلام وخرجنا عن حدود الاعتدال، وفيما ذكرنا كفاية. ومما يدل على أن بني بويه أرادوا أن يُضارعوا كبار العباسيين في أعمالهم أن شرف الدولة أمر برصد الكواكب السبعة كما فعل المأمون على ما ألمعنا إليه، وكان ذلك في عهد الطائع لله في سنة ٣٧٨ھ/٩٨٨م، وهي همة عالية تتقاصر دونها هِمَم كبار الرجال وفُحول الأجيال.

إلا أن مع هذه المحاسن كلها التي كانت في بني بُويه فإن الظلم كان يتراءى خلال أعمالهم؛ ولهذا لم تَطُل مدة دولتهم؛ لأن تعمير الدول قرين العدل، والظلم من العوامل الفعَّالة في إزالتها ومحوها من عالم الوجود.

دولة السلاجقة

دانَ كبيرهم سلجوق بن دقاق بالإسلام منذ أن فارق بيغوخان ملك الترك واحتلَّ دار المسلمين في القرن العاشر للميلاد، وكان من هؤلاء الترك كثير في قصور الخلفاء العباسيين، وبقَوا خاضعين لخمس دول نشأت في فارس، وكرمان، والشام، وحلب، وبلاد الروم، وأعظم من اشتهر منهم في الحروب والغزوات والفتوح: طغرلبك، وألب أرسلان، إلا أنه لم يقُم فيهم مَن نَشَّط العلم والعلماء؛ إذ إن عنصر الترك مُخَرِّب ومُدَمِّر، لا مُشَيِّد ومُعَمِّر، وهو عارٍ من الخصال الحميدة، مشهور بالخصال الذميمة. غير أنه نهض في عصر السلطان ألب أرسلان وابنه ملكشاه وزير كبير خطير فارسي المحتد، طوسي المولد، دهقاني الدم، هو خواجه بزرك قوام الدين نظام الملك أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق رضي فزيَّن أيامهم بما أبقاه من الآثار الجليلة التي تُطَيِّب ذكره، فكان يُلاطف الجميع ويُعاملهم أحسن معاملة، حتى مشى في ركابه سلطان العرب مسلم بن قريش، وكان ملوك الأطراف يقبلون كتفه جلالًا له ويتشرفون بلبس خُلَعه، وبقي في صدر الوزارة ثلاثين سنة. وفي أيامه كان الآباء يعنون بتربية أبنائهم ليحضروهم في مجلسه؛ لأنه كان يرشح كل أحد لمنصبٍ يصلح له بمقدار ما يرى فيه من الفضل والكمال، ومن وجده في بلدة قد امتاز بعلمه وأدبه بنى له مدرسة ووقف عليها وقفًا، وأنشأ فيها دار كتب، والمدرسة التي طبَّقت شهرته في الخافقين هي النظامية في بغداد، على ما أشرنا إليه، وعلى مثالها أنشأ الخلفاء بعده مدارسهم. وظهر من تدبيره في سياسة الممالك ما بعث سليمان بن عبد الملك الخليفة الأموي إلى أن يقول عن الأعاجم كلامه المشهور الذي يُعاد عند ذكر كل نابغة من نوابغهم: «عجبتُ لهؤلاء الأعاجم، ملكوا ألف سنة فلم يحتاجوا إلينا ساعة، وملكنا مائة سنة فلم نستغنِ عنهم ساعة.» وفي زمن نظام الملك نشأت طبقات الكُتَّاب المجيدين، مثل: ابن الصباغ صاحب الشامل، وأبو الوليد الباجي، والشيخ أبو إسحاق الشيرازي، والمتولي، وإمام الحرمين، والدامغاني الحنفي، وابن فضالة المجاشعي، والبزدوي شيخ الحنفية، والكيا الهراسي، والشاشي، والأبيوردي اللغوي، وأبو نعيم صاحب الحلية، وأبو زيد الدبوسي، وأبو الحسين البصري المعتزلي، ومكي صاحب الإعراب، والشيخ أبو محمد الجويني، والمهدوي صاحب التفسير، والإقليلي، والثمانيني، وأبو عمرو الدواني، والخليل صاحب الإرشاد، وسليم الرازي، وأبو عثمان الصابوني، وابن بطَّال شارح البخاري، والقاضي أبو الطيب الطبري، وابن شيطي المقرئ، وابن بابشاذ، والقضاعي صاحب الشهاب، وابن برهان النحوي، والبيهقي، والهذلي صاحب الكمال في القراءات وغيرهم؛ ولم يزل باب الوزير مجمع الفُضلاء وملجأ العلماء حتى قُتل، اعترضه يومًا في طريقه صبي بهيئة صوفي معه قصة، فدعاه وسأله وتناولها، فمدَّ يده ليأخذها، فضربه بسكينٍ في فؤاده، فحُمل إلى قصره فمات، وقُتل القاتل في الحال. وقيل إن السلطان هو الذي دسَّ عليه مَن قتله، فإنه سئم طول حياته واستكثر ما بيده من الإقطاعات.

وامتدَّت رقعة السلطنة السلجوقية في نحو أواخر القرن الحادي عشر للميلاد، من بحر قزوين إلى بحر الروم، ومن بلاد كاشغر إلى ديار اليمن، وكان فيها من الأمصار: أصبهان، ونيسابور، وبلخ، وهراة، وبغداد، والموصل. وأخذ الاختلال يدبُّ في هذه المملكة العريضة الواسعة الأرجاء في عهد ملكشاه. وبعد وفاة سنجر (في القرن الثاني عشر للميلاد)، وهو آخر أبناء ملكشاه، قُسِّمَت المملكة بين الأمراء الغورية والخوارزمية والأتابكية. وممَّا عجَّل في انتقاضها المعاركُ الداخلية، ومحاربات الصليبيين، وغزوات المغول (في عصري جنكيز خان وهولاكو)، حتى قضت على مملكة السلاجقة في بلاد الروم، فانقرضت دولتهم في سنة ١٣٠٧ مع علاء الدين الثالث، فتجزَّأت حتى صارت نحو عشرة أجزاء استقل كلٌّ منها بنفسه، ثم اضمحل الكل في المائة الرابعة عشرة للميلاد.

(٤-٢٦) المقتدي

المقتدي: هو أبو القاسم عبد الله ابن الأمير محمد الذخيرة بن القائم بأمر الله، مولده يوم الأربعاء ١٨ جمادى الأولى من سنة ٤٧٠ھ/٨ ك١ سنة ١٠٧٧م، أمه أم ولد أرمنية، اسمها «أرجوان»، وتُدعى «قُرَّة العين»، أدركت خلافته، وخلافة ولده المستظهر، وخلافة ولد ولده المسترشد بالله، وكانت صالحة. بُويع له في صبيحة الليلة التي تُوفي فيها جدُّه القائم وعمره ١٩ سنة، وجلس بدار الشجرة من دار الخلافة بقميصٍ أبيض وعمامة بيضاء وطرحة بيضاء، فبايعه وجوه الأشراف والفقهاء. وفي أيامه بنى جامع المدينة، وما شاء الله من القناطر والمصانع في طريق مكة، وحفر الأنهار التي كانت قد خربت، كنهر شيلي، والخالص، ونهر «بين»، والإسحاقي، وهو الذي بنى منارة القرون في السبيعة بقُرب الواقصة، من قرون الظباء وحوافر الحُمُر الوحشية، على مثال ما فعل سابور بن أردشير باني منارة الحوافر في قرية أسفجين في رستاق همذان، ويُقال إن صاحب هذه الآثار كلها السلطان جلال الدولة ملكشاه بن ألب أرسلان.

ومن محاسنه أنه نفى المُغنِّيات والخواطئ من بغداد، وأمر ألا يدخل أحدٌ الحمَّام إلا بمئزر، وخرَّب أبراج الحمام في بيوت الناس صيانةً لحرم الغير. وفي سنة خلافته جمع نظام الملك المُنَجِّمين، وجعلوا النيروز أول نقطة من الحمل، وكان قبل ذلك عند حلول الشمس نصف الحوت، وصار ما فعله النظام مبدأ التقاويم. وفي سنة ٤٧٦ وَلَّى الخليفة أبا شجاع محمد بن الحسين الوزارة، ولقَّبه «ظهير الدين»، وكان أول حدوث التلقيب بالإضافة إلى الدين. وفي سنة ٤٨٣ (١٠٩٠م) أُنشئت ببغداد مدرسة لتاج الملك مستوفي الدولة بباب أبرز، ودرَّس بها أبو بكر الشاشي، وهي المدرسة التي اشتهرت بعد ذلك باسم المدرسة التاجيَّة. وفي سنة ٤٨٤ قدِم السلطان ملكشاه بغداد، وأمر بعمل جامع كبير بها، واتخذ الأمراء حوله دُورًا ينزلونها. تُوفي المقتدي ليلة السبت ١٥ المحرم من سنة ٤٨٧ (٥ شباط ١٠٩٤م) فجأة، فقيل إن جاريته «شمس النهار» سمَّته، فكُتم موته ثلاثة أيام، وبُويع لولده المستظهر ولي عهده، ودُفن بدار الخلافة، ثم نُقل إلى تُربة الرصافة فدُفن بها، وكانت خلافته ١٩ سنة و٨ أشهر و٩ أيام.

(٤-٢٧) المستظهر

هو أبو العباس أحمد، وُلد ليلة السبت ١٨ شوال سنة ٤٧٠ / ٦ نيسان سنة ١٠٨٧، أمه أم ولد، اسمها «كلبهار»، وبُويع بعد وفاة أبيه وعمره ١٦ سنة، ولم تصفُ له الخلافة، بل كانت أيامه مضطربة كثيرة الحروب، وكان لَيِّن الجانب، كريم الأخلاق، يُسارع في أعمال البِر، حسن الخط، جَيِّد التوقيعات لا يُقارنه فيها أحد، وكان ذا فضل غزير وعلم واسع، سَمْحًا، جوَّادًا، مُحبًّا للعلماء والصُّلحاء. وفي سنة ٤٩٤ (١١٠١م) كَثُر أمر الباطنية بالعراق وقَتْلهم الناس، واشتدَّ الخطبُ بهم حتى كان الأمراء يلبسون الدروع تحت ثيابهم، وقتلوا خلائق جمَّة. وكانت وفاة المستظهر في يوم الأربعاء ٢٣ من شهر ربيع الأول من سنة ٥١٢ھ/١٥ تموز ١١١٨م عن ٤١ سنة و٣ أشهر و١١ يومًا، ودُفن بدار الخلافة، ثم نُقل إلى الرصافة فدُفن بها.

(٤-٢٨) المسترشد

وُلد يوم الأربعاء ١٤ ربيع الأول سنة ٤٨٥ھ/٢٥ نيسان ١٠٩٢م، أمه أم ولد، اسمها «لبابة»، بُويع له بالخلافة بعد وفاة أبيه. كان ذا همة عالية، وشهامة زائدة، وإقدام ورأي، وهيبة شديدة. ضبط أمور الخلافة ورتَّبها أحسن ترتيب، وأحيا رسم الخلافة وشيَّد أركانها، وباشر الحروب بنفسه، وخرج عدَّة مِرار إلى الحلة والموصل وطريق خراسان، إلى أن خرج المرة الأخيرة، وكُسر جيشه بقرب همذان، وأُخذ أسيرًا إلى أذربيجان. وكان مليح الخط، ما كتب أحد من الخلفاء قبله مثله، يستدرك على كتَّابه، ويُصلِح أغاليط في كتبهم. وفي أيامه خُطب لمسعود بالسلطنة في بغداد، ومن بعده لداود، وخلع الخليفة عليهما، ثم وقعت الوحشة بين الخليفة ومسعود فخرج لقتاله، فالتقى الجمعان، وغدر بالخليفة أكثر جنده، فظفر به مسعود وأسره مع خواصه، فلما بلغ الخبر أهل بغداد حثوا التراب على رءوسهم في الأسواق، وبكَوا وضجُّوا، وخرجت النساء حاسرات يندبن الخليفة، فامتنعت الصلاة والخطبة. ثم هجم سبعة عشر رجلًا من الباطنية حيث كان الخليفة، فقتلوه في خيمته مع جماعة من أصحابه، فما شعر بهم الجند إلا وقد فرغوا من شغلهم، فأخذوهم وقتلوهم، وجاء الخبر إلى بغداد، فاشتدَّ وقعه على الناس، وخرجوا حُفاة مخرقي الثياب، والنساء ناشرات الشعور يلطمن وينشدن المراثي؛ لأن المستشهد كان محببًا فيهم ببرِّه وحُسن أخلاقه وآدابه، ونُقلت جثته من سرادقه إلى باب مراغة ودُفن فيها، وكانت مدة خلافته ١٧ سنة و٨ أشهر وأيامًا، وعمره ٤٥ سنة.

(٤-٢٩) الراشد

وُلد سنة ٥٠٢ (١١٠٨م)، أمه أم ولد، اسمها «جُلنار»، بُويع بالخلافة يومَ وصل نعي والده؛ أي يوم الاثنين ٧ ذي القعدة من سنة ٥٢٩ (٢٠ آب ١١٣٥م)، وكان فصيحًا، أديبًا، شاعرًا، شجاعًا، جوَّادًا، حَسَن السيرة، يؤثِر العدل ويكره الشر، خُلع بعد دخول السلطان مسعود بغداد وخروج الخليفة إلى الموصل، وكان خلعه يوم الاثنين ١٦ ذي القعدة سنة ٥٣٠ (١٧ آب ١١٣٦م)، وبايعوا عمه محمد بن المستظهر، ولُقِّب «المقتفي لأمر الله»، ومرِض الراشد بظاهر أصبهان مرضًا شديدًا، فدخل عليه جماعة من العجم كانوا فرَّاشين له فقتلوه بالسكاكين، ثم قُتلوا كلهم، وذلك في ١٦ رمضان سنة ٥٣٢ (٢٩ أيار ١١٣٨م)، ولم تُؤخذ البُردة والقضيب من الراشد حتى قُتل، فأُحضِرا بعد قتله إلى المقتفي، فلما وصل نعيه إلى بغداد قُعد له في العزاء يوم واحد.

(٤-٣٠) المقتفي

وُلد في ٢٢ ربيع الأول سنة ٤٨٩ (٢٨ آذار ١٠٩٦م)، أمه أم ولد اسمها «نزهة»، حبشية، أدركت خلافته. بُويع له بعد خلع الراشد. وكانت أيامه نضرة بالعدل وانتشار العلوم، وكان على قدم من العبادة قبل إفضاء الأمر إليه وبعده، ولم يُرَ بعد المعتصم خليفة في شجاعته وصرامته، مع لين جانب ورأفة في لطافة. وفي سنة ٥٤١ (١١٤٦م) جلس ابن العبادي الواعظ، فحضر السلطان مسعود — وكان قد جاء بغداد تلك السنة — وتعرَّض ابن العبادي بذكر مكس البيع وما جرى على الناس، ثم قال: «يا سلطان العالم، أنت تهب في ليلة لمطرب بقدْر هذا الذي يُؤخذ من المسلمين، فاحسبني ذلك المطرب وهبه لي واجعله شكرًا لله بما أنعم عليك.» فأجاب. ونُودي في البلد بإسقاطه، وطيف بالألواح التي نُقش عليها ترك المكوس وبين يديه الدبادب (الطبول) والبوقات وسُمِّرَت، لم تزل إلى أن أمر الناصر لدين الله بقلع الألواح، وقال: «ما لنا حاجة بآثار العجم.» وهنا نلاحظ أن نشر أمور السلاطين على الألواح كما يُرى اليوم نشرها على الجرائد وإلصاقها على الحيطان مما قد عرفه العرب في عهد العباسيين. وقد جدَّد المقتفي بابًا للكعبة، واتخذ من العقيق تابوتًا لدفنه. وفي أيامه عادت بغداد والعراق إلى يد الخلفاء ولم يبقَ لهما مُنازع، وقبل ذلك — منذ دولة المقتدر إلى وقته — كان الحكم للمتغلبين من الملوك، وليس للخليفة معهم إلا اسم الخلافة. تُوفي ليلة الأحد ١٢ ربيع الأول من سنة ٥٥٥ عن ٦٦ سنة، (٢٣ آذار ١١٦٠م) إلا أيامًا، وكانت خلافته ٢٤ سنة و٣ أشهر و١٤ يومًا، ودُفن في دار الخلافة، ثم نُقل إلى تُربة الرصافة.

(٤-٣١) المستنجد

المستنجد بالله: هو أبو المظفر يوسف بن المقتفي، وُلد في شهر ربيع الأول من سنة ٥١٨ (نيسان ١١٢٤م). أمه أم ولد رومية، وقيل كرجية اسمها طاووس، أدركت خلافته. خطب له أبوه بولاية العهد سنة ٥٤٧، وبُويع له يوم موت أبيه وكان عمره ٣٣ سنة. وكان موصوفًا بالعدل والرفق، أطلق من المكوس شيئًا كثيرًا، بحيث لم يترك في العراق مكسًا وكان شديدًا على المفسدين، سجن رجلًا كان يسعى بالناس مدة، فحضره رجل وبذل فيه عشرة آلاف دينار، فقال: «أُعطيك عشرة آلاف دينار ودلني على آخرَ مثله لأحبسه وأكف شره عن الناس.» قال ابن الجوزي: «وكان المستنجد موصوفًا بالفهم الثاقب والرأي الصائب والذكاء الغالب والفضل الباهر، له نظمٌ بديع ونثر بليغ ومعرفة بعمل آلات الفلك والأسطرلاب وغير ذلك.» وكان آخر مَن عمل في أيامه بقواعد الخلفاء الماضين وجلوس وزيره بالديوان لرفع المظالم، ولم ينتبه إليه أمر إلا أزاله، ولم يذعر رجلًا من رعاياه ذاعر. وقد صَفَت له أيام خلافته، وأظهرت الأرض ما فيها من الذخائر، واجتمعت له أموال كثيرة. تُوفي في ٩ ربيع الأول ٥٦٦، ودُفن بدار الخلافة عن ٤٨ سنة، ثم نُقل إلى تُربة الرصافة، وخلافته ١١ سنة وشهر وأيام.

(٤-٣٢) المستضيء بالله

هو أبو محمد الحسن بن المستنجد بالله، وكان مولده في ٦ شعبان من سنة ٥٣٦ (٧ آذار ١١٤٢م)، أمه أم ولد، اسمها غضَّة، أرمنية لم تُدرك خلافته. بُويع له بالخلافة يوم تُوفي والده وعمره إذ ذاك ٣٠ سنة، وفي يوم المبايعة أمر بقتل الوزير ابن البلدي، ورد المظالم، وأفرج عن المحبوسين، وأسقط الضرائب والمكوس، ورسوم البيع، وسياقات الأعمال ما شاع واشتهر، وكان سخيًّا جوَّادًا حسن السيرة، لم تصل قصة يُسأل فيها حاجة إلا وردَّها بقضاء حاجة صاحبها. وفي أيامه مُدَّ جسر على دجلة مُضاف إلى الجسر العتيق، ونُصب من الدواليب بباب الغربة إلى الرقة، وذلك سنة ٥٧٠ (١١٧٤م)، وبنى فخر الدولة الحسن بن المطلب جامعًا بقصر ابن المأمون على دجلة، واستُؤذن بإقامة الجمعة فيه فأذن له، واحتجب الخليفة عن أكثر الناس، فلم يركب إلا مع الخدم ولا يدخل عليه غيرهم. وفي خلافته انقضت دولة بني عبيد، وخُطب له بمصر، وضُربت السكة باسمه، وجاء البشير بذلك، فأُغلقت الأسواق وعُلِّقَت القباب. قلنا: وهي التي تُعرف اليوم عند الإفرنج بما نقله المُعَرِّبون العصريون: عقد النصر، أو قوس الظفر، مما يدل على أن العرب سبقوا الإفرنج أيضًا إلى هذا العمل، وأرسل الخليفة في جواب البشارة الخُلَعَ والتشريفات لنور الدين وصلاح الدين، وأعلامًا وبنودًا للخطباء. وفي سنة ٥٦٩ھ/١١٧٣م أراد جماعة من محبي العبيديين في مصر إقامة الدعوة وردها إلى آل العاضد آخر خلفائهم فيها، ووافقهم جماعة من أمراء صلاح الدين، فاطَّلع هذا على نيتهم فصلبهم جميعًا بين القصرين. تُوفي المستضيء عشيَّة السبت ٦ شوال سنة ٥٧٥ھ/٥ آذار سنة ١١٨٠م، ودُفن بدار الخلافة، ثم نُقل إلى تُربة بالجانب الغربي على شاطئ دجلة بقصر المأمون.

(٤-٣٣) الناصر لدين الله

هو أبو العباس أحمد بن المستضيء بالله. مولده يوم الثلاثاء ١٠ رجب من سنة ٥٥٠ھ/٨ آب ١١٥٨م، أمه أم ولد تركية اسمها «زمرُّد خاتون»، أدركت خلافته، وكانت من أرغب النساء في فعل الخير وأكثرهن له فعلًا، ولها بِرٌّ وأفضال فضلت به أمثالها في الصدقات الجارية وعمارة المساجد والمشاهد والأربطة والمدارس وغيرها. بُويع له بالخلافة في صبيحة يوم الأحد غرة ذي القعدة من سنة ٥٧٥ھ/٢٩ آذار ١١٨٠م، وكان الناس قبل مبايعته في ضيق من الجدب، وغلاء الأسعار، وقلة الأمطار، وكثرة الأمراض، وتفشِّي الوباء، فجاءت الأمطار، وهبطت الأسعار، وعظم الرُّخْص، وأخذ الناس يهنِّئ بعضهم بعضًا بما عمَّهم من البركات. ثم حمى حريم الدولة باهتمامه وكثرة جنوده، وله آثار جميلة من عمارة المساجد والرُّبُط والمَشاهد على ما كانت تفعل أمه. وقد صنَّف كتابًا في الحديث سمَّاه «روح العارفين»، ثم أجاز لجماعة من أهل العلم وأصحاب الحديث، وقُرئ كتابه بجوامع مدينة بغداد وغيرها من البلاد، ثم جدَّد عزيمة في إزالة السلاطين السلجوقية الذين اهتضموا حقوق الخلفاء والرعية، واتخذ الوسائل الناجعة لقطع دابرهم من العراق. ثم ملك بلاد خُراسان بجيش أرسله إلى هناك، وكذلك دقوقا، وقلعة تكريت، وقلعة الحديثة، ثم ملك همذان، وأسقط ما كان بها من الملوك، وقتل السلطان طغرلبك السلجوقي بتدبير وزيره محمد بن القصاب، وبعث برأسه إلى بغداد، ثم أنشأ دُور الضيافات في سائر محال بغداد لفطور الفقراء في شهر رمضان، وعمَّرَ دارًا لوفد الحاج والغرباء وغيرهم، وأنفق عليهما أموالًا طائلة، ووقف خزائن كتب محتوية على جميع العلوم النافعة وجعلها وقفًا على المسلمين، ولم يبلغ أحد ممن قبله ما استجدَّ من الأبنية التي يبقى ذكرها ويضوع نشرها.

وفي أيامه انتُزع بيت المقدس من أيدي الإفرنج على يد صلاح الدين الأيوبي، ومما أنشأه: رباط الحلاطية بمشرع الكرخ، مجاور مشهد عون ومعين، وتربة إلى جنب هذا الرباط، ودفن فيها جثة التي وقف الرباط عليها، وهي «سلجوقي خاتون» بنت السلطان قلج أرسلان مسعود ملك الروم، وكذلك رباط الحريم ورباط المرزبانية، وهذا الرباط بناه وعزم أن يقطع ويترك الخلافة زهدًا في الدنيا، وأنشأ في ذلك كتابًا بليغًا ليُقرأ على الناس، ثم بدا له غير ذلك. وقد وقف على هذه الأماكن وقوفًا متوفرة الحاصل، يبقى ذكرها ويحصل له أجرها، وله مناقب كثيرة وفضائل جمَّة ذكرها ابن الساعي الشنجا في كتاب في خمسة مجلدات سمَّاه كتاب «الروض الناضر في أخبار الإمام الناصر»، وكان الناصر ذا تفنُّن في تجسُّس الأخبار والوقوف على أسرار الناس، من ذلك ما نُقل عما جرى لصاحب مازندران حينما قدم بغداد، فإنه كانت تأتيه ورقة كل صباح بما عمل في الليل، فصار يُبالغ في التكتُّم، والورقة تأتيه بذلك، فاختلى ليلة بامرأة دخلت من باب السر، فصبحته الورقة بذلك وفيها: «كان عليكم دُوَاجٌ فيه صورة الفيلة.» فتحيَّر وخرج من بغداد، وهو لا يشك أن الخليفة يعلم الغيب؛ لأن الإمامية يعتقدون أن الإمام المعصوم يعلم ما في بطن الحامل وما وراء الجدار. وقال ابن واصل: «كان الخليفة مع ذلك رديء السيرة في الرعية، مائلًا إلى الظلم والعسف، ففارق أهل البلاد بلادهم وأخذ أموالهم وأملاكهم، وكان يفعل أفعالًا متضادة، وكان يتشيَّع ويميل إلى مذهب الإمامية.» وقال ابن الأثير: «وكان يفعل الشيء وضده، فكان يرمي بالبندق ويحوي الطيور المناسيب، وعُني بسراويلات الفتوة في البلاد جميعها إلا مَن يلبس منه سراويل يُدعى إليه. ولبس كثير من الملوك منه سراويلات الفتوة، وكذلك منع الطيور المناسيب لغيره إلا ما يُؤخذ من طيوره، ومنع الرمي بالبندق إلا مَن ينتمي إليه، فأجابه الناس بالعراق وغيره إلى ذلك، فكان غرام الخليفة بهذه الأشياء من أعجب الأمور، وكان سبب ما ينسبه العجم إليه صحيحًا، من أنه هو الذي أطمع التتر في البلاد وراسلهم في ذلك، فهو الطامة الكبرى التي يصغُر عندها كل ذنب عظيم.» وقال المؤرخون: قَلَّ بصر الناصر في آخر عمره، وقيل ذهب كله، ولم يشعر بذلك أحد من الرعية، حتى الوزير وأهل الدار، وكان له جارية علَّمها الخط بنفسه، فكانت تكتب مثل خطه فتكتب على التواقيع، وكان الماء الذي يشربه الناصر تأتي به الدواب من فوق بغداد بسبعة فراسخ، ويُغلى سبع غلوات كل يوم غلوة، ثم يُحبس في الأوعية سبعة أيام، ثم يشرب منه، ومع هذا ما مات حتى سُقي المرقد مرارًا، وشُقَّت آلته وأُخرج منها الحصى ومات منه. تُوفي ليلة الأحد سلخ شهر رمضان من سنة ٦٢٢ (٥ ت١ سنة ١٢٢٥م)، ودُفن بدار الخلافة، ثم نُقل إلى تُربة الرصافة، فدُفن في جانب جده المستنجد بالله.

(٤-٣٤) الظاهر

وُلد الظاهر بأمر الله بن الناصر في المحرم سنة ٥٧١ھ/تموز ١١٧٥م، أمه أم ولد تركية اسمها «بقجة»، لم تُدرك خلافته. وقد عتق خمسين جارية صِرْن إليه عن والده ممن كُنَّ يصلحن للتسرِّي تَوَرُّعًا، وأعطى لكل واحدةٍ منهن خمسمائة ساد سوى ما كان لها. وأنشأ جسرًا نصبه على دجلة، فصار لها جسران. قال ابن الأثير: «وقد أظهر من العدل والإحسان ما أعاد به سُنَّة العُمَرَيْن، فلو قيل: إنه لم يَلِ الخلافة بعد عمر بن عبد العزيز مثله لكان القائل صادقًا؛ فإنه أعاد من الأموال المغصوبة في أيام أبيه وقبله شيئًا كثيرًا، وأطلق المكوس في البلاد جميعها، وأمر بإعادة الخراج القديم في جميع العراق، وأن يسقط جميع ما جدَّده أبوه، وكان كثيرًا لا يُحصى؛ فمن ذلك أن قرية بعقوبا كان يُحَصَّل منها قديمًا نحو عشرة آلاف دينار، فلما تولى الناصر كان يُؤخذ منها كل سنة ثمانون ألف دينار، فحضر أهلها واستغاثوا وذكروا أن أملاكهم أُخذت حتى صار يحصل منها هذا المبلغ، فأمر أن يُؤخذ الخراج الأول، وهو ١٠ آلاف دينار. فقيل له إن هذا المبلغ يصل إلى المخزن، فمن أين يكون العوض؟ فأقام لهم العوض من جهات أخرى. فإذا كان المطلق من جهة واحدة سبعين ألف دينار فما الظن بباقي البلاد؟ ومن أخلاقه الطيبة أن العادة كانت ببغداد أن الحارس بكل درب يبكر ويكتب مطالعة إلى الخليفة بما تجدد في دربه من اجتماع بعض الأصدقاء ببعض على نزهة أو سماع أو غير ذلك، ويكتب ما سوى ذلك من صغيرٍ وكبير، فكان الناس من هذا في حجر عظيم، فلما ولي هذا الخليفة أتته المطالعات على العادة، فأمر بقطعها، وقال: أيُّ غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم؟ فلا يكتب أحد إلينا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا. فقيل له إن العامة تفسد بذلك ويعظُمُ شرُّها. فقال: نحن ندعو الله في أن يُصلحهم.» كانت وفاته يوم الجمعة ١٣ رجب من سنة ٦٢٣ھ/١١ تموز ١٢٢٦م، فكانت خلافته ٩ أشهر و١٤ يومًا، ودُفن بدار الخلافة ثم نُقل إلى تُربة الرصافة، فدُفن إلى جانب والده.

(٤-٣٥) المستنصر بالله

المستنصر بالله: هو أبو جعفر المنصور بن الظاهر بأمر الله الخليفة السابق، كان مولده يوم الأربعاء ١٣ صفر من سنة ٥٨٨ (١١ آذار سنة ١١٩٢م)، أمه أم ولد تركية اسمها «أخشق»، وقيل «زهرة»، لم تدرك خلافته. بُويع له بالخلافة يوم تُوفي والده، وكان يُعظِّم أهل الدين وينفق على أربابه، ويحب أهل الأدب، وتنبَّهَت الهمم في أيامه، وازداد المشتغلون بالعلوم رغبةً واشتغالًا، ووسعهم بعطاياه العميمة، وكان منعكفًا على نقل الكتب، حسن الخط، صحيح الضبط، ومن محبته للعلوم أنشأ خزانة الكتب بحضرته، وجمع فيها من أنواع العلوم على اختلافها وتبايُنها وائتلافها بالأصول المضبوطة والخطوط المنسوبة ما جاوز حد الكثرة. ثم أنشأ المدرسة التي سُميت باسمه، ودونك وصفها على ما ذكرها إخباريُّو زمانه:

وصف المدرسة المستنصرية الموجود بعض أبنيتها إلى يومنا هذا، وكانت في عهد التُّرك كمركًا (ممكسًا)

أنشأ المستنصر هذه المدرسة على شاطئ دجلة الأيسر أو الشرقي، وجعلها وقفًا على المذاهب الأربعة، فجاءت مُحكمة البناء، راسخة في الماء، فسيحة الفناء، رتَّب فيها الرواتب الحسنة لأهل العلم، وكان يُدرَّس فيها من العلوم: علم الأصول والفروع، وأحاديث الرسول، والقواعد العربية، وعلم القوافي، ومعرفة الحلال والحرام، وقسمة الفرائض والتركات، وعلم الحساب والمساحة، وعلم الطب، ومنافع الحيوان وحفظ قوام الصحة، وتقويم البلدان. وفُرِشَت غرفها بأفخر فراش، وكُسيت بأحسن الملابس. ورتَّب لها البوابين والفراشين والخدم والطباخين، وأسكن لكل مذهب ٦٢ من الفقهاء، وجعل لهم مدرسين وأربعة معيدين، وأُجريت لهم المشاهرات الوافرة، وما يحتاجون إليه من الخبز واللحم والحلوى والفواكه والزيت والصابون والورق والحبر وغير ذلك، واتخذ فيها مارستانًا، وجعل فيه طبيبًا ماهرًا، وأثبت عنده عشرة من الطلبة يشتغلون عليه في علم الطب، وجعل لهم الأكحال السائلة، وبُنيت لهم صفة فاخرة مقابلة للمدرسة يجلس فيها فيقصده المرضى فيداويهم. ورتَّب في المدرسة مطبخًا للفقهاء، ومزملة للماء البارد، ورتَّب لبيوت الفقراء الحُصُر والبُسُط وما يحتاجون إليه، ورتَّب للطلبة ومَن إليهم حمَّامًا، وهو أمر لم يُسبق إلى مثله، وبنى في حائط الصفة دائرة عجيبة، وصورتها صورة الفلك، وجعل فيها طاقات صغارًا لها أبواب، كلما سقطت بندقة انفتح باب من أبواب الطاقات وهو مُذَهَّب، فصار مفضضًا، ومضت ساعة من الزمان والبندقتات من شَبَه (برنز) يقعان من فمي بازين من ذهب في طاستين من ذهب ويذهبان إلى مواضعهما، وتطلع شموس من ذهب في سماء زرقاء في ذلك الفلك، ومع طلوع الشمس تدور مع دورانها وتغيب مع غيابها، فإذا غابت الشمس وجاء الليل فهناك أقمار طالعة من ضوءٍ خلفها كلما مضت ساعة تكامل الضوء في دائرة القمر، ثم تبدو بالدائرة الأخرى إلى انقضاء الليل وطلوع الشمس.

ثم جعل في هذه المدرسة خزانة كتب نقل إليها شيئًا كثيرًا من الربعات والكتب النفيسة والأصول المضبوطة المحتوية على جميع العلوم مائتين وتسعين حملًا سوى ما نُقل إليها بعد ذلك، وشرط أن يشتغل في هذه الخزانة عشرة ممن يُعنون بعلم الحديث، ويكون لهم شغلان يشغلون الطلبة أيضًا بعلم الحديث النبوي، ورتَّب عندهم شيخًا على الأستاذ يقرأ عليه الحديث. ثم إلى جانب هذه المدرسة دار برسم تلقين القرآن، يتبنى بها ثلاثون صبيًّا أيتامًا، يتلقنون القرآن من شيخٍ ملقِّن، ويكون لهم معيدًا بحفظهم التلاقين، وشرط للجميع من الخبز والمشاهرة والوظائف ما تضمنه شرط الواقف. وقد ارتفع مبلغ وقوف المستنصرية في العام نيِّفًا وسبعين ألف مثقال. ثم شرط أيضًا أن يكون فيها مَن يشتغل بعلم العربية، وكذا مَن يشتغل بعلم الحساب والفرائض، وكان عدد فقهائها مائتين وثمانية وأربعين فقيهًا من المذاهب الأربعة، ما عدا سائر المعلمين والشيوخ، وقد وقف عليها ما لا يُعبَّر عنه من عدد القرى والضِّياع. وكان ابتداء عمارتها في سنة ٦٢٥ هجرية (١٢٢٨م)، وتمَّت في سنة ٦٣١، وفُتحت يوم الخميس في رجب (آذار ١٢٣٥م)، وحضر القضاة والمدرسون والأعيان وسائر وجهاء الدولة، وكان يومًا مشهودًا.

وأنشأ غيرها من المدارس والمشاهد والمساجد والرُّبط والمغاور والقناطر ووسَّع الطرقات، إلى غير ذلك من الصدقات في كل الأيام، وأعطى الثياب والخُلَع والجرايات في شهر رمضان، والرواتب في سوى ذلك، وعموم هذه الأسباب، العلماءَ والعباسيين والعلويين والضعفاء والمساكين وتزويج الأيامى والحُنُو على اليتامى.

واستخدم عساكر عظيمة لم يستخدم مثلها أبوه وجده، حتى إن جريدة جيشه بلغت نحو مائة ألف فارس استعدادًا لحرب التتار. وكان ذا همة عالية وشجاعة عجيبة وإقدام عظيم، وكان التتار قصدت البلد، فلقيهم عسكره، فهزموهم شر هزيمة، وكان له أخ يُقال له: الخفاجي، فيه شهامة زائدة، كان يقول: «لئن وُلِّيتُ لأعبُرَنَّ بالعسكر نهر جيحون، وآخذ البلاد من أيدي التتار وأستأصلهم.» فلما مات المستنصر لم يَرَ الدويدار ولا الشرابي تقليد الخفاجي خوفًا منه، وأقاما ابنه أبا أحمد للينه وضَعف رأيه ليكون لهما الأمر، ليقضي الله أمرًا كان مفعولًا من تغلُّب التتار على بغداد وتخريبها؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.

ومن مآثر المستنصر أنه أمر في سنة ٦٣٢ﻫ/١٢٣٥م أن تُضرب الدراهم الفضية ليُتعامل بها بدلًا من الدراهم المتخذة من قراضة الذهب، فجلس الوزير وأحضر الولاة والتجار والصيارفة، وفُرشت الأنطاع وأُفرغ عليها الدراهم، وقال الوزير: «قد رسم مولانا أمير المؤمنين لمعاملتكم بهذه الدراهم عوضًا عن قراضة الذهب رفقًا بكم وإنقاذًا لكم من التعامل بالحرام من الصرف الربوي.» فأعلنوا بالدعاء، ثم أُديرت بالعراق، وسُعِّرَت كل عشرة بدينار. وكان قد خُطب له بالأندلس وبعض بلاد المغرب، وكانت وفاته بكرة نهار يوم الجمعة ١٠ جمادى الآخرة سنة ٦٤٠ (٦ ت٢ سنة ١٢٤٢م)، وكُتم موته إلى أن بُويع لولده الأكبر أبي أحمد عبد الله، ثم خُطب له على منابر بغداد وهو ميت، ثم أُشيع نعيه بعد ذلك، ودُفن في الدار المثمنة على دجلة، ثم نُقل تابوته إلى تُربة الرصافة، فدُفن تحت قُبة كان قد اتخذها لنفسه مدفنًا، وكان عمره ٥٢ سنة و٦ أشهر و١٧ يومًا، ومدة خلافته ١٦سنة و١٠ أشهر و٢٨ يومًا.

(٤-٣٦) المستعصم بالله

المستعصم بالله: هو ابن المستنصر، وُلد في ٢١ شوال سنة ٦٠٩ھ/١٧ آذار ١٢١٣م، أمه أم ولد، اسمها «هاجر»، أدركت خلافته. بُويع له بالخلافة ضحوة نهار الجمعة ١٠ جمادى الآخرة من سنة ٦٤٠ كما ذكرنا، واستُدعي من مسكنه (بالتاج) سِرًّا من بابٍ يُفضي إلى داره. وجلس في قُبة المبايعة يوم السبت ١١ جمادى المذكورة، فحضر جميع الأكابر، وجلس الوزير في المحفة التي حضر فيها محمولًا بمحجرة على أرفع درج المنبر، ووقف أستاذ الدار دونه بمرقاة، يُلَقِّن الناس لفظ المُبايعة، ولم يحضر الحفلة أعمامه وعم أبيه، فأغلق عليهم باب الفردوس الذي يحتوي على دُورهم، بحيث لا يدخل عليهم طعام ولا غيره، فبقَوا على ذلك ثلاثة أيام، فسألوا المبايعة وأُحضروا فبايعوا. وكان سهل الأخلاق، سليم الصدر، طاهر النفس، عفيف الإزار، ظاهر الحياء، ليِّن الكلام، لم يشرب مُسكرًا قط، لكنه لم يُنَزِّه سمعه عن سماع المحرَّم، فإنه كان مُغرمًا بلعب الحمام وبسماع الملاهي، مُحِبًّا للَّهو واللعب، يبلغه أن مغنية أو صاحب طرب في بلدٍ من البلاد فيُراسل سلطان ذلك البلد في طلبه، فكان شغفه بهذه الأمور الزائلة أشغلته عن القيام بأمور الخلافة، واعتمد فيها على أُناسٍ غير أكفاء، بل أعداء له ولسُدَّة الخلافة العباسية.

وكان ابن العلقمي وزيره يُصانعه ويُظاهره في الخارج ويُنافقه في الباطن، وكان قد عقد النية على إخراج الخلافة من العباسيين وجعْلها في العلويين، فأخذ الوزير يضرب أخماسًا لأسداس بلوغًا لأمنيته، وأول شيء أشار به على الخليفة أن يُسَرِّح أكثر الجُند لعدم الحاجة إلى هذا القدْر العظيم الذي جمعه أبوه، وأقنع الخليفة أيضًا بمُصانعة التتر ومُهادنتهم لانتشارهم في الأرض وتقدُّمهم السريع في فتوحاتهم، وأن نيَّتهم القدوم إلى بغداد واجتياحها، فإن لم يستعد لمُصانعتهم عظُمَ عليه الفتق وتعسَّر الربط والضبط. وكان ابن العلقمي في تلك الأثناء يُساعد الأعداء في ما يؤملون، ويُكاتبهم بما يجري في البلاد، وكيف يعملون على إضعاف قوى الخلافة ورجالها المتعلقين بها، وكانت الرُّسل بينه وبين التتر والمستعصم غائصٌ في لذَّاته، لا يطَّلع على الأمور، ولا له غرض في المصلحة، وكان إذا جاء خبر منهم كتمه عن الخليفة، ويُطالع التتر بأخبار مولاه، فأطمعهم في البلاد وسهَّل عليهم الأمر، وطلب أن يكون نائبهم فوعدوه خيرًا، فدلَّهم على عورات الأمصار، وصورة أخذ دار السلام، وضعف الخليفة، وانحلال العسكر، فزحف هولاكو بجيشٍ جرَّار إلى بغداد، والمستعصم ومَن معه في غفلةٍ عنه لإخفاء ابن العلقمي سائر الأخبار، إلى أن وصل العراق واستأصل مَن بها قتلًا وأسرًا. ولما دخلت سنة ٦٥٦ھ/١٢٥٨م وصل التتر بغداد، وهم مائتا ألف في مقدمتهم هولاكو، فخرج إليهم عسكر الخليفة وعددهم أربعون ألف مقاتل، فانهزموا أمام العدو، وبعد أن قاتلوه من إقبال الفجر إلى إدبار النهار عجزوا عن الاصطبار وولَّوا الأدبار بالإدبار، فتعقبهم التتر فوضعوا السيف فيهم، وكان دخولهم بغداد يوم عاشوراء.

وبينما الأمور تجري على هذا الوجه الشنيع أشار ابن العلقمي على الخليفة أن يُصانعهم، وقال: أخرج أنا إليهم في تقرير الصلح، فخرج وتوثَّق لنفسه منهم، وعاد إلى الخليفة يقول: إن الملك قد رغب أن يُزوج ابنته بابنك الأمير أبي بكر، ويُبقيك في منصب الخلافة، كما كان يفعل بنو بُويه وبنو سلجوق في مَن كان في عهدهم، ويستأثر بالسلطنة وينصرف عنك بجيوشه، فليُجب مولانا إلى هذا، فإن فيه حقن دماء المسلمين، ويمكن بعد ذلك أن تفعل ما تريد، والرأي أن تخرج إليه، فعمل الخليفة بما قال له وزيره، وخرج إلى هولاكو في جمعٍ من الأعيان، فأُنزل في خيمة، ثم دخل الوزير فاستدعى الفقهاء والأماثل ليحضروا العقد، فخرجوا من بغداد فضُربَت أعناقهم، وكانت تخرج الطائفة بعد الطائفة منهم فتُضرب أعناقهم، حتى قُتِل جميعُ مَن هناك من العلماء والأمراء والحُجَّاب والكبار، ثم مدَّ الجسر وبذل السيف في المدينة، فقتل من المسلمين في ثلاثة أيام ما ينوف على ٣٧٠٠٠٠ نسمة، لكن القتل دام نحو أربعين يومًا، فبلغ القتلى أكثر من مليون نسمة، ولم يَسلم إلا مَن اختفى في بئرٍ أو قناة، وقُتل الخليفة رفسًا بالأرجل، ولم يُسمع بأنه دُفن، وقُتل معه جماعة من أولاده وأعمامه وأُسر بعضهم وسُبِي آخرون، وأُلقِيَت كتب الخزائن في دجلة، فكانت لكثرتها جسرًا يمُرُّون عليه رُكبانًا ومُشاة، فكانت هذه الفتنة من أعظم مصائب الإسلام، ولم يتم للوزير ما أراد؛ إذ لم يستحسنوا أن يُقيموا خليفة علويًّا حسبما طلب، بل أخذوه معهم، فصار في صورة بعض الغِلمان، ومات كمدًا. وكان قتل الخليفة المستعصم ليلة الأربعاء ١٤ صفر سنة ٦٥٦ (الموافق ٢١ شباط ١٢٥٨م)، فكانت مدة خلافته ١٦ سنة و٧ أشهر و٤ أيام، وعمره ٤٦ سنة، وكانت مدة ملك بني العباس منذ انتقلت إليهم الخلافة من بني أمية إلى أن انقرض ملكهم ٥٢٦ سنة، عن ٣٧ خليفة، أولهم السفاح، وآخرهم المستعصم.

(٥) حفظُ العرب لعلوم اليونان وعودتها إلى الغرب

قد تكلمنا على الدولة العباسية منذ نشأتها إلى اضمحلالها في العراق، فحان لنا أن ننظر إلى ما أدَّى خلفاؤها من الخِدَم إلى الحضارة والعلم والرُّقي. وقبل أن نحوض عُباب هذا البحث، لا بد أن نعرف حالة العلم عند العرب في بداوتهم وجاهليتهم، لنعرف ونُقَدِّر ما صاروا إليه من التقدم بعد تلك الخلافة، فنقول: إن بداوة العرب أمرٌ غير مُنكَر، والعلوم التي كانوا يعرفونها في حالتهم تلك لا تتطلب عناءً عظيمًا ولا القبض على القلم، بل تتطلب ذاكرة رائقة، ومُلاحظة دقيقة، ومشاعر مُتنبهة، وشواعر مُتيقظة؛ ولذلك لم يكن لهم من العلوم يومئذٍ إلا علمُ الأنساب، وقرض الشعر والبلاغة، ورواية الأخبار، والنظر إلى القُبة الزرقاء، وعلم الأنواء وعلم نزول الأمطار، والقيافة، والعيافة، والريافة، والفراسة، والكهانة، والعرافة، والطب، والضرب في الفلوات، والرماية، والملاحة، وركوب الخيل، وأصول الحساب، ومبادئ تقويم بلدان جزيرتهم، إلى ما ضاهاها من العلوم التي تُؤخذ بظواهر الحواس، والتي لا يُبذَل في معرفتها من قوة الفكر شيءٌ يُذكر. ثم جاء الإسلام فكان معظم عناية الخلفاء الراشدين بنشر الدين وتمكين أُسسه في البلاد، وكبح جماح المرتدين، ثم ما لبث أن ظهر الأمويون، فلما أقاموا في ديار الشام — وكانت سابقًا مقر حضارات عديدة جليلة القدر — أخذوا ينتقلون من البداوة إلى الحضارة، فأصبحوا في حالةٍ لا هي بدوية محضة، ولا حضرية بحتة، فكانت بَين بَين، ولم تأتِ بنفعٍ للحضارة العصرية، ثم دالت الدولة، فظهر العباسيون في ميدان العمل، فكان جُل همهم توسيع ملكهم وتوثيق دعائمه، وتأييد سلالتهم على عرش الخلافة بحيث لا ينزعها أحد من أيديهم، ولا يطمح إليها طامح. وتحققوا أنهم لا يتوصلون إلى بُغيتهم هذه إلا بالعلم؛ إذ بالعلم ينال المرء كل ما يسعى إليه في هذه الدنيا، من قوة، ورئاسة، ومال، وجاه، وشُهرة، وصحة، وراحة، وطول عمر.

وأول مَن عُنِي منهم بالعلوم هو الخليفة المنصور باني بغداد؛ فإنه كان أول خليفة قرَّب المنجمين، وكان أصحاب التنجيم من أقرب المقرَّبين من الملوك في ذلك العهد. وكان المنصور أيضًا أول خليفة تُرجمت له الكتب السريانية والأعجمية، ككتاب كليلة ودمنة، وكتاب إقليدس، وكتب اليونان، فنظر الناس فيها وتعلَّقوا بها. فلما رأى ذلك محمد بن إسحاق جمع المغازي والسِّيَر ودوَّنها، فكانت هذه المؤلَّفات أُمهات المصنفات التي أُنشئت بعدها، وأصبحت مثلًا يُحتذى عليها، ووسائل نشطت همم مَن أراد التقرُّب من الخليفة وأولاده، فنشأت في قلوب رعيته محبة العلم وأربابه.

ثم جاء الرشيد فتمكَّن ذلك الحب في الصدور، فازداد في عهده عُشاقه والمعاونون له. وما جاء المأمون إلا وكان العلم قد أثمر أثمارًا بلغت أطايبها، وكان هو بنفسه مثالًا للجد والجهد والعلم الصادق. بَيْدَ أنه كَثُر في زمانه الزنادقة والملاحدة، فنسب الناس تكاثرهم وتبجُّحهم بالكفر إلى مطالعة الكتب الحديثة والتوغُّل فيها، فكان هذا الأمر سببًا لحطِّ العلم وعشاقه إلى دركاتٍ منعت كثيرين من المسلمين عن الاشتغال به؛ إذ رأوا أن الذين زاولوه حادوا عن سواء السبيل إلى ما لا تُحمد عقباه، ولا سيما بعد أن نظروا في الكتب التي كان قد صنَّفها ماني، وابن ديصان، ومرقيون، مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره وتُرجمت من الفارسية والفهلوية إلى العربية، وما صنَّفه في ذلك الوقت ابن أبي العرجاء، وحمَّاد عجرد، ويحيى بن زياد، ومطيع بن إياس تأييدًا للمانوية والديصانية والمرقيونية، فكَثُر بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس وأفسدت كثيرين في آرائهم وعقائدهم حتى اشتهر هذا المثل: «مَن تمنطق تزندق.» وأصبح معنى الفلسفة عند أهل ذلك العصر وما بعده مرادفًا للكُفر والزندقة والإلحاد.

على أن الأذكياء رأوا أن العلم الصحيح بريء من تُهمة الكفر؛ إذ قد وُجد الإلحاد — أو قُل التظاهر به — في الجَهلة كما وُجد في الأدباء، مع أنه قد ثبت أن العلم غير منافٍ للدين، ولو تنافيا لما وُجدا مجتمعَين في امرئ قط، ونحن نعلم أنهما قد اجتمعا في أُناسٍ كثيرين وقد اشتهروا بهما معًا. ومع ذلك فقد صنَّف الجدليون من أهل البحث من المتكلمين أسفارًا جليلة في رد الجاحدين والزنادقة ومَن لفَّ لفهم، فأقاموا البراهين على المعاندين، وأزالوا شُبَهَ الملحدين، فأوضحوا الحق للشاكِّين، فأخذ النفور يزول من صدور أولئك الذين كانوا قد استنكفوا من درس المنطق والفلسفة وأنواع العلوم الطبيعية وغيرها، فعادوا إليها قَريري العين. وقد ظهرت نتيجة هذا الاشتغال في عهد بني بُويه، فنبغ من العلماء والنُّحاة واللغويين والمؤرخين والشعراء والأدباء ووُصَّاف البُلدان ما يكسف نورهم نور شمس مَن كانوا في عهد الرشيد والمأمون، وبلغ هذا معظمه في عهد المستنصر؛ إذ وصلت العلوم نهايتها، ويشهد على صدق دعوانا تلك المدرسة التي شيَّدها ذلك الخليفة الكبير، وزيَّنها بالعلماء الأعلام على اختلاف طبقاتهم ومعارفهم، بيْدَ أنه لم تظهر ثمارها للعيون؛ لأن هولاكو وأبناءه هبطوا «أم العراق»، وعاثوا عيث الذئاب في الغنم، وتمادَوا في القتل والفتك، فكانت شمس تلك الحضارة شمس الأصيل، كما وقع مثل هذا الحادث في آخر الدولة الساسانية وآخر دولة الآشوريين العظيمة.

هذا، وحصل من اشتغال العرب بعلوم الأوائل حضارة خاصة بهم، إلا أن أسسها ودعائمها بقيَت يونانية. نعم، إن أهالي أرض الرافدين أتقنوا لغة مواليهم العربية، واعتاضوا بها عن لسانهم الآرمي الذي كانوا يتكلمون به بصورة من الصور منذ عهد نبوكد نصر، والأسفار الجليلة التي كانوا قد نقلوها إلى الآرمية في عهد الدولة الرومانية النصرانية، وفي مواضيع مختلفة، كالرياضيات، والفلكيات، والبلدان، والحيوان، والنبات، والجماد، والكيمياء، والمنطق، وما وراء الطبيعة، نقلوها أيضًا إلى العربية في عهد العباسيين، فأخذ العرب يُجِلُّون أرسطوطاليس الفيلسوف الذي لا يَصْدُق هذا الاسم إلا عليه، وأكَبُّوا على دراسته في ديارهم كلها من آسية الوسطى إلى الأوقيانوس الأتلنتيكي، ولعلهم فهموه في بلخ وسمرقند أحسن مما فهمه دارسوه في أوروبة في ذلك العهد. والخواطر التي بدت لهم من مطالعة المصنفات اليونانية أنتجت آدابًا علمية وفلسفية عربية فاقت كل آدابٍ سواها كانت تُعرف يومئذٍ في الغرب. وأغلب هذه الآداب لم تكن نتاج أُناس عربيِّي النِّجَار والعنصر، بل نتاج أفكار السريان، وأفكار المنتسبين إلى العنصر الفارسي القديم المعروف في هذه الديار، وقد أصبح لسانهم عربيًّا بعد الفتوحات الإسلامية، ويدعم رأينا هذا مشاهير ذلك العصر؛ ففي القرن الحادي عشر مثلًا كان ابن سينا يُوغل في أبحاثه العلمية في خزائن كتب بُخارى، وكان البيروني يُنعم النظر في ثقل المعادن النوعي وهو في خيوق (خيوا). فالفكر الفلسفي الذي جاء به اليونان إلى عالم العلم أثَّر كل التأثير على فلسفة العرب وعُلمائهم على اختلاف عناصرهم وديارهم ونزعاتهم.

فنرى مما تقدَّم بسطه أن الناطقين بالضاد انتحلوا بسهولة معارف الأقدمين ووسَّعوها، لكنهم — والحق يُقال — لم يزيدوا عليها علمًا جديدًا جديرًا بالذكر، ومع ذلك فلهم أعظم فضل على العلم والعالم؛ لأنهم حفظوا وديعة نور العقل في عهدٍ كانت دول الغرب مرتبكة بأمورها الداخلية، وغزوات الأقوام الهمجية لهم، فكان انتقال معظم تلك المعارف إلى تلك الديار الغربية بواسطتهم، فمنها ما وصلتهم عن طريق الحروب الصليبية التي وقعت بين القبيلين، ومنها عن طريق المدارس التي أُنشئت في الأندلس، ولا سيما في إشبيلية وقرطبة وطليطلة، يدلنا على ذلك الألفاظ التي دخلت لغاتهم في مواضيع مختلفة، كالكيمياء، والفلك، وعلم المواليد وغيرها، عند ترجمة كتبهم العربية إلى ألسنتهم الأعجمية.

ومما أخذه أهل الغرب عن العرب: بعض الأعمال المتعلقة بالصنائع، كعمل الكاغد، والبارود، والخزف، والسكر، وتركيب الأدوية، وتقطير الأرواح والمشروبات. وتعلموا منهم أيضًا: نسج ضروب مختلفة من الثياب، وأدخلوا بلادهم أيضًا دود القز بعد أن تعلموا منهم تربيته، وأخذوا منهم بذر كثير من الحبوب كالأرز، وغرس كثير من متنوع الأشجار، كقصب السكر، والزعفران، والقطن، والإسبانخ، والرمان، والتين. وتعلموا منهم دباغة الأديم وتجفيفه ودلكه وتلوينه؛ إلى غير ذلك مما يطول سرده ولا يُحصى تعداده.

(٦) في أن المغول آفة الحضارة، وفي ذكر ما أوقعوه فيها، وانحطاط العلوم بانحطاط السلطة والثروة

كما أن للأجسام أمراضًا قد تقضي عليها في بعض الأحيان، وكما أن بين النباتات نباتات أخرى مضرة لآكلها، بل سامة له، كذلك للحضارة أقوامًا مُضرة بها، بل مُتلفة لها في بعض الأحوال؛ فالمغول أو المغل هُم من هذا القبيل؛ أي إنهم مُتلِفون للعمران مُهلِكون للمجتمع البشري كما شاهدناهم عند هبوطهم بغداد، ففعلوا من الأفاعيل ما يرتعد لها فرائص الإنسانية من قتلٍ ونهبٍ وإفسادٍ وإحراقٍ ومُنكراتٍ ليس للقلم إمكان أن يُدوِّنها أو يصفها. وأعمالهم هذه لم تكن أعمال أمس، أو في هذه الأمصار الشرقية فقط، بل كانت كذلك منذ الأعصُر الواغلة في القِدَم، إلا أن التاريخ لم يعرف من أمرهم شيئًا مُثبتًا إلا مُنذ عهد تموجين الذي سمَّى نفسه «جنكيز خان»، فلما هلك اقتسم مملكته أبناؤه الأربعة، وهم: جوجي، وجغطاي، وتولاي، وأوكتاي، وكانت الكلمة النافذة والسطوة العاملة لأوكتاي، وهو الذي فتح الصين في سنة ١٢٣٤م، وأرهب وأرعب خلقًا جَمًّا، ومن الصين ذهب إلى كوه قاف (قوقاس، أو قفقاسية)، وغزا «باطو» ابن أخيه جوجي بلاد روسية، وأخذ موسكو في سنة ١٢٣٧م، وأوغل في ديار المجر، ثم عاد أدراجه إلى بلاده المغولية عند وفاة أوكتاي في سنة ١٢٤١م. وقام بعده كويوك، ثم منكو بن تولاي سنة ١٢٥٠م، فأمعن منكو في هند الصين، بينما كان أخوه هولاكو يأخذ أم العراق بغداد. وخلف منكو قبلاي (١٢٥٩–١٢٩٤)، وقلب دولة «سنغ» الصينية وأنشأ دولة «يوين» المغولية في سنة ١٢٧٩م، فامتدَّت رقعته من بلاد الروس إلى ديار اليابان، ومن المحيط الشمالي إلى هند الصين. ولما طُرد اليوينيون من بكين حاضرة الصين لكثرة مَن قام عليهم من الثوار احتلَّ عرشهم آل «منغ» سنة ١٣٦٨–١٣٨٨، وحينئذٍ أصبح لكل طائفة منهم تاريخ مستقل خاص بها. وفي هذا التاريخ لا ترى من الحسنات شيئًا، بل تراه مكتوبًا بأحرُف من دم على صُحُف سوداء، سوَّدتها فظائعهم ومظالمهم وشنائعهم التي تقشعرُّ لذكرها الأبدان؛ فالذي أنزلوه من البلايا والرزايا في ديار النهرين أنزلوا مثله في سائر الأمصار العامرة، فصيَّروها غامرة.

وأنت تعلم أن البلاد التي لا يتسنَّى لها الراحة لا يتسنَّى لها المعاملة والمتاجرة، ولا المبايعة والمقايضة، ولا الزراعة والصناعة، فتغدو فقيرة بحكم الحال. وإذا افتقرَت البلاد قام أهلها يغزو بعضهم بعضًا ليعيشوا، فيأخذ القويُّ ما يجده لحاجته عند الضعيف. وعلى هذه الصورة تنحطُّ البلاد، ويذلُّ سُكانها ويقِلُّون إن لم ينقرضوا، وما ذلك إلا آفة الجهل، وما آفة الجهل إلا الأقوام المنحطة التي لا تريد الرقي، كما لا تريد أن تَدين لسيد عاقل حكيم كما تظهر هذه الحقيقة لأدنى تأمُّل.

(٧) في صنائع الإسلام الراقية، وفي الريازة (علم البناء)

كان العرب قبل الإسلام يعرفون التصوير والتمثيل، يشهد على ذلك ما جاء في الحديث النبوي: «رأيتُ الجنة والنار مُمَثَّلتَين في قِبْلة الجدار»؛ أي مصوَّرتين أو مثالهما. ويشهد عليه الأصنام والأوثان التي كانت في الكعبة، وعددها يفوق الثلاثمائة، فلما جاء الإسلام حرَّم التصوير والتمثيل، فكُسرت الأصنام، ومُزِّقَت الصور أينما كانت وفقًا لهذا الحديث: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة.» وفي حديثٍ آخر: «لا تمثلوا بنامية الله»؛ أي لا تُشَبِّهوا بخلقه وتصوِّروا مثلَ تصويره، وقيل: هو من المثلة، والأشهَر الأول وعليه المعوَّل. فلمَّا أخذ المسلمون بالتوغُّل في العمران وأرادوا أن يُزيِّنوا بيوتهم ودُورهم وقصورهم بضروب التصاوير عدلوا عنها، واختاروا لهم زخارف اشتهرت عند الإفرنج باسم «النقوش العربية»، لا لأنهم اخترعوها؛ بل لأنهم أكثروا من استعمالهم لها، ولأن أهل الغرب تلقَّوها عنهم، وهي نقوش هندسية يُزيِّنون بها الآيات أو الأحاديث والحِكَم التي يكتبونها أو يحفرونها على تلك المعاهد، وتُمثِّل تلك الزخارف رسومًا هندسية أو أنواعًا من الأزهار والأثمار والأوراق، هي إلى الخيال أقرب منها إلى الحقيقة؛ إذ لم يقصدوا بها إلا مجرد الزينة ليُحسِّنوا بها الكتابة، فتزداد بها حُسنًا ورواءً. ومن أحسن ما عنوا به من هذا القبيل ما زيَّنوا به القصور التي شُيِّدت في الأندلس في عهد الخلفاء الأمويين.

على أن الشيعة لم يُحرِّموا التصوير والتمثيل؛ لأنهم لم يروا في القرآن آية تدل على تحريمهما، إلا أنهم حرَّموا صُنع التماثيل؛ لقُربها من هيئة الأصنام والأوثان. ولهذا نرى كثيرًا من الكتب المصورة وفيها مثل الإنسان والحيوان والنبات، وهذا لم يتخذوه قبل يوم أو يومين، بل جاء ذلك عندهم منذ سابق العهد؛ فقد كان المتوكل قد بنى قصرًا بسامرَّاء سمَّاه «المختار»، وكانت فيه صورة عجيبة من جملتها صورة بَيْعة فيها رُهبان، وأحسنها صورة شهار البيعة، وقد قال الواثق واصفًا القصر والصورة:

ما رأينا كبهجة المختار
لا ولا مثل صور الشهار

(هذا الكلام مأخوذ عن مُعجم البلدان لياقوت الحموي في مادة: المختار)، والظاهر أن المتوكل بنى هذا القصر قبل أن يلي الخلافة؛ لأن الواثق أخاه وَلِيَها قبله، فيكون قد ذهب إليه بعد بناء المتوكل له وفي عهد خلافة أخيه الواثق. ومن الغريب أن المتوكل كان سُنِّيًّا صِرفًا، وعدوًّا أزرق للشيعة، فلا نعلم كيف رضي بأن تُصوَّر تصاوير في قصره! وعلى كل حال فإن الدكتور هرتسفلد اكتشف في سامراء عداة تصاوير في قصور العباسيين قبل نحو ثماني سنوات، مما حمل العلماء المستشرقين على القول إن العباسيين كانوا قد تساهلوا في هذا الباب، وكان الخلفاء قبل ذلك العهد مُخالفين لهذا التسامح والتجوُّز.

(٧-١) الزخارف العربية

أما أصل هذه الزخارف المشهورة بالزخارف العربية فهو الهند؛ فقد قال هيرودوتس وإسترابون وإريانس وجماعة من قدماء المؤرخين، إن الهنود كانوا يصنعون منذ عهد عهيد ثيابًا، يطبعون عليها تصاوير زاهية الألوان لا تنفض (لا تجرب). وتلك التصاوير تُمثل أزهارًا وأنبتة وحيوانات ونقوشًا مختلفة. وكانت تلك الثياب (الأقمشة) تُباع في الديار المصرية واليونانية قبل أن يفتح الإسكندر الكبير فتوحاته الشهيرة، فتنقل إلى اليونان أسرار صنعها. وكان البطالسة أقاموا في الإسكندرية معامل وكان فيها مَهَرَة العَمَلَة من اليونان، يرشدون المصريين إلى تقليد تلك الثياب الهندية، وكانوا ينقشون عليها — على ما قال كلوديانس — «وحوشًا مختلفة الأشكال، وسلاحف طائرة، ونسورًا ذات قرون، وصورَ بشر مُتصلة بصدف الحلزون.» وقد أخذ المصريون أيضًا في ذلك العهد عن الفُرس والبابليين صنْع الطنافس والبُسط التي كان قد أُغرم بها اليونان في زمن أرسطوطاليس، الذي قال عنها: إنها كانت مرغوبة لحُسن ألوانها الزاهية وغرابة نقشها وإتقان صنعها. ولعلَّ رؤية الثياب الشرقية هي التي هَدَت اليونان إلى معرفة الزخارف العربية من شماريخ وتعاريج وأوراق زيَّنوا بها بعض أبنيتهم، ومن جملتها رأس البناء المعروف عندهم بما معناه: «مصباح ديمستينس»، لكنه لا يُنكر أن الرومان لم يأخذوا ذوق هذه الرسوم إلا من ديار مصر حتى بلغَت عندهم (أي عند الرومان) الشأو الأبعد.

ولقد أشار فتروفس٣ إلى هذه الرسوم كأنها حديثة في عهده. ومع ما كتب هذا الناقد من الكلام اللاذع بشأن أولئك الذين أحدثوا أمورًا في الريازة الرومانية، بقي معاصروه محافظين على ما أدخلوه في بلادهم من تلك النقوش والتزينات، وظلوا يُزخرفون بها مصانعهم ومعاهدهم، بل ومدافنهم نفسها، لا ترى ثَمَّ إلا تصاوير ومنحوتات تمثِّل لك مناظر أبنية خيالية ونقوشًا تشتبك فيها الأبنية الوهمية والحيوانات الوحشية، وأطفالًا تلعب بضروب من عنقاء مغرب، وغيرها كالسباع التي لا حقيقة لها. وترى بينها أيضًا أثمارًا وحيوانات صيد وأزهارًا، أو أدوات لهو وتخاريم؛ إلى غيرها. وأغلب هذه المرسومات تشفُّ عن تقليد مأخوذ عن الشرق، مثل النباتات والحيوانات المقدسة المصرية والهندية، وبجانبها مصانع بناؤها فارسي الطَّرْز أو بابلية. أما الرموز التي تُشير إليها تلك المصوَّرات، فإن الرومان ما كانوا يفقهون لها، فكانوا يتخذون «الطَّرْز المصري» طَرْزًا صناعيًّا لا غير. كما يقلِّد اليوم الإفرنج «الطَّرْز الصيني والياباني» وهم لا يفهمون ما تنطوي عليه من المغازي والمعاني والإشارات الدقيقة. ولقد اكتشف الباحثون منذ نحو قرنين كثيرًا من هذه التصاوير العربية في بنبئي وهركلانم، وقد رُسمت قبل الإسلام بنحو خمسمائة وخمسين سنة، فوجودها قبل الحضارة العربية دليل واضح على أن أبناء يعرب لم يخترعوا تلك النقوش، بل أخذوها عن المصريين والهنود كما تقدمت إليه الإشارة، وبهذا القدْر كفاية في هذا الصدد.

(٧-٢) النقش

أما النقش — أي التصوير بالألوان — فإن العرب كانوا يعرفونه أيضًا قبل الإسلام على ما أورده ابن الكلبي في تاريخ مكة، واصفًا ما كان في الكعبة من النقوش المختلفة. وأما بعد الإسلام فقد حُرِّم كما حُرِّم كل تصوير وتمثيل،٤ وقد ذكر العلَّامة مرادجا دصون أنه كان منقوشًا على أبواب جامع عبد الملك في القدس صورة النبي القُرشي، وكان داخل ذلك الجامع مُزينًا بنقوشٍ تمثِّل الجنة والنار، ولا جرم أن ناقشي تلك الصور كانوا الروم، إلا أنه اشتهر بين العرب أيضًا نقَّاشون عديدون صوَّروا الأنبياء والخلفاء وكبار القُوَّاد ومشاهير الرجال والشعراء النوابغ، حتى إن معامل القلمون بجوار دمشق، ومعامل دابق بجوار حلب، ومعامل البهنسى في الصعيد الأدنى، كانت تُصوِّر تلك النقوش على الثياب التي كانت تُنسج فيها، ومن جُملة ما كانوا يُصوِّرونه على تلك الثياب: الحفلات، والأعياد والتصيُّد.

وقد نبغ في القرن العاشر للمسيح (أي القرن الرابع للهجرة) نقَّاشون تُعقد عليهم الخناصر، من جُملتهم: عبد العزير البصري، وقيصر العراقي، وأبو بكر محمد بن حسن، ومحمد بن المبارك الصوري، ومحمد، وغيرهم كثيرون. وفي ذلك العهد أيضًا كان فريق من العرب يُزَوِّقون ويُحلُّون نفائس الكتب بنقوش زاهية الألوان، لا تقل حُسنًا عمَّا كان ينقشه الغربيون من الدُّمى ويُزينون بها أسفارهم الثمينة. وقد ذكر التاريخ دار تصوير ونقش في سمرقند، أنشأها تيمورلنك نفسه، وأحسن ما كان من تلك الصور كانت من قلم عبد علي الشيعي البغدادي. ويحفظ اليوم العلماء وأهل الفن المغرمون بالنفائس الشرقية تصاوير ونقوشًا عديدة، وقد وضعوا كتبًا جليلة في وصفها وذكر محاسنها ومساوئها، وقد نقلوها بالتصوير الشمسي، وهذه الكتب هي أشهر من أن تُذكر، وهي تُباع في أسواق وديار الإفرنج، فليس أدنى شبهة في أن كثيرين من المسلمين أُولعوا بالنقش والتصوير، وأبقَوا لهم فيهما ذِكرًا لا يُمحى.

(٧-٣) الريازة

الرِّيازة العربية — ويُسميها بعضهم الريازة الإسلامية، ويُسميها الأندلسيون الرِّيَازة المغربية — هي فن البناية العربية الحادثة بعد الهجرة، وقد ظهرت ميزتها في العهد العباسي ثم زادت رونقًا في زمن عبد الرحمن الأموي الأندلسي في الأبنية التي رفعها في قرطبة؛ فإنه جلب من القسطنطينية رَازَةً مهرة، وأرسل قُسطنطين — قيصر الروم يومئذٍ — إلى الخليفة المذكور بمائة وخمسين عمودًا من الرخام النادر لقصر الزهراء، والزهراء كانت حظية الخليفة، وقد لاحظ أحد علماء الفرنسويين، وهو المسيو جيرو دي برانجي، أنه كان ببلاد الأندلس ثلاثة أعصُر متعاقبة: عصر يبتدئ من القرن الثامن وينتهي في القرن العاشر، ومزيته تقليد الأبنية الرومانية تقليدًا حذو القذة بالقذة، وكان رازته البنَّاءون الذين كانوا في ديار الشام ومصر والعراق الذين بقَوا على حب الخلافة الأموية، فغادروا من أجلها بلاد الشرق إلى بلاد الأندلس، وكان الروح العربي قد تجلى في أصحابه كل التجلِّي، «وكان أعظم فرحهم — على ما قاله المسيو رينو — أن يُكثِروا من الأشياء التي كانت قد أثَّرت على أنظارهم في وطنهم الذي نشئوا فيه.» وأراد الخليفة عبد الرحمن الذي خطَّ بيده رسم جامع قرطبة أن يكون جامعه شبيهًا بالجامع الذي شيَّده أهل بيته في دمشق الفيحاء، وأن يفوق زخرفه وبهاؤه زخرف وبهاء الجامع الذي كان يُقيمه العباسيون آنئذٍ في بغداد دار السلام.

وقد وصف أوسابيوس القيصري في كتابه «ترجمة قسطنطين» الأبنيةَ التي شادها هذا القيصر، وكان فيها أفنية واسعة وأروقة عالية، وشاذروانات تقذف مياهها إلى بُعدٍ شاسع، ومقاصير حسنة الهندام مُعدة لإيواء القسوس وخَدم الدين. فلا جرم أن هذه المصانع كانت أمثلة لما بُني من الجوامع في ديار الشام وفلسطين ومصر، على ما لاحظه رَازَةُ العصر النوابغ من أهل الغرب بعد أن قابلوا أبنيةً بأبنيةٍ، ولا سيما لأنهم يعلمون أعمار تلك الأبنية وما سبق أحدها الآخر؛ ففي الجوامع التي عُمِّرت في تلك الأزمان تكثُر الفسافس٥ البوزنطية. وفي سنة ٩٦٥م كانت الزخارف اليونانية الفنية بنقوشها وأنواع زينها لا تُرضي أصحاب الفن؛ لميل أنفسهم إلى ما هو أرقى منها وأوقع في النفس، فأخذوا يبحثون عن زخارف زاهية، وشرعوا يُكثرون من دقائقها، فأصبح شكل العقود غزير التخاريم والمنعرجات المختلفة، كما يُشاهد هذا الأمر في قرطبة في مسجد «كابلة» فلافشيوسا الذي أُنشئ في خلافة الحاكم (سنة ٩٦٥م)، وهذا هو العصر الثاني من عصور الريازة العربية. أما عصرها الثالث فهو الذي حدث بعد سقوط خلافة قرطبة؛ وذلك أن عرب الأندلس دانوا للمسلمين الإفريقيين، فانحطَّ شيئًا فشيئًا الروح العربي، فنشأ في الصنائع والفنون الراقية مزية جديدة، سمَّاها أحد المحدثين من أصحاب الفن — وهو العلامة جيرو دي برانجي — «الريازة الإسلامية المغربية، أو الأفريقية»؛ إذ ترى في تلك البناية قيام العقد اليوناني الثقيل الساذج بجنب عقد بيضي الشكل كثير الرشاقة أو قليلها، على ما يبدو لك ذلك في مختلف الأبنية، ويتلو التزين البوزنطي المنتظم التخريمات والتزويقات الغريبة الأشكال التي سمَّاها العلماء «الزخارف العربية»، كما أسلفنا الكلام عنها، وأُبدلت فسافس الزجاج والرخام بفسافس الكاشاني (أو الكاشي) الزاهية الألوان على أشكال صور بديعة أدخلها الفن الجديد طِبقًا لأوضاع هندسية مُتقنة كل الإتقان. ويُشاهَد أيضًا على جُدران الأبنية تزيينات من الستوق مُفرَّغة إفراغًا حسنًا، وهي إذا جاورت بقية أجزاء التزويقات والتحسينات تفعل فعلًا عجبًا في الرائي. وزمن هذا العصر الذي هو أزهى عصور الريازة الإسلامية هو المائة الثانية عشرة، في عهد دولة الموحدين الذين كان يمتد صولجان مُلكهم من بلاد الأندلس إلى القسم الشمالي الشرقي من أفريقية، وأجمل أمثلة هذه البناية تُرى في إشبيلية، وكانت يومئذٍ حاضرة دولة الموحدين؛ فمن هذه الأبنية: «الجيرلدة»، وبقايا الجامع الذي حُوِّل كنيسة، وهي قائمة إلى يومنا هذا، وبعض جهات من القصر؛ فهذه الأبنية على اختلافها شُيِّدت في خلافة المنصور. وممَّا ميَّز هذا العصر عن أخويه المذكورَين: الكتابات، والمقام الرفيع الذي صار لها في ذلك الأوان؛ إذ اتُّخذت بمنزلة زينة زُينت بها العمارات على اختلاف غاياتها فرارًا من اتخاذ الصور عليها. إلا أن الكتابات في نظر رَازَةِ الإفرنج ليست إلا بمنزلة الأمور الثانوية لا غير.

ثم انتقلت هذه الحالة إلى حالة أخرى أرقى منها، إلا أنها كانت آخرَ رمق تلك الدولة، وكانت غرناطة مباءة هذا الرقي. وأغلب الأمثلة التي يُشار إليها بالبنان أُنشئَت في «الحمراء». قال المسيو رينو الذي استشهدنا بكلامه غير مرة: «إذا كانت الأبنية هي لسان حال الأمم وينطق بأخلاقهم وعاداتهم وعمرانهم، فليس من بناء ينطق بتلك الأمور كلها مثل «الحمراء»؛ فإنك ترى فيها عنوان أُمَّة تُحب الفراغ، وتعشق اللهو، وتُغرَم بالأنس، وتتفرَّغ للملاهي على ما كانت عليها في ذلك الزمن.»

هذا؛ وخارج الأبنية الإسلامية ساذج، يكاد يكون عاريًا من الزينة، وليس فيه من النوافذ إلا الشيء اليسير، وهذه النوافذ مسدودة بالمشربيَّات التي يُسميها العراقيون المشبكات، وهي تنمُّ عن أن مَن يجلس وراءها يحبُّ التطلُّع على الناس بدون أن يُشرف عليه أحد، وهو أمر معروف في المتحضرين من العرب، وقد اشتهر بذلك نساؤهم، خاصةً لوجود دار خاصة بهن تُسمى الحرم؛ ولهذا لم يكن يومئذٍ في غرناطة من المباني العمومية سوى المساجد والمدارس والحمامات، وفي هذه المصانع نفسها لا ترى في ظاهرها الزينة والبهرجة والزخارف، بل تراها في داخلها فقط، بخلاف ما يُشاهَد في الأبنية اليونانية والرومانية، فإن الزينة كانت تُرى على الخارج وفي الداخل منها، ولكن العرب اعتبروا ظاهر البناء بمنزلة القشرة للثمرة، فلا اعتداد بقشرة إذا كانت الثمرة حسنة.

أما دُور خواص المسلمين في الأندلس فإنها تشبه الدُّور التي تُرى في يومنا هذا على سواحل أفريقية؛ فإنك ترى مدخلها مشروعًا على الطريق، ولا تصل ساحة الدار إلا من بعد أن تمُر بدهليز (يُسميه العراقيون: المجاز، والرومان: أتريوم). وفي فناء الدار يكون غالبًا شاذروان (يُسميه أهل الشام: نوفرة، أو فَسْقِيَّة)، وحوله صفوف من أشجار النارنج والبرتقال، وحول الفِناء رواق مفتوح (واسم الرواق عند العراقيين: الطارمة) بعواميد لطيفة دقيقة، ومن هذا الرواق تصير إلى الحُجَر أو الغُرَف المنتظمة حول الشاذروان. وإذا فحصنا البناية العربية في بلاد الشام ومصر حيث لم يتبدل فيها إلا ما رقَّاه الفن، نرى فيها فروقًا تُميزها عن بناية عرب الأندلس، وريازة مغاربة أفريقية؛ فجوامع ديار مصر مثلًا تدل على معرفة واغلة في فن تعادُل الأجسام، واختيار المواد اللازمة للبناء، أما تزيينهم للأبنية واتخاذ الكتابات المزخرفة فالظاهر أن ليس في مصر القاهرة معهد يفوق أو يُجاري الحمراء في الأندلس.

ما تقدَّمَ بسطه هو نظر عام في أبنية المسلمين في ديار الغرب. أما في الشرق فإن الريازة الفارسية أثَّرت كل التأثير على الريازة الإسلامية، بل أكثر مما أثَّرت عليها الريازة الرومية؛ ففي البناية الفارسية من الأشكال المتلاعبة ما أنشأ في نفوس العرب المشارقة طَرْزًا خاصًّا بهم، يمتزج فيه الطَّرْز الرومي بالطَّرْز الفارسي، فاكتظَّت في الجوامع القبب البيضية والمخروطة، على حدِّ ما كان يُرى في مصانع الفُرس والهنود القديمة، وقد اقتبسها من الشرق بُناة الروس ورَازَتُهم، فازدانت المآذن بأحواضٍ مُسننة، وشرافاتها ناتئة داخلة على طِبقِ ما يُرى اليوم في بعض الأبنية القديمة في ديار فارس. وامتدت قسي الفتحات على شكل عِقْد مبالغ فيه، وارتفعت بيضية الشكل حادَّتها، وازدانَت بتقاطيع وتزاويق عديدة تتميز بينها تلك القبيبات المُعلَّقة، كأنها أنصاف أجراس مُستديرة، وتكاد تتذبذب في الهواء لِما فيها من حُسن أسلوب الوضع ورشاقة الأشكال، وهي التي سمَّاها الإسبانيون: «مدياس نارنخاس»؛ أي أنصاف النارنجات.

وقد اتخذ العرب في أبنيتهم الحجارة المنحوتة والإشكنج،٦ وربما ناوبوا بين طبقة من هذا وطبقة من تلك، أو بين طبقة من الحجارة وطبقة من اللياط، واتخذوا بمهارة ما سمَّوه التعبئة، وهي ضرب من الملاط ممزوج بحصًى، كانوا يُفرغونه بين الألواح الراكبة ثخن الحائط الذي يُريدون بناءه، فإذا صلبت تلك التعبئة يُغشُّونها بطلاءٍ رقيق يدفع عنه الرطوبة. أما الأبنية المستديرة فقد ندُر وجودها عند مسلمي العرب. وكانت أبراجهم مُربعة كما تُشاهد في ميادين آرل في فرنسة، وكانت بعض الأحيان مُثمَّنة الزوايا. أما إذا أردت أن تُشاهد أمثلة بناء الفن العربي فعليك ببلاد الأندلس، وإفريقية، وسورية، وصقلية، وفي بعض مدن جنوبي فرنسة.

وأما البناية في العراق فهي على طَرْزين: طَرْز سبق الإسلام، وطَرْز عقبه؛ فالطرز السابق الإسلام كان يقرُب من الطَّرز الفارسي الساساني، مع شيءٍ من الطَّرز الرومي، وكان أغلب بُناته العرب النصارى، فكانوا يعنون بتشييد الحصون والقصور والبِيَع والأديرة، ولم يبقَ في ديارنا من تلك الأبنية إلا ما يُسمى اليوم بالأُخَيضر، بقرب شفاثا، أو بجوار النجف، وما الأخيضر على رأي بعضهم إلا تصحيف: الأُكيدر؛ أي قصر الأكيدر، وهو صاحب القصر وبانيه، ويوافق هذا الرأي أن محله يُوافق كل الموافقة ما وصفه ياقوت عن قصر ومنازل في دومة الحيرة، وهي غير دومة الجندل، وكلتاهما للأكيدر. وهذا بعض ما قاله الحموي: «فأما دومة (الجندل)، فعليها سور يُتحصن به، وفي داخل السور حصن منيع يُقال له «مارد»، وهو حصن أُكيدر الملك ابن عبد الملك … السكوني الكندي … وكان نصرانيًّا. ونقض أكيدر الصلح … فأجلاه عمر (رضي الله عنه) من دومة في مَن أجلى من مُخالفي دين الإسلام إلى الحيرة، فنزل في موضعٍ منها قُرب عين التمر، وبنى به منازل، وسمَّاه دومة، وقيل: دوماء، باسم حصنه بوادي القُرى، فهو قائمٌ يُعرف، إلا أنه خراب.»

قُلنا: وهذا القصر قائمٌ إلى يومنا هذا، وقد وصفه المسيو لويس ماسنيون الفرنسوي في رحلته، ووصفته أيضًا أحسن وصف الخاتون الكريمة «المِس جرترود لوثيان بل» الشهيرة في بلادنا، وقد فصَّلَت هذا الوصف في كتابها الموسوم «من مراد إلى مراد»، وذكرت عنه فوائد جزيلة، وصوَّرته على اختلاف جوانبه وحُجَره، فجاء التصوير أحسن مثال له ولمن يُريد أن يُشاهده بدون أن يذهب إليه، فعلى مَن يُريد الوقوف على كل ذلك أن يُراجع الكتاب المذكور. ومن القصور السابقة للإسلام: الخورنق، والسدير، ولهما أطلال باقية في جوار النجف أيضًا. وهناك غيرها من القصور كبارق، وسنداد، والحاري، وكان هذا من أبدع ما بُني؛ فقد نقل المسعودي في مروج الذهب:

أن بعض ملوك الحيرة من النعمانية من بني نصر، أحدث بنيانًا في دار قراره، وهي الحيرة، على صورة (جيش) الحرب وهيئته للهجته بها وميله نحوها لئلَّا يغيب عنه ذكرها في سائر أحواله، فكان الرواق مجلس الملك، وهو الصدر، والكمان ميمنة وميسرة، ويكون في البيتين اللَّذين هما الكمان مَن يقرب منه من خواصه، وفي اليمين منهما خزانة الكسوة، وفي الشمال ما احتيج إليه من الشراب. والرواق قد عمَّ فضاؤه الصدر والكمين والأبواب الثلاثة على الرواق، فسُمِّي هذا البنيان إلى هذا الوقت «بالحيري بكمين»، إضافة إلى الحيرة. (ا.ھ. المقصود من إيراده.)

قُلنا: وسمَّى بعضهم هذا النوع من البناء: السدلي، والسدير، كما أشار إليه لُغَويُّو العرب.

وأما الأديرة التي بنَتها العرب قبل الإسلام فكثيرة، ذكر شيئًا منها ياقوت في معجمه، وخصَّ منها بالتفصيل دير هند الصغرى، ودير هند الكبرى، ونحن نذكر هنا بعض ما قاله عن دير هند الكبرى، قال: «وهو أيضًا بالحيرة (كدير هند الصغرى)، بنَته هند أم عمرو بن هند، وهي هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر آكل المرار الكندي، وكان في صدره مكتوب:

بَنَت هذه البيعةَ هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر، الملكة بنت الأملاك، وأم الملك عمرو بن المنذر، أمة المسيح، وأم عبده، وبنت عبيده في مُلْك ملك الأملاك خسرو أنو شروان في زمن مارافريم الأسقف؛ فالإله الذي بنَت له هذا الدير يغفر خطيئتها، ويترحَّم عليها وعلى ولدها، ويقبل بها وبقومها إلى أمانة الحق، ويكون الله معها ومع ولدها الدهر الداهر.» انتهى.

ومن الأديرة القديمة الشهيرة دير العاقول، قال عنه ياقوت: «هو دير عظيم شبيه بالحصن المنيع، وعليه سور عظيم عالٍ مُحكم البناء، وفيه مائة قلاية لرُهبانه، وهم يتبايعون هذه القلالي بينهم من ألف دينار إلى مائتي دينار، وحول كل قلاية بُستان فيه من جميع الثمار، وتُباع غلة البُستان منها من مائتي دينار إلى خمسين دينارًا، وفي وسطه نهرٌ جارٍ.» ا.ھ. هذا وصف شيء من أبنية العرب قبل الإسلام. وأما بعد الإسلام فإن طَرْز البناء أصبح مُركَّبًا من الطَّرْز الفارسي والطَّرْز الرومي على ما أسلفنا القول. وقد بنى العباسيون في العراق أبنيةً كثيرة، كان أغلبها جوامع وقصورًا، وفي نحو آخر خلافتهم عُنوا بإقامة المدارس. وقصورهم كانت كثيرة وكان أكثرها في بغداد وفي سامراء؛ فمنها القصر الحسني، والخلد، والتاج، والثريَّا، وقصر السلام، والقصر الأبيض، والرقَّة، والحيز، والعروس، والمختار، والوحيد، والجعفري المحدث، والغريب، والشبدان، والبرج، والصبح، والمليح، وقصر بستان الإيتاخية، والتل، والجوسق، وبركوارا، (ويُروى: بركوان، وهو خطأ)، والقلائد، والفرد، (ويُروى: الغرد، وهو خطأ)، والماحوزة، (ويُروى: الماجوزة، وهو خطأ)، وهو القصر بالمتوكلية أيضًا، والبهو، واللؤلؤة، والجعفري، والمعشوق، وهذا وحده موجود منه شيء في سامرَّا. وأما من قصور العباسيين في بغداد فإنه لا يوجد سوى بقايا من قصرٍ على دجلة، يُقال إنه بقايا التاج، وهو ما يُرى في القلعة الحالية التي كانت في عهد الأتراك (الطوبخانة)؛ ففيها من المحاسن وآيات الزخرف ما يدل على أن رَازَةَ ذلك العهد بلغوا أبعد الشأو في فنهم. ومادة البناء هي الآجر، أو الطاباق، قد أحسنوا شيَّه ونقشه وزُخرفه، حتى إذا وُضعت الآجرة بجانب الآجرة الأخرى أختها إلى أختها نشأ من مجموعها جميعًا نقوش وزخارف عربية تأخذ بمجامع القلوب وتُسكر الألباب، وقد صوَّرها أحد مهندسي الفرنسويين، وهو المسيو فيوله، فكتب عنها رسالة وصف فيها ما لتلك البدائع من الروائع، وأطنب في الكلام عن صانعيها.

ومما صبر على أنياب الزمان بعض رُدهات وأبهاء المدرسة المستنصريَّة، وهي التي اتُّخذت مخزنًا للممكس (للكمرك) في عهد الترك. وقد أخذت هذه البقايا تتداعى؛ لأن التورانيين لم يُعنوا بترميم ما كان يخرب منها. وقد صوَّر المسيو فيوله المذكور عدة أقسام من هذا البناء الفخم الضخم، ونشرها أيضًا فان مكس فان برشم، والألمانيَّان سارَّه وهرتسفلد، والمسيو لويس ماسنيون.

وقد قُرئ على باب الخان الذي يُجاور الممكس الكتابة الآتية:

قد أنشأ هذا المحل رغبةً في أن الله لا يُضيعُ أجر مَن أحسن عملًا، وطلبًا للفوز بجنَّات الفردوس التي أعدَّها للذين آمنوا وعملوا الصالحات نُزُلًا، وأمر أن تُجعل مدرسة للفقهاء على المذاهب الأربعة سيدنا ومولانا إمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين، شيَّد الله معالم الدين بخلود سلطانه، وأحيا قلوب أهل العمل بتضاعيف نِعمه وإحسانه، وذلك في سنة ثلاثين وستمائة، وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله.

وقد وصف المسيو فيوله المذكور رسم هذه المدرسة في القديم، وكيفية تقسيم رُدهاتها، فلا حاجة إلى إعادة كلامه هُنا لضيق مجال كتابنا هذا.

ومما بقي إلى يومنا هذا منارةُ سوق الغزل، وكانت تُسمى قبل نحو نصف قرن «منارة جامع الخلفاء»، إلا أن متولي الأوقاف بنَوا بجانبها سوقًا يُباع فيه الغزل، فعُرفت السوق بسوق الغزل عند العوام، وبها اشتهرت المنارة. ولا جرم أن هذه المئذنة كانت في جامعٍ كبير سعته المحلة التي بُنيت في موضعه، ولا يُعرف على التحقيق بانيها؛ إذ الآراء متضاربة فيها، إلا أنها تتفق على كونها من بناء العباسيين الأولين. وقد حاول العجم في سنة ١٠٤٨ھ/١٦٣٨م هدمها قبل أن تسقط المدينة بيد السلطان مراد الرابع بإطلاق المدافع عليها، فلم ينجحوا في سعيهم الذميم، إنما توصلوا فقط إلى كشط الجانب الغربي منها كما يُرى ذلك إلى يومنا هذا. ولما وصل الإنكليز بغداد ورأوا ضعف أُسسها — إذ كان العوام تعبث بها دائمًا — أصلحوها كما يجب؛ حفظًا لهذا الأثر الجليل. هذا أهم ما يُقال مما بقي من مصانع الخلفاء العباسيين في عهدنا هذا.

(٨) في العرب وفي مزاياهم الخاصة بهم، وفي أقسام العرب المختلفة من بادية ومتحضرة، وفي أقسام القبائل من قديمة وحديثة مع ذكر منازلهم

(٨-١) العرب ومزاياهم الخاصة بهم

تعريفهم

العرب من أعرق الأمم في القِدَم، ترجع في أصلها إلى سام بن نوح، وقد عاصرَت جميع الأمم المشهورة في التاريخ، كالشمريين، والأكديين، والبابليين، والآشوريين، والكلدان، والمصريين، واليونان، والرومان. وكل هذه الأمم بادت وانقرضت، أما هي فإنها ما زالت حية، وقد هاجمتها بعض تلك الأمم فلم تفتح من ديارها إلا شيئًا زهيدًا بقيَت في أياديها مدة وجيزة. أما هي فإنها هاجمَت جميع مَن عاداها فافتتحت بلادهم وبقيَت في أيديها مدة طويلة.

اسمهم

أما اسم العرب فقد ذهب الناس في معناه مذاهب شتَّى؛ فمنهم مَن قال: «إن بعض أولاد سام بن نوح استوطنوا العراق، وطردهم بنو حام، فذهبوا بعضهم شمالًا إلى آشور، وبعضهم ذهبوا غربًا، فسُمُّوا عربًا لهذا السبب؛ لأن اللغة السامية الأصلية لا غين فيها، فلفظة عرب: بمعنى غرب، واختلط بهم نسل إسماعيل، ونسل مديَن، ونسل عيسو، ونسل لوط. وفي الجهات الجنوبية اختلطوا بقبائل من نسل حام، فصاروا خلطًا بلطًا. ونشأ منهم قبائل وبطون كثيرة، بَادَ أكثرها أو اندمج في غيره، حتى لم يبقَ لها رسم منذ أدوار.»

وقال فريق: إن العرب مُشتق من الإعراب، بمعنى الإبانة، من قولهم: أعرب الرجل عمَّا في ضميره: إذا أبانَ عنه، وهذا تعليل محدث لا يُعتمد عليه.

وزعم فريق آخر إلى أنه مشتق من غرب الشيء (بالغين المعجمة)، بمعنى: اسودَّ؛ لسُمرة ألوانهم، والعرب يُسمون السُّمرة سوادًا من باب التوسُّع، وقال كثيرون: سُمي العرب عربًا: من عربة، وهي في الأصل اسم لبلاد العرب.

وقال بعضهم: أول مَن أنطق الله لسانَه بلُغة العرب يعرب بن قحطان، وهو أبو اليمن، وهم العرب العاربة.

على أن الرأي المقبول اليوم عند أغلب المستشرقين والعلماء الباحثين العصريين، أن العرب مشتقة من: «عربا»، وهي مفقودة في العربية، إلا أنها موجودة في العبرية والآرامية، بمعنى البادية والصحراء، فمعنى العرب إذًا في الأصل: أهل البادية، أو البدو؛ لأنهم كانوا في الأصل من الأمم التي تعيش في البوادي. وذهب بعضهم إلى أن كلمة «عرباء» موجودة في اللغة الضادية في قولهم: «العرب العَرْباء»؛ أي العرب الخُلَّص، وهم أهل البادية.

مميزاتهم

أما مميزات الأعراب فهي واحدة في المتحضِّرين والمتبدِّين باختلافٍ طفيف ناشئ من البيئة، والهواء، والمعيشة، واختلاط الدم. ويُعرف أهل البادية بقامتهم المتوسطة الحسنة التقطيع وبهُزال الجسم، لكنهم ذوو نشاط غريب وسعي حثيث، سريعو الحركة، سُمر الألوان، يكادون يكونون سودًا، وملامحهم منتظمة، أسيلو الخدود؛ أي بيضيو الوجوه، ورءوسهم على أشكالٍ مختلفة في أغلب الأحيان ومصومعتها، وجباههم مُشْرِفة، وعيونهم سوداء وبصَّاصة، إلا أن تقطيب الوجه وإغماض العينين فرارًا من الشمس عند النظر إلى البُعد يُنشئ فيهم منظرَ رجال قلقين، والناظر إليهم يتوهَّم أنهم في منتهى التوحُّش، وليس الأمر كما يظهر في الخارج؛ إذ إنهم في منتهى الأُنس والأُلفة. والبدوي يشيخُ ويهرم سريعًا، فيتغضَّن جلده ويتشنَّج قبل أوانه في الهواء الطلق، ولا يُناهز الأربعين سنة إلا وقد وَخَطَه الشيبُ، وإذا بلغ الخمسين هرِمَ هرمًا بيِّنًا، ولا يبلغ أحدهم الستين إلا قليلًا. بيد أن تلك الحياة التي تتدفَّق هِمَّةً ونشاطًا لا تعرف الأمراض إلا نادرًا. ومما امتازوا به: القناعة، والرضى باليسير من الطعام، مما ينقلب عليهم بالصحة وسلامة الجسم من العاهات الوبيلة التي تُرى في النَّهِمين أو الأكولين؛ ولهذا يكون فكرهم رائقًا دائمًا، وحافظتهم واسعة، وخواطرهم متنبِّهة. وقد تعلَّموا منذ نعومة أظفارهم اتخاذ الأرض فراشًا، واحتمال حرارة الشمس المُتوقِّدة، والنوم غرارًا، والاكتفاء باليسير من الطعام، والصبر على العطش ولو في حمارة القيظ، وهم لا يتعاطون المُسكِرات، وأغلب شربهم الشَّنين، أو اللبن الحقين الذي يهزُّ معاطف الإنسان بدون أن يُسكره، وهم في الغالب لا يأكلون إلا مرة واحدة في النهار هي الوجبة، وقدرها شيءٌ زهيد بالنظر إلى ما يأكله أهل ديار الغرب من كثرة الألوان وغيرها.

أخلاقهم

هذه نظرة في مُجمل مميزاتهم الخِلقية، وأما مميزاتهم الخُلُقية فهي غريبة كل الغرابة؛ إذ تجتمع فيها المحاسن والمساوئ معًا، أو المناقب والمعايب معًا، وهذا ينشأ من انفرادهم في البراري، وضرورات الأزمان، ومخاطر الحياة في البوادي التي احتلُّوها، مما يجعل دمهم فَوَّارًا ومزاجهم متقلِّبًا، بتقلُّب أهوية الفلوات، وتخيُّلهم ميَّالًا إلى كل قوة طارئة ميل الكلأ الذي يأنس إليه ويعيش في وسطه ويأخذ عنه تموُّجه عند أدنى حركة في النسيم؛ فمن فضائله ومحامده أنه في غاية الصبر حتى لا يكاد يُجاريه فيه أحد، فهو يحتمل الحر والقر، الجوع والعطش، التعب والراحة، الشغل والبطالة، كثرة الشيء وقِلَّته، بنفسٍ واحدة بدون تبرُّمٍ أو تضَجُّر، ومع هذا الصبر العجيب قد يثور فيه الغضب العظيم، ويطلب الثأر الشديد إذا أهانه الواحد أو احتقره وشتمه أو سبه. البدوي طمَّاع وسلَّاب، فإذا رأى عندك شيئًا لمَّاعًا أو رنَّانًا أو حَسن اللون مال إليه وأراد الاحتفاظ به، لكن عند إكرام الضيف ينسى كل شيء ويجود لك بنفسه.

البدوي شديد المعاملة إذا أراد سلبك ونهبك، ولكنه لا يقتلك، وإذا احتميتَ به أو نزلت خيمته أعزَّك وأبدى لك من الظُّرف وحسن المعاملة ما لا تجد مثيلًا له في أوغل الناس في المدنيَّة، وهو يُعاملك بالحسنى ولو كنت عدوَّه، وذلك إذا ما أنزلك في حِماه وكنفه. البدوي ينظر إلى السلب والنهب والغزو بغير العين التي ننظر بها إليها، والذي يُجيز له ذلك فقر الأرض التي وُجد فيها، فهو ينظر إلى عابر السبيل بمنزلة رزق قيَّضه الله له؛ إذ إن هذا العابر لا بد أن يصل محلًّا فيجد فيه ما يستغني عمَّا خسره في رحلته؛ ولذلك لا يتعرَّض بحياته البتة. وهو لا يُميِّز بين المحاربة وبين الخدعة، فما يأخذه بقوة السلاح في الشبكة التي نصبها للمسافر أو في عثوره عليه هو بمنزلة كسب أو ربح، وعنده لا فرق بين سلب هذا الرجل ابن السبيل وبين فتح مدينة أو بلاد هجم عليها وهي لعدوِّه. والذي يُميِّز البدوي كل التمييز ويُفَرِّقه عن سائر الخلق حُبه للحرية والاستقلال؛ فقد بلغَت به هذه الشاعرة مبلغًا لا يمكن للحضري أن يتصورها، فهو يخيرها على كل موجود على الأرض مهما كان عزيزًا أو ثمينًا، ومن يُحاول أن يُقيد البدوي بقيد من القيود كمن يُحاول تقييد السنونوة في قفص، فإنها لا تزال تضرب جدار القفص برُؤَيْسها حتى تموت، مُفضِّلةً الموت على الحياة بقيد؛ ولذا ترى البدوي يحتقر كل الاحتقار أبناء المدن؛ إذ البقاء فيها هو القضاء على حُريته، تلك الحرية التي احتفظ بها مُنذ خلق الخلائق إلى يومنا هذا؛ إذ أهل البادية وحدهم بقوا محافظين على معيشتهم، بينما ترى سائر الأجيال خضعَت للقيد والربط والحصر والضيق. البدوي سريع الخاطر، مُتوقِّد الذهن ولو لم يدرس العلوم والفنون؛ فإن ذكاءه فطري وسليقته سليمة من معايب التمدُّن، وليس من بدوي إلا وتراه شاعرًا يصف لك الأمور على حقائقها ودقائقها، إلا وتراه بليغًا؛ إذ لا يُكلمك إلا ويقنعك بسحر كلامه، إلا وتراه خطيبًا لِما يسرد لك من المبادئ الصادقة المغزى والمعنى والمبنى بصوتٍ تُسكرك نغمته ونبرته. البدوي يُصَدِّق كل ما تقول له من الخُرافات والأقاويل الصبيانية؛ لسلامة نيته. البدوي تجيش نفسه لأدنى وصف أو إغراء؛ لكون خياله يُضارع هواء باديته الذي يتقلَّب بين بردٍ ودفء، وحر وومد في النهار الواحد. البدوي يحب الأحاديث الخيالية والأقاصيص الجنية، والحكايات المُلَفَّقة أو الشبيهة بالملفقة مما يكثُر فيها الأوهام والمحاليات. البدوي قابل لكل شيء عظيم إذا ما عرف العاقل أن يسوسه، أو أقنعه بفكر ظهر له فيه منفعته. البدوي يتلوَّن تلوُّن الحرباء ويتقلَّبُ تقلُّب الطفل، تقول له شيئًا فيُصدقه، ثم يأتيه آخر فيُخرجه من فكره بالسرعة التي دخلها. البدوي لا دليل له إلا سليقته الوقتية، ويحكم على الأمور بموجب ظواهرها ولا يهمه بواطنها، وهو ينخدع بالبوارق، وينقاد لِما فيه جلبة وروائع.

البدوي وحده لم تتغيَّر صفاته وإن تغيَّر الزمان، طالع ما جاء في الكتب القديمة من وصف أخلاقه وقابِلها بما هو عليه الآن، لا تجد فرقًا، حتى ولا فرقًا زهيدًا. والعادات والسُّنن التي يجري عليها اليوم هي نفس العادات والسنن التي جرى عليها أجداده في سابق الزمن، وعلى طبْق ما نراها مدوَّنة في أسفار الأقدمين الذين جاوروهم أو عاشروهم أو خالطوهم؛ ولهذا تجد كثيرًا من الأمور التي أُعضل فهمُها على العلماء والمؤرخين زال عنها الإبهام وانهتكَت أستارها عندما وقفوا بأنفسهم على أهل البادية المعاصرين لنا. البدوي يحتقر الموت ولا يَعُدُّه شيئًا، فهو شُجاع مستبسل منذ صبائه، فالموت عنده شُرب كأس لا غير؛ ولهذا كثيرًا ما يموت قتلًا، وهو الموت المرغوب لكل واحد من الأعزة، وقد نعتوا الموت بنعوت؛ منها الموت الأسود: وهو الموت خنقًا؛ لأن لون المخنوق يكون أزرق، وهو عندهم أسود، والموت الأحمر: قتلًا؛ لأن دمه يُسفَك، والموت الأبيض: وهو الموت فجأة؛ لأن كثيرًا ما يبقى لون المفاجأ بلونه الطبيعي، وإذا مات البدوي حتفَ أنفه يقولون عنه: فطس أو هلك. والبدوي الضعيف الدنيء خوَّان غدَّار، وهو كثيرًا ما ينضم إلى القوي من الناس، ويقتل ويغتال مَن خفره، فإننا نقرأ في التاريخ أن بطليموس السادس انتصر على صهره إسكندر بالاس، فذهب هذا والتجأ إلى أهل البادية ظنًّا منه أنه يجد فيهم ملجأً منيعًا.

إلا أن زبدئيل غدر بآداب الضيافة، وضرب عنق زائره تقرُّبًا من بطليموس ودمتريوس، ثم بعث برأسه إلى ملك مصر. ونرى سليمان باشا — وزير بغداد القتيل — احتمى في طريقه بقبيلة الدفافعة، فنزل عند شيخهم ضيفًا، فلما درى صاحب البيت أن المحتمي به مهزومٌ غدرَ به وقتله. وأقرب مثال رأيناه هو ما شاهدناه في هذه الحرب العامة، فإن أعراب بادية العراق كانت تقتل دائمًا فلول العسكر، فإن كان المكسورون أتراكًا قتلوا الأتراك وحامَوا الإنكليز، وإن كان المقهورون إنكليزًا قتلوا الإنكليز ودافعوا عن الأتراك. هذه كانت أعمالهم في مدة الحرب التي كانت تدور في هذه الأنحاء بين القومين المتقاتلَين، فتلك هي أخلاق أهل البادية، فهي حقيقة مجمع أضداد، ومُلتقى محاسن ومساوئ على ما افتتحنا به كلامنا، وهو من أغرب الأمور قلَّما تخطر على بال إنسان.

(٨-٢) في أقسام العرب المختلفة من بادية ومتحضِّرة … إلخ

يُقسَّم العرب ثلاثة أقسام كُبرى، وهي: أهل حضر، وأهل مدر، وأهل وبر. فأما أهل الحضر أو المتحضِّرون: فهم الذين يُقيمون في المدن، ويُعرفون أيضًا بالعرب. وأهل المدر: هم الذين يُقيمون في ضواحي المدن، يبنون لهم أبنية من الطين، ودأبهم الفِلاحة والزراعة ورعاية المواشي وصنع المآكل التي تُتَّخذ من ألبان المواشي. وأهل الوبر: هم البدو أو البادية، أو الأعراب، أو العُربان، وهم يُقيمون في البراري والفلوات، ودأبهم رعاية الغنم والمواشي، وقطع الطرق، ونهب أبناء السبيل، والغزو الدائم على مدار السنة، وهذه الأقسام وُجدت منذ سابق العهد على ما تشهد به الكتب القديمة، ورقم الآشوريين والبابليين والكلدان.

وأهم الأقسام المعروفة اليوم عند العلماء هي: عرب الشمال وعرب الجنوب، راجعين في ذلك إلى ما كان معروفًا عنهم في قِدَم الزمان، فإن المصريين كانوا يُسمون عرب الجنوب: «فنطيو»؛ أي سُكان الفنط، والفنطُ عندهم: البلادُ الواقعة في جنوبي جزيرة العرب، ويُسمون عرب الشمال: «شاسو»، تصحيف العربية «الشص»؛ أي اللص الحاذق؛ لكثرة سلبهم وغزوهم الناس، وقد قال أحد العلماء المحدثين: «إن لأهالي قسمي ديار العرب مميزات لا تُنكر، ففي الشمال يُرى مُصفَّحُو الرءوس، وفي الجنوب الفطح.» قلنا: وهي من المسائل التي تُبنى عليها حقائق لا يمكن أن تُنكَر، وسوف نأتي على ذكر هذين القسمين بُعيد هذا.

ويُقَسم العرب أيضًا باعتبار الزمان إلى: عرب بائدة، وهي التي لم يبقَ لها باقٍ، ويُسَمَّوْن أيضًا العرب العاربة، أو العرب العرباء، وكانوا قبل إسماعيل، وهم: عاد، وثمود، وجديس، وأُميم، وجرهم، وعبيل، والعماليق، ووبار، وصحار، وجاسم، وجش إِرَم، وأمم آخرون لا يعلمهم إلا الله كانوا قبل الخليل وفي زمانه أيضًا. وعرب مستعربة: وهم عرب الحجاز من ذرية إسماعيل؛ ولهذا يُسميهم الإفرنج: الإسماعيليين، أو الهاجريين نسبةً إلى هاجر، وهم ليسوا بعربٍ خُلَّص على ما حققه العلماء، وهم ولد معد بن عدنان بن أدد. وعرب مُتعرِّبة: وهم ليسوا بخُلَّصٍ أيضًا، وهم بنو قحطان.

فلنعُد الآن إلى القسمَين الكبيرَين — قسم عرب الشمال، وقسم عرب الجنوب — فأهل الجنوب: هم العرب اليمانيون، وأهل الشمال: هم بنو معد أو النزاريُّون. إلا أننا نعلم من التواريخ أن جماعات عظيمة من عرب قحطان اختلطَت بعرب الشمال، وطوائف عديدة من النزاريين هبطوا ديار اليمن فاختلطوا بأهلها. على أن الأغلبية بقيَت لسكان البلاد الأصليين؛ أي بقي النزاريُّون سائدين في الشمال، والقحطانيُّون سائدين في الجنوب، وكان النزاع بين قبائل الفريقين على قدمٍ وساق منذ العهد القديم، ولعل سبب الخصام هو أن أهل الشمال كانوا يَدَّعون أن أهل الجنوب دُخلاء في البلاد العربية؛ وذلك أن القبائل القحطانية كانت قد تحاكَت بسُكَّان الجنوب كأهل اليمن وحضرموت وعمان، فأدخلت في لسانها، ولعل أيضًا في أخلاقها وعاداتها، أمورًا كثيرة لم تكن معروفة أو مألوفة بين القبائل الشمالية، فكانت من ثم مزعجة لها مُجحِفة بها. وهذا النزاع زاد شِدَّة مع الزمان حتى أصبح من الأمور المميزة لقومٍ من قوم، ولما جاء الإسلام كان الأنصار من سُكان المدينة ومن العُنصر اليماني مُعادين للقُرشيين أهل مكة؛ لأنهم كانوا نزاريين، وهذا النزاع كان من أضرِّ الأمور للسيادة العربية في العالم، وهو لا يزال قائمًا بين قبائل الفريقَين، ولا سيما في ديار العرب.

وإذا ألقَيتَ بصرك على أشجار النسب العربي ترى جميع اليمانيين من صُلب قحطان. ومن الأمور التي تجدُرُ بالتدبُّر والاعتبار أن القحطانيين معروفون إلى يومنا هذا بمنزلة قبيلة مهمة، محتلَّة بُقعة تمتد في شرقي الحجاز، وكذلك تمتد أيضًا من شمالي اليمن إلى البادية العُظمى، وفي جنوبي هذه الرقعة تمتدُّ ديار قبيلة كهلان التي خرج منها أهم الأحياء اليمانية.

ويتصل أو اتصل بالأحياء اليمانية الآتي ذكرهم:
  • (١)
    بنو طيئ: وقد أقاموا منذ نحو ألفَي سنة في جوار جبليهم الشهيرين، وهما: أجا، وسلمى. وقد سُمي السريان والفرس العرب كلهم طائيين من باب تسمية الكُل باسم الجزء، ولأنهم كانوا متصلين بقبائل هذا الحي أكثر مما كانوا متصلين بسائر القبائل. وبنو طيئ يُعرفون اليوم باسم «شمر»، وهو اسم أحد أفخاذهم الذي تسلَّط على من بقي منهم. وكان مقام الشمريين في قرية اسمها توارن، على ما قاله ياقوت في مُعجمه؛ إذ يذكر أنها قرية في أجا، أحد جبلي طيئ لبني شمر من بني زُهير، ولا يتسمَّى اليوم باسم طيئ إلا عشيرتان في الجزيرة، وقد بقيَتا تابعتَين لشمر، لكنهما لا تدفعان لهم خاوة،٧ ويعتبرونهما متساويتين لهم. وقد هبط الشمريُّون أرض الجزيرة في القرن السابع عشر للميلاد، ولهم فيها السيادة إلى اليوم، وكان قد دفعهم إليها عنزة، وقد ساقوهم من بادية الشام.
  • (٢)

    قبائل همدان ومذحج: وقد بقي معظمهم في اليمن، ويتصل بمذحج بلحارث، وهم يسكنون إلى هذا العهد جنوب شرقي الطائف وبجيلة، وكان لهم يد قوية في فتح العراق في خلافة عُمر.

  • (٣)

    بنو عاملة وجذام: وقد أقاموا في فلسطين منذ زمنٍ قديم، واللخميون الذين شادوا على الفرات مملكة الحيرة، وبنو كندة الذين لم يسودوا في بلادهم في حضرموت فقط، بل سادوا بني أسد في اليمامة، وكان أميرهم يُسمي نفسه ملكًا، وكان امرؤ القيس الشاعر المشهور من أهل هذا البيت الشريف.

  • (٤)

    بنو أزد: وكانوا من أحلاف القبائل، وهم لم يفتحوا عمان ويُقيموا في جبال السراة فقط، بل كان أحلافهم — وهم الغساسنة — قد أنشئوا مملكة في ديار الشام، وكان الخُزاعيُّون قد استأثروا بمكة مُدَّة من الزمن، وكان الأوس والخزرج (الأنصار) قد اختصُّوا لأنفسهم يثرب (أي المدينة).

والحي الآخر النازل من صُلب قحطان هو الذي يضع النُّسَّابُ في مقدمته بني حميَر، أو الحميريِّين، ومن هذا الحي: بنو قُضاعة، وهم من قبائل شتَّى، بينها بهراء وتنوخ، وقد نزلوا ديار الشام الشمالية منذ عهد قديم. ومنهم جهينة، وكان لهم الكور المجاورة لوادي إضم. ومنهم أيضًا بنو عذرة، وهم من أقارب جهينة وجيرانهم، وقد اشتهروا بحبهم العذري. ومنهم بنو كلب، وكانوا نازلين في بادية الشام. ومنهم بنو بلي، وكانوا احتلوا شمالي الحجاز، وفي خلافة عمر ذهبَت طوائف من بلي وجهينة وأقاموا في الديار المصرية.

أما قبائل شمالي بلاد العرب فهي المعروفة أيضًا بالنزاريَّة، أو المعدية، المُسَمِّين باسم جدهم على زعمهم. والحال أن المعدية وردت في كتاب المؤرخ بروكوبس بمنزلة قبائل مُتحالفة لا اسم رجل، وكذلك كلمة نزار، فإنها وردَت في كتابة مؤرخة في سنة ٣٢٨ ميلادية، اكتشفها المسيو دسو في النمارة في جوار الصفا (في شرقي حوران)، يقول فيها امرؤ القيس بن عمرو ملك جميع العرب، إنه كان يحكم على بني أسد ونزار. ثم إن قبائل الشمال انقسمَت قسمين عظيمَين، وهما: ربيعة ومُضر، وقد تمزَّقا كل ممزق قبل الإسلام، هذا إذا تركنا على حدة حي إياذ (بالذال المعجمة، وهو غير إياد بالدال المهملة)، وهو حي كان عظيم الحَول والطَّول سابقًا، لكنه انقرض قبل ظهور الإسلام، فقبيلتا ربيعة ومضر اللتان كانتا قد سادتا في عزهما هاجرتا شطر الجزيرة، وبقي اسمهما مخلَّدًا في كورتي ديار ربيعة على دجلة وديار مُضر على الفرات، ثم نزل تلك الديار بنو تغلب ونمر.

ويتصل بحي ربيعة قبيلتا عنزة وأسد، وكانتا مُتَّحدتَين ومتجاورتَين كل التجاوُر في شمالي وادي الرمة. وكان طريق الحاج من البصرة إلى المدينة يمر بأرضهما، وكانت عنزة قد احتفظَت بالسيادة بعد أن طردَت قُضاعة من ديار العرب في العهد السابق. وفي منتصف القرن السابع عشر احتلَّت عنزة بادية الشام كلها أو كادَت، وأخضعَتها لأمرها، وبنو سباعة في الشمال الشرقي، والرولة في الغرب يرجعون إليهم، ويُرى إلى اليوم في العراق من بني أسد. وبنو وائل متصلون بهم كل الاتصال من جهة النسب، وقد انقسموا قسمين مهمَّين، وهما: بكر، وتغلب، وقد جرت الحرب بينهما بعد قتل كُليب إلى ما لا تُحمد عُقباه، وكان كُليب يسود وائلًا، فانقلبَتِ الحرب ويلًا على القبيلتين الأختين، فذهبت كلتاهما مع بني نمر من أقاربهما إلى أنحاء الجزيرة، فاحتلَّ بنو بكر شماليها، ومن ذلك اسم ديار بكر للبلاد التي نزلوها، وكانت آمد حاضرتها فسُمِّيَت باسمهم. أما بنو تغلب ونمر فإنهم هبطوا جنوبيها، وكانوا على النصرانية، فلما جاء الإسلام أُكرِهوا على أداء الجزية، ويرجع إلى بني بكر بن وائل بنو حنيفة أصحاب اليمامة، وكذلك جيرانهم بنو شيبان. وممن يرجع أيضًا إلى ربيعة عبد القيس، الذين كانوا يسكنون البحرين.

وأما مُضر فكان في مقدمتها بنو قيس، وقد بلغوا من القوَّة والمنعة منزلة أيَّةُ منزلة، حتى إنه سُمِّيَ قيسيًّا كل عربي لم يكن يمانيًّا، واليوم ليس من يتسمَّى بهذا الاسم إلا قبيلة صغيرة من أهل المدر نازلة على الفُرات، وهي تدفع الخوة لبني شمر. وفي شرقي هذه القبيلة يقطن بنو عدوان، وهم يدينون لشمر أيضًا، وكانوا ينزلون سابقًا جنوبي الحجاز بجانب بني فهم وهذيل، ويرجع إلى حي قيس أيضًا هوازن، وبنو سليم، وكانوا يقيمون في غربي ديار نجد في شرقي المدينة ومكة. وفي أوائل القرن الثالث للهجرة/التاسع للميلاد، اشتدَّ أمر بني سليم ومُجاوريهم بني هلال الراجعين إلى هوازن، وضاقَتِ البلاد بعددهم العديد، حتى خِيفَ على المدينتين المقدَّستَين من جهة الأمن فيهما، فأُكرهوا على المهاجرة، فهاجروا إلى ديار مصر، فهبطوا أولًا مدالث النيل، ثم اضطروا على مغادرتها قسرًا، فذهبوا إلى الصعيد. وفي سنة ٤٤٤ رضوا بالذهاب إلى شمالي أفريقية، على شرط أن يُعطى كل واحد منهم بعيرًا ودينارًا، فأغلب بدو أفريقية الشمالية يعودون في أصلهم إلى بني سليم وبني هلال، وشُهرة بني هلال معروفة إلى هذا العهد في شِعر العامة في قلب بلاد العرب نفسها، وكانوا يعودون في السابق إلى أحلاف قبائل عامر بن صعصعة. ومنهم كان أيضًا بنو كلاب، وبنو قُشَير، وبنو عقيل، وما زالت هذه القبيلة إلى زمننا هذا ذات شأن وخطر في ديار نجد، وهم باعة الأباعر، وخفرة القوافل التي تظعن من ديار الشام إلى دار السلام. ومن عقيل خرج المنتفق، وكانوا أصحاب عز ومنعة منذ المائة الرابعة للهجرة/المائة العاشرة للميلاد، وهم لا يزالون كذلك إلى عهدنا هذا، وديارهم جنوبي العراق.

ويشمل حي قيس: بني غطفان، وفيهم قبيلتان شهيرتان، وهما عبس وذبيان، وقد عُرفتا بقتل الأخ لأخيه بسبب جَوَادَيْن عُرفت الحرب باسمهما؛ أي «حرب داحس والغبراء». وأقوى بطن ذبيان كانت فزارة. ويرجع إلى مُضر أيضًا بنو ضبة وبنو تميم، الذين احتلوا الديار التي كان فيها سابقًا بنو بكر وتغلب في نجد. وتميم قبيلة ضخمة انتشرت في كل جهة. وليس في جزيرة العرب بدو خُلَّص بهذا الاسم اللهم إلا في أسفل دجلة في جهة العمارة وما داناها، بَيْدَ أن معظم سكان مُدن نجد يدَّعون أنهم من تميم. وجميع قبائل نجد البدوية هي مُضرية، وهي في عهدنا هذا في شرقي الحجاز، وهم بنو حرب (مزينة)، وبيدهم الطريق التي تجمع بين المدينتين المقدستين. وفي شرقي أرض هؤلاء قبيلة عُتيبة العظيمة البطش. وبين القبيلتين وادي الرمة، وفي شرقي أرض هاتين القبيلتين بنو مطير. وممن يرجع إلى مضر: بنو خالد، ومسكنهم في شرقي اليمامة، وقد كسر من غلوائهم شوكة الوهابيين.

ومِمَّن يُعَدُّ في مُضر: بنو هذيل الذين أقاموا وما زالوا يُقيمون في الجبال المجاورة لمكة. ومنهم أيضًا بنو كنانة، وكانوا في سابق العهد حيًّا ذا بطش وحول في جنوبي الحجاز. ومن كنانة قريش، تلك القبيلة العريقة في القِدَم والكرم والنجار، ومن أعظم القبائل سؤددًا. واليوم تُدعى قريشًا قبيلة صغيرة شاوية نازلة في أرض مكة، وهي القبيلة الوحيدة البدوية من قبائل ديار العرب تُحسن صنع الجبن.

هذه هي أشهر قبائل العرب في التاريخ، ومنها تتفرَّع فروع عديدة لا تُحصى، وكلها ترجع إلى أمهاتها هذه. فلما جاء الإسلام وامتدَّت فتوحاته أحدث تغيُّرًا عظيمًا في عالم البداوة، فلقد أمدَّ البدو الجيوش العربية بمقاتلين كثيرين، فأُنشئت مسالح في العراق وديار الشام شديدة البأس والبطش، ثم أُنشئت مراكز جديدة في غربي وشرقي تلك الديار، وأقاموا فيها جُندًا من أهل البادية، فتضعضعَت بذلك بعض القبائل، واضطرَّت إلى التناصُر والتعاهُد والتعاقُد، وأضاعت ما كان لها من الاستقلال في ديارها الأصلية. وقد وقع من التحاسُد بين قبائل ربيعة وقبائل مُضر ما أكره بني ربيعة على محالفة قبائل اليمن منذ عهد بعيد في القِدَم مقاومةً قبائل مضر.

بقي علينا ذكر من لا يُعتبر من صميم العرب، وإن كانوا يطوون بساط أيامهم بين ظهرانيهم، من ذلك «بنو هتيم»، وهم مبثوثون في الحِجاز ونجد، وقد قال عنهم السيد مرتضى إنهم ألأم قبيلة من العرب، وهم ينزلون أطراف مصر (ما عدا منازلهم المذكورة)، وهم صيَّادون مشهورون، وهم أهل غنم وماشية، وفيهم حدَّادون كثيرون، ومن خساس الأعراب (الشرارات)، وهم في جنوب غربي بادية الشام، وهم متصلون نسبًا ببني هتيم، وهم أصحاب أباعر. وممن لا يُعدُّ من الأعراب بتاتًا: الصلبة، أو الصليب، فهم بمنزلة بني ساسان (أي الكاولية، أو النور) في البوادي، وهم يُحسنون الرماية والصيد، فهم مبيضو قدورة، ومركوبهم الحمار لا غير، وهم لم يُذكروا بهذا الاسم في كتب المصنفين، وسببه عندنا هو لأنهم كانوا يذكرونهم بأسماء تُحقِّرهم، كالزعانفة والأجلاف ونحوهما، واسمهم مشتقٌّ من الصلابة، بمعنى خشونة المعيشة، وليس كما قال قوم من الإفرنج إنه مشتق من الصليب، لاعتقاد أهل البادية أنهم من صليبية الإفرنج دفعهم المسلمون إلى بوادي العرب تذليلًا لهم واحتقارًا لمذهبهم، فأضاعوا في تلك الفلوات أصلهم ودينهم.

(٨-٣) أشغال أهل البادية

البدوي الشريف تأبى نفسه أشغال اليد، أما الأشغال التي يعتبرها جديرة به فهي تربية المواشي، والتجارة، والصيد، والغزو. ونحن نذكر هنا كلًّا من هذه الأشغال الأربعة على ما هي معروفة عند أهل البادية، وعلى ما يتعاطونها. وأما الزراعة والبحارة فهما عندهم من الأشغال التي تصغُر بجانب الأربعة الشريفة، ولقد كان بنو تميم يُعَيِّرون الأزد بالنوتية؛ لأن إخوانهم العمانيين كانوا يسافرون على البحار ويشتغلون في السفن. وكانت قريش تحتقر أهل المدينة؛ لأنهم كانوا يعنون بالزراعة.

أما أكثر عناية أهل البادية فهو تربية المواشي ورعاية الأغنام؛ لأن معيشتهم متوقِّفة عليهما؛ فمن الأغنام والمواشي يستخرجون اللبن الحليب، وهم يُخرِجون ما فيه من المائية، فيخثرونه ويحفظونه إلى وقت الحاجة، فإذا أرادوا أكله خلطوا به ماء، وهم يتخذونه كثيرًا في أسفارهم، واسمه لاقط (وقد صحَّفوا هذه الكلمة في عهدنا هذا فيدعونه: القطي)، والمريسة، والمضير. وهم يستخرجون الزُّبد ويحفظونه بعد أن ينفوا عنه مائيته. وصنع الجبن غير معروف عند أغلب البدو، وهم لا يأكلون اللحم بمنزلة طعام لهم يُعتمد عليه؛ لأنهم لا يذبحون إلا في أيام الأعياد والمواسم، اللهم إلا في فرص متعددة يضطرُّون فيها إلى الذبح قيامًا بمقتضى الأحوال، كقِرى الضيف، أو غيره من الأمور. فينتج من هذا أن أكل اللحم يكاد يكون في كل يوم وفي كل بيت. ومن العناية بالمواشي يحصل للبدوي صوف وأنسجة من شعر العنز أو من وبر الجمال، فيذهب بها إلى المدينة ليبيعها مع الزُّبد والسمن، وقد يبيع شيئًا من غنمه ومواشيه التي ربَّاها. وإذا كان ممن يُحسن تربية الخيل فهو يبيع من الحصن بقدر ما يحتاج إليه من الدراهم، وقد لا يبيع هذه الأشياء كلها بل يُبدلها بالتمر والحبوب والثياب وأدوات البيت. وكان كبار الأعراب قبل الإسلام يشترون الخمر ويشربونها ولو كلَّفتهم أثمانًا باهظة، أما اليوم فإنهم قد أبدلوها بشُرب القهوة أو ابنة البُن، أو يتعاطى التبغ المعروف بالدخان، حتى أصبح هذان الحاصلان من أهم ما يحتاج إليه البدوي. ومن عجيب تصرُّف الزمان بأبناء العصر أن أهل البادية أنفسهم اضطرُّوا إلى إبدال شيءٍ من الأمور العائدة إلى العادات، وهو اتخاذ البارودة، أو البندقية، وطرح القوس والنشَّاب اللَّذين ما كانا يُفارقانه، وهما اليوم لا وجود لهما البتة في خيمته. والتدخين مُحرَّمٌ عند الوهابيين؛ ولهذا ما كان يستطيع البدوي أن يُدخِّن في أيام عز هؤلاء المسلمين المصلحين؛ أي في القبائل التي كانت مُحتمية بهم.

ولم يُعْنَ الأعراب بالتجارة عناية خاصة، إنما كانت عنايتهم من باب المساعدة لأصحابها، بمعنى أنهم كانوا ينقلون البضائع والأموال على أباعرهم، ويُحامون عن القوافل التي كانت تنقل تلك البياعات، وهذا كان دأبهم منذ أقدم الأزمان، وكان أصحاب القوافل يدفعون إلى هؤلاء المبذرقة أجرة يُسمونها «الخفارة»، وهذه العادة جارية إلى يومنا هذا عند الأعراب النازلة على طُرُق النقل، فإنهم يتقاضون مبالغ من الحكومة تُعرف باسم «الصُّرَّة»، وإذا أراد أصحاب المدن أن يمُرُّوا بأرض قبيلة، يضطرون إلى دفع بدل لمرورهم يسمونه «الخوة» على ما تقدَّمَت الإشارة إليه، وهذه الخوة يدفعها أيضًا كلٌّ من القبائل الضعيفة المحتمية بالقبائل الكبيرة.

والبدو مغرومون بالصيد أو القنص، وهم يصطادون باستعمال الكلاب المعروفة بالسلوقية، أو باتخاذ الصقورة، وأغلب صيدهم يكون للغزال، والأروى، والمها، أو بقر الوحش (وهو ضرب من الحيوان يشبه البقر له قرون طويلة مستقيمة، وهو على ما يظن العلماء العصريون أنه هو الذي كان يُسميه الأقدمون: الوحيد القرن)، وحُمر الوحش أو الفراء، وهذه الحُمر من أسرع الحيوانات عَدْوًا؛ ولهذا يتنافس الأعراب في صيدها، ومنه المثل «كلُّ الصيد في جوف الفرا.» وأما الصيد الصغير فهو: الحجل والأرانب واليرابيع والضباب. وهم يصطادون النعام أيضًا، وأغلب صائديه بنو هتيم والصلبة، إلا أن هذا الطير العظيم أخذ بالتناقُص بل بالانقراض من بادية شمالي جزيرة العرب.

والغزو من أهم أمور معيشة الأعرابي، وإذا لم يتيسَّر له غزو قبيلة من القبائل النازلة في أنحائه غزا مَن كان من أقربائه، هذا ما جرى في سابق الزمن وما يجري إلى يومنا هذا. فالغزو عنده يتوقَّف على سلب ما لعدوه من الإبل والماشية، وبعض الأحيان ما له من النساء والأولاد، بدون أن يُريق دم أحد إن أمكنه؛ لكي لا ينشأ من ذلك الغزو دية، فهذه هي أقصى أماني البدوي، وإذا تمَّ الغزو فقد تُفتَدى النساء والأولاد، وأما الأسلاب فتُقَسَّم بمُقتضى أصول معروفة عندهم، فالشيخ يأخذ الحصة الكُبرى لِما له من المنزلة الرفيعة في قومه، ولِما يقوم بالنفقات التي ينفقها قيامًا بالواجبات. وإذا وقعت خسارة في قبيلة وُضع على كل فردٍ من أفرادها شيء بحيث لا يشعر أحد بتلك الخسارة، وعلى الشيخ أن يتحمَّل قسمًا صالحًا منها. والبدو يُربُّون جيادهم العِراب توصُّلًا للغزوات. وأكثر ما يكون الغُزاة على الأباعر، أما إذا حاربوا أو قاتلوا أو أرادوا الهرب والفِرار ركبوا جيادهم وانسلُّوا؛ ولهذا يُعتبر الجواد فخر سيده ومولاه، لكنه يكلِّفه نفقة باهظة؛ إذ يضطر إلى ادِّخار ماء لشربه. والغزوات هي من أجلِّ أسباب فقر أهل البادية، فكثيرًا ما يذهبون إلى المنازل البعيدة، فتكلفهم عناءً عظيمًا لهم ولدوابهم، وإذا غزَوا قبيلة يحثون مطاياهم خوفًا من أن يتأثرهم المغزوون، فيُضَرُّ في هذه الغزوات الغازي والمغزوَّ والدواب. وإذا نجح المغزوون في استرداد أسلابهم فلا أقلَّ من أن يكون قد نالهم مشقَّة هُم ودوابهم، ومثل هذا الضرر يلحق الغازين، وعليه تضطر القبائل الضعيفة إلى مجاورة القبائل الضخمة دفعًا لمثل هذه المصائب التي لا بُد منها في تلك القِفَار والفلوات، وإذا سبَّبَت تلك الغزوات قتلًا في القبيلة فالبلية أعظم؛ لأنها تُوَلِّد في الصدور ضغائن وأحقادًا لا يغسل أدرانها إلا إراقة الدماء من جديد، إن لم تفصل بين القبيلتين قضية الدم المسفوك، إما بالمراضاة، وإما بدفع الدية؛ ولهذا قد تضمحلُّ القبيلة كلها بعد حدوث مثل هذه الغزوات التي لا يُتفق فيها على سفك الدم الذي وقع عندهم.

(٨-٤) إدارة شئون القبيلة في الدنيا والدين

السيد أو الشيخ (ويُسمَّى شيخًا ولو كان شابًّا، إنما شيخوخته قائمة بفضله) في القبيلة ليس في الحقيقة إلا المقدَّم من بين أشباهه، وليست وظيفته مما تصل إليه وراثة، بل تكون في بيته طالما يُوجد في أبنائه رجال جديرون بما يُعهد إليهم، فهو أمير أو قائد في وقت الحرب بموجب عوائدهم، والآن يُسمى القائد عندهم عقيدًا؛ لأن اللواء يُعقد باسمه. وأما الأمير فهو لقب مَن يُدبِّر شئون الديار التي في يده، ومن ذلك أمير حائل أو شمر. وبجانب الشيخ يقوم القاضي، وكثيرًا ما يكون القضاء محصورًا في بيتٍ من البيوتات، وهو يقضي بموجب «العادة» أو «العُرف»، وهذا يوافق الفقه الإسلامي إذا كان هذا الفقه قد أُفرغ سابقًا في قالب عادتهم أو عُرفهم، وليس على الشيخ إلا المشورة، ولا يحقُّ له أن يأمر في القضايا الراجعة إلى القضاء، كما أن الحكم لا يُوجب على أحد الطرفين إلا إيجابًا أدبيًّا لا إيجابًا مدنيًّا لا مناص له منه. والقضاء في بلاد نجد وقراه يكون للعالِم بالفقه الإسلامي، وهو الذي يكون إمامًا في الصلوات وخطيبًا في الجُمَع والأعياد، ويُسمَّى «المطوِّع»، وأما الذي يحكم بالعادة ويُسمى «العارفة» فهو مخصوص بالأعراب الرُّحَّل، وما يحكم به كالقوانين المُسَلَّمة لديهم. وعرب نجد لا يأكلون ذبائح مثل هؤلاء الأعراب، ويحكمون عليهم بأنهم من الجاهلية.

وتكافُل أفراد القبيلة الواحدة وتضامُنها يوجبان على رؤسائها أن يُحافظوا على آداب أبنائهم المنتسبين إليهم؛ ولذلك إذا أتى أحد أعضاء القبيلة أمرًا لا تُريد القبيلة أن تأخذ على نفسها نتيجته، أو إذا أخطأ إلى القبيلة كلها، يُنفَى حينئذٍ ذلك العضو من صميم أهلها، وإذا لم تقبله عشيرة أخرى حاق به البلاء لا محالة. فالشاعرة التي تسوقهم إلى التكافُل والتضامُن وإلى الدفاع عن حقوقهم واتخاذ جميع الوسائل المؤدية إلى خير القبيلة ونفعها وصلاحها تُعرف عندهم بالعصبيَّة، وقد تزول هذه العصبية في بعض القبائل حتى لا يبقى لها أثرٌ يُذكر، فتكون تحزُّبًا صرفًا ليس إلا. وأهل البادية هم من أطمع الناس في الأشياء، وأشدهم حرصًا على منافعهم الشخصية؛ فهم لا ينظرون إلى الأشياء إلا إذا كانت تفيدهم فائدة أو تضرهم ضررًا، وأما الفائدة العامة فقلَّما يلتفتون إليها، اللهم إلا أن تكون عاقبة الأمر مما يعود عليهم بالعار والشنار، فحينئذٍ يُقَدِّرون الأمور حق قدرها. والبدوي قليل الالتفات إلى مسألة الدين؛ فهو عنده من أواخر الأمور، وعقيدته ضعيفة، وليس له من الأوابد (أي الاعتقادات الباطلة) شيء يُلتفت إليه، إلا أنه حيث تسرَّبَت الوهابية فالقائلون به من أهل البادية مُتمسكون بأوامره ونواهيه إن حكمنا على ظواهر ما يبدو منهم، وهذا بين أعراب نجد؛ إذ يُرَوْن متمسكين بأهداب الدين الحنيف، وقد أضرَّ تعصُّب بعض جهلة الوهابيين ضررًا عظيمًا بكثير من أهل البادية. أما العرب أهل الحَضَر فإنهم بخلاف أهل البادية، متمسِّكون بعُروة دينهم، وقد يُحملون على التعصُّب على أهون وجهٍ يكون.

(٨-٥) عيشة أهل البيت البدوي

أغلب ما يكون للبدوي امرأة واحدة، ولا يتزوج عليها أخرى إلا إذا كانت عاقرًا ولا يريد أن يُطلقها. وللشيوخ في أغلب الأحيان ثلاث نساء أو أربع، ويفعلون ذلك لأسباب، منها سياسية، ليتصلوا ببيت شهير مثلًا، ومنها — وهذا نادر — ليضمنوا راحة امرأة، ومنها لغاياتٍ أُخرى لا تخفى على القارئ. ويغلبُ زواج البنات وُهَّن لم يبلغن من عمرهن الثانية عشرة؛ ولهذا السبب ولأنهن يُرضِعن أولادهن سنتين أو ثلاث سنوات يهرمن سريعًا وقبل أوانهن، وزِدْ على هذا أنهن يشتغلن أشغالًا كثيرة شاقة، مثل: جلب الماء على أظهُرهن، وقطع الحطب ونقله، وحلب المواشي، ومخض السمن أو الزبدة، وطبخ الطعام، ونسج شقق الخيمة واللُّحُف والألبسة، والنساء الشريفات الكبيرات يَدعن هذه الأشغال لمن دونهن من نساء البيت. ومهما يكن من أمر البدوية فهي أرقى حالًا من الحضرية؛ فهي تتمتع بحرية لا تتمتع بها هذه، ولها من المقام في خيمتها يقصُرُ دونه مقام المرأة الحضرية. والكريمة البدوية — أي الابنة الشريفة — لها منزلة رفيعة في قلوب الجميع. وكثيرًا ما تجزم السيدات منهن في أمور كثيرة مهمة، ممَّا يدل على أن لكلمتهن في البيت أو في العشيرة شأنًا خطيرًا، إلا أنه لا يُباح للمرأة البدوية البهو، وهو من الخيمة: المكان الخاص بالرجال. والبدويَّات لا يستعملن البرقع، وإذا كان بينهن مَن يستعملنه فهو نادر غاية النُّدرة. وتربية الأولاد في بيوت البدو في نهاية القصور، غير أنهم يُعَوَّدون احترام الوالدين، وإكرام الشيوخ والكهول، حتى في القبائل غير المهذَّبة.

ولأهل البادية كرامة نفس وإباء وشهامة قلَّما يُرى أمثالها في أبناء المدن، وقد شهد بذلك جميع مَن خالطهم من عربٍ وإفرنج أينما وجدوهم من منازل ديارهم. وهم معروفون أيضًا بظُرفهم وأدبهم وحسن سلوكهم. ومما يفوق هذا كله اشتهارهم بالكرم منذ أقدم الزمن. هذه المزايا التي هي أم الكمال المعروف عندهم باسم «المروءة»، نعم، إنهم يغزون بطيبة خاطر، أما السرقة فإنهم يُقبِّحونها. وهم يُكرمون الضيف غاية الإكرام وفي نيتهم أن يُعلن محاسنهم ومكارمهم ويُطريهم أينما حلَّ ورحل، فالغاية القصوى من أماني الأعرابي العالي الطبقة هي أن يحترمه الناس ويُجِلُّوه، ويُعلنوا فضله وكرم أخلاقه وسخاءه وشجاعته وبسالته، وأن يخافوه ويُعجبوا به.

(٨-٦) طعام البدوي

طعام البدو اليومي في غاية البساطة؛ فقد كان سابقًا عبارة عن «السويق»، وكان يُتخذ عندهم من غليظ الدقيق (أو الجريش، ويكون جريشهم هذا من الحبوب المحمسة) مع التمر والماء أو اللبن الحليب، أما طعامهم اليوم فهو «البرغل»، اسمه القديم «البربور»، أو «الغذيرة»، وقد ذهب المستشرقون إلى أن كلمة البرغل٨ فارسية، والأعراب يتخذونه من بُر قد غُلي أو ذرة قد غُليَت وأُخرج قشرهما، وهم يُهيلون عليه سمنًا أو دهنًا أو لبنًا مخيضًا إذا نزل بهم ضيف، وقد يجعلون فيه اللحم. وكان الخبز نادر الوجود في أيام الجاهلية، لكن منذ المجاعة التي أتلفت نفوسًا كثيرة في السنة ١٨ھ/٦٣٩م أخذ الأعراب يجلبون حنطتهم من ديار مصر. وخبزهم قُرَص يُلصقونها بالتنُّور لإتقان شيِّه، وهم مولعون باللبن المخيض ويُكثرون من شُربه بمنزلة مرطب لهُم ومبرِّد. والتمر لبعض القبائل يُتَّخذ طعامًا رئيسًا لمآكلهم، وإذا أجدبت السنة عندهم أكلوا كل ما وقع تحت أيديهم،٩ الضب، واليربوع، والحيَّة، والوبر، والذئب، والثعلب، وأنواعًا مختلفة من الأنبتة والعروق.

(٨-٧) لباس البدوي

والبساطة لا توجد في طعامهم فقط، بل تراها أيضًا في ثيابهم؛ فسواد أهل البادية يلبسون ثوبًا يشدون عليه نطاقًا يُسمونه حزامًا، ويرتدون عباءة على ثوبهم، والأغنياء منهم يلبسون فوق ثوبهم قباء يسميه أعراب العراق زبونًا، وأعراب الشام قنبازًا، ويزيدون على هذا القباء كساءً مُبَطَّنًا أو جلدًا من جلود الغنم المدبوغة يُسمونه فروة أو صديرية، وذلك في الشتاء. وقد ترك البدو العمائم القديمة، واتخذوا بدلها الكوفيَّة ويسمونها الكفيَّة أيضًا، وهي الصماد عند بعضهم من أهل الحجاز جريًا على اسمها القديم، وهي عبارة عن كسفة يُثَبِّتونها على رءوسهم بشد عُقال عليها، وهو ضرب من الحبل مُحكم الفتل. والسراويل غير معروفة عندهم، وكثيرون منهم يستغنون عن اتخاذ الأحذية، وكبارهم يلبسون في أرجلهم الجزمة والحذاء، أو البابوج. ورأينا كثيرًا من أعراب نجد يحتذون النعال، وفي أهل البلاد منهم مَن يحتذي الأحذية العراقية والشامية، ومنهم مَن يحتذي النعال، وهم الأغلب.

النظافة عندهم

وهم لا يغسلون ثيابهم؛ لأن الماء نادر الوجود عندهم في أغلب الأحيان؛ ولذلك أيضًا لا يغتسلون إلا قليلًا، وإذا أرادوا أن يغسلوا أطفالهم أو شعورهم اتَّخذوا أبوال الإبل بقدر ما يتمكَّنون منها. وإذا لاقى البدوي غديرًا أو مويهة اغتسل فيها، لكن لمَّا كان هذا الأمر من النوادر أوجب عليهم الدين الإسلامي استعمال الرمل والتُّراب، وليس هذا الحكم مخصوصًا بالبدوي، بل بكل مسلم، لآية: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا للقيام بأمور الوضوء بدلًا من الماء، وهو المعروف بالتيمم.

(٨-٨) الوسم عند القبيلة

ولكل قبيلة علامة خاصة بها تعرف بها إبلها من إبل غيرها، وهي «الوسم»، وقد تُنقَش هذه العلامة على الصخور أيضًا إشارةً إلى نهاية حدود أرض القبيلة، وقد تُرى بجانب هذا الوسم أسماء بعض الأعراب إذا كان ثَّم مَن يُحسن الكتابة، ويضيفون على اسمهم بعض أمور أو ذِكر بعض وقائع. وفي سابق العهد كانوا يُصوِّرون بعض تصاوير في غاية السذاجة، مما يدل على جهلهم لأصول الرسم. والأعراب لم يزيدوا شيئًا على الريازة أو فن البناء، غير أنهم نجحوا أكثر في أمر الزخارف، ولهم استعداد للموسيقى والغناء وعلم الإيقاع، لكن دين الإسلام لم يُساعد على ترقية هذه الفنون الباعثة إلى الملاهي، فنجحوا كل النجاح في علوم الآداب، حتى برعوا فيها إلى ما لا غاية له بعد ما وصلوا إليه من الشأو البعيد.

(٩) مستقبل أعراب العراق

مضت عدة قرون وأعراب بوادي العراق على حالتهم الأولى التي كانوا عليها مُنذ وجودهم في هذه الديار، ولم تسعَ الحكومة السابقة إلى إصلاح شئونهم ولا إلى تَرقِّيهم ولا إلى ردع غزواتهم. أما بعد هذا العهد فلا نظن أنهم يبقون على تلك الحالة الفطرية، بل إما أن يظعنوا عن هذه البلاد، وإما أن يُذعِنوا إلى مقتضيات الأحوال، فيُصلحوا شئونهم، ويُقلعوا عن مفاسدهم الماضية ويبدءوا بأن يسيروا على نهجٍ جديد قويم، ينفعون به أنفسهم وينفعون غيرهم.

أما سبب هذا التغيير فلا بد منه، وهو أن الحكومة البريطانية تريد أن تُرَقِّي أحوال هذه الأصقاع الاجتماعية بأن تؤمِّن الطُّرق، وتنشر الزراعة، وتُبعِد عن أهاليها كل ما يُعَرِّض أتعابهم للتلف، وهذا لا يتحقق إن لم تسعَ فتقطع دابر أهل البادية الذين من دأبهم قطعُ الطرق ونهب حواصل الزُّرَّاع وشن الغارات على أهل المدن والقرى القريبين منهم، فإذا أخلدوا إلى الراحة أو الإقامة في المواطن التي كانوا فيها سابقًا فلا بد من أن يتخذوا لأنفسهم وسيلة للمعيشة، ولا وسيلة لهم سوى الزراعة ورعاية الأغنام ومعالجة المهن التي تُمَكِّنهم من التعيُّش وهم في بواديهم، وإلا فرُّوا إلى البوادي التي لا تنالهم فيها جُند الأمن الذين تُقيمهم الدولة المحتلة في المواطن التي يُخاف عليها من فسادهم. ولا جرم أن أرباب الحل والعقد يُسهِّلون لهم وسائل الزراعة، بل وسائل منافع الحضارة، فيتمكن بعضهم من الإقامة في القُرى وتهذيب أولادهم لكي لا ينشئوا على حُب النهب والسلب والغزو.

وهل يقبل العاقل أن يرى بضعة ملايين من الخلائق يعيشون هملًا في البوادي وهم على أحسن حالة من الصحة والعافية، يتجوَّلون في الديار، ولا يصدر من أيديهم إلا العيث كالذئاب المفترسة؟ بل هل يقبل العاقل أن يرى هذه الألوف المؤلفة وهي لا تأتي نفعًا للمَواطن التي يسكنونها، بل يتقلَّبون على وجهها بدون أن يقلِبوا تلك الأراضي جِنانًا خضرة نضرة؟ ولعلك تقول: إن هؤلاء الأعراب لا يُذعنون لحُكم حاكم، ولا يرضخون لأوامره، ولا يودُّون أن يُقيدوا أنفسهم بقيود أهل الحضر. نعم، كل هذا صحيح إذا كان الحاكم جائرًا والأوامر مُرَّة، والقيود قيود أسرى كما ظهر مثل ذلك في عهد الحكومة السابقة، أما إذا كان الحاكم أبًا شفيقًا رحيمًا يُظهِر لهم ترَقِّيهم وتسهيل أمور معيشتهم، فإنهم ينقادون انقياد الغنم لراعيهم. ولا شك أن الحكومة المحتلة إذا أرادت جذبهم إلى الحضارة تبذل لهم عن يدٍ سخيَّة ما يُسَهِّل لها أمر الزراعة، وتُساعدهم على حصول البذار، ولا تأخذ منهم الرسوم في السنين الأولى إلى أن ترسخ قدمهم في الأرض، ويطيب لهم أمر العيش الجديد، وحينئذٍ تنتقل إلى درجة ثم إلى درجة، إلى أن يروا أنفسهم من أهل القُرى والمدن بدون أن يشعروا بهذا الانتقال.

(١٠) مستقبل ديار العراق – تأثير سلطة البحر – المواصلات وطرقها – البصرة باب واسع لتجارة الشرق – سكك الحديد

(١٠-١) مستقبل ديار العراق

رأينا فيما وقفنا عليه من تاريخ هذه البلاد أن العراق كان قلب الحضارة في سابق العهد، وكان أهله قد برزوا في كل ميدان حتى بزُّوا سائر الأمم، وكانوا مع المصريين كفرسَي رهان. وعن سكان هاتين البلادين أخذ الناس التمدُّن، وتعلَّموا الصنائع والفنون، وأوغلوا في العلوم والمعارف، ومَن قابل حالته السابقة بحالته الحاضرة يَعجب مما وقع فيه من الانحطاط والتقهقر، بينما أن مناوئتها المصرية عادت فرفعت رأسها كأنها تُحاول الرجوع إلى مكانها الأسبق في عالم العُمران، فلماذا عادَت ديار أرض النيل إلى البعث والنشور، وديار العراق باقية في أكفان الموت والدثور؟ إن ذلك ناشئ من المربي؛ ففي بلاد الفراعنة دخل الإنكليز وأفرغوا كنانة وُسعهم لإحياء تلك الأقطار. وأما هذه الديار فإنها غلقت في يد جيل من الناس لم يُعتبر في نظر الأمم إلا مَقُودًا لا قائدًا، ومَسُودًا لا سَائدًا، وإلا فإن تولَّى الأعمى قيادة الأعمى وقع كلاهما في الحفرة، وهذا ما حلَّ في هذه المصرية؛ إذ إنه — والحمد لله — قد صارَت اليوم إلى تلك الأمة التي أنعشت الديار الربوع، فهي الآن تأخذ بإقالة عثرة أهل العراق المساكين المظلومين مدة قرون مُتطاولة.

مركز العراق مركز القلب من جسم الحضارة والعمران، فهو في موقع يضمن له الرُّقي والسمو في قليل من الزمن؛ لأنه جامع بين أوروبة وآسية، بين بلاد متوفرة في صنائعها وبين بلاد متوفرة في محاصيلها، هو جامع بين أوروبة وآسية؛ لأنه أصبح بعد مدِّ سكة الحديد عليه جسرًا يمرُّ عليه مَن يذهب من ديار الشرق الأقصى إلى ديار الغرب الأقصى، أصبح جسرًا تُنقل عليه بضائع الشرق لتبدل ببضائع الغرب، وقد كان هذا الطريق منذ العهد الواغل في القِدَم معروفًا عند جميع أمم الأرض؛ ولهذا طمحت إليه أبصارهم، فتعاقبت عليه دول مختلفة؛ ولهذا السبب عينه أراد الإسكندر الكبير أن يجعل عرش مملكته الواسعة «بابل»، فعاجله الموت، فلم يخرج فكره من عالم الخيال إلى عالم الوجود.

إن البحار كانت هي الفاصلة بين الشرق والغرب، فلما اختُرعَت البواخر وشُقَّت ترعة السويس اقتربت البلاد من البلاد، ورغب في ركوب متون البحار مَن لم يكن يحلم به قبل تقريب الشرق من الغرب.

على أنه بقي هناك أُناس كثيرون يودُّون السفر بدون أن يذوقوا أهوال البحار، ولو كانت ديار العراق سهلة المقال بوجود سكك الحديد على ظهرها لرأيت ألوفًا من الخلائق، بل ألوف الألوف تنتقل من بلاد إلى بلاد في السنة الواحدة.

(١٠-٢) تأثير سلطة البحر

تُرينا مرويَّات التواريخ أن الأمة التي قبضت على أَزِمَّة البحار قبضت أيضًا على أَزِمَّة حضارة راقية، وقهرت أُممًا جَمَّة؛ فإننا لا نذكر شيئًا من الملاحة على عهد نوح، فالظاهر أن بناء السفن كان في طور الإنشاء بما أن نوحًا أقام مائة سنة لبناء فُلكه، ولا نذكر شيئًا من أهل الصين، فإنهم لم يكادوا يعرفون من سواحل بلادهم العظيمة إلا القدْر النَّزْر، ومع قلة خبرتهم لركوب البحار كانوا قد بلغوا رُقِيًّا بعيدًا، ومدُّوا أيديهم إلى بلاد شاسعة؛ لكونهم كانوا يعرفون الملاحة.

وأما بعثة الأرغنوط فلا يجب أن تُعد من قبيل حديث خُرافة، بل من قبيل الإغراق في الوصف، ولها سدى حقيقة لا تُنكر، وهذا السدى هو محاولة ركوب البحر على طريقة مُبتكرة في ذلك العهد، وقد أحدثَت جَلَبَة يومئذٍ، وليس من السهل الهيِّن تقدير مساعي أولئك الصناديد اليونان، فسفينتهم المعروفة باسم «أرغو» الشهيرة التي كان يحملها نوتيوها على ظهورهم في المواضع الصعبة، وكانوا يَجُرُّونها ليلًا إلى الأرض؛ خوفًا من أن تُصاب بضرر، كل ذلك يدل على أن ركوب السفن على البحار كان في طفوليَّته. ولعلَّ التقصير ناشئ من كُتَّاب اليونان في ذلك العصر؛ لجهلهم وصف البحار وركوبها، لقلَّة وقوفهم على ذِكر مثل تلك الأمور في زمنهم الواغل في القِدَم والجهل.

وإذا أردنا أن نذكُر تقدُّم هذا الفن صرَّحنا باسم الفينيقيين، هؤلاء الأقوام الذين اشتهر ميناؤهم في صيدون (صيدا) كل الشهرة، وقد جاء ذِكره في سنة ١٨٣٧ق.م؛ فقد كانت تجارتهم مُنتشرة في البلاد، مما يدل على إمعانهم في ركوب البحار، وأول ما بدءوا به كان تردُّدهم إلى السواحل، حتى إنهم طافوا شواطئ البحر المتوسط من طرفه الواحد إلى طرفه الآخر، وكان سيسستريس أنشأ أساطيل وفيرة (سنة ١٤٠٧ق.م) وارتاد سواحل فنيقية وشواطئ البحر الأحمر كلها. وكان المصريون قد هجموا على ديار الفلاسجة (أو البيلاسجيين) بأساطيل حقيقية، ومع ذلك فبعد هذه الأمور جاءنا هوميرس، وكان من جوَّابات البحار بدون شك، وذكر لنا أمورًا تدل على أن ركوب البحار في أوانه لم يكن إلا دون ما مثَّله لنا الفينيقيون والمصريون والأرغنوط؛ فلقد تقاذفت الأمواج عولس مدة عشر سنوات قبل أن يصل إيثاكة، وكأن ذلك كان من الأمور المألوفة عند ذلك الشاعر.

وفي سنة ١١٣٧ق.م أسَّس الفينيقيون قرطاجنة، وبعد ذلك بقليل أنشأ القرطاجنيون مرسيلية، وهذا مما يدل على أن الفينيقيين كانوا قد جابوا البحر المتوسط وأخذوا يتجوَّلون فيه ليلًا ونهارًا، مُهتدين بنجم القُطب في ظلمات الليل، وبالشمس في سبحات النهار، فدفعهم نجاحهم هذا وحبهم لمعرفة المجهولات إلى التوغُّل في قلوب البحار، فقام فيهم هنون وجال في البحر حتى وصل الرأس الأخضر، وقد بلغتنا تفاصيل رحلته البحرية بحيث لا توجد شُبهة في هذا الأمر (سنة ٨٠٠ق.م)، وقد قطع البحر في جهة مُعاكسة للجهة الأولى أودكس، فإنه جاز على ما يُظن رأس العواصف قبل «فاسكو دي غاما»، ولا جرم أنه وجد المعبر من مصر إلى ديار الهند بطريق البحر الأحمر، واتخذ موسم مطر الحميم (المعروف اليوم بالبرصات عند العرب، وببرشكال عندهم سابقًا). ثم جاء بعد ذلك هملكون القرطاجني، وتوغَّل في الشمال حتى بلغ إنكلترة. وفي سنة ٣٣٠ زار بثياس المرسيلي جزيرة إسلندة، فلم يبقَ منذ ذاك الحين في صدر المحيط الأتلنتكي سرٌّ من الأسرار؛ إذ وقف عليها كلها أولئك الرجال أصحاب العزم والحزم، حتى يظن بعض المحققين أن أولئك الأقوام عرفوا أميركة وإن لم يعثروا على أدلة مكتوبة تُثبت زعمهم هذا. وفي عهد الإسكندر ذهب أسطوله إلى سواحل آسية ونهر السند إلى خليج فارس، وكان يقوده نياركس، الأشتيام الكبير الذي فاق جميع الأشتيامين الذين سبقوه.

بلغ الإغريق مبلغًا بعيدًا في قطع البحار، ثم انتقلت سيادة العالم إلى الرومان، فانتقلت إليهم معها السيادة البحرية، لكنهم لم يأتوا شيئًا فريًّا في علم البحارة، ثم كانت نوبة السيادة التجارية للبنادقة والجنوية والبيزية، ولا سيما البنادقة، فإنهم كانوا الفينيقيين الحديثين، وكانوا قد استأثروا بتجارة البحر المتوسط والشرق الأدنى. وما زال أهل الفن يبحثون عن وسيلة تهديهم إلى الوجهة التي يُريدونها، حتى عثروا على دليل من أحسن الأدلة وأقومها، وهو الحك، أو إبرة الملاحين، فإنه أحدث انقلابًا عجيبًا في الملاحة، وحدا بكثيرين من الأبطال الشجعان إلى خوض غمرات البحار واقتحام أهوالها، وركوب متون أعظم لُجَجها بدون خوف أو ضلال في تلك المَتَاية اللجَّة، فاكتُشفت الجزائر الخالدات (المعروفة عند الإفرنج بجزائر كناري)، وجزائر ماديرة، وأصورة، وجزائر الرأس الأخضر، ثم جاء كرستوف كولنب فاكتشف أميركة، وجاز «فاسكو دي غاما» رأس الرجاء الصالح في أسفل أفريقية، ثم بعد ذلك بسنين اكتشف ماجلان قناة في أقصى أميركة الجنوبية جرت به إلى المحيط الهادئ (الأوقيانس الباسفيكي)، فقطع تلك الأرجاء والمنفسحات المائية مُتجهًا إلى ديار الهند، فتجلَّت غوامض البحار فيما بين سنة ١٤٩٢ و١٥٢١، فانفتح للخلق بلاد جديدة، وتولَّدَت في القلوب مطامع لم تكن فيها سابقًا، وكان السبق في ذلك للإسبان؛ لأن أغلب مهرة البحر كانوا منهم ومن البرتوغاليين، وهكذا تتداول الأيدي بلاد الله فتنتقل من قومٍ إلى قوم، من الضعيف إلى القوي، وإذا هَرِمَ القوي جاء مَن هو أَغَضُّ إهابًا منه فانتشل مِن يدي مَن وهن ما عنده، إلى ما شاء الله. ومما زاد الملاحة دقة في تسيير السفن ما وضعه البلجيكي مركاتور من الخرائط البحرية البديعة، فصار شق البحار في القرن السادس عشر على مثال قطع البلاد والديار، وفي ذلك الأوان أيضًا اهتدى البحريون إلى استنباط اللحق،١٠ فلم يَعُد يشقُّ أحد عُباب سفنهم، لا سيما بعد أن ألقَوا المجاذيف واتخذوا لها الأشرعة. وما زالت الملاحة تتحسن باختراع الآلات الدقيقة، كالربع، والساعة البحرية، والموقتة (أي القرونومتر) التي تُعَيِّن للبحريين بدقة طول المحل الذي هم فيه، كما أن الحك يُعَيِّن لهم عرضه، حتى لم يبقَ لهم إلا طلب وسيلة واحدة، وهي تسيير السفن بقوة تكون في قلبها عندما تقف الرياح في مجراها، فاخترعوا لهذه الغاية البخار، فتمَّ لهم بذلك ما كان يختلج في صدورهم منذ أزمان متطاولة. وهذا كان في القرن التاسع عشر بعد أن مضت أربعة قرون وهم على الحالة المعروفة الأولى، ثم انضافت إلى هذه القوة العظمى وسائل أخرى، كاتخاذ المراجل، أو القدور الأنبوبية، وجعل قشرة المركب وقلوسه من الحديد، وإبدال الفرانقات (أي البروانات) بالرفاس، والجمع بين الأشرعة والبخار لزيادة سرعة الحركة، فأصبحت القوة البحرية من أعظم القوى، والدولة التي تتصرف في مثلها غدت من أعظم الدول، فكان السبق فيها للدولة البريطانية، ونحن نسوق إليك خلاصة نشوء هذه القوة الهائلة بإيراد تاريخ الشركة المعروفة عندهم بشركة «لويد البحرية».

في بدء القرن الثامن عشر كان في لندن في الشارع المعروف باسم «لمبرد ستريت» بالقرب من البورصة نوع من القهوة، صاحبها رجل اسمه «لويد»، وكانت هذه القهوة مجمع تُجار المدينة (أي السِّتِي) من أصحاب المراكب ومُستأجري السفن والسماسرة وضامني المراكب. وفي سنة ١٧٢٧ اجتمع هؤلاء الرجال (رجال الأشغال) بصورة شركة، انتقل مقرها بعد ذلك بكثير إلى بناية البورصة، وهو هناك إلى اليوم، وسمَّوا شركتهم «لويد»، وهو الاسم الذي اتخذته سائر الشركات البحرية غير الإنكليزية التي أُنشئت على طَرْز هذه الشركة، فترى اليوم يجتمع هناك أصحاب السفن والضامنين وأهالي رءوس الأموال، حيث يجدون جميع الإفادات اللازمة لسير الحركة التجارية والبحرية، مع ذكر البلايا والنكبات التي تحل برُكَّاب البحار. يجدون هناك قوائم وإعلانات يُذكر فيها يوم إقلاع السفن ويوم وصولها إلى الموانئ من إنكليزية وغيرها، كما يُصَرَّح فيها أيضًا غرقها واصطدامها وجنوحها وعُطلها وضررها وإنقاذ مَن غرق من رُكابها وهلاك مَن لم يُنقذ، إلى غيرها من الفوائد التي يجب أن يقف عليها كل مَن يعنيه البحر وما يقع فيه. وهناك كتاب يسمونه «الكتاب الأسود»، أو «كتاب الخسائر»، فيستشيره أو يتصفحه كل مَن يُحب أن يقف على الحقائق، وأخباره هي آخر الأخبار الواردة إلى لندن؛ لأنها تجيء ليلًا على لسان البرق اللاسلكي، (وسابقًا على لسان البرق السلكي البحري)، فتُلتَقَط وتُدَوَّن حالًا، وما يكاد ينشق إهاب الفجر عن جبينه إلا وقد طُبعت تلك الأنباء البرقية على صحيفة يومية يُسمونها «قائمة لويد» (لويدس لست)، وهي بمثابة جريدة بحرية من أقدم جرائد هذا النوع؛ لأن عهدها يرتقي إلى سنة ١٧٤٥ في أقل ما يُظن.

وفي ذلك المحل الكبير تجد آلات تتحرك من نفسها، كمقياس الجو، ومقياس الأرياح وغيرهما، فترسم على الحيطان بقلم من رصاص تقلُّبات الجو وسير العواصف؛ فبهذه الإفادات المختلفة التي تُؤخذ يوميًّا، وبالإفادات التي تأتي من كل موقع وموضع من أنحاء العالم «تبعث وقائع البحر ظلها على تلك الحيطان فترتسم» بموجب تعبير الإنكليز، وحينئذٍ لا يقف رجال الأشغال على المعاملات البحرية والتجارية فقط، بل يقفون — وهذا أهم من ذلك — على ما يحلُّ من تلك الغمرات من الويلات ليتخذوا وسائل يمنعون بها وقوعها، ويدفعون عن ركاب البحر المصائب التي تتهددهم وتتهدد مراكبهم وبضائعهم وأموالهم.

ولهذه الشركة البسيطة في أصل وضعها ونشوئها فروع وشُعب في جميع الديار التجارية، وقد انضمت إليها شركات أخرى قوية. والخِدَم التي خدمت بها التجارة والمنافع البريطانية التي أدَّتها هي فوق كل تصوير، يكفيك أن تعلم أنها تخسر أسبوعيًّا نحو ستين سفينة؛ أي نحو ٣٠٠٠ سفينة في السنة من باب الحساب المُعَدَّل.

رأيت قوة بريطانية العظمى التجارية، أمَّا قوتها البحرية فهي فوق هذه. وكيف لا تكون فوقها وحياتها متوقفة عليها؟ إلا أن دولة ألمانية لما رأت أن لا مندوحة لها عن النجاح إذا لم تُرَقِّ حالة أسطولها، أخذت تفرغ وسعها لتُجاريها أو لتغلبها، حتى خيف على إنكلترة من الوقوف في تقدُّمها، ولا سيما لأن رجالها البحريين دون رجال الألمان عددًا. غير أن شبوب الحرب بين القومين جاء فاصلًا لهذا النزاع؛ ولهذا يُنتظر أن ترجع ألمانية القهقرى وتسير بريطانية في وجهها بدون أن يُثَبِّط عزمها مُثَبِّط.

هذه هي نتيجة القوة البحرية. إنها ترفع الدولة إلى حيث لا تنال، وتحميها من هجوم الأعادي، وتُذلل أمامها العقبات، وترفع مقامها بين الدول. وإذا ضعفت فيها هذه القوة سطا عليها كل قوي وعركها عرك الرحى بثفالها، وربما لاشاها وأزالها من عالم الوجود، وأصبحت أثرًا بعد عَين.

(١٠-٣) المواصلات وطرقها

على أن فوائد هذه المراكب لا تُرى فيما تأتيه من الأعمال بعبر البحار ونقل الركاب من بلد إلى بلد، بل إن فوائدها تتعدَّى كل وصف وقول؛ فإنها هي التي تجمع البلاد إلى البلاد، وتُزيل هذه الحواجز الهائلة القائمة بينها، وهي البحار الفسيحة الأرجاء؛ لأنك تعلم أن الأمة التي تستقل بنفسها ولا تراجع غيرها من الأمم المجاورة لها أو البعيدة عنها تُشبه الأسد المحبوس في قفص، فهو وإن كان قويًّا شديدًا لا يصرعه مصارع، إلا أن حبسه في دائرة محصورة تُقَيِّده وتُلاشي قِوَاه وتذله حتى تجعل أدنى حيوان أعظم فائدة منه لهذه الألفة البشرية.

ولهذا ذهب العلماء إلى أن سطوة الأمم السياسية وعمرانها وعيشتها الهنيئة، ودرجة حريتها المدنية والسياسية التي تتمكن منها، معقودة العُرَى بحالة طُرق مواصلاتها. وفي عهدنا هذا نرى الأمم الواغلة في الحضارة والتمدن هي الأمم التي قد هيَّأَت لنفسها أسهل الطرق، وذلَّلَت جميع العقبات، وأزالت كل ما يقف في وجهها، كما نرى ذلك في فرنسة، وإنكلترة، والبلاد المتحدة، وبلجكة، وألمانية، والنمسة، وهولندة؛ إلى غيرها. وإذا كان قد أخفق الإسبانيون في مستعمراتهم، فإن إخفاقهم على ما يقوله بعض المحققين ناشئ من قِلَّة وجود طُرق المواصلات فيها. وهذا الإخفاق يتضح كل الاتضاح في الحروب؛ فإن الأمة التي لا تُسرع في نقل محاربيها إلى ميادين القتال تكون هي المغلوبة؛ لأن العدو يخف إلى نجدة جنده وإتباع الجيش بالجيش، بخلاف الدولة المتأخرة في طرق مواصلاتها، فإن جُندها يُسحق، وليس له من مُعين ومُنجد قبل أن تجيئه النجدات من بلده البعيد. وقد ظهر نفع هذه الطرق — طرق المواصلات — في الأزمان القديمة كما في الأزمان الحديثة. ولقد كانت هذه الطرق أشغل شغل أصحاب أهل الحل والعقد في الأمة؛ فهي أحسن الأدوات للبلوغ إلى السيادة العظمى في البلاد. ولقد فهمَت هذه الحقيقة رومة، فأنشأت حيثما دخلت طُرقًا واسعة مُعَبَّدة، حتى إنك لا تقول طُرُقًا رومانية إلا ويتبادر إلى الذهن أنها الطرق الحسنة البناء. وفي هذه الأزمان إذا تجوَّلتَ في بلاد الغرب ترى من آثارها شيئًا لا يُحصى في مواطن عديدة، وهي هذه الطرق التي ميَّزَت الدولة الرومانية — سيدة الدول — من غيرها التي سبقتها، أو من دول هذا العصر نفسه التي من بعد أن فتحت الفتوحات الكثيرة لم تتمكن من إبقائها في أيديها؛ لأنها لم تُنشئ فيها هذه الطرق اللاحِبة المَكينة. ومن أحسن الشواهد العصرية الدولة البريطانية؛ فإنها لا تكاد تفتح بلادًا أو تستعمر ديارًا إلا وتُسرع إلى اتخاذ هذه المسالك والسبل؛ إذ هي أيضًا من الوسائل الفعَّالة لإيصال عوامل الإدارة إلى حيث تجب، وتمكِّن أولياء الأمور من إبلاغ أمارات أفعالهم وأقوالهم في أقرب آن. وكذلك قُلْ عن إبلاغ صواعق غضبهم وسخطهم. فكِّر في إسكوسية من بلاد بريطانية، فإنها كانت في نحو منتصف المائة الثامنة عشرة في قيامٍ وقعود من أمر الفوضوية والهمجية، وما اتُّخِذَت فيها هذه المسالك إلا وتبدَّل فيها الأمر وانقلب ظهرًا لبطن؛ لأن مجلس النواب أمر بخرق الجبال فخُرقت، فسهُل بذلك إيصال الأوامر والزواجر بسرعة البرق، فخمدت نار الثورة أو الفوضوية، وأصبحت إسكوسية مثل سائر ديار بريطانية.

(١٠-٤) سكك الحديد

إن الأمم المتمدنة في يومنا هذا تستعمل ثلاث طرق للمواصلات؛ بلوغًا لرقيها، وتسهيلًا لأشغالها، وترويجًا لتجارتها، وهي الطرق الواسعة، ومجاري المياه، وسكك الحديد؛ فالوسيلة الأولى وإن كانت ساذجة في حد ذاتها إلا أن إدخالها في وسائل العمران كان من أجلِّ الأمور، بل اكتشافًا لا يقل شأنًا وخطورةً عن سائر الاكتشافات؛ وذلك أن هذه المسالك عند اتساعها مَكَّنَت الناس من تسيير المركبات والعجلات عليها، فقَلَّ بذلك تسخير الإنسان لنقل الأثقال الباهظة. واليوم تؤدِّي هذه السبل في البلاد المتمدنة من الخِدَم ما لا يعوِّض عنها مُعَوِّض لو لم تكن أو لم تُفتح، ومع ذلك فقد توجد بلاد وهي محرومة من هذه النعمة العُظمى؛ ففي بلاد الصين مثلًا لا يوجد طُرق بالمعنى الذي نريده هنا، ومع وجود الجداول والترع عندهم ترى أغلب نقليَّاتهم تتمُّ على ظهور الناس.

أما مجاري المياه فقد قال عنها بسكال: إنها طُرق سيارة تحملك إلى حيث تشاء، لكن — ويا للأسف — لا تعود بنا إلى حيث خرجنا، هذا فضلًا عن أن في ركوبها من المساوئ ما يُنقِص من محاسنها ويُقَلِّل اتخاذها؛ فبعض الأنهُر تطغى في بعض الأيام، وتطفح على ما جاورها من الأرضين، فهناك تكون البلايا والرَّزايا، وبعضها تنقُص كل النقصان في الوقت الذي يحتاج الإنسان إلى ركوبها لقضاء حاجات أسفاره، فيؤدي نقصانها إلى تعطيل المراكب وجنوحها أو نشوبها في الرمل. ومن الأنهُر ما تجمد في الشتاء، ومنها ما يكثُر فيها الصخور، أو تتكوَّم فيها الرمال، ومنها ما تتسلَّط عليها الشلَّالات أو مساقط المياه في مسيرها فتكون سببًا لهلاك كثيرين، ولو لم يُخترع البخار لكان العَوْدُ على متون تلك الأنهار من أعظم المتاعب والمصاعب؛ ولهذا فإن هذا الاكتشاف ضاعف منافعها عشرة أضعاف، ونحن في قولنا هذا لا نُبالغ البتة، على أن جميع الأنهار لا تسير عليها البواخر؛ فهناك بعض منها لا تُصعد إلا بجرِّ سُفنها، وفي البلاد المتمدنة يتولى جرها حُصُنٌ تسير على المسنيات المكينة البناء الموجودة على طول الشاطئ، وفي البلاد المتأخرة يجُرُّها الرجال وهم يسيرون على الجرف كما هو الأمر في العراق. ومع كل ذلك فإن في جرِّها هذا العنيف فوائد ما كنت تراها لولا إيَّاها.

أما التُّرَع (وهي الجداول، أو الأنهُر التي شقَّتها أيدي الناس) فإنها تُجاري بمنافعها منافع الأنهر الطبيعية، وربما فاقتها في بعض الأحيان؛ لأنك لا ترى فيها ما يجعل السير فيها صعبًا أو مُهلكًا، ولا ينقص ماؤها إذا عرف المهندس خزن المياه إلى وقت الحاجة إليها. ومن مميزاتها أنك لا تجد فيها مجرًى قويًّا، فيمكن لراكبها صعودها ونزولها بدون كُلفة عظيمة. على أن فيها محاذير، من جملتها: أنه لم يُحافظ على حالتها التي وُضعت عليها، قد تُعاب في داخلها عيوبًا، تتحدَّر فيها المياه فتنشف فجأة، وتبقى المراكب على الرمل، وقد تجمد هذه الترع، أو قُل قد يتأخر انحلال جمدها لعدم وجود مجرًى قوي يُدفئ الماء فيحل جمدها، لكن هذا لا يأتي إلا في البلاد الباردة، وأما في البلاد المعتدلة الهواء فلا. ومن محاذيرها أن السير عليها يقف في حين تطهيرها أو كريها، وهذا لا يكون إلا مرة في ثلاث سنوات، فمنافعها إذًا أعظم من مساوئها.

ومما يجدُر ذكره هنا ما فازته البلاد المتحدة في أميركة من النجاح الباهر بعد اتخاذها الترع في ديارها. وقد بدأ الأميركيون في بلاد نيويورك ليظهروا للأهالي — بل للعالم كله — منافع تلك القنوات؛ فمساحة سطح تلك البلاد تساوي ربع مساحة فرنسة، وكان فيها من السكان أقل من مليون، ففكَّر بعض الرجال من ذوي العزائم والهمم العَلِيَّة بأن يُنشئوا في تلك الأرجاء قنوات تُخدِّد وجهها حتى تكون كالشباك فيها، وكان فكرهم هذا في سنة ١٨١٠م، فبدءوا أعمالهم هذه بشق قناة تصل بحيرة «أرية» بنهر «هدسن» في ألباني، وطول خطها ١٤٢ فرسخًا؛ أي إنهم حفروا أعظم نهر وُجد على سطح الأرض مما حفره البشر، وكان بدء هذه الأعمال في ٤ تموز سنة ١٨١٧، يوم ذكرى تحرير أميركة، وتمَّت في تشرين الأول من سنة ١٨٢٦؛ أي بعد ثماني سنوات، ودونك الآن نتيجتها بعد ١٢ سنة وعاقبة تأثيرها على غلَّات البلاد. ففي سنة ١٨١٧ كانت تبلغ رءوس أموال تلك الغلات ١٦ مليون فرنك، فبلغت ١١٨ مليونًا في سنة ١٨٣٧. وفي هذه المدة نفسها قامت مدن جديدة جليلة الشأن على طول تلك القناة أو الترعة — دع عنك القُرى والدساكر التي أُنشئت أيضًا في الوقت المذكور — وكلها تدل على أن سكانها يتمتَّعُون بعيشةٍ هنيئة رغيدة.

وقد قامت جمعيات لإنشاء ترع مهمة، منها شركة الترع الأربع، والترع الثلاث. ومن أشهر الترع وأعظمها شأنًا وفائدةً وخدمةً للبشرية «ترعة أو قناة السويس» التي وصلت بحر الروم أو البحر المتوسط بالبحر الأحمر، بسعي المهندس الفرنسوي الشهير المسيو دي لسبس، فكانت بابًا واسعًا لترويج التجارة ونشرها في أقطار الأرض، وتأتي بعدها في الشأن ترعة بنمة التي جمعت بين المحيطين الهادئ والأتلانتيكي، وكان الناس يظنون أن اختراع السكك الحديد يضر بحفر الترع، فجاء الأمر بعكس ما كان يُظَن؛ فإن النقل على السكك خُصَّ بالبضائع وبالأثقال الخفيفة، وأما الترع فاتُّخذت لنقل الأثقال الباهظة.

على أن جميع وسائل النقل تتضاءل قدْرًا وشأنًا بجانب سكك الحديد، فإن لها المقام الأول بين أخواتها الأُخَر، ولا سيما لأنها لا تعرف تقلُّبات الجو ولا اختلاف الأهوية والفصول، ولا يهمها سقوط الثلج أو هبوب العواصف أو تدفُّق الأمطار؛ فهي تجري في وجهها مهما كانت عوامل الطبيعة، فإن قِدَد الحديد هذه الضيقة المصقولة التي تسير عليها عجلات القواطر يتيسر عليها النقل أكثر مما يتيسر على الطرق أو المسالك المألوفة. فلقد أثبت المحققون أن مقاومة طريق حسَن لقوة النقل هي بمثابة ثلاثة أو أربعة أجزاء من مائة جزء من الحِمل بأجمعه من باب المعدَّل، وأما على سكك الحديد فهي عشرة أضعاف أقل، فتأمَّل. على أن السكك المذكورة لا تستطيع أن تنقل مواد ثقيلة بقيمة زهيدة كما تفعله التُّرع، إلا أنها تفضُلها من جهة الجر؛ فإن البخار أهون مراسًا من الدواب في هذا الأمر، بل قد تتعب الحيوانات وتُنهك، وأما البخار فلا. وذِكْر محاسن هذه السكك مما يُطيل الكلام على غير جدوى في الوقت الذي قد عرف العام والخاص منافعها، فالأجدر بنا أن نتكلم عن هذه السكك في العراق.

العراق هو من البلاد القديمة الحضارة — على ما تقدَّمت الإشارة إليه — إلا أن وقوعه في أيدي أُناس أصبحوا في أُخريات الأمم المتحضرة أضرَّ به أعظم الضرر، حتى إن أمم أفريقية المعروفة بالتوحُّش سارت في العصر الماضي سيرًا حثيثًا في العمران، وتمتعت بمحاسن وفوائد الرقي؛ لكون الذين قضَوا عليها كانوا من الأمم المتقدمة في العلوم والصنائع، فأفادوا تلك الأقوام فوائد لا تُنسى. ومن الغريب أن أمم الإفرنج كانت ترى بعين الكآبة والأسف أهل هذه الديار يهوون إلى هُوَّة الجهل والانحطاط، فكانوا يُحاولون نشلهم منها ويطلبون إلى الدولة التي ترعاهم أن تأذن لهم بإدخال أسباب الرقي في تلك الربوع القديمة الحضارة والتمدن، فكان أصحاب الأمر يمنعون إدخالها؛ خوفًا من أن ترتقي أهاليها، فتتخلَّص من ربقة الإذعان لسلاطين آل عُثمان، فبقيَت تتسكَّع في ظلمات الجهل والغباوة حتى دخل النور إليها من شقٍّ ضعيف رغمًا عن مُقَيِّديها بتلك السلاسل الثقيلة وإلقائها في ذلك المطبق (السجن المظلم) الهائل. دخل إليها النور من أنحاء الأستانة وأزمير وبيروت، فلم يمكن لأولياء السجن أن يُبقوا أولئك الأسرى في تلك الغياهب المدلهمة. دخل إليها النور على يد الأجانب الذين كانوا يُلِحُّون على أرباب الحل والعقد أن يُسرعوا إلى نفع الأهالي بمُمتعات التمدُّن العصري؛ إذ أغلب أولئك الأهالي يهجرون البلاد إلى غيرها من ديار الغُربة، فيطعنون بالحكومة التي قد قبضت عليهم بأيدٍ من حديد، بل هي أصلب وأقسى من الحديد، وحينئذٍ ينشأ في قلوب الرعية عداوة أو فكر لقلب الحكومة. وكان السلطان يُعلِّل الناس بمنْح ما يتوقون إليه، حتى وقع ما وقع من خلع عبد الحميد، وانتقال زمام الأمور إلى جمعية الاتحاد والترقي التي أخذت على نفسها رفع الناس من حالتهم إلى حالة أعلى، لكن على نظرها الذي ظهر فساده لعيني كل بصير.

ولمَّا تربَّع عبد الحميد على أريكة السلطنة كانت السكة الحديدية معروفة في الروملي فقط، وفي الطريق المؤدية من حيدر باشا إلى أزميد، وبضع مئات من الكيلومترات في ولاية أزمير. ولما اضطرته الأحوال إلى تطويل تلك الخطوط، مدَّ خط أزمير إلى الأناضول، وعدة خطوط أخرى ذاهبة من سواحل بحر الروم إلى داخله، مثل خط مودانية إلى برصة، وخط بيروت إلى الشام، وخط يافا إلى القدس، ثم مدَّ خط الحجاز، فنشأ من هذه الخطوط كلها في العهد الحميدي ما هذا جدوله:

٢٠٠٠ كيلومتر في الحجاز
٢٥٠٠ كيلومتر من خط بغداد
٣٠٠٠ كيلومتر في الروملي والأناضول وسورية
٧٥٠٠ كيلومتر هو المجموع، وهو شيء زهيد بالنظر إلى تلك البلاد الواسعة الأرجاء

على أن الحكومة رأت فائدة تلك الخطوط، فأسرعت إلى تخويل امتيازات خط بغداد إلى الشركة الألمانية التي كانت قد طلبتها مع الضمانة الكيلومترية، فكانت من أضر الأضرار على البلاد، بينما أن شركات أخرى كانت قد طلبت تلك الامتيازات بدون الضمانة الكيلومترية. لكن ما العمل وكانت الأقدار قد ساقت تركية إلى البوار، وقد سلَّمَت نفسها إلى الألمان، ودفعت إليهم مقاليد أوامرها ونواهيها، فأخذوا يتصرفون في البلاد على ما يهوون ويشاءون، فكانت النتيجة ما رأيناه ونراه إلى يومنا هذا؟

وكأن الزمان قد ادَّخر تأخير مد سكك العراق إلى دولة لها فيها أعظم المنافع، ولسكان العراق بأجمعهم فوائد أعظم؛ فالهند من مستعمرات بريطانية العظمى، وديار مصر لاحقة بتلك الدولة الكبرى، وهي منفصلة عنهما ببحار بعيدة الأرجاء، إلا أن مراكبها الضخمة تصلها بهما وصالًا يكاد يكون شديدًا، لولا بين الهند ومصر حاجز هو من أمنع الموانع لربط مصر بالهند، بل قل لربط آسية بأوروبة؛ فلقد اتَّصلت بلاد الدنيا كلها بعضها ببعض، إلا الشرق الأقصى، فإنه بقي منفصلًا عن الشرق الأدنى وعن أوروبة، وما ذلك إلا من مقاومة تركية لروح العصر ونوره، فساقت الأقدار خروج هذه الديار من أيديها لتكون في أيدي دولة تُخرجها من ظلمات الجهل إلى أنوار العلم. وعلى ذلك سنرى عن قريب عصرًا جديدًا يُدخل الخطة العراقية في مصفِّ البلاد الراقية، وتكون عضوًا مُتصلًا بسائر أعضاء جسم العالم الكبير، فتحيا بحياته وتنمو بنمائه، وتسير سيرًا حثيثًا في الرُّقي والاعتلاء.

إن ديار العراق سترى من الفَلَاح والنجاح ما لم تحلُم به في غابر الزمن، سترى جميع زُوَّار العجم يذهبون للحج بعد أداء فرائضهم الدينية في النجف وكربلاء، وبدلًا من أن يذهبوا على البحر فيصرفوا المبالغ الطائلة، سوف يركبون سكة الحديد من بغداد إلى مكة. وكذا القول عن الهنود، فإن أغلبهم سيحجُّون عن طريق دار السلام إذا ما رأوا سهولة السفر برًّا وتحقَّقوا منافعه، لا سيما إذا كانت عيالهم معهم. وهناك مندوحة عن الانتقال من جدة إلى مكة سيرًا في البر، ووقوعهم في أيدي أقوام البادية الذين كثيرًا ما يسلبون ما عليهم ويتركونهم عُراة لا يملكون إلا أنفسهم. وعلى كل حال: إن الهنود الأغنياء الذين يذهبون للحج عل طريق البحر يرجعون إلى ديارهم عن طريق البر، لا سيما إذا كانوا من الشيعة؛ ليتبرَّكوا بالبلدين المقدَّسين عندهم ويزوروهما بعد الحج المفروض، وبعد أن يكونوا قد مروا ببلاد الشام؛ إذ فيها مدافن كثير من الأنبياء والأولياء. فمما تقدَّم بسطُه نرى أن العراق قد أخذ ينفض الغبار القديم عن ثيابه، ذلك الغبار الذي قد علق بها منذ مئات من السنين، وأملنا أنه يُسرع حثيثًا في طريق النجاح بفضل مساعي الدولة التي وعدت أهاليه بكل خير، وبإنهاضه من كبوته في أقرب زمن.

(١١) البصرة باب واسع لتجارة الشرق

البصرة هي آخر مدينة كبيرة من العراق. والعراق كله كمخزن عظيم بابه البصرة، والمخزن الذي لا باب له لا فائدة فيه؛ إذ يبقى مُغلقًا دون منفعة الناس. والظاهر من مسرى الحوادث والأشغال أن ثغر البصرة يفوق عن قريب مدينة بغداد، وسيكون له من الشأن والخطر ما يجعل دار السلام دونه منزلة ومقامًا، وسوف ترتبط به ارتباط التابع بالمتبوع، ولا يبقى لها من الحياة إلا ما يجود به عليها ذاك الثغر الباسم. بغداد وإن كانت شهيرة بتاريخها القديم المجيد؛ لأنها كانت مقر خلافة بني العباس، وقُبَّة الإسلام، ومُندفق أنوار الحضارة العربية، إلا أن البصرة لم تَقِل عنها شأنًا بما أنجبت من العلماء الذين جروا في ميدان الشعر واللغة ولا سيما النحو، جريًا ظهر فيه أن مَن كان في عهدهم من الكوفيين ومن جاء بعدهم بقرون لم يشُقُّوا غبارهم، بل تخلَّفوا عنهم بمسافاتٍ عظيمة لا تُقَدَّر، وقد أبقوا من الذكر ما لو مرَّت عليه القرون فإنها لا تزيده إلا شُهرة ورفعة ونباهة. البصرة لم يكن لها في التاريخ شُهرة في تجارتها؛ لأن الأموال في سابق العهد كانت تأتيها من جميع الجهات على طريق البادية، إلا ما كان يأتيها من طريق الهند، فإنه كان يصلها عن طريق البصرة. أما اليوم فالبضائع والأموال وأنواع البياعات لا تأتيها إلا على البواخر من ديار الغرب إلى البصرة ومنها إليها، بدون أن تُلقى على البر البتة، ولا يأتيها بالقوافل إلا ما يُحمل من أنحاء الموصل وحلب وسورية وديار الأناضول، وهو شيء زهيد لا يكاد يُذكر بجانب ما يأتي عن طريق البحر والنهر. البصرة تكون عن قريب مدينة أكبر من بغداد، وسوف يزيد سكانها على سكان دار السلام، وسوف تكون تجارتها من أكبر ما يمكن أن تكون لهذه البلاد، وسوف يكثر فيها الغرباء والمحلات الأجنبية، حتى تكون من المدن التي تضاهي الحواضر الكبرى في ديار الإفرنج. كانت البضائع تُنقل إليها سابقًا من ديار الغرب قبل أن تُخرق ترعة السويس على سفن بحرية تُعرف الواحدة منها باسم «البغلة»، والجمع «بغال»، وعلى سفن شراعية لا يتجاوز عددها في السنة الثلاث والأربع، فكانت تصلها من بعد أن تجُول حول رأس أفريقية المعروف يومئذٍ برأس الزوابع أو العواصف، وهو المسمَّى اليوم «رأس الرجاء الصالح»، وكانت تجارتها شيئًا زهيدًا لا يستحق الذكر.

ولما خُرقت الترعة وبدأ عبورها سنة ١٨٦٩ تغيَّرَت الأحوال تغيُّرًا عظيمًا، وأخذت تجارتها ترتفع ارتفاعًا عجيبًا؛ إذ ما كانت تمضي السنة الواحدة إلا وقد تضاعفت المقادير عما كانت في السنة المنصرمة. وكان الإنكليز أسبق سائر الأمم إلى نقل البضائع منها وإليها، وهم الذين نشَّطوا البصريين لترويج التجارة ولغرس النخيل لاجتناء التمر. نعم إن النخل كان موجودًا في البصرة ونواحيها، لكن لم يكن بالألوف المؤلَّفة على ما نُشاهد عدده اليوم؛ فلقد أكَّد لي العارفون أن النخل زاد مائة ضعف عددًا من بعد عشر سنوات من فتح قناة السويس. وفي سنة ١٨٩٠ كان عدد السفن الشراعية والبواخر كما يأتي:

جنسية العلم عدد سفن الأشرعة محمولها بالطن عدد البواخر محمولها مجموعها معًا محمولها معًا
إنكليزي ١١٤ ١١٤١٨ ١٠١ ١٠٣٢٩٦ ٢٥ ١١٤٧١٤
عثماني ١٧٥ ١٠٦٤٤ ١٧٥ ١٠٦٤٤
فارسي ٩٧ ١١٦٨٨ ٩٧ ١١٦٨٨
فرنسوي ١ ٩٥٠ ١ ٩٥٠
المجموع ٣٨٦ ٣٣٧٥٠ ١٠٢ ١٠٤٢٤٦ ٤٨٨ ١٣٧٩٩٦

وكان عددها في سنة ١٨٩١:

جنسية العلم عدد سفن الأشرعة محمولها بالطن عدد البواخر محمولها مجموعها معًا محمولها معًا
إنكليزي ١٢١ ١١٨٨٥ ١٣٦ ١٢٢٥٤٠ ٢٥٧ ١٣٤٤٢٥
عثماني ٣٦٣ ١٤٥٤١ ١ ١٣٢٦ ٣٦٤ ١٥٨٦٧
فارسي ٣٨٥ ١٩٤٥٠ ٣٨٥ ١٩٤٥٠
المجموع ٨٦٩ ٤٥٨٧٦ ١٣٧ ١٢٣٨٦٦ ١٠٠٦ ١٦٩٧٤٢

هذا من جهة حركة الميناء قبل نحو ٢٨ سنة، وأما حركته في هذا العهد فلم نعثر عليه، وأما حركة البصرة التجارية فكانت السنوات في الثلاث ١٨٨٨ و١٨٨٩ و١٨٩٠ قد بلغت نحو ٥٤٢٥٠٨٢ ليرة إنكليزية مقسمة على الوجه الآتي:

سنة إخراج جلب مجموع ليرات إنكليزية
١٨٨٨ ٩٧٣٧٦١ ٥١١٦٥٢ ١٤٨٥٤١٣
١٨٨٩ ١٠٠٩٩٦٢ ٨٤١٩٤١ ١٨٥١٩٠٣
١٨٩٠ ١١٢٧٣١٩ ٩٦٠٤٤٧ ٢٠٨٧٧٦٦
٣١١١٠٤٢ ٢٣١٤٠٤٠ ٥٤٢٥٠٨٢

وقد بلغ الجلب والإخراج في سنة ١٩١٠ (وهي آخر السنين التي وضع الأتراك لها قائمة) نحو ٣٢٥٨٧٥٤ ليرة عثمانية، وكان مبلغ الجلب وحده ٢٢٠٦٦٩٥، ومبلغ الإخراج ١٠٥٢٠٥٨، وهذه الأعداد تدلك على ترقي التجارة في البلاد، وسنة ١٩١٠ لم تُعَدَّ بين السنوات الحسنة بل بين السنوات السيئة؛ لأنه في السنوات السابقة لها كان الجلب والإخراج أعظم مما ذكرناه بكثير. ولهذا النقص أسباب، منها: أن ما يرد إلى ثغر البصرة لا يُصرف كله في العراق وحده، بل في ديار العجم وكردستان أيضًا، ومنذ إعلان الدستور في ممالك الدولة العثمانية كانت تجري أمور عظيمة وتغيُّرات مهمة في داخل إيران، فقَلَّ الأمن في الطرق، ولم تنفق البضائع كل النفاق فكسدت الأسواق رويدًا رويدًا، وتضررت محلات كثيرة بسبب هذا التوقُّف. والسبب الثاني، هو نقص في زوَّار كربلاء والنجف؛ فإن السنين التي يكثُر فيها زُوَّار الشيعة يحدث في العراق حركة عظيمة، تمتد من خانقين إلى البصرة، فينتفع منها الناس كلهم أجمعون من الصغير إلى الكبير. والحال أن الزوَّار في سنة ١٩١٠ كانوا قليلين لِما حدث في ديار إيران من الاضطرابات والفتن الداخلية وقلة أمن الطرق. ومن الأسباب التي تُنتِج الكساد في الأسواق: الأمراض الوافدة، ولا سيما إذا وقعت هذه الأوبئة في النجف وكربلاء، وهي لا تكاد تنقطع منهما؛ لنقل الجثث إليهما من جميع البلاد الإسلامية، فإذا وقعت تلك الأمراض صَعُب السفر إلى العراق، لِما يُوضع من المحاجر الصحية وما يُضرب من النطق الواقية من سريان الأمراض إلى الديار غير الملوثة. وهناك سبب رابع، وهو أن تقييد ما يُجلب ويخرج من هذه البلاد يختلف في بعض السنين لاختلاف العمال، فيتفق أحيانًا أن كبار العمال الذين يأتون جديدًا لا يرتشون أبدًا، أو يرتشون قليلًا، وحينئذٍ يُقيَّد كل شيء في السجلات أو يكاد. أما إذا كان العمال — ولا سيما الكبار منهم — يرتشون فإنهم يسمحون للتجار بإرسال الشيء الكثير من الأموال لقاء دُريهمات، وحينئذٍ جميع ما يُرسل به لا يُسجَّل. والذي أعلَمه شخصيًّا أن بضائع كثيرة أُرسلت في السنة المذكورة بدون أن تُدوَّن في الدفاتر.

والذي ساق الناس إلى هذا العمل أنه شاع بين موظفي الحكومة أنهم من الآن وصاعدًا لا يرتشون، والذي شاع وذاع كان على خلاف الحقيقة؛ فلقد اكتفى العمال بالسمعة الحسنة وأخذوا يرتشون أكثر من سابق. والذين كانوا في ذلك العهد يعرفون هذا الأمر ولا يُنكرونه. وما سبب هذه الرشوة إلا فساد أخلاق موظفي تلك الحكومة، وهي التي ساقتهم إليها بما كانت تأتيه من سوء التصرف في الأمور، وعدم الاهتمام بتحسين المدارس التي تؤهلهم لمثل تلك الوظائف التي تتطلب ذمة طاهرة وآدابًا لا شائبة فيها، وهذا بعيد المنال في حكومةٍ كانت قد نُخرت قناتها إلى درجة لم يبقَ منها إلا الظاهر.

وعلى كل حال نرى أن ازدياد التجارة في ميناء البصرة هو أمر محسوس يكاد يُدهش الأفكار. ومما يدل على تحسُّن أحواله أن سكانه كانوا قبل فتح قناة السويس نحو ثمانية آلاف نسمة لا غير، وكانت البرداء (الحمى الملارية) تفتك بأهاليها، بحيث كان أغلبهم هجروها إما إلى بلاد إيران وإما إلى داخل البلاد العثمانية، وزِد على ذلك حدوث الأوبئة والطواعين، بحيث إنها أصبحت في بعض السنين مفتوحة لعربان تلك الأرجاء، فكانوا يأتون عصابات عصابات ويسلبون مَن بقي من أهلها ويسرقون كل ما شاءوا ثم يُوغِلون في بواديهم، «وخراب البصرة» أمر مشهور في أمثال العوام. أما اليوم فإن الحكومة الإنكليزية ما كادت تدخل البلاد إلا ودفنت كثيرًا من المستنقعات والغدران وجميع المياه المفتوحة، والمواطن التي لم تدفنها تُلقي فيها بعض السوائل لتمنع فيها تكوُّن البق فيها. والبقُّ أو البعوض هو المسبِّب لتلك الحمى الناهكة للقوى (على ما أيَّده الأطباء وأثبته الاختبار المتكرر)، وأمَّنت المدينة من عصابات اللصوص بالضرب على أيديهم. وفي شهر آب سنة ١٩١٧ أحصت الحكومة البريطانية أهالي البصرة المقيمين فيها طول السنة، فكانوا كما يأتي بيانه:

٢٠٤٩٨ من العرب المسلمين
٣٣٤٧ من اليهود
١٣٥٠ من المسيحيين على اختلاف طوائفهم
١١٦ من الأوروبيين الملكيين
٢٨١٢ من أقوام شتى
٢٨١٢٣ وهو مجموع السكان

وأما أن بعضهم كتب في بعض الإحصاءات أنهم يبلغون ستين ألفًا فهو من قبيل الخُرافات، ولعلهم خُدعوا بكثرة العَمَلَة الذين يكونون في وقت «التمرة»، وهو جمْع التمر من النخيل ووضعه في الصناديق والعُلب، فيجتمع وقتئذٍ خلقٌ عظيم من أهل البادية، ومع ذلك فلا يتجاوز عددهم في السنين المقبلة الخمسة الآلاف من العَمَلَة. هذه هي البصرة، وسوف نرى ما تصير إليه في ظل العَلَم البريطاني، فيظهر الفرق بين عهد وعهد، وهو الموفِّق لكل خير.

١  الدهورة: جمعك الشيء وقذفك به في مهواة. ودهورتُ الشيء: كذلك.
٢  وردت توزون مُصحَّفة في الكتب التاريخية بصورٍ مختلفة: تورون، ونوروز، وثورور، والصواب ما أوردناه، واليوم يسميه الترك: طوسون.
٣  فتروفس: رازٍ روماني طُوي بساط أيامه في المائة السابقة للميلاد، وقد ألَّف كتابًا في الريازة في نحو سنة ٨٨ق.م، وأهداه إلى أوغسطس قيصر.
٤  النقش ليس بمحرَّم إذا لم يكن صورة حيوان.
٥  الفسافس: جمع فُسيفساء، وهي حصًى صغيرة ملوَّنة، إذا وُضعَت إحداها بجانب أختها بمقدار معلوم ينشأ منها تصاوير ونقوش مختلفة.
٦  الإشكنج: كلمة معروفة عند العراقيين، ويُراد بها صغار الحجار تُتخذ حشوًا في البناء، وهي لا توجد في معاجم اللغة مع أنها قديمة، وقد ذكرها الجاحظ في كتاب البخلاء (ص١٢١)؛ إذ يقول: «وما كان من إشكنج فهو مجموع البناء» ا.ھ. والكلمة فارسية الأصل، وهي فيها بهذا المعنى.
٧  الخاوة: تصحيف الخوَّة، والخوَّة: تخفيف الأخوة، والمراد بها اليوم: ما تؤدِّيه العشيرة الضعيفة للعشيرة القوية من حقوق الحماية والدفاع عنها.
٨  مع أنه لا وجه لفارسيَّتها، بل البرغل منحوت من برغل (ش. أ).
٩  أبناء أعراب نجد يرغبون في لحوم الإبل والغنم والضب واليربوع، وأما الحية والذئب وسائر سباع البهائم فلا يأكلونها، نعم لهم كمال الرغبة في أكل الجراد بعد طبخه أو شيِّه، ولا يأكلون كل جراد، بل الجراد الضخم الجثَّة (ش. أ).
١٠  اللحق: آلة لقياس سير المراكب، وقد سمَّاها بعضهم «بركيتة»، من الإيطالية، وفي خليج فارس يُسميها العرب «باطلي»، والكلمة الإنكليزية Log، والفرنسية Loch، من العربية: لحق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤